الربيع العربي.. عندما أراد الشعب إسقاط النظام
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
الربيع العربي مصطلح أطلق على الثورات الشعبية التي اندلعت في عدد من الدولة العربية للإطاحة بحكامها تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، والمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية.
انطلقت الشرارة الأولى في تونس في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، ودفعت رئيسها الراحل زين العابدين بن علي إلى الفرار خارج البلاد، ثم وصلت مصر بعد خروج المتظاهرين في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وانتهت بتنحي الرئيس الراحل محمد حسني مبارك.
كما اندلعت شرارة الاحتجاجات في اليمن في 11 فبراير/شباط 2011 مطالبة بتنحي رئيسها آنذاك على عبد الله صالح، والذي رضخ لهذا المطلب، وسلم السلطة إلى نائبه عبد ربه منصور هادي.
وامتدت المظاهرات إلى البحرين في 13 فبراير/شباط 2011، واحتج المواطنون مطالبين بتحسين أوضاعهم، وانتقلت في الوقت ذاته إلى ليبيا، واشتعلت شرارتها الأولى في 17 فبراير/شباط 2011 وانتهت بمقتل الزعيم الليبي الراحل السابق معمر القذافي.
وتزامنا مع الثورة الليبية اندلعت الثورة السورية في 15 مارس/آذار 2011، واشتعل فتيلها الذي لم يهدأ حتى الآن، مما أدى إلى سقوط آلاف القتلى ونزوح ولجوء الملايين داخل سوريا وخارجها.
سبب التسميةالترجيح الأكبر أن مصطلح الربيع العربي تأصيله غربي، فقد تعددت الآراء بشأن أول من أطلق هذا الاسم، إذ يرى البعض أن المصطلح تم استخدامه للمرة الأولى في 15 يناير/كانون الثاني 2011 من قبل صحيفة "كريستيان ساينس مونتر" الأميركية عقب تعليقها على فرار بن علي.
ويرى آخرون أن التسمية تعود للصحفي الفرنسي دومينيك مويزي، الذي أطلق المصطلح للمرة الأولى في 26 يناير/كانون الثاني 2011 عقب اندلاع الثورة المصرية، وهناك رأي ثالث ينسب مصطلح "الربيع العربي" إلى الدبلوماسي المصري محمد البرادعي -الحاصل على جائزة نوبل للسلام- إذ أطلقه في 26 يناير/كانون الثاني 2011 خلال حوار صحفي مع صحيفة "دير شبيغل" الألمانية.
كما أن هناك آراء أخرى نسبت المصطلح إلى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وصحيفة "نيوزويك" الأميركية.
دول الربيع العربي تونسانطلقت الشرارة الأولى للثورة التونسية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 -وعرفت بـ"ثورة الياسمين"- عندما أضرم البائع المتجول الشاب التونسي محمد البوعزيزي النيران في جسده أمام مقر محافظة سيدي بوزيد (وسط تونس) عقب شعوره بالغضب بعد مصادرة بضاعته، وقد بقي يتلقى العلاج في المستشفى إلى أن توفي في الخامس من يناير/كانون الثاني 2011 متأثرا بحروق بالغة في جسده.
دفعت الحادثة المواطنين للاحتجاج في سيدي بوزيد، وعمت المظاهرات جميع أرجاء البلاد مطالبة بإسقاط نظام زين العابدين بن علي وتحسين الأوضاع المعيشية.
الحراك الثوري المتزايد دفع إلى احتدام المواجهات بين المواطنين ورجال الأمن، مما أدى إلى سقوط عدد من الضحايا مع حملة اعتقالات واسعة ضمت ناشطين سياسيين وحقوقيين، مما زاد من حدة المظاهرات في جميع المحافظات.
سعى بن علي إلى امتصاص غضب الشعب بإقالة وزير الداخلية رفيق بلحاج قاسم، لكن الشارع لم يهدأ، مما دفع إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
وعلى الرغم من إعلان بن علي نيته عدم الترشح مرة أخرى لحكم البلاد عام 2014، فإن ذلك لم يكن كافيا لتهدئة المتظاهرين، مما اضطره في 14 يناير/كانون الثاني 2011 إلى إعلان حل الحكومة وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ثم غادر البلاد مساء اليوم ذاته متجها إلى المملكة العربية السعودية.
أبرز المحطات السياسية عقب اندلاع "ثورة الياسمين" 15 يناير/كانون الثاني 2011: تكليف الرئيس السابق لمجلس النواب بالبرلمان التونسي فؤاد المبزع برئاسة البلاد مؤقتا، وتكليف الوزير الأول (رئيس الوزراء) وقتها محمد الغنوشي بتشكيل حكومة جديدة. 12 ديسمبر/كانون الأول 2011: انتخاب منصف المرزوقي رئيسا مؤقتا. تصاعد الاحتقان بين الإسلاميين والعلمانيين حول بعض المسائل في كتابة الدستور الجديد تتعلق بدور المرأة وحقوقها وبمكانة الشريعة الإسلامية. ديسمبر/كانون الأول 2013: تنازلت حركة النهضة عن قيادة الحكومة لتحل محلها حكومة تكنوقراط. يناير/كانون الثاني 2014: إصدار الدستور الجديد بحضور المرزوقي، ويقر الدستور بتقسيم السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء ويضمن الحريات الشخصية وحقوق الأقليات. ديسمبر/كانون الأول 2014: فوز الباجي قائد السبسي بأول انتخابات رئاسية حرة بعد الثورة. 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019: فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية عقب وفاة السبسي، ليصبح رابع رئيس للبلاد بعد الثورة. 25 يوليو/تموز 2021: أقال قيس سعيد الحكومة، وعلق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، وهو ما وصفه خصومه بـ"الانقلاب على الديمقراطية". 30 يونيو/حزيران 2021: إعلان قيس سعيد مشروع الدستور الجديد، والذي يختلف جوهريا عن دستور 2014، إذ حول النظام السياسي إلى نظام رئاسي، وأعطى الرئيس صلاحيات أكبر، وسمح له بتعيين رئيس الحكومة وباقي الوزراء، واعتبر السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية مجرد وظائف، ولم ينص على مدنية الدولة. في عام 2023 توالت قبضة قيس سعيد على البلاد باعتقاله رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وقياديين في الحزب وعددا من الشخصيات السياسية المعارضة ورجال الأعمال ومتابعتهم بتهمة التآمر ضد أمن الدولة واتهامات أخرى. مصرتزامنا مع انطلاق "ثورة الياسمين" في تونس، أطلقت دعوات من ناشطين وسياسيين في مصر عبر الإنترنت للنزول إلى الشوارع للتظاهر في 25 يناير/كانون الثاني 2011 الموافق لعيد الشرطة، احتجاجا على القمع والانتهاكات التي تمارس ضد المواطنين والتعبير عن غضبهم من سوء الأحوال الاقتصادية.
