ثورة الملاكمين.. انتفاضة ضد النفوذ الغربي بالصين قتل فيها 100 ألف
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
"ثورة الملاكمين" انتفاضة شعبية خرجت ضد تنامي النفوذ الغربي والياباني شمالي الصين أثناء الفترة الأخيرة من حكم سلالة تشينغ. بدأت عام 1899 وانتهت عام 1901. ترأستها مجموعة ثارت على الإمبريالية وانتشار المسيحية، فردت عليها 8 بلدان اتفقت على إسكاتها، فانتهت بمقتل 100 ألف معظمهم مدنيون.
أُطلق عليها "ثورة الملاكمين" ("يتيهوان" باللغة الصينية) لأن أفرادها كان يؤدون تمارين بدنية مكثفة معتقدين أنها ستجعلهم قادرين على مقاومة الرصاص وتدمير الممتلكات.
عاشت الصين قرونا من الازدهار والعزلة، لكنها تراجعت في القرن الـ19 أمام القوى الأوروبية التي أجبرتها على قبول عدة شروط لفتح أبوابها أمام التجارة الخارجية، منها التنازل عن هونغ كونغ وكوولون ودفع تعويضات ضخمة، وقبول تجارة الأفيون التي قادت إلى "حرب الأفيون الأولى".
كانت تلك الحرب بداية التدخل الأجنبي وفاتحة لما أسمته الصين "قرن الإهانة"، وفيها هزمت البحرية البريطانية بكين، ولم تتوقف الأطماع الأجنبية عنها من حينها، وفقدت الصين السيطرة الآسيوية بعد انهزامها في الحرب الصينية اليابانية.
وأصبحت "الصين العظيمة" تحت سلطة وسيطرة 8 دول غربية حينها -بدرجات متفاوتة- وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وإيطاليا واليابان والإمبراطورية النمساوية المجرية والولايات المتحدة الأميركية.
رسم تعبيري نشر عام 1915 يجسد ثورة الملاكمين (غيتي)حينها، تشكلت جمعية "الملاكمين" شمالي الصين، وكان دافعها الأساسي رفض الوجود الأجنبي المتزايد في الصين آنذاك، وخصوصا محاولات الهيمنة الغربية التجارية وفرض المسيحية على البلاد. وبينما كانت الصين تقاتل لمقاومة المستعمرين، عانت البلاد بسبب افتقارها إلى جيش لكثرة ضحاياها من حروبها السابقة.
زاد من ذلك تنامي مشاعر الكراهية لدى القرويين الصينين في الشمال الصيني ضد المسيحين الذين تجاهلوا التزامهم بدفع الضرائب. مما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بسبب سيطرة الدول الغربية على مجمل قطاعات الاقتصاد الصيني.
بداية الحربأشعلت سلسلة الحروب والمعاهدات التي وقعتها البلاد مجبرة نار الغضب في نفوس الشعب الصيني، فثار ضد الوجود الأجنبي، وازدادت كراهيته ضد الأجانب والمسيحيين مع مرور الوقت، حتى اعتبر "المسيحيون الصينيون" خونة وعملاء للغرب. وبدا من الواضح أن انفجار اجتماعيا كان وشيكا، في ظل التدهور الاقتصادي وفساد المحاصيل الزراعية والجفاف، حتى عصفت المجاعة بالبلاد.
في أواخر القرن الـ19 بدأت حركات تنشط مطالبة بحقوق الشعب الصيني، وبرزت جماعات ثورية، أبرزها جماعة "الملاكمين"، التي اعتمدت على أساس ديني، ودعت للحفاظ على القيم التقليدية الصينية. وأول ما طالبت به قتل الأجانب ومنعهم من دخول البلاد، معتبرة أنه السبب في تدهور أحوال الإمبراطورية.
نشأت جماعة "الملاكمين" في مقاطعة شاندونغ الواقعة على الساحل الشمالي للصين، في وقت زادت فيه قوة النفوذ الألماني على المدينة، وبعد مقتل اثنين من المبشرين الألمان هناك، احتلت ألمانيا ميناء المدينة وجعلتها مستعمرة ألمانية بحكم الأمر الواقع، مما أشعل سباقا بين القوى الأوروبية لحصد مناطق مماثلة في الصين.
الدفاعات التي بناها "الملاكمون" على جدار قرب البوابة الجنوبية في العاصمة بكين حوالي عام 1901 (غيتي)استقطب "الملاكمون" العاطلين عن العمل والناقمين على الاحتلال الأجنبي، وهاجمت الجماعة في البداية الحكومة الصينية، لكنها سرعان ما وجدت في الإمبراطورة الأرملة المحافظة تسيشي حليفا لها، فرفعت فورا شعار "نصرة تشينغ ومحاربة الأجانب".
