فى لندن فى التسعينيات فى قاعة Queen Elizabeth II، كان هناك محاضر استخدم الفيديو لعرض حالةٍ، عالجها بالتنويم الإيحائى والاستدعاء الحُر والعلاج النفسى الحوارى، لرجل 39 سنة، عاد به إلى سن الـ16 حين فقد أمه فجأة بعد إصابتها بالمرض الخبيث، وفى سن الـ 19، ارتمى أبوه فى حضنه صريعًا بعد نوبةٍ قلبيةٍ حادّة، بعدها فقد الشاب صلته بالواقع، ودخل فى متاهةٍ من الهذيان والهلاوس والأفكار المبهمة، مما دفع بالهيئات الطبية المُخوَّلة إلى إدخاله مستشفى الأمراض العقلية، آنذاك طبَّق طبيب الطوارئ التشخيص عليه مباشرةً كـ«حالة ذهان حادة»، بدلًا من أن يأخذ التاريخ المرضى وأسباب العِلّة لفهم القصة من أولها.
عولج فى المستشفى على أنه ذُهان، وتناوب الأطباء النفسيون المؤقتون عليه، ليتحوّل التشخيص تلقائيًا إلى فصام العقل Schizophrenia، دون أن يكلف أحد نفسَه عناء البحث والتقصِّى، قبل القفز إلى نتائج غير صحيحة، عولِج الشاب بالمُعقِّلات ومضادّات الذهان وكان هذا ضروريًا وقتها، لكن لم يكن هناك داعٍ لتلك الحقن الشهرية الوقائية.
ظل الشاب يُراوح مكانه بين البيت والمستشفى، كمريضٍ عقلى طوال 20 سنة، دون عمل أو زواج أو حياة مثمرة، وبعدئذٍ جاء هذا الطبيب المحاضر الفذّ، ليطبِّق تقنيات التحليل النفسى بالدخول إلى اللاشعور والماضى، واستطاع، بتقنية العودة بالعمر إلى الوراء Age Regression، أن يسترجع فى 20 جلسة تنويم إيحائى، سجلها بالفيديو، الصدمات الأولى ثم موت الأب الذى تسبَّب فى الذهان المؤقت، وخلُص إلى أن من باشر الحالة أولًا تسرَّع بالتشخيص، وإلّا ما ضاع من عمر الرجل ما ضاع، وقِس على ذلك حالات شتّى فى العالم.
إذن ليس كل الجنون جنونًا وليس كل الذهان مرضًا مزمنًا، ولا يعنى هذا أن نكابر ولا نُشخِّص ونعالج الحالات الصريحة والمُتكررة.
مصطلح «الذهان Psychosis» يعنى تلك الحالة المرضية التى يفقد فيها المريض اتصاله بالواقع، وفيمن تواجههم ضغوطًا معينة، تشوشهم وتهزُّهم من القاع، فيخافون من فقدان العقل، كبعض حالات التشتت والتخييل، واضطراب تبدُّد الشخصية والغياب عن الواقع Depersonalization/ Derealization Disorder، وهى حالة طبية نفسية من علاماتها تغيرات فى الوعى الذاتى والهوية، وتتسبب فى الشعور بأن الشخص خارج أو منفصل عن جسده «تبدد الشخصية»، أو الإحساس بأن ما يجرى حوله غير حقيقى «غياب الواقع»، وتحدث فى حالاتٍ غير ذهانية كنوبات الهلع، واضطراب الشخصية الحدِّية التى قد تتضمن نوبات ذهانية مُصغرَّة Micropsychotic، نادرا ما تكون لها علاقة بالذهان، وتتحسَّن وتتلاشى هذه الأعراض بمجرد العلاج بالطمأنة، بينما الذهان يُعدُّ أكثر تعقيدًا.
يفنِّد Seikkula بروفيسور العلاج النفسى الحوارى بفنلندا العديد من تقلُّبات ومنعطفات العقل، ويرى أن أصعب مشاكل الصحة العقلية يجب النظر إليها على أنها نشاط محموم للعقل، فى المواقف المُجهِدة التى لا يمكن التغلب عليها.