واستجاب الآلاف من مختلف الأحزاب السياسية المعارضة وشباب جماعة الإخوان المسلمين للنزول في مظاهرات سلمية في الموعد المذكور في محافظات مختلفة، رافعين شعارات "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، و"الشعب يريد إسقاط النظام"، مطالبين الرئيس محمد حسني مبارك بالتنحي بعد فترة حكم دامت 30 عاما.
واستخدمت الشرطة القوة المفرطة للتصدي للمتظاهرين في 28 يناير/كانون الثاني 2011 فيما سمي "جمعة الغضب"، وقطعت الإنترنت عن البلاد، وأمر مبارك الجيش بالنزول إلى الشارع في جميع المحافظات لحفظ الأمن وفرض حظر التجول.
بدأ دور الدولة العميقة في الظهور بعد إحداث الفوضى وإشعال الحرائق في مقرات الحزب الوطني الحاكم وتسهيل خروج السجناء من السجون وبث جو من الشغب في البلاد.
وفي الثاني من فبراير/شباط 2011 هاجم أنصار مبارك المعتصمين في ميدان التحرير بالخيول والجمال في معركة عرفت بـ"موقعة الجمل"، وأوقعوا فيهم ضحايا دون أي تدخل من الجيش والشرطة.
وعين مبارك مدير المخابرات العامة اللواء عمر سليمان نائبا له لأول مرة في تاريخ حكمه، وكلف الفريق أحمد شفيق بتشكيل حكومة جديدة.
واستمر اعتصام المتظاهرين في ميدان التحرير 18 يوما، وفي 11 فبراير/شباط 2011 ألقى عمر سليمان خطابا أعلن فيه تنحي مبارك عن السلطة وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد.
وأصدر المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي بيانا دستوريا بتعطيل العمل بأحكام دستور 1971، وحل مجلسي الشعب والشورى، وإجراء بعض التعديلات الدستورية، وتولي رئاسة شؤون البلاد حتى الانتهاء من انتخابات مجلسي الشعب والشورى ورئاسة الجمهورية.
وعقب ثورة يناير أفسح المجال أمام الإسلاميين للمشاركة السياسية، وأسست جماعة الإخوان المسلمين حزب الحرية والعدالة، وأسس السلفيون حزب النور، بينما حلت المحكمة الإدارية الحزب الوطني الديمقراطي.
أبرز المحطات السياسية عقب ثورة 25 يناير: فوز الإسلاميين بثلثي المقاعد في انتخابات مجلس الشعب. وضع أول دستور بعد الثورة كان بمثابة بداية فتيل الصراع بين الإسلاميين وبعض الأحزاب المعارضة. إلقاء القبض على مبارك وأولاده ومحاكمتهم، ثم تبرئتهم عام 2017. فوز الرئيس محمد مرسي برئاسة البلاد عام 2012 ليصبح أول رئيس منتخب بعد ثورة 25 يناير. تعيين مرسي الفريق عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع. قيام مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 وتأمين الجيش لها. في الثالث من يوليو/تموز 2013 عزل مرسي، واستلم الجيش السلطة من جديد. في 14 أغسطس/آب 2013 فض اعتصامي ميدان رابعة وميدان النهضة وقتل واعتقال الآلاف. في الثالث من يونيو/حزيران 2014: فوز السيسي برئاسة الجمهورية بنسبة 96.91%. 17 يونيو/حزيران 2019: وفاة مرسي خلال جلسة محاكمته إثر تعرضه لنوبة إغماء. في أواخر 2023 فاز السيسي بولاية رئاسية ثالثة تستمر حتى عام 2030. اليمناندلعت الثورة اليمنية في 11 فبراير/شباط 2011، بعد أن استمدت إلهامها من الثورة المصرية والتونسية. وأطلق شباب الأحزاب المعارضة دعوات للاحتجاج السلمي في أرجاء البلاد لتحسين الأوضاع الاقتصادية، ثم تصاعدت بعد ذلك المطالب إلى المناداة بتنحي الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الذي دام حكمه قرابة 33 عاما.
واستمرت المظاهرات في عدد من المحافظات من بينها العاصمة صنعاء وتعز وعدن، لكن السلطات تصدت للاحتجاجات بالقمع والعنف، مع محاولات مستمرة من صالح لتهدئة الأوضاع والدعوة للحوار، إلا أنها تدهورت واستمرت في التصاعد دون استجابة من المتظاهرين.
ورضخ عبد الله صالح، للدعوات المحلية والإقليمية بالتنحي في سبتمبر/أيلول 2011، ونقل السلطة إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، برعاية مجلس التعاون الخليجي ودعم من مجلس الأمن الدولي.
لم يكن التنحي بمثابة نجاح للثورة اليمنية، بل تصاعدت الاشتباكات بين مؤيدي صالح وجماعة الحوثيين واندلاع اشتباكات مسلحة بين الطرفين، مما أدى إلى مقتل الآلاف وتدهور أوضاع البلاد الصحية والاقتصادية.
ليبياتزامنا مع ثورة 25 يناير والثورة التونسية، اندلعت في 14 فبراير/شباط 2011 شرارة الثورة الليبية بصدور بيان لمجموعة من قوى المعارضة مطالبة الزعيم السابق معمر القذافي بالتنحي، ووجهت الدعوات للمواطنين من أجل التظاهر السلمي في 17 من الشهر نفسه.
وواجهت قوات الشرطة الاحتجاجات بكل عنف، وحاولت فض الاعتصامات، وتصدت للمحتجين في مدن بنغازي والبيضاء ودرنة وطرابلس ومصراتة بالرصاص الحي، مما أدى إلى سقوط قتلى.
واستطاع المتظاهرون السيطرة على بنغازي، مما دفع سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم الليبي إلى تحذيرهم من الوقوع في حرب أهلية.
وفي 17 مارس/آذار 2011 تبنى مجلس الأمن الدولي قرارا بإنشاء منطقة لحظر الطيران فوق ليبيا وحماية المدنيين.
وأطلق تحالف بقيادة واشنطن وفرنسا ولندن قصفا جويا على مقرات القوات التابعة للقذافي في 19 مارس/آذار 2011، مما دفع إلى التوسع في إنشاء وحدة عمليات حلف شمال الأطلسي (ناتو) الموحدة للحماية ومنع القذافي من استعادة بنغازي وشرق ليبيا.
وحصلت القوات المعارضة على الدعم بالسلاح والتدريب بعد توسع بعثة الناتو وتمديد عملياته، وفي 27 يونيو/حزيران 2011 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق القذافي ونجله بتهمة "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية".
وفي 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011 قتل القذافي في مسقط رأسه مدينة سرت، وإعلان المجلس الوطني الانتقالي السيطرة على البلاد كاملة.
وبعد سقوط نظام القذافي أصبحت العملية الديمقراطية غير مستقرة، واستمر الصراع بين قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وبين القوات التابعة للحكومة الانتقالية، مما أدى إلى تقسيم البلاد بين حكومتين.
سورياتعد الثورة السورية من أكثر الثورات دموية في الربيع العربي، إذ انطلقت شرارتها الأولى في 15 مارس/آذار 2011 بعد الدعوات إلى التظاهر السلمي بمطالب مماثلة لثورتي مصر وتونس.
واستجاب المواطنون للنزول للتظاهر في مدن درعا وحمص ودمشق ودير الزور وبانياس، إلا أن نظام الرئيس بشار الأسد، تصدى لهذه الاحتجاجات بأقصى درجات العنف من قتل واعتقال.
وتصاعدت وتيرة الأحداث بين المتظاهرين ونظام الأسد بعد رفع المحتجين شعارات بـ"إسقاط النظام" قوبلت بقمع أكثر ضراوة، واشتدت القبضة الأمنية عبر الاعتقالات والانتهاكات، وارتفعت أعداد الضحايا.
وبدأت الانشقاقات في الجيش السوري النظامي تتوالى مع الإعلان عن تأسيس الجيش السوري الحر وتزايد أعداد المنضمين إليه لحمل السلاح.
وفي نهايات عام 2011 استطاع الجيش الحر السيطرة على عدة مدن منها إدلب وريف حماة وحمص والقصير والغوطة وبعض مناطق درعا.
واستمر القتال بين الجيش النظامي والجيش الحر سنوات طويلة مع محاولات من نظام الأسد فرض الحصار على بعض المدن التي فقد السيطرة عليها، وارتكب فيها جنوده مجازر، أبرزها مجزرة الغوطة التي وقعت في 21 أغسطس/آب 2013، وراح ضحيتها المئات من الأطفال والنساء.
وحصل نظام الأسد على دعم كبير لاستمرار بقائه في الحكم عبر انضمام مليشيات مسلحة إلى قواته أغلبها من إيران والعراق، لاسيما تحالف إيران وروسيا عسكريا ودبلوماسيا لإطالة فترة حكم الأسد.
ولم تسفر الثورة السورية عن تنحي بشار الأسد عن الحكم كما حدث في ثورات تونس ومصر وليبيا، واستمر الصراع المسلح في البلاد.
ووفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش اعتقل النظام الآلاف منذ بداية الثورة، ودفع إلى لجوء نحو 12.3 مليون شخص خارج سوريا، ونزوح نحو 6.7 ملايين شخص داخليا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دیسمبر کانون الأول الربیع العربی یونیو حزیران إسقاط النظام مما أدى إلى الأولى فی قیس سعید دفع إلى بن علی
إقرأ أيضاً:
الرؤية الروسية للفكر الاجتماعي والاشتراكية في أدب دوستويفسكي.. قراءة في كتاب
الكتاب: الفكرة الروسية ورؤيا دوستويفسكي للعالمالكاتب: نيقولاي بِرْدياف، ترجمة شاهر أحمد تصر ومالك صقور
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، الطلعة الأولى 2025.
عدد الصفحات: 511 من القطع الكبير.
المسألة الاجتماعية والاشتراكية الشعبوية
في القرن التاسع عشر احتلت المسألة الاجتماعية مكاناً متميزاً في الوعي الروسي.. ويمكن القول إن الفكرة الروسية في القرن التاسع عشر طبعت باللون الاشتراكي في جزء كبير منه. إذا أخذنا الاشتراكية بمعناها غير العقائدي، فيمكننا القول إنّ الاشتراكية متجذرة بعمق في الطبيعة الروسية. وقد عبر عن ذلك فعلاً في حقيقة أن الشعب الروسي لم يعرف المفاهيم الرومانية حول الملكية. ويقال إن روسيا الموسكوفية لم تعرف خطيئة ملكية الأرض، فالقيصر هو المالك الوحيد، لم تكن هناك حُرِّيَّة، إنما كانت هناك عدالة أكبر. هذا الأمر لافت ومثير للاهتمام لتفسير أسباب ظهور الشيوعية.
لقد أنكر السلافويون الفهم البرجوازي الغربي للملكية الخاصة، مثلهم مثل الاشتراكيين ذوي الاتجاه الثوري. اعتقد الجميع تقريباً أن الشعب الروسي مدعو (منذور) لتحقيق الحقيقة الاجتماعية، والأخوة الإنسانية، وأمل الجميع في أن تتجنب روسيا خطيئة وشرور الرأسمالية، وأنها قادرة على الانتقال إلى أفضل نظام اجتماعي، يتجاوز المرحلة الرأسمالية من التطور الاقتصادي. واعتقد الجميع أن تخلف روسيا هو مزيتها الفضلى. تنبه الروس إلى أن يصبحوا اشتراكيين بسبب نظام القنانة، والاستبداد. الشعب الروسي هو أكثر الشعوب تواصلاً بالمعنى الاجتماعي في العالم، فهذه هي طبيعة الحياة الروسية، والعادات الروسية؛ فحسن الضيافة الروسية هي سمة من سمات التواصل الاجتماعي.
يقول الكاتب نيقولاي ألكسندروفيتش بِرديائف: "يُعد كل من راديشيف، وبيستيل سابقا الاشتراكية الروسية. وقد حملت اشتراكية بيستيل طابعاً فلاحياً. في البداية، عرفنا التصوف الاجتماعي، لدى بتشيرين تحت تأثير لاميني، على سبيل المثال. أما التأثير الرئيس هو تأثير سان سيمون، وفورييه. شُغِفَ الروس بالسانسيمونية والفوريهية.
يقال إن روسيا الموسكوفية لم تعرف خطيئة ملكية الأرض، فالقيصر هو المالك الوحيد، لم تكن هناك حرية، إنما كانت هناك عدالة أكبر. هذا الأمر لافت ومثير للاهتمام لتفسير أسباب ظهور الشيوعية.بدت هذه الاشتراكية في البداية غريبة على السياسة. عُرف م. ف. بيتراشيفسكي، الملاك الروسي كان مقتنعاً بأفكار فورييه وبنى في قريته فلا نستير) (فندقاً جماعياً)، عده الفلاحون بدعة وأحرقوها، لمعارضتها أسلوب حياتهم. كانت اشتراكيته سلمية وليست سياسية ومثالية، تعكس الإيمان بإمكانية بناء حياة سعيدة وعادلة. أخذت حلقة بتراشيفسكي تجتمع في جلسات سلمية حالمة هادئة لبحث سبل بناء المجتمعات البشرية في دولة حديثة" (وفق تعبير دوستويفسكي) (ص126).
آمن بتراشيفسكي أنه يمكن تطبيق اشتراكية فورييه في روسيا في ظل الحكم الملكي الاستبدادي. إليكم كلماته الرائعة: "لم أجد ما يجذبني ـ من النساء ولا من الرجال، أكثر من أن أسخر نفسي لخدمة البشرية". لقد انتهى كل هذا نهاية محزنة للغاية، ومميزة للسلطة التاريخية. في عام 1849، اعتقل البترشيفيون، كما كانوا يسمونهم، وحكم على واحد وعشرين شخصاً بالإعدام، بمن فيهم دوستويفسكي، واستبدل الحكم بالأعمال الشاقة.
نذكر من بين أعضاء الحلقة سبيشنيف صاحب الاتجاه الأكثر ثورية، ويمكن اعتباره سلف الشيوعية، ويُعد الأقرب إلى الأفكار الماركسية وكان ملحداً تماماً، إنه أرستقراطي، وسيم ومالك أراضي غني؛ وهو أنموذج شخصية ستافروغين لدى دوستويفسكي. لقد كان الماركسيون الأوائل روساً. ويمكن أن نعد مالك الأرض الروسي سازنوف، الذي عاش في باريس أول أتباع ماركس تقريباً.
لم يعجب ماركس بالروس حقاً، وفوجئ بوجود أتباع له بين الروس في وقت أبكر من الغربيين. فهو لم يتوقع الدور الذي سيلعبه في روسيا. حملت الاشتراكية الروسية طابعاً دينياً حتى حينما كانت ملحدة. يقسم تاريخ الفكرة الاشتراكية الروسية إلى ثلاث مراحل الاشتراكية الطوباوية، وتأثير أفكار سان سیمون وفورييه والاشتراكية الشعبوية الأكثر روسية، والأقرب إلى أفكار برودون؛ الاشتراكية العلمية، أو الماركسية.
وأنا أود أن أضيف مرحلة رابعة هي ـ الاشتراكية الشيوعية، والتي يمكن تعريفها بأنها مبنية على الإرادة التطوعية، المتحمسة للإرادة الثورية. في البداية شهدت الاشتراكية الروسية غلبة حاسمة للأفكار الاجتماعية على السياسية. وهذا ما عرفته ليس فقط الاشتراكية الطوباوية، بل الاشتراكية الشعبوية أيضاً في السبعينيات. فقط في أواخر السبعينيات، حينما تشكل حزب الإرادة الشعبية أصبحت الحركة الاشتراكية حركة سياسية وانتقلت إلى مرحلة النضال الإرهابي.
يقال أحياناً إن القضية الاجتماعية في روسيا حملت طابعاً محافظاً، وليس ثورياً. يعود ذلك أساساً إلى الأشكال التقليدية الروسية في عادات المشاعية الفلاحية، والاتحادات العمالية الطوعية، إنها أيديولوجية المنتج الصغير. لقد خاف الاشتراكيون الشعبيون من الليبرالية السياسية، لأنها تقود إلى انتصار البرجوازية.
يُعد غيرتسن معارضاً للديمقراطية السياسية. وقد آمن في وقت من الأوقات بدور القيصر المفيد، وأبدى استعداده لدعم الملكية إذا كانت ستحمي مصالح الشعب، والأهم من ذلك كله أنّ الاشتراكيين لم يرغبوا في تطبيق طريق التطور الغربي في روسيا، فهم يريدون تجنب المرحلة الرأسمالية بأي ثمن.
الشعبوية ظاهرة روسية بامتياز، مثلها مثل الظواهر الروسية الأخرى كظاهرة النهلية (العدمية) الروسية، والفوضوية الروسية... قامت في أساسها على الإيمان بالشعب باعتباره حارس الحقيقة، وميزت الشعب عن الأمة (القومية)، حتى إنها وضعت هذين المفهومين في موقعين متعارضين.يقول الكاتب نيقولاي ألكسندروفيتش بِرديائف: "الشعبوية ظاهرة روسية بامتياز، مثلها مثل الظواهر الروسية الأخرى كظاهرة النهلية (العدمية) الروسية، والفوضوية الروسية (الفوضوية - التي ترفض سلطة الدولة). وتجلت الشعبوية في أشكال متنوعة، إذ عرفت الشعبوية المحافظة، والثورية والمادية والدينية. لقد ضمت الشعبوية السلافويين وغيرتسن، ودوستويفسكي، وثوريي السبعينيات. وقامت في أساسها على الإيمان بالشعب باعتباره حارس الحقيقة، وميزت الشعب عن الأمة (القومية)، حتى إنها وضعت هذين المفهومين في موقعين متعارضين. الشعبويية لا تعني القومية، على الرغم من أنها يمكن أن تنطبع باللون القومي ترى الشعبوية الدينية أن الشعب كائن ما مبهم (صوفي غامض يتغلغل في أعماق الأرض، وفي أعماق الروح، أكثر من الأمة التي تكون تشكلاً تاريخياً عقلانياً مرتبطاً بالدولة. والشعب مجتمع معين من الناس الأحياء، أكثر من القومية التي تعد فكرة أكثر تجريداً"(ص128).
لكن الشعبوية الدينية والسلافويين ودوستويفسكي وتولستوي، عدوا الفلاحين في المقام الأول؛ أي الفئات الكادحة في المجتمع، هم الشعب. أما الشعبوية غير الدينية والثورية، فقد تطابق لديها مفهوم الشعب مع الفئات الاجتماعية من الطبقات الكادحة في المجتمع، التي تتطابق مصالحها مع مصالحالعمل. لقد تم الجمع بين الشعبوية والديمقراطية (بالمعنى الاجتماعي). اعتقد السلافويون أن الجنسية الشعبية الروسية، والإيمان الأرثوذكسي، المميزة للشعب الروسي، متجذرة ومصانة في أوساط الشعب البسيط، وفي أوساط الفلاحين أكثر مما هو الحال في أوساط الطبقات المتعلمة والحاكمة.
كما تميزت الشعبوية الروسية، خلافاً للقومية، بموقفها السلبي من الدولة إذ امتلكت ميلاً (فوضوياً)، وشمل ذلك السلافوية، كما المعسكر اليساري من الشعبوية. فبدت لهم الدولة مصاص دماء، تمتص دماء الشعب كالطفيليات تعيش على جسد الشعب يرتبط الوعي الشعبي بالتشظي والتناقض وغياب الوحدة. فالشعب ليس وحدة موحدة من جنسية تاريخية محددة. إذ وجد الشعب نفسه في مواجهة إما الإنتيليجنتسيا والفئات المتعلمة، أو النبلاء والطبقات الحاكمة. عموماً لم يشعر المثقف الشعبوي أنه جزء عضوي من الشعب الموحد، يؤدي وظيفة في الحياة الشعبية. لقد أدرك وضعه غير الطبيعي وغير المريح، والأقرب إلى الخطيئة. لم تكن الحقيقة وحدها مخفية في أعماق الشعب، بل والسر، أيضاً، الذي ينبغي اكتشافه.
عصر تولستوي
تعد الشعبوية استمراراً للطابع غير العضوي في التاريخ الروسي في مرحلة بطرس، والطابع الطفيلي لشريحة النبلاء الروس. ويعود الفضل الجزء صغير نسبياً من النبلاء الروس ولنخبتهم بأنّ الوعي الشعبوي نشأ في أوساطهم. أتى هذا الوعي الشعبوي نتيجة "صحوة الضمير"، ووعي الخطيئة والتوبة. لقد بلغ وعي الخطيئة والتوبة ذروته في شخص ل. تلستوي.
إلا أن ذلك ظهر على نحو مختلف لدى السلافويين، إذ ارتبط بإضفاء الطابع المثالي الكاذب، كأنه عضوي، في المرحلة ما قبل مرحلة بطرس من التاريخ الروسي. لذلك، لم يعالجوا المسألة الاجتماعية بوضوح كاف. يمكن القول إن الفلسفة الاجتماعية السلافوية تستبدل الكنيسة بالمشاعية، والمشاعية بالكنيسة. لكن الأيديولوجية الاجتماعية السلافوية حملت طابعاً شعبوياً ومعادياً للرأسمالية.
سننتقل الآن إلى مناخ آخر ازدهرت فيه العبقرية الروسية، إنها المسألة الاجتماعية ـ الثورية، حينما وهبوا لها كل شيء تماماً، فقمعت الوعي، وتسببت في نزاع مع غنى الفكرة الإبداعي، ومع ازدهار الثقافة. لقد طبعت الفكرة الاجتماعية - الثورية الروسية بطابع الزهد (التصوف) المتميز. مثلما آمن النساك المسيحيون في الماضي بأنه ينبغي أولاً وقبل كل شيء النضال ضد الخطيئة الشخصية (الفردية)، أمن الثوريون الروس بأنه ينبغي أولاً وقبل كل شيء النضال ضد الخطيئة الاجتماعية، أما ما يتبقى فيعالج لاحقاً.
لم يكن تولستوي ثابتًا أو مستقرًا على الإطلاق، ولم يعرف كيف يطبق معتقداته في الحياة، وقام بذلك فقط في نهاية حياته بتشرده العبقري... لم يستطع تحمل وضعه المتميز ومرتبته الاجتماعية التي ناضل ضدها طوال حياته.إنما كان هناك أناس متميزون بشعورهم القوي بالخطيئة، هؤلاء الذين لم تكن المسألة الاجتماعية الروسية غريبة عنهم، والذين أظهروا إبداعاً رائعاً. هؤلاء، أولاً، هم ل تلستوي دوستويفسكي و ف.سولوفيوف. لقد آمن الكاتبان الروسيان العظيمان كلاهما في حقيقة الشعب الكادح البسيط، على الرغم من تناقض نمطيهما، وكونهما ممثلي الشعبوية الدينية.
يقول الكاتب نيقولاي ألكسندروفيتش بِرديائف: "إن العبقرية الروسية، وخلافاً للأوروبية الغربية، التي سمت إلى القمة، تندفع إلى الأسفل وتريد الاندماج مع الأرض والناس، ولا تريد أن تكون عرقاً متميزاً، وظلت فكرة السوبرمان غريبة بالنسبة إليها. تكفي مقارنة ل. تلستوي مع نيتشه. إن كلاً من تلستوي ودوستويفسكي، معاديان للانتيليجنتسيا الثورية، كما يبدو من أساس نظرتهما العقائدية إلى العالم، حتى إن دوستويفسكي لم يكن عادلاً معها، وتذكر تعريته لها بالبيان التشهيري.
لكنهما كليهما سعيا إلى الحقيقة الاجتماعية، من الأفضل القول إنهما كليهما سعيا إلى ملكوت الله، الذي يتضمن الحقيقة الاجتماعية. إذ اكتسبت المسألة الاجتماعية لديهما طابع المسألة الدينية. يقف ل. تلستوي بجرأة غير مسبوقة قريبة إلى التطرف ضد تزوير الحقيقة والأكاذيب في التاريخ، والحضارة، ومؤسسات الدولة والمجتمع. إنه يعري ويدين المسيحية التاريخية، والكنيسة التاريخية لتكييفها دعوة المسيح وإخضاعها لقانون هذا العالم، واستبدالها ملكوت الله بمملكة القيصر، وفي خيانة قانون الرب. لقد امتلك شعوراً عميقاً بالذنب، ليس شعوراً شخصياً، فحسب، بل شعور الطبقة التي ينتمي إليها أيضاً(ص 150).
لم يستطع هذا الأرستقراطي العريق بالولادة، والسنيور (السيد الكبير) الأصيل الحقيقي، تحمل وضعه المتميز ومرتبته الاجتماعية التي ناضل ضدها طوال حياته. لم يعرف الغرب مثل هذا التخلي عن أرستقراطيته، وثروته، وعن مجده في نهاية المطاف. لم يكن تولستوي ثابتاً أو مستقراً على الإطلاق، ولم يعرف كيف يطبق معتقداته في الحياة، وقام بذلك فقط في نهاية حياته بتشرده العبقري. لقد ضغطت أسرته عليه ودفعته نحو الأسفل. إنه إنسان مفعم بالعواطف، تملكه هوس قوي نحو الأرض، وارتبط غريزياً بالحياة الأرضية نفسها، بسبب الكذب الذي عاناه كثيراً. لم يكن شخصاً ذا مزاج نباتي على الإطلاق، بل خاض نضاله بكل جوارحه في مواجهة المبادئ المتناقضة. إنّه إنسان فخور بنفسه، أحب الصيد، ميال إلى الغضب، مسالم ذو غريزة متشددة، ولاعب ورق، وقد خسر في لعب الورق نحو مليون، ودعا إلى اللاعنف - كان يميل على نحو طبيعي إلى المعارضة ولم يخضع لأي شخص ولا لأي شيء، وقد أغوته النساء، وكتب "سوناتا إلى حينما حصلت عملية تفتيش قريته في أثناء غيابه، ومثل هذه كرويتزر". القصص ليست نادرةً في روسيا، وصل به الغضب لدرجة أنه طالب الحكومة بالاعتذار، وطلب من خالته المقربة من القصر، أن تثير هذه المسألة لدى ألكسندر الثالث، وهدد بمغادرة روسيا إلى الأبد. وحينما أُلقي القبض على التلستويين ونفيوا، طالب أن يلقوا القبض عليه وينفوه.
كُتب عليه أن يقهر ولعه بالأرض من كل أعماقه، وشغفه بالطبيعة، وبشر بدين روحي قريب من البوذية. هذا هو اهتمام ل. تلستوي ومصيره الوحيد. ظلّ يبحث عن حقيقة ومعنى الحياة لدى الناس البسطاء وفي العمل. ولكي يندمج مع الشعب، ومع إيمانه، أجبر نفسه في وقت من الأوقات أن يتصالح مع الأرثوذكسية، وأخذ يراعي جميع تعليمات الكنيسة الأرثوذكسية، لكنه عجز عن التصالح، فتمرد وبدأ يبشر بإيمانه ومسيحيته وإنجيله الخاص. وطالب بالعودة من الحضارة إلى الطبيعة، التي عدها إلهية. وهو أكثر ما أنكر الملكية الشخصية للأرض، ورأى فيها مصدر كل الشرور؛ فتخلى عن ملكيته للأرض الطبيعية. لقد أثر فيه بعض التأثير كل من برودون، وهنري جورج من المفكرين الاجتماعيين الغربيين، وظلت الماركسية غريبة جداً بالنسبة إليه.
إن التولستوية، التي هي أدنى من تولستوي نفسه، مثيرة للاهتمام على نحو أساسي بسبب انتقاداتها، وليس بسبب تعاليمها ومبادئها الإيجابية. تولستوي إنسان عظيم في محبته للحقيقة، وهو الكاتب الأكثر صدقاً في الأدب الروسي الحقيقي في القرن التاسع عشر. ويعد. ل. تلستوي عنصراً مهماً للغاية في الفكرة الروسية، ومن دونه لا يمكن التفكير في الرسالة الروسية. إذا حسبنا مسألة نفي التفاوت الاجتماعي، وتعرية نفاق وحقيقة الطبقات المهيمنة هي الدافع (المبدأ) الروسي المهم للغاية، فإنه يصل لدى تولستوي إلى أقصى حدود التعبير الديني.
رؤيا دوستويفسكي عن الثورة والاشتراكية
يُعَدُّ دوستويفسكي أكثر المعبرين عن تناقضات الطبيعة الروسية بأكملها، وعن التوتر العاطفي في المسألة الروسية انتمى في شبابه إلى حلقة بتراشيفسكي ولهذا حكم بالأشغال الشاقة. لقد عانى صدمة روحية، وباعتماد المصطلحات العادية، تحوّل من ثوري إلى رجعي وعرّى بهتان (عدم صحة) النظرة العقائدية الثورية إلى العالم، فضلاً عن الاشتراكية الإلحادية. لكن البحث في شخصيته مسألة معقدة للغاية. لقد حافظ دوستويفسكي على كثير مما هو ثوري في أعماقه، فهو ثوري في مسألة الروح. إذ أنّ "أسطورة المحقق العظيم" هي واحدة من أكثر الأعمال ثورية، ويمكن القول إنها من أكثر الأعمال فوضوية في الأدب العالمي.
فهو لم يكن غير مبال بالمسألة الاجتماعية الروسية، بل امتلك طوباويته الاجتماعية الخاصة، طوباوية ثيوقراطية، تبتلع الكنيسة فيها الدولة بأكملها، وتبني مملكة الحُرِّيَّة والمحبة. ويمكن أن نطلق عليها اسم اشتراكية أرثوذكسية. إنه يعادي العالم البرجوازي، والنظام الرأسمالي، وما إلى ذلك. وهو يؤمن أن الشعب الروسي يمتلك حقيقة، ويدعو إلى الشعبوية الدينية، وأن الثيوقراطية، التي ينتفي فيها عنف الدولة، قادمة من الشرق، من روسيا.
امتلك دوستويفسكي طوباويته الاجتماعية الخاصة، طوباوية ثيوقراطية، تبتلع الكنيسة فيها الدولة بأكملها، وتبني مملكة الحرية والمحبة. ويمكن أن نطلق عليها اسم اشتراكية أرثوذكسية.من المثير للاهتمام أن دوستويفسكي أصبح عدواً للثورة والثوار بدافع حبه للحرية، ورأى في روح الاشتراكية الثورية إنكاراً للحرية ولشخصية الإنسان الفردية.
تماماً في الثورة تولد العبودية من الحُرِّيَّة. وإذا سلمنا أن ما قاله عن الثوريين الاجتماعيين صحيح بخصوص نيتشايف، وتكتشوف، غير أنه غير صحيح: بخصوص غيرتسن، أو ميخائيلوفسكي، إنّه يتنبأ بالشيوعية الروسية ويقابلها بالمعالجة المسيحية للمسألة الاجتماعية، وهو لا يقبل الإغواء بتحويل الحجارة إلى خبز، ولا يقبل معالجة مسألة الخبز عبر التخلي عن حرية الروح.
لقد ظلت المسألة الاجتماعية في روسيا مسألة دينية، حتى مع ظهور الوعي الإلحادي. إن ظاهرة "الأولاد الروس والملحدين، والاشتراكيين، والأنارخيين (الفوضويين)، هي ظاهرة الروح الروسية. لقد أدرك دوستويفسكي ذلك بعمق كبير. والأكثر غرابة أنه كتب أحياناً على نحو غير عادل، وبقسوة تقريباً عن هؤلاء الأولاد الروس، ولا سيما في "الشياطين". لقد فهم كثيراً بعمق شديد وتفحص ذلك، ورأى تربة الظواهر الروحية، التي بدت على السطح اجتماعية فقط. ولكنه أحياناً كان ينفجر، إذ أعرب في "يوميات كاتب" عن آراء سياسية محافظة للغاية، إن كثيراً مما هو وارد في "يوميات كاتب" لا يتوافق على الإطلاق مع العمق الروحي الذي يميز رواياته.
دوستويفسكي فنّان ومفكر عصر الثورة التي بدأت سراً تحت الأرض في أرواح الناس، وفي أرواح الشعب. لقد استمر حضور نظام الحياة القديم على السطح، كما حاول نظام الحياة هذا أن يثبت حضوره آخر مرة في عصر ألكسندر الثالث عبر مظاهر الأعمال الخيرية، إلا أن كل شيء بقي في الداخل في حركة عاصفة، ولم يدرك إيديولوجيو وقادة تلك الحركة أنفسهم أعماق طابع العملية والحركة الجارية. ليسوا هم من صنعوا تلك العملية، بل هذه العملية هي التي صنعتهم.
يعد دوستويفسكي إنساناً مهتماً بيوم القيامة وإنسان العصور الأخيرة. وينبغي عدم التعامل معه بالمعايير "الثورية" المبتذلة والوضيعة للعالم القديم أو بمعايير "الثورة المضادة". الثورة رجعية بالمطلق بالنسبة إليه.
يكتشف دوستويفسكي أن طريق الحُرِّيَّة، الذي يسلكه الإنسان بإرادته الذاتية، لا بد أن يفضي إلى التمرد والثورة الثورة هي المصير القاتل للإنسان حينما يبتعد عن المبادئ الإلهية الأساسية، إذ يعي حريته على أنها إرادة ذاتية فارغة ومتمردة. إن الثورة لا تحددها أسباب وشروط خارجية، بل تحدد بأسبابها النابعة من الداخل. والثورة تعني تغييرات كارثية في مواقف الإنسان الأصلية وعلاقته بالإله، وبالعالم والناس.
يسبر دوستويفسكي أعماق الطريق التي تجذب الإنسان إلى الثورة وتقوده إليها، ويكشف عن الديالكتيك الداخلي القاتل. إنها دراسة أنثروبولوجية الحدود الطبيعة البشرية وطرق حياة الناس. إن ما يكتشفه دوستويفسكي في مصير الفرد الشخصي، يكتشفه أيضاً في مصير الناس، وفي مصير المجتمع، فالسؤال "هل مسموح بكل شيء " ينتصب أمام الفرد وأمام المجتمع بأسره.
إن الطريق التي تقود الفرد إلى الجريمة هي الطريق نفسها التي تقود المجتمع بأسره إلى الثورة، تلك تجربة متماثلة، ولحظة متشابهة في المصير، وهي حالة تشبه حال الإنسان، الذي يتجاوز بإرادته الذاتية حدود ما هو مسموح به. فيفقد حريته، وحال الشعب الذي يتجاوز حدود ما هو مسموح به بإرادته الذاتية فيفقد حريته؛ فتتحول الحُرِّيَّة إلى قمع وعنف وعبودية. إن الحُرِّيَّة اللا إلهية (الإلحادية) تدمر ذاتها.
تمامًا في الثورة تولد العبودية من الحرية. وإذا سلمنا أن ما قاله دوستويفسكي عن الثوريين الاجتماعيين صحيح بخصوص نيتشايف، فإنه غير صحيح بخصوص غيرتسن أو ميخائيلوفسكي.لقد تنبأ دوستويفسكي بهذه العملية القاتلة الناجمة عن فقدان الحُرِّيَّة بفعل الثورة وانحدارها إلى عبودية غير معهودة، وأظهرها ببراعة في كل تقلباتها، وهو لم يحب "الثورة" لأنها تؤدي إلى استعباد الإنسان وتنفي حرية الروح؛ هذا هو دافعه الرئيس. لقد دفعته محبته للحرية إلى التمرد فكرياً ضد "الثورة"، وكشف أسسها، التي ينبغي أن تؤدي إلى العبودية.
وينبغي أن تؤدي "الثورة" أيضاً إلى عدم المساواة والأخوة بين الناس، وإلى اللامساواة غير المعهودة. يظهر دوستويفسكي طبيعة "الثورة" الخادعة، إنها لن تحقق أبداً ما تعد. به من إغراءات. في "الثورة" يستبدل المسيح بالمسيح الدجال. لم يرغب الناس أن يتحدوا بحريتهم بالمسيح، لهذا فإنهم يتحدون غصباً عنهم بالمسيح الدجال.
ظلت مسألة طابع "الثورة" بالنسبة إلى دوستويفسكي مسألة اشتراكية بالدرجة الأولى لطالما كانت مسألة الاشتراكية محور اهتمام دوستويفسكي، وهو صاحب أعمق الأفكار حول الاشتراكية، التي عبر عنها في وقت ما. لقد أدرك أن مسألة الاشتراكية هي مسألة دينية، ومسألة تتعلق بالله والخلود.
"الاشتراكية ليست مسألة الطبقة العاملة فحسب، أو ما يطلق عليه الفئة الرابعة، أنها في الأساس مسألة إلحادية، مسألة التجسيد الحديث للإلحاد بالدين، إنها مسألة. برج بابل، الذي شيده البشر بلا إله، لا ليرتقوا من الأرض إلى السماء (الجنة)، بل لينزلوا السماء إلى الأرض". إن الاشتراكية تعالج المسألة الأزلية المتعلقة بتوحيد الناس في العالم أجمع، وبناء المملكة الدنيوية.
تتجلى طبيعة الاشتراكية الدينية على نحو خاص في الاشتراكية الروسية.
إن المسألة المتعلقة بالاشتراكية الروسية هي مسألة ذات نزعة ترتبط بمفهوم القيامة (نهاية العالم) وهي. مسألة تهتم بنهاية التاريخ التدميرية الشاملة. لا ينظر إلى الاشتراكية الروسية الثورية على أنها حالة انتقالية نسبية في العملية الاجتماعية أو كتشكيلة مؤقتة في بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، بل ينظر إليها دائماً على أنها الحالة النهائية والمطلقة، التي تقرر مصير البشرية، وظهور ملكوت الله على الأرض.
يقول دين الاشتراكية لدين المسيح: "إنك فخور باختيارك، إنما لا يوجد لديك غير النخبة، أما نحن فسنهدأ الجميع... سيكون الجميع لدينا سعداء..... ستقنعهم بأنهم سيصبحون سعداء وأحراراً فقط حينما يتخلون عن حريتهم". إن دین خبز السماء دين ارستقراطي. إنه دين النخبة دين "عشرة آلاف عظيم وقوي". أما دين باقي الملايين الضعفاء، كثر كرمال البحر" فهو دين الخبز الدنيوي. وهذا الدين يكتب على رايته: "أطعمهم، ثم اطلب منهم الفضيلة". والإنسان الذي يغريه دين الاشتراكية، يبيع حريته الروحية لقاء إغراء الخبز الدنيوي.
وها هم أولاء ممثلو دين الاشتراكية "يتباهون لأنهم تغلبوا أخيراً بفضل جهودهم وجهود أتباعهم على الحُرِّيَّة، وقد أنجزوا ذلك لإسعاد البشر". "لا يوجد ما هو أكثر عبئاً لا يطاق، ولا يمكن تحمله على الإطلاق من الحُرِّيَّة بالنسبة إلى الإنسان، والمجتمع البشري. هل ترى هذه الحجارة في هذه الصحراء الجرداء القاحلة والحارة؟ حولها إلى خبز، حينئذ سوف تجري خلفك البشرية مثل قطيع، ممتن ومطيع، على الرغم من أنه يرتعد أبد الآبدين".
ويخاطب دين الاشتراكية المسيح قائلاً: "لقد رفضت الراية المطلقة الوحيدة التي قدمت لك كي تجبر الجميع على الركوع أمامك بلا جدال، راية الخبز الدنيوي، رفضتها باسم الحُرِّيَّة والخبز السماوي"... أقول لك لا يوجد لدى الإنسان أمر يؤلمه أكثر من عثوره على شخص يعيد إليه في أسرع وقت ممكن هبة الحُرِّيَّة التي ولد فيها هذا المخلوق البائس.
يجترح دوستويفسكي اكتشافاً مهماً جداً للفلسفة الاجتماعية. إن معاناة الناس وحرمان كثير من الناس من خيرهم كفاف يومهم ليست بسبب استغلال الإنسان للإنسان، ولا طبقة الطبقة أخرى، كما يعلمنا دين الاشتراكية، إنما بسبب أن الإنسان يولد كائناً حراً، بروح حرة. فالكائن اخر يفضل أن يتألم ويحرم من خبزه كفاف يومه على أن تحرم من حُرِّيَّة، روحه، وأن يستعبد بالخبز الدنيوي.
إن حرية الروح البشرية تقتضي حرية الاختيار، وحرية الخير والشر، تالياً حتمية المعاناة في الحياة، ولاعقلانية الحياة، ومآسي الحياة. هنا، كما هو الحال دائم لدى دوستويفسكي، يكتشف ديالكتيك الأفكار الغامضة. حرية الروح البشرية هي أيضاً حرية الشر، وليست حُرِّيَّة الخير وحده، إلا أن حرية الشر تقود إلى استيقاظ إرادة الإنسان الذاتية وتأكيد ذاته، في حين تؤدي الإرادة الذاتية إلى التمرد والانتفاضة في وجه مصدر اخرية الروحية ذاته. والإرادة الذاتية اللا محدودة (العناد) تنفى الحُرِّيَّة وتتخلى عن الحُرِّيَّة الحُرِّيَّة عبء ثقيل، طريق الحُرِّيَّة هي طريق صليب الألم. وها هو ذا الإنسان يقف في تمرده الضعيف ضد عبء الحُرِّيَّة، وتتحول الحُرِّيَّة إلى عبودية وإكراه.
الاشتراكية هي سليلة تأكيد الإنسان لذاته، وللإرادة البشرية، إلا أنها تقضي على حرية الإنسان. كيف تخرج من هذا التضاد، ومن هذا التناقض اليائس؟ يعرف دوستويفسكي مخرجاً واحداً - المسيح. في المسيح، تصبح الحُرِّيَّة خيرة كريمة، وتتحد مع الحب اللامتناهي، ولا يمكن أن تتحول الحُرِّيَّة بعدئذ إلى نقيضها، إلى عنف شرير.
في كل أعمال دوستويفسكي نلاحظ كيف تدمر طوباوية السعادة الاجتماعية والكمال الاجتماعي حُرِّيَّة الإنسان، وتتطلب تقييد الحُرِّيَّة. هذا هو الحال لدى شيغالوف، وفي خطط بطرس فيرخوفينسكي، وكذلك في تعاليم المحقق العظيم الذي يبشر تحت غطاء الكاثوليكية بدين الاشتراكية، دين الخبز الدنيوي، وعش النمل الاجتماعي. يعد دوستويفسكي ناقداً قوياً لمذهب اليودمية الاجتماعية، وفاضح خطرها القاتل للحرية.
عرفت لدى دوستويفسكي فكرة عاد إليها مرات عدة، في العلاقة بين الاشتراكية والكاثوليكية؛ إنه يرى في الكاثوليكية، وفي الثيوقراطية البابوية الإغراء نفسه كما في الاشتراكية، فالاشتراكية ليست سوى كاثوليكية علمانية. لهذا، فإن "أسطورة المحقق العظيم"، التي سنعود إليها في فصل منفصل، مكتوبة ضد الاشتراكية وضد الكاثوليكية على حد سواء. حتى أنني أميل إلى الاعتقاد بأنها مكتوبة عن الاشتراكية أكثر من كونها مكتوبة عن الكاثوليكية. تتطابق أفكار المحقق العظيم على نحو مذهل مع أفكار.ب. فيرخوفينسكي وشيغاليف وممثلين آخرين للاشتراكية الثورية لدى دوستويفسكي.
وكان دوستويفسكي مقتنعاً تماماً بأن البابا سيذهب أخيراً نحو الشيوعية، لأن الفكرة البابوية والفكرة الاشتراكية هما الفكرة نفسها لبناء ملكوت الأرض قسرياً. إن كلاً من دين الكاثوليكية ودين الاشتراكية ينفيان على قدم المساواة حرية الضمير البشري. وقد قبلت الكاثوليكية سيف القيصر وتعرضت لإغراء الملكوت الأرضي ـ جبروت السلطة الأرضية. هذا ما دفع شعوب أوروبا إلى الطريق الذي ينبغي أن يؤدي إلى الاشتراكية.
يقول دوستويفسكي في "يوميات كاتب": "إن فرنسا، سواء عبر ثوار مؤتمرها الوطني، أو في ملحديها، أو اشتراكييها، والكومونيين الحاليين، ما تزال أمة كاثوليكية تماماً وكلياً، جميعهم مصابون بالروح الكاثوليكية ورسالتها، Fraternite - Egalite Liberte)) يعلنون عبر أفواه الملحدين سيئ السمعة أن ou la mort، تماماً مثلما أعلن البابا نفسه، إذا أُجبر فقط على إعلان وصياغة حرية، مساواة، أخوة الكاثوليكية بأسلوبه وروحه الحقيقي روح في العصور الوسطى. إن الاشتراكية الفرنسية الحالية ما هي إلا استمرار أكيد وثابت للفكرة الكاثوليكية، وأكملها وأتمها، وهي نتيجة قاتلة تحققت على مر القرون فالاشتراكية الفرنسية، ليست سوى توحيد الناس قسراً - وهي فكرة تعود إلى روما القديمة صانتها الكاثوليكية"(ص 423).
تعد الكاثوليكية بالنسبة إلى دوستويفسكي حامل الفكرة الشمولية القسرية الرومانية، ووحدة الناس العالمية القسرية وتنظيم حياتهم على الأرض إن هذه الفكرة الرومانية عن الشمولية القسرية هي أيضاً في صميم الاشتراكية.
في الحالتين كلتيهما لا يعترف بحرية الروح البشرية، التي ستنفى حتماً حين ينتصر دين ملكوت الأرض والخبز الدنيوي. يرى دوستويفسكي أن الثورة الفرنسية ليست إلا "تعديلاً وتناسخاً للصيغة الرومانية القديمة حول وحدة العالم نفسها". يجب أن تحكم هذه الصيغة" الثورة الاشتراكية التي تنبأ بها دوستويفسكي وتوقعها.
وفي الصراع الذي اندلع في أوروبا، كان دوستويفسكي مستعداً للانحياز إلى جانب ألمانيا البروتستانتية من أجل هزيمة الكاثوليكية والاشتراكية، وفكرة وحدة الناس القسرية. في زمن دوستويفسكي، كانت الاشتراكية هي السائدة في فرنسا؛ ولم يكن قد عرف بعد الديمقراطية الاشتراكية التي تطورت في ألمانيا، ولم يكن يعرف الماركسية، لذلك فالعديد من أحكامه عفا عليها الزمن. إلا أنه توقع شيئاً مهماً للغاية. طبعاً، كان دوستويفسكي غير عادل في موقفه من الكاثوليكية. من المستحيل مطابقة العالم الكاثوليكي العظيم، الغني والمتنوع إلى أبعد الحدود. مع إغراءات وانحرافات الفكرة البابوية الثيوقراطية: فقد شمل القديس فرنسيس والقديسين العظماء والمتصوفة، وعرف فكرة دينية معقدة، وحياة مسحية أصيلة.
إقرأ أيضا: الروح الروسية بين الشرق والغرب.. كتاب يرصد تطور الفكر الروسي ومصيره
إقرأ أيضا: الإنتلجنتسيا الروسية.. صراع الفكر بين المثالية الثورية والمحافظة الأخلاقية