ساعد دعم الإمبراطورة الأرملة على انتشار أفكار الجماعة، لكن السلطة المطلقة التي حصل عليها المبشرون الأوروبيون من الحكومة الصينية بسبب خوفها من الغرب زادت من اعتناق كثيرين للمسيحية من أجل الحصول على الامتيازات التي وفرها المبشرون، فتصاعد الشعور بالغضب والظلم عند الشعب الصيني.
عكفت الجماعة بعدها على مهاجمة المسيحيين وتدمير الكنائس وقتل المصلين فيها ورجال الدين، وبعد ضغط الدول الغربية، اضطرت الحكومة الصينية إلى مواجهة الجماعة نهاية عام 1899، مما دفع الملاكمين إلى الانتقال شمالا نحو العاصمة "بكين" ومدينة "تيانجين"، التي كانت تحت سيطرة اليابان حينها، ومقرا للبعثات الأجنبية وسفارات الدول الغربية.
ومن هناك بدأت قوة "الملاكمين" تزداد، وسيطرت قوى محافظة معادية للأجانب على الحكومة الصينية وأقنعت "الملاكمين" بالتخلي عن معارضتهم لسلالة تشينغ والتحالف معها لطرد الأجانب، ولكن رغم احتجاجات القوى الغربية، فإن الإمبراطورة الأرملة شجعت المجموعة، ومنعت من تقدم القوات الأجنبية وأوقفت إدخال أي مساعدات إغاثية للغربيين في العاصمة.
في هذه الأثناء، أحرق "الملاكمون" الكنائس ومحطات السكك الحديدية ومساكن وممتلكات الأجانب، وقتلوا مسيحيين صينين، وحاصروا مناطق السكن الرسمية للدبلوماسيين الأجانب.
موكب يحمل هدايا إلى السكان الأصليين الصينيين في مدينة تيانجين (غيتي) أهم المحطاتحوّل "الملاكمون" أنظارهم نحو الدبلوماسيين الأجانب، وشرعوا في التحضير لمهاجمة مدينة بكين المحصنة، فشعر المبعوثون الأجانب في العاصمة بالخطر، وطلبوا قوات أجنبية لحمايتهم، فوافقت الحكومة الصينية بتردد في مايو/أيار 1900 على إدخال قوات الحماية، ووصل ما يقارب 400 جندي أجنبي من الدول الثماني آتين من الأساطيل المتمركزة حول الصين.
وفور اقتراب الثوار من مقر البعثات حاصروها، وبدؤوا في تخريبها وقتل أي أجنبي بالمدينة، وقطعوا الطريق أمام وصول أي تعزيزات عبر تدمير خط السكك الحديدية هناك.
وخلال أيام قليلة أرسل الضابط البريطاني في الجيش الهندي ألفريد جاسيل طلبا للمساعدة، فجمع ما يزيد على 20 ألف جندي، وجههم صوب مدينة تيانجين، لكنهم فشلوا في الوصول بسبب تدمير السكك الحديدية، فانسحبوا.
في بداية الأحداث بالعاصمة ضد الدبلوماسيين والأجانب لم يكن للجيش الصيني موقف واضح، لكنه فيما بعد عقد تحالفا رسميا مع "الملاكمين" ضد القوات الأجنبية، وأعلنت الإمبراطورية الصينية الحرب على كل الدول الغربية، بما في ذلك إسبانيا وهولندا وبلجيكا، وهي الدول التي كانت لها بعثات دبلوماسية في الصين.
كان من أول ما شرعت به الحكومة الصينية بعد تعاونها مع "الملاكمين" إصدارها أمرا بإجلاء الأجانب من البلاد، فأمهلت البعثات الدبلوماسية 24 ساعة للرحيل، وهو ما كان شبه مستحيل لأن الأجانب كانوا محاصرين في بكين.
رفض الأجانب مغادرة بكين ففتحت عليهم القوات الصينية النيران، وهجمت على مقرات البعثات الأجنبية، مما تسبب في سقوط ضحايا، وعندما حاول السفير الألماني استئناف التفاوض من خارج المدينة قتله الثوار الصينيون.
الطريق أمام السفارة الإنجليزية في العاصمة الصينية بكين بداية القرن العشرين (غيتي)ورغم أن الإمبراطور الصيني غوانغ شو (ابن أخ تسيشي وكانت قد عينته بنفسها) أصدر قرارا بدعم "ثورة الملاكمين"، فإن بعضا من قادة الجيش الصيني وكبار المسؤولين رفضوا تنفيذه، وخاصة جنوب الصين، حيث رأوا أن القرار غير مدروس فأعلنوا العصيان ضد الإمبراطورية.
على الجانب الآخر حاول بعض قادة الجيش إعاقة الهجوم على المقرات الأجنبية، وماطلوا في إمداد القوات الغربية بالأسلحة الثقيلة. ويُعزى لهم الفضل في إنقاذ المدنيين الأجانب، ويُقال إن الإمبراطورة نفسها أرسلت شحنات من الفاكهة والطعام لمساعدة المدينة المحاصرة.
استمر الحصار 55 يوما، عانى خلالها المواطنون الأجانب والمسيحيون الصينيون من الجوع والرعب في ظل التهديد والقتل الذي طال 60 أجنبيا ومئات المسيحيين الصينيين.
وواصل "الملاكمون" وحلفاؤهم من الجيش محاولاتهم لاختراق المقر ونجحوا في الضغط على قوات الحماية الأجنبية، وتقلّصت المنطقة الآمنة يوما بعد يوم، وفقدت القوات أعدادا كبيرة مع عدم وجود مؤشر لوصول المساعدات الخارجية قريبا.
اتفقت دول التحالف الثماني على شن هجوم مشترك على الصين. وبدأت قوة دولية مشتركة قوامها بين 20 إلى 50 ألف مقاتل في شق طريقها عبر الصين. كان معظمها من اليابان وروسيا والهند البريطانية، نظرا لقربها من الصين.
نجحت قوات التحالف في إيقاف المقاومة الصينية واحتلال مدينة تلو الأخرى، وتحول الأمر إلى سباق بين الدول الكبرى على من يصل إلى مقر البعثات في بكين أولا. فكانت بريطانيا أول الواصلين يوم 14 أغسطس/آب 1900.
ومع اقتراب القوة الدولية من العاصمة، هربت العائلة الإمبراطورية ومعها معظم المسؤولين الكبار وقادة الجيش، وتُرك الآلاف من "الملاكمين" للدفاع عن المدينة، مع مجموعة من الجيش الصيني.
سرعان ما قضي على "الملاكمين" والجيش الصيني، ودخلت القوات الدولية بكين، وشنت حملة ترأستها اليابان وروسيا، استهدفت فيها المدنيين الصينيين، ونهبت المدينة ودمرتها، وشرعت بحملات إعدام جماعية قطعت فيها رؤوس عدد من "الملاكمين" وقادتهم وارتكبت جرائم اغتصاب.
خلال توقيع "بروتوكول بوكسر" ببكين لوقف "ثورة الملاكمين" (غيتي) الخسائر البشريةقتل ما يصل إلى 100 ألف، غالبيتهم من المدنيين، بما في ذلك آلاف المسيحيين الصينيين و200 إلى 250 مواطنا أجنبيا، كما قتل حوالي 3 آلاف عسكري، معظمهم من "الملاكمين" والمقاتلين الصينيين الآخرين.
النتائجكانت لـ"ثورة الملاكمين" تأثيرات كبيرة على الاقتصاد والسياسة في الصين، فقد أدى التمرد إلى تعطيل الأنشطة التجارية والاقتصادية في البلاد، مما تسبب في أضرار جسيمة لاقتصادها.
وكان لتمرد "الملاكمين" أيضا تأثير كبير على السياسة الصينية. إضافة للتوتر المتزايد بين أسلوب الحياة التقليدي وزحف الإمبريالية الغربية على الصين. وكان يُنظر إلى أسرة تشينغ، التي كانت تحكم الصين آنذاك وتعاني من صراعات داخلية على الحكم، على أنها غير قادرة على التعامل مع القوى الأجنبية، وألقي عليها اللوم في الإذلال الذي تعرضت له البلاد، وأدى ذلك إلى سقوط الأسرة، وحلت محلها جمهورية الصين عام 1912.
وتسبب التدخل الدولي في الصين في توقيع "بروتوكول بوكسر" يوم السابع من سبتمبر/أيلول 1901، الذي أجبر الصين على دفع تعويضات للدول التي شاركت في قمع الثورة، وفرض عليها حظر شراء الأسلحة مدة عامين.
كما منح البروتوكول البعثات الدبلوماسية للدول المشاركة في الحرب امتيازات من بينها مراقبة الإدارة المالية الصينية، وإعدام عدد من قادة الثورة، وتدمير التحصينات العسكرية الصينية، وإنشاء المزيد من الامتيازات خارج الحدود الإقليمية للقوى الأجنبية في البلاد، وخاصة التي تطل على السواحل، ووضع قوات أجنبية في حي البعثات الدبلوماسية في بكين.
ومن أهم نتائج "ثورة الملاكمين":
حالت دون انفراد دولة أوروبية واحدة بالسيطرة على الصين. أجبرت الحكومة الصينية على القيام ببعض الإصلاحات مثل إصلاح الجيش ونظام التعليم. أدرك الشعب الصيني أن طريق الثورة هو الطريق الأفضل لإنقاذ بلاده من مشاكلها، إذ مهدت هذه الثورة لانتفاضة وثورة كبرى عام 1911.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحکومة الصینیة الدول الغربیة الشعب الصینی فی العاصمة فی الصین
إقرأ أيضاً:
مجلس حكماء المسلمين يشارك في منتدى تشان العالمي للمستقبل بالصين
شارك مجلس حكماء المسلمين، في منتدى تشان العالمي للمستقبل، الذي نظمه مركز أوروبا آسيا، ومعبد شاولين، والمؤسسة العالمية للتأمل، بالتعاون مع المركز العالمي لأهداف التنمية المستدامة وتنمية المهارات القيادية التابع لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث في سنغافورة، خلال الفترة من 19 إلى 22 يناير الجاري، وذلك بحضور نخبةٍ من القيادات وصنَّاع القرار والمفكِّرين من أنحاء العالم.
وأكد مجلس حكماء المسلمين، خلال مشاركته في الجلسة الافتتاحية للمنتدى، الذي عقد في معبد شاولين بمقاطعة هينان، بجمهورية الصين الشعبية، أهمية الدور المحوري لقيم التأمل والتفكر في تعزيز السلام العالمي والرفاهية الإنسانية، بما يسهم في تشكيل جسر مشترك يربط بين الثقافات والأديان المختلفة، لافتًا إلى أن الإسلام يضع التفكر في صميم تعاليمه، بوصفه وسيلةً لتحقيق السلام الداخلي، والفهم العميق للعلاقة بين الإنسان وخالقه وكل ما يحيط به.
وأضاف أن وثيقة الأخوة الإنسانية، التي وقعها فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، في أبوظبي عام 2019، تعد مثالًا حيا على قوة التعاون بين الأديان في تعزيز قيم السلام والاحترام المتبادل.
وأوضح أنه يدعم في إطار جهوده المستمرة، المبادرات كافة التي تضع الحوار والتفاهم في صدارة الأولويات، بهدف معالجة قضايا عالمية مثل النزاعات، وعدم المساواة، والتدهور البيئي، داعيًا إلى استلهام الحكمة المتجذرة في التقاليد الروحية لتعزيز التعاون بين الشعوب، والعمل على بناء مستقبل مستدام للأجيال القادمة يسوده السلام والتآلف.
وفي السياق ذاته، شارك مجلس حكماء المسلمين في فعاليات الجلسة النقاشية التي عُقدت بعنوان “مسار تطوير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية من منظور الحوكمة العالمية”، حيث أكد على الدور الجوهري الذي تؤديه الحكمة في بناء عالم أكثر عدلاً وسلامًا، مشيرًا إلى التزامه العميق بتعزيز الحوار والتعاون بين قادة الأديان وتوحيد أصواتهم الأخلاقية في مواجهة التَّحديات العالمية.
وتطرق إلى المبادرات والأنشطة الرائدة التي ينفذها في هذا الصدد، ومنها عقد سبع جولات للحوار بين الشرق والغرب، وإرسال أكثر من 15 قافلة للسلام جابت أرجاء العالم، وجمع قادة الأديان في أبوظبي عام 2023، للتوقيع على وثيقة “نداء الضمير: بيان أبوظبي المشترك من أجل المناخ”، وتنظيم جناح الأديان في COP28 وCOP29 .
كما شارك مجلس حكماء المسلمين في إطلاق مبادرة “بذور الإخاء”، وذلك ضمن فعاليات المنتدى، والتي تهدف إلى تعزيز قيم المحبَّة والتفاهم والاحترام بين الشُّعوب والمجتمعات من خلفيات ثقافيةٍ مختلفةٍ، وكسر حواجز التناقضات بين الشرق والغرب، لمعالجة التحديات العالمية بشكلٍ مشترك، والسعي لتحقيق تقدم ملموسٍ في أهداف التنمية المستدامة المتعددة.وام