لكن ماذا لو لم يكن السلوك الذهانى «حالة ذهنية مرضية»؟ تُرى هل هو استجابة لأحداث الحياة، كما بعض الأعراض النفسية؟ أى مجرد استجابات للحياة والتى تظهر قدرة العقل على حماية نفسه فى المواقف الضاغطة كصمام الأمان، ففى فيلم Joker يضحك البطل وهو حزين، لأنه يُفَعِّل الميكانيزيم المُسمَّى Manic Defense أى الدفاع الهوسى ضدّ الاكتئاب، بمعنى «أنا مكتئب، والعالم الخارجى وَحْش.. لن أُظهر اكتئابى، سأضحك ضحكًا هستيريًا متواصلًا»، وبحسب سيكولا: «هذا ليس مرضًا نفسيًا، لكنه وسيلة ضرورية لنا جميعًا، للدفاع عن أنفسنا فى المواقف شديدة الوطأة، بمعنى أنها طريقة العقل النشِطة للدفاع عن نفسه، ضد الضغط الذى لا يمكن التغلُّب عليه».
ويتابع Seikkula بأن العلاج الحوارى يجعلنا نفهم السلوك الذهانى كاستجابة محتملة لموقف مُرهِق للغاية، وبدلا من النظر إليه على أنه خلل فى الدماغ، يعتبره محاولة من قبل العقل المادى للتعامل مع التوتر الشديد، ونحن نرى أن هذا الطرح ليس دقيقًا بالمرَّة، ولا يمكن تعميمه خاصةً فى الحالات المحمَّلة وراثيًا بأمراضٍ مزمنة.
فى العلاج الحوارى، وفقًا لسيكولا، يتم التعامل مع روايات الشخص الذى يأتى لعلاج الأعراض الذهانية، على أنها تجارب لا يمكن وصفها بالكلمات، بسبب الاضطرابات الانفعالية الهائلة الواردة فى تلك التجارب، فبدلا من أن يتحدث الشخص عن شىء مُهم حدث له فعلًا، لتستيقظ الذكريات المتعلِّقة بتلك التجارب، لتتشارك مع تجارب اللحظة الراهنة، كالحلم المتكرر أو الكابوس.
خليل فاضل – المصري اليوم
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
شيخ العقل: لتكثيف جهود المجتمع الدولي من اجل وقف العدوان
استنكر شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى "انتهاك العدو الصهيوني حرمة المراكز الدينية من مساجد وكنائس ودور عبادة في مناطق استهدافاته، لا سيما في بلدات الجنوب والبقاع وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، من خلال إقدامه اخيرا على تدمير مسجد بلدة شقرا الاثري والاضرار الكبيرة التي طالت كنيسة سيدة الانتقال وبيت الرعية في النبطية، جرّاء استهداف الغارات الحي المتواجدة فيه".
ورأى في بيان، ان "امعان العدو في استهداف تلك الاماكن، بما هو مخالف للشرع والقوانين الدولية والانسانية والاخلاقية، انما يؤكد نوايا العدو في حربه الوحشية وقفزه فوق حرمة الانسانية والقرارات الدولية التي من المفترض ان تردعه عن الاستمرار في ارتكابه جرائم الحرب والابادة، والتدمير الممنهج للقرى ودك المباني المأهولة"، داعيا "المجتمع الدولي وعواصم القرار والمنظمات الدولية والانسانية، لكبح جماح العدو بعد شهرين كاملين من العدوان، الذي يجب بذل الجهود اللازمة لوقفه".
العرفان
وكان الشيخ ابي المنى لبّى دعوة مؤسسة العرفان التوحيدية في السمقانية الشوف إلى لقاء ديني في صرحها التربوي، بمشاركة الشيخين الجليلين ابو زين الدين حسن غنام وابو داوود منير القضماني وجمع من المشايخ من الشوف، إضافة إلى ادارة المؤسسة والعاملين فيها.
وتخلل اللقاء كلمة لرئيس المؤسسة الشيخ نزيه رافع، اشار فيها الى "الدور الذي تقوم به المؤسسة منذ نشأتها، على المستويين الديني والتربوي، وفقا للنهج التوحيدي والوطني الذي رعاه المعلم الشهيد كمال جنبلاط والذي ارسى اسسه المرحوم الشيخ ابو محمد جواد ولي الدين والمستمرة عليه".
بدوره تطرق الشيخ القضماني في حديث ديني له بالمناسبة، إلى الجوانب الروحية والاجتماعية الاساسية التي تعمل عليها المؤسسة في المجالات التوحيدية العامة، لتنشئة الأجيال الجديدة على أساس القيم والمبادئ الأخلاقية والدينية والإيمانيّة العامة".
شيخ العقل
وكان شيخ العقل قد استهل اللقاء بحديث ديني ضمّنه التأكيد على "المبادئ الأساسية التي انشئت عليها المؤسسة منذ العام 1971 ولغاية اليوم، تلك البذرة التي أينعت واثمرت لتصبح موئلاً للأجيال، قائلاً: "عملنا معا على مدى عشرات السنين وبنوايا خيّرة في البحث عن السبل الكفيلة، من اجل تحقيق تلك الأهداف والغايات النبيلة، التي عكست واقعها الروحي والحضاري والثقافي على كل المستويات".
ونوّه الشيخ ابي المنى "بالجهود المبذولة من قبل ادارة المؤسسة، من اجل تقدمها وتطورها على النحو الذي تحاكي فيه الواقع الحالي، على مستوى التطور التكنولوجي والعلمي، باعتبارها من المؤسسات الرائدة في هذا المجال وعلى مساحة الجبل ووادي التيم والمناطق التي تحتضن فروعا لها".
ورأى ان "الاوضاع الصعبة التي تواجه لبنان اليوم، مصيرية جدا بالنسبة لنا ولمستقبل مجتمعاتنا على غير صعيد، وهذا يتطلب من الجميع التعاطي بحكمة وعقلانية، ومن خلال الوعي الكافي، الذي يجب ان يكون عليه ابناء طائفة الموحدون، لطالما كانت ولا تزال واضحة في مسارها التاريخي والحضاري، وفي دورها الوسطي والجامع، الذي تنتهجه في كل مراحل الحياة، وتعكس إيمانها بهذا الوطن وبوحدته، والتطلع الى قيام دولته التي تُرضي أهلها وشعبها".
واشار الى "اهمية التربية الدينية التوحيدية والتنشئة الاخلاقية التي "تنمي في الطلاب والطالبات ميلاً روحياً وحباً وشغفاً بالمعاني التوحيدية المحيية وقوة عقلية وعاطفية للتمييز والالتزام بقواعد مسلك التوحيد ورسوخاً في الايمان وحسن الاعتقاد".
ندوة
ورعى الشيخ ابي المنى في ندوة عبر تطبيق zoom، تحت عنوان: "التكافل الاجتماعي بعناوين: الاستغناء والعطاء والصبر"، اقامتها اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، حاضر خلالها رئيس اللجنة الشيخ وسام سليقا، وقدَّمها عضو اللجنة د. فراس زيدان، وحضرها حوالى 400 شخص من داخل لبنان ومن الخارج.
شيخ العقل
وشارك شيخ العقل بكلمة افتتاحية شكر فيها اللجنة الثقافية "لتنظيمها هذه الندوة وهي الأولى لها في هذه المرحلة الجديدة، على أمل الاستمرار في مثل هذا العمل الثقافي بأبوابه المتنوعة الأدبية والتربوية والتاريخية والشعرية والفنية والاجتماعية والقانونية. فالثقافة عنوان الحضارة لأي شعب ولأية أمّة".
اضاف: "أقامت اللجنة الثقافية سابقاً، في زمن كورونا، سلسلة لقاءات ثقافية عبر الأونلاين، وهي تقنية مفيدة تساعد في جمع أبناء الطائفة من داخل البلاد وخارجها ممّا يساهم في التوعية والتماسك الاجتماعي والتغذية الروحية والفكرية، وهذا ما ندعو اللجنة الثقافية دائماً، كما دعونا اللجنة الدينية، على الاهتمام به، ونحن واثقون أن في جعبتها العديد من الأفكار لاحتضان العمل الثقافي ولتشجيع المثقفين والموهوبين وتكريمهم، ولطباعة ونشر ما يحفظ التراث والتاريخ، وما يساعد في صون الهوية الروحية والاجتماعية والوطنية والقومية للموحدين".
ورأى الشيخ ابي المنى، انه "مهما كانت الحاجة للعلوم نافعة وللتطور التكنولوجي كبيرة، فإنّ الحاجة الأهمّ هي لتثقيف الروح ولتهذيب النفس ولترويض الجوارح، للتمكن من مواجهة التحديات الكثيرة والخطيرة، وفق قول السيد المسيح: "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟". ما أحوجنا اليوم للتكافل الاجتماعي، في ظل الظروف الصعبة التي نمرُّ بها، وهو موضوع هذه الندوة. انطلاقاً من مبدأ توحيدي، يحثُّ على حفظ الإخوان ومؤازرتهم، ومن مبدأ إنساني يؤكد على حفظ كرامة الإنسان".
وتابع: "الاستغناء والعطاء والصبر ثلاثية أخلاقية اجتماعية أرادها فضيلة الشيخ وسام سليقة رئيس اللجنة الثقافية عنواناً لهذا اللقاء، وهذا هو لبُّ التكافل الاجتماعي. فالاستغناء قناعة، والعطاء محبة، والصبر إرادة، وبهذه المزايا مجتمعةً يتحقق التكافل الاجتماعي، أي بالقناعة والمحبة والإرادة، أي بالتعفُّف عن الطلب والشعور مع الناس والصمود في وجه التحديات، هكذا نحصِّن المجتمع ونصون العائلات ونحفظ الوجود. كم نحن بحاجة إلى ثقافة التكافل وإلى هذه المزايا التي تشكّل مداميك التماسك الاجتماعي، ثقافة الاستغناء وثقافة العطاء وثقافة الصبر والتحمُّل والتكيُّف مع الواقع، في مواجهة التفكك الأسَري والانحلال الأخلاقي والتشتُّت الاجتماعي، وفي مواجهة ظروف الحرب وتداعياتها. فنحن الموحدين ما اعتدنا الضَّعفَ أمام التحديات، وما اعتدنا الهرب من مواجهة الأزمات، وحتى من تحمُّل أعباء الحروب والصراعات، كما يحصل اليوم، بل كنَّا دائماً نتصدّى للعواصف بالحكمة والوعي والثبات في العقيدة وفي الأرض، باعتمادنا على مثل هذه الثلاثية الراسخة".
وقال: "نغتنمها فرصة للدعوة إلى تعزيز صمود أهلنا وللوقوف إلى جانب أبناء القرى الحدودية، من إبل السقي إلى الماري والفرديس وغيرها، وقوفاً معنويَّاً وروحيَّاً بالدرجة الأولى، ودعماً مادياً إذا اقتضى الأمر، وقد أنشأنا لأجل ذلك في المجلس المذهبي ما أسميناه "خلية الصمود" لمواكبة الأوضاع المتطورة والوقوف على حاجة أهلنا، وللسعي إلى تأمين مستلزمات الإعانة من الجهات الدولية الداعمة، ومن الهيئات الوطنية المسؤولة في الدولة، ومن تبرعات إخواننا الميسورين للصندوق الخيري في دار الطائفة، وهو الصندوق المركزي لدار الطائفة وعليه نعوِّل وعلى كرم الأسخياء نتّكل".
وختم: "نقول لأهلنا الذين يتعرضون لشظايا الحرب في تلك القرى، وكذلك في الشويفات والساحل وغير مكان: اثبتوا في أرضكم وفي إيمانكم، ولا تدعوا أصوات القذائف والانفجارات وأعمدة الغبار والدخان تصمُّ آذانكم عن سماع نداء الأرض والوطن والتاريخ، وتُفقدكم رائحةَ الأمل وطعمَ الأخوَّة التوحيدية والوطنية التي تربطكم بعضَكم ببعض، فأنتم أبناء هذه الأرض منذ مئات السنين ولن تكون هذه الأرضُ إلَّا لكم ولأبنائكم من بعدكم".
ثم كانت مداخلة غنية لرئيس اللجنة سليقا حول موضوع التكافل الاجتماعي بابعاده الثلاثة.
وكان عضو اللجنة د. زيدان بدأ الندوة بكلمة ترحيبية وادارها، بمشاركة مقرر اللجنة العميد المتقاعد د. غازي محمود بمداخلة مختصرة. وبعد ذلك أجاب الشيخ سليقا على مجموعة من الأسئلة المتعلقة بموضوع الندوة وبعمل اللجنة والمجلس المذهبي.