عربي21:
2025-03-29@11:56:51 GMT

الانفصام الفكري في بلاد النمط المجتمعي التونسي

تاريخ النشر: 23rd, February 2024 GMT

منذ أيام الرئيس المؤسس للجملوكية الحبيب بورقيبة ومن بعده وريثه الرئيس المخلوع بن علي، كانت المواجهة مع الإسلاميين تتم -وفق الاستراتيجية الدعائية للسلطة- على أساس تهديد هؤلاء "المتطرفين" و"الظلاميين" و"اللاوطنيين" للنمط المجتمعي التونسي، أي تتم على أساس احتكار الدولة -بأجهزتها الأيديولوجية الدينية وغير الدينية- لسمات الاعتدال والتنوير والوطنية.

وقد يكون علينا منذ البدء التمييز بين "النمط الاجتماعي" بما هو "وسيلة لتصنيف الأشخاص بناء على سماتهم الشخصية وتفاعلهم مع الآخرين في مكان العمل"، وبين "النمط المجتمعي" بما هو نموذج للتصنيف الأيديولوجي والاستهداف "الأمني" النسقي بناء على الخيارات الفكرية والسلوكية المرفوضة سلطويا بحكم تهديدها "استراتيجيا" للخيارات الكبرى لما يسمى بـ"الدولة-الأمّة"، وبما هو أيضا -أي النمط المجتمعي- أداة للدمج وللإقصاء على أساس جملة من الثنائيات اللامتكافئة التي تحتل السلطة قطبها الإيجابي وتسند القطب السلبي لمن تُصنفهم في دائرة "أعداء النمط المجتمعي التونسي".

قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن معيار التصنيف السلطوي يقوم على سمات "الشخصية القاعدية" للتونسي، تلك السمات التي درسها الأستاذ المرحوم المنصف وناس في كتابه القيّم "الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية" (صدر سنة 2010). وبصرف النظر عما يثيره مفهوم "الشخصية القاعدية" من جدال (بحكم شحنته العنصرية وتوظيفاته الاستعمارية)، فإنه يعني تلك العناصر البنيوية المتماثلة في شخصيات التونسيين والتي هي "محصّلة تراكمات تاريخية وثقافية واجتماعية وحضارية متعددة" يحتل فيها الإسلام مركزا رئيسا.

"النمط المجتمعي التونسي" هو من جهة أولى مجرد عملية نقل مشوّهة لقيم الجمهورية الفرنسية ولمبادئ اللائكية التي حدّدت خياراتها المجتمعية الكبرى منذ الثورة الفرنسية، وهو من جهة ثانية عملية "مفاصلة" عن السرديات القومية والإسلامية التي كانت تنازع السرية "الوطنية" شرعيتها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا
وإذا ما فحصنا الأبعاد الثلاثة لشخصية التونسي (التأقلم والصهر والانصهار) وما يرتبط بها من خاصيات أخرى (حلّلها الدكتور مصباح الشيباني في مقاله بمجلة الإصلاح الإلكترونية) كالتهربيّة والالتفافية والبراغماتية.. الخ، فإننا سنتساءل عن مدى غربة الإسلاميين أنفسهم -سواء قبل الثورة أو بعدها- عن هذه المحددات العامة للشخصية القاعدية للتونسي. بل إننا نذهب إلى حد تقديم فرضية بحثية قد نعود إليها في مقالات أو دراسات لاحقة، وهي أن سبب فشل الإسلاميين (خاصة حركة النهضة) قد يعود في جزء منه إلى إعادة إنتاج هؤلاء لآفات الشخصية القاعدية التونسية وعيوبها -مع العجز عن استثمار خصائصها الموجبة استثمارا بنّاءً- حتى وإن أخرجوها للناس بلبوس إسلامي هو في جوهره مجرد إحياء للتراث السلطاني لا لروح النبوة الخاتمة.

بدأ الانفصام الفكري للدولة الوطنية (الدولة-الأمة) باعتماد الكمالية "المعدّلة" (نسبة إلى كمال أتاتورك) منهجا للتحديث أو مدخلا لبناء "الأمة التونسية". ونحن وصفنا النزعة الكمالية في البورقيبية بـ"المعدّلة" لأن الزعيم-المؤسس لم يوافق أبا الأمة التركية في خيار التغريب المطلق وضرب الدين واللغة العربية بصورة مشابهة لتلك التي اعتمدها كمال أتاتورك وورثته. لقد اختار بورقيبة -مثل أتاتورك- العلمنة على أساس "اللائكية الفرنسية" (معرضا عن نماذج العلمنة الأخرى مثل العلمانية الأنغلوساكسونية)، ولكنه "تونَس" تلك اللائكية دينيا وسياسيا وثقافيا بطريقة مختلفة عن نموذج "التتريك" الكمالي.

ورغم أن الدستور التونسي لسنة 1959 نص في فصله الأول على أنّ الإسلام هو دين الدولة وأنّ العربية لغتها، فإن الواقع قد كان بعيدا عن هذا التنظير خاصة في المسألة اللغوية (غلبة الفرنسية على مناهج التدريس وعلى الفضاء العام). أما ما جاء في الفصل السادس من أن "كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات"، وما جاء في الفصل الثمن من حديث عن مساهمة "الأحزاب" في "تأطير المواطنين لتنظيم مشاركتهم في الحياة السياسية"، فقد عملت الخيارات الاستبدادية للسلطة الجهوية-الزبونية-الفرنكفونية على إفراغها واقعيا من مضامينها.

إن "النمط المجتمعي التونسي" هو من جهة أولى مجرد عملية نقل مشوّهة لقيم الجمهورية الفرنسية ولمبادئ اللائكية التي حدّدت خياراتها المجتمعية الكبرى منذ الثورة الفرنسية، وهو من جهة ثانية عملية "مفاصلة" عن السرديات القومية والإسلامية التي كانت تنازع السرية "الوطنية" شرعيتها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. فالبورقيبية -منذ دستور 1959- لم تكن تعترف إلا بالانتماء للمغرب العربي، على عكس ما تطرح القومية العربية بزعامة الراحل جمال عبد الناصر، كما أنها قد اختارت إدارة العلاقة بين الدولة والدين على أساس اللائكية الفرنسية، أي على أساس يتناقض مع السرديات الإسلامية التراثية والإخوانية وغيرها.

لقد عملت الدولة منذ الاستقلال على احتكار "الخطاب الديني القويم" بفلسفة تحديثية لائكية تكاد أن تتحول إلى "دين علماني". ولعل من أكبر أسباب فشل عملية التحديث هو أنها قد ضربت المنظومة القيمية الدينية (القائمة على أساس الأحكام الشرعيه، خاصة الحلال والحرام أو التحسين والتقبيح العرفيين)، دون أن تقدر على تعويضهما بمنظومة تشريعية عقلانية قائمة على القانوني وغير القانوني. ذلك أن السلطة ذاتها إن أردنا التمثيل لعطالة العقل الحداثي بمسألة "النمط المجتمعي التونسي"، فإننا لا نكاد نعثر على صوت واحد ينتقد هذا "المقدّس المعلمن" أو يشكك في خرافاته التأسيسية. فعند هؤلاء، لا قيمة للمعطيات الموضوعية القابلة للإحصاء (نسبة الأمية، التفكك الأسري، البطالة، التنمية الجهوية غير المتكافئة، عدد حالات الانتحار، تفشي الجريمة، نسبة الانقطاع عن التمدرس، معدل الأجور، التضخم، الاقتصاد الريعي وهيمنة الكارتلات العائلية، التبادل اللامتكافئ مع الغرب.. الخ)، ولا شيء يهدد تونس إلا "الإسلام السياسي" أو حتى "الديمقراطية"كانت بممارساتها وخياراتها الجهوية-الزبونية وما صاحبهما من عبادة الزعيم؛ تحول دون بناء "ثقافة المواطنة" باعتبارها تجاوزا لثقافة الشيخ والمريد وباعتبارها نقضا لمنطق "الثقافة الرعوية" القائمة على الحكم الفردي وعلى تهميش الإرادة الشعبية.

إذا ما سلّمنا بأن السردية البورقيبية احتلت موقع "الخطاب الكبير" -أي الخطاب المرجعي- الذي هيمن على النخب الحداثية التونسية بمختلف خلفياتها الأيديولوجية قبل الثورة وبعدها، فإننا نفهم سبب استمرار "الانفصام الفكري" لدى أغلب النخب المهيمنة على إنتاج الثروات الفكرية والمادية.

ونحن هنا لا نتحدث عن الانفصام باعتباره مرضا نفسيا فرديا -وإن كنا لا ننفي ذلك- بل نعني بالانفصام الفكري ما يطبع مواقف النخب "الحداثية" من تناقضات لا واعية أو غير مفكر فيها أو غير معترف بها (بممارسة آلية الإنكار). فالنخب الحداثية تتعرف ذاتيا بأنها نخب ديمقراطية تنويرية وطنية معتدلة، ولكنّ الواقع -خاصة بعد الثورة- أثبت أن أغلبها الأعم لا يمتلك من تلك "الصفات الحسنى" إلا مجرد الدعوى. فثقافة النقد الذاتي أو المراجعة لا وجود لها في قاموس تلك النخب.

إن أردنا التمثيل لعطالة العقل الحداثي بمسألة "النمط المجتمعي التونسي"، فإننا لا نكاد نعثر على صوت واحد ينتقد هذا "المقدّس المعلمن" أو يشكك في خرافاته التأسيسية. فعند هؤلاء، لا قيمة للمعطيات الموضوعية القابلة للإحصاء (نسبة الأمية، التفكك الأسري، البطالة، التنمية الجهوية غير المتكافئة، عدد حالات الانتحار، تفشي الجريمة، نسبة الانقطاع عن التمدرس، معدل الأجور، التضخم، الاقتصاد الريعي وهيمنة الكارتلات العائلية، التبادل اللامتكافئ مع الغرب.. الخ)، ولا شيء يهدد تونس إلا "الإسلام السياسي" أو حتى "الديمقراطية" التي قد تدفع بهم إلى واجهة السلطة ضد إرادة النخب "الحداثية" وما يحكم خطابها الاستعلائي من وصاية على الإرادة العامة (أي إرادة الشعب الذي يتحول إلى دهماء وعوام، بل إلى مشروع للتطرف والإرهاب بمجرد أن ينتقد الخيارات "التحديثية" الفوقية المفروضة في أغلب الأحوال بمنطق القوة والإكراه لا بمنطق الاقتناع والتبني الطوعي).

إذا كان "الحداثيون" يصادرون في بناء سردياتهم المعادية للإسلام السياسي على وجود إسلام غير سياسي، وإذا كانوا يمتنعون عن مساءلة الدولة في شكل الإسلام الذي تعمل على فرضه على الناس بأجهزتها الدعائية والقمعية وعن دوره في شرعنة منطومة الفساد والاستبداد، وإذا كان هؤلاء يحصرون "الشر المطلق" في الإسلاميين وليس في "منظومة الاستعمار الداخلي" التي تحكم الجميع ولو من وراء ألف حجاب،إذا كان "الحداثيون" يصادرون في بناء سردياتهم المعادية للإسلام السياسي على وجود إسلام غير سياسي، وإذا كانوا يمتنعون عن مساءلة الدولة في شكل الإسلام الذي تعمل على فرضه على الناس بأجهزتها الدعائية والقمعية وعن دوره في شرعنة منطومة الفساد والاستبداد، وإذا كان هؤلاء يحصرون "الشر المطلق" في الإسلاميين وليس في "منظومة الاستعمار الداخلي" التي تحكم الجميع ولو من وراء ألف حجاب، فإن الإسلاميين أنفسهم يعانون من انفصام فكري من نوع آخر فإن الإسلاميين أنفسهم يعانون من انفصام فكري من نوع آخر. فـالمنطق البياني الذي فصّل فيه القول المرحوم محمد عابد الجابري (خاصة آلية القياس) قد جعلهم يعيشون حالتي القبض (فترات الاستهداف الأمني المُمنهج) والبسط (حالة الحكم خلال مرحلتي الترويكا والتوافق) بمنطق انفصامي كان عاقبته ما نرى.

فانفصام الإسلاميين يتجلى أساسا في رفضهم للخرافات المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي واستعدادهم في الآن نفسه لأن يكونوا مكوّنا من المكوّنات السياسية الراعية لها؛ باعتماد منطق "التنازلات المؤلمة" وبالخضوع لابتزار النخب الحداثية الداعية إلى "تَونسة الحركة"، أي إخضاعها للمشترك "الثقاقي" الذي شكلته الدولة "الوطنية"، والذي هو في النهاية مجرد غطاء أيديولوجي لحماية منظومة الاستعمار الداخلي ومصالح رعاتها الإقليميين والدوليين، خاصة المصالح الفرنسية التي لا ينفصل فيها الثقافي عن الاقتصادي.

ختاما، يبدو أنّ "طوفان الأقصى" -مثل الثورة التونسية وغيرها من الثورات المجهضة- لن يكون إلا فرصة تاريخية مهدورة. فرغم أهمية هذا الحدث، لا يبدو أنّ النخب التونسية مستعدة فكريا ونفسيا للقيام بمراجعات نقدية تستهدف الأوثان الدينية والعلمانية على حد سواء. ولا شك عندنا في أنّ "النمط المجتمعي التونسي" هو أحد تلك الأوثان التي ما زالت تسترهب عقول النخب وتمنعهم من تقديم أطروحة مواطنية تتجاوزها جدليا. ونحن نؤمن بأنها ليست أزمة تونسية خالصة، بل هي أزمة أغلب النخب العربية والإسلامية التي مازالت تفكر داخل مرجعيات تراثية طائفية تحسبها إسلامية، أو تفكر بعقول صهيو-صليبية تظن أنها عقول "تنويرية" قابلة للتوظيف في مشاريع التحرر من الاستعمار في مرحلته غير المباشرة ومن الإمبريالية في مرحلتها الصهيونية.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بورقيبة الإسلاميين التونسي العلمانية الديمقراطية تونس الديمقراطية الإسلاميين العلمانية بورقيبة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على أساس وإذا کان

إقرأ أيضاً:

«زكاة الفطر والتكافل المجتمعي».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة

كشفت وزارة الأوقاف عن موضوع خطبة الجمعة القادمة، وهي تحت عنوان: «زَكَاةُ الفِطْرِ وَدَوْرُهَا فِي التَّكَافُلِ المُجْتَمَعِيِّ».

وقالت الوزارة، إن الهدف من الخطبة توعية الجمهور باغتنام ما بقي من رمضان ودور الزكاة - وخصوصًا زكاة الفطر- في تحقيق التكافل المجتمعي، علمًا بأن الخطبة الثانية تتناول التنبيه على أخذ الفتوى من مصادرها الرسمية، والتحذير من الفوضى الإفتائية.

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، بَدِيعِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ، وَنُورِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهَادِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أَقَامَ الكَوْنَ بِعَظَمَةِ تَجَلِّيه، وَأَنْزَلَ الهُدَى عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَمُرْسَلِيه، وأَشهدُ أنْ لَا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيهِ، وعلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وَبَعْدُ:

فَهَا نَحْنُ نُوَدُّع شَهْرَ رَمَضانَ الْمُعظّمَ مَوْسِمَ الْخَيْرِ وَالْأُنْسِ وَالْقُرْبِ وَالنُّورِ وَالتَّرَقّي فِي مدَارِجِ الْإِحْسَانِ، فيَا شَهْرَ رَمضَانَ تَرَفّقْ، دُمُوعُ الْمُحِبّينَ تَدَفّقُ، قُلوبُهُم مِنْ ألَم الفِراقِ تَشَقَّقُ، عَسَى وَقْفَةٌ لِلْوَداعِ تُطْفئُ مِنْ نَاِر الشّوقِ مَا أحْرقَ، عَسَى مُنقَطِعٌ عَنْ ركْبِ المقْبولِينَ يَلحَقُ.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقبِلوا عَلى ربِّكُم، وَاغْتنمُوا ما بَقِيَ من شَهْرِكُم، وأَحْسِنُوا خِتَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَدْ دَنَتْ سَاعَةُ رَحِيلِهِ، وَبَدَتْ أَمَارَةُ تَوْدِيعِهِ، فَهَلُمُّوا إِلَى الاجْتِهَادِ فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الغَالِيَةِ البَاقِيَةِ، فَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ، يَا غُيُومَ الغَفْلَةِ والكَسَلِ عَنِ القُلُوبِ تَقَشَّعِي، وَيَا شُمُوسَ الهُدَى والتُّقَى اطْلَعِي، وَيَا أَقْدَامَ العَابِدِينَ الصَّادِقِينَ اسْجُدِي لِرَبِّكِ وَارْكَعِي، وَيَا ذُنُوبَ التَّائِبِينَ المُنِيبِينَ لَا تَرْجِعِي، وَيَا هِمَمَ المُحِبِّينَ بِغَيْرِ الجَنَّةِ لَا تَقْنَعِي.

أيُّها المكرَّمُ: يَا منْ أنْعَم اللهُ عَليْك بِإدْراكِ شهْرِ رَمضانَ، وَأجْزلَ عليْك آلاءَه، فصُمْت نَهارَه، وقُمْت ليْلَه، لِيكُن نورُ القُرآنِ سَاريًا في قَلبِك، وَلْتكنْ بركَاتُ الصّيامِ سُمُوًّا في أخْلاقِك، وَأحوَالُ القيَامِ رُقيًّا في عبَادتِك، وَاعْلمْ أنّ السَّعيدَ مَنْ قَبِلَ اللهُ منْهُ عبَادتَه في رمضَانَ، فأقْبلَ علَى ربِّه في مسْتقبَلِ أيَّامهِ فرحًا بطاعَتِهِ، منكسِرًا علَى أعْتابِ مَوْلاه، مُتَواضعًا لخلقِ اللهِ، فَإنّ من جَزَاءِ الحَسنةِ الحسنةَ بعدَها، ومِنْ علَاماتِ القَبولِ المدوَامةَ علَى الطَّاعَةِ.

أَيُّها الأَحِبَّةُ: إِنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى جَبْرًا لِخَوَاطِرِ النَّاسِ، وَكَشْفًا لِكُرُوبِهِمْ، وَإِدْخَالًا لِلسُّرُورِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَسْرِيَ السَّعَادَةُ فِي بُيُوتِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَأَرْبَابِ الحَاجَاتِ كَمَا يَسْرِي المَاءُ فِي الوَرْدِ، إِنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ جِسْرٌ مُمْتَدٌّ بَيْنَ القُلُوبِ، يَربِطُ بَيْنَ القَادِرِ وَالمُعْسِرِ، وَيُشْعِرُ النُّفُوسَ جَمِيعَهَا بِالتَّكَافُلِ وَالمَوَدَّةِ وَالحَنَانِ والمَرْحَمَةِ، إِنَّهَا لَمْسَةُ حَنَانٍ تُمْسَحُ بِهَا دُمُوعُ المُحْتَاجِينَ، وَبَسْمَةُ رِضًا تُرْسَمُ عَلَى وُجُوهِ الفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ حَتَّى تُشْرِقَ فَرْحَةُ العِيدِ فَلَا نَرَى جَائِعًا وَلَا مُحْتَاجًا، وَيَتَحَقَّق مَشْهَدُ البُنْيَانِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الجَنَابُ الأَنْوَرُ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

أَيُّهَا السَّادَةُ، أَيُرْضِيكُمْ أَنْ يَتَكَفَّفَ الفُقَرَاءُ النَّاسَ يَوْمَ العِيدِ بَاحِثِينَ عَنْ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُمْ، وَيَكْسُو صَغِيرَهُمْ، وَيُطَيِّبُ خَاطِرَ مُنْكَسِرِهِمْ؟! إِنَّ المُؤْمِنَ لَا يَبِيتُ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ، وَلَا يُصْبِحُ مَسْرُورًا وَأَخُوهُ بَائِسٌ، فَلَيْسَ العِيدُ فَرْحَةً فَرْدِيَّةً، بَلْ هُوَ شُعُورٌ مُشْتَرَكٌ وَفَرْحَةٌ جَامِعَةٌ تَتَذَوَّقُهَا القُلُوبُ وَتُسَرُّ بِهَا الأَرْوَاحُ، وَزَكَاةُ الفِطْرِ هِيَ المِفْتَاحُ المُبَارَكُ الَّذِي يَضْمَنُ أَنْ تَمْتَدَّ هَذِهِ الفَرْحَةُ إِلَى كُلِّ بَيْتٍ، فَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ بِالخذْلَانِ فِي يَوْمِ الاجْتِمَاعِ عَلَى السَّعَادَةِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا اليَوْمِ».

أَيُّهَا النَّاسُ احْرِصُوا عَلَى زَكَاةِ الفِطْرِ عِبَادَةً تَرْتَقِي بِهَا الرُّوحُ إِلَى مَعَالِي البَذْلِ وَالجُودِ وَالعَطَاءِ وَالإِكْرَامِ، اسْتَشْعِرُوا فِي زَكَاةِ الفِطْرِ مُتْعَةَ العَطَاءِ، وَلَذَّةَ العَوْنِ وَالإِسْعَادِ، وَكَنْزَ دَعَوَاتِ أَرْبَابِ الحَاجَاتِ، فِي مَلْحَمَةِ حُبٍّ وَتَكَافُلٍ وَتَرَاحُمٍ لَا نَجِدُ لَهَا عُنْوَانًا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا البَيَانِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

السَّادَةُ الكِرَامُ، إِنَّ زَكَاةَ الِفْطِر مِسْكُ خِتَامِكُمْ، وَطُهْرَةٌ لِصِيَامِكُمْ مِمَّا عَلَقَ بِهِ مِنْ أَدْرَانٍ وَآثَامٍ، أَلَمْ يَقُلِ الجَنَابُ المُعَظَّمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَكَاةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَث»، فَهَلُمُّوا إِلَى الفَيْضِ الإِلَهِيِّ، فَهَذَا مَوسِمُ العَطَايا الرَّبَّانِيِّة وَالمِنَحِ الإِلَهِيَّةِ وَالبَذْلِ وَالسَّخَاءِ وَالكَرَمِ وَالنَّدَى، أَرْسِلُوا لِلدُّنْيَا رِسَالَةَ حُبٍّ، وَبَادِرَةَ أَمَلٍ، وَنَسمَةَ خَيْرٍ تَهُبُّ عَلَى القُلُوبِ، اجْعَلُوا مِنْ زَكَاةِ الفِطْرِ جِسْرًا مِن نُورٍ يَعْبُرُ بِنَا إِلَى رِحَابِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَيَجْمَعُنَا عَلَى مَائِدَةِ المَحَبَّةِ وَالوِئَامِ.

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَبَعْدُ:

فَيَا مَن تَسْعَوْنَ إِلَى الحَقِّ وَتَطْلُبُونَ رِضَا اللهِ وَهِدَايَتَهُ، الْزَمُوا مَصَادِرَ الفَتْوَى المَوْثُوقَةَ المُعْتَمَدَة وَالِبيئَةَ الإِفْتَائِيَّةَ الآمِنَةَ الَّتِي تُرَاعِي الأَحْوَالَ وَالأَشْخَاصَ وَالزَّمَانَ وَالمَكَانَ، وَاطْلُبُوا العِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَسَاطِينِهِ، فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ والشُّبُهَاتُ، وَتَعَدَّدَتْ فِيهِ المَشَارِبُ وَالأَهْوَاءُ، فَهَذَا أَمْرُ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كنتم لَا تَعْلَمُونَ}.

أَلَا يَكْفِيكُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ أَنَّ مُؤَسَّسَاتِ الفَتْوَى الرَّسْمِيَّةَ حَامِلَةٌ لِمَنْهَجِ وَسَطِيَّةِ الأَزْهَرِ الشَّرِيفِ؟ أَلَا تَرْوَنَ أَنَّ فَتَاوَى التَّشَدُّدِ قَدْ مَزَّقَتِ الأُمَّةَ تَمْزِيقًا، أَلَا تَدْرُونَ كَمْ دَمَّرَتْ فَتَاوَى التَّفْرِيطِ مِنْ ثَوَابِتِ دِينِنَا الحَنِيفِ؟ هَلْ سَمِعْتُمْ عَنْ أُسَرٍ دُمِّرَتْ، وَدِمَاءٍ سُفِكَتْ، وَشَبَابٍ ضُيِّعَ بِسَبَبِ فَتوَى شَاذَّةٍ أَوْ مَغْلُوطَةٍ، وَإِلَيْكُمْ هَذَا البَيَانُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

أَيُّهَا السَّادَةُ، أَمَا حَانَ الوَقْتُ لِإِسْعَافٍ عَاجِلٍ لِكَافَّةِ القَضَايَا وَالنَّوَازِلِ وَالمَسَائِلِ الَّتِي تُحَيِّرُ العُقُولَ فِي رِحَابِ مُؤَسَّسَاتِ الإِفْتَاءِ الرَّسْمِيَّةِ؟! أَمَا آنَ الأَوَانُ لِإِنْهَاءِ الفَوْضَى الإِفْتَائِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ ضَيَاعٍ لِلْهُوِيَّةِ المِصْرِيَّةِ وَالتَّدَيُّنِ المِصْرِيِّ الأَصِيلِ؟! أَيُّهَا الكِرَامُ، اصْنَعُوا الوَعْيَ الإِفْتَائِيَّ الرَّشِيدَ في الدُّنْيَا مِنْ جَدِيدٍ.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ خِتَامَنَا وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا

وتَقَبَّلْ صِيَامَنَا وَقِيَامَنَا وَصَالِحَ أَعْمَالِنَا

اقرأ أيضاً«زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي».. موضوع خطبة الجمعة القادمة

نص خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف.. «الأم باب الرحمة»

بعنوان: «يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أقبِل».. موضوع خطبة الجمعة القادمة

مقالات مشابهة

  • عائلة المعارض التونسي الجلاصي تطالب بتوفير الرعاية الصحية داخل محبسه (شاهد)
  • وزير الشئون النيابية: النخب السياسية والأحزاب عليها دور فى توعية الرأى العام
  • لماذا يكره الحداثيون التونسيون تركيا؟
  • عائلة تترك أمريكا وتنتقل للعيش في سويسرا..هل أصبحت بلاد العم سام ثقيلة؟
  • شوقي علام: تصحيح صورة الإسلام في الغرب يتطلب الاعتدال في الفتوى
  • السوداني يشدد على دور العشائر في تحقيق السلم المجتمعي
  • «زكاة الفطر والتكافل المجتمعي».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة
  • عبد المسيح: دورة الصمود التي رُقِّي بموجبها 26 رتيبًا في أمن الدولة إلى رتبة ملازم تواجه اليوم خطر إلغاء مرسومها
  • محاكمة نتنياهو ولجنة القضاة.. تعرّف على الأزمات التي تهدد بانهيار النظام القضائي الإسرائيلي
  • درجات الحرارة في شمال أفريقيا أقل من بلاد الشام نهاية الأسبوع كيف ذلك؟