عبدالرحمن مراد
لن تستقر الحياة في الجزيرة والخليج وفي المنطقة كلها إذا لم تستقر اليمن، ولن ينعم شعب العرب بالعيش الكريم إذا لم ينعم شعب اليمن بذلك، تلك معادلة وجودية، كانت قيادتنا الثورية والسياسية قد أرسلت رموزها إلى العرب وعرب الصحراء والخليج ولكنهم قوم عمون لا يفقهون.
اليوم نحن في المحك وقد تسارعت الأحداث الدولية كي تعزز من موقفنا، فالاضطرابات العالمية واتساع دائرتها الجغرافية سوف يجعل الخرق يتسع على أمريكا وبالتالي تضع نفسها في دائرة أخلاقية ضيقة الأمر الذي سوف يحد من صلفها وعنتها وطغيانها ويعيدها إلى المساحة التي تليق بها، وبالتالي سوف نشهد تقزما لرعاة البقر، وفقدانا لمفردات التحكم في النظام الدولي القادم الذي بدأ يتشكل في الواقع من خلال حركة الروس وتأهب الصين والانهيارات المتوالية للنظام الرأسمالي وفقدانه الكثير من مفردات اللعبة الدولية والأهم فقدانه للقيم الأخلاقية كما يتجلى ذلك في مواقفه من حرب الإبادة في غزة .
اليوم العالم أمام واقع جديد، وأمام شروط جديدة، ونظام جديد، الأمر الذي يجعل دول العالم في تبدل وتغير مستمر، فدوام الحال من المحال، فالطغيان إلى زوال مهما طال أمده، والبذخ ورخاء العيش لن يكون في قابل الأيام، وكما تجري سنن الله في كونه سوف تتحول الشعوب المحاصرة من الضيق وشظف العيش إلى الرخاء والعزة والكرامة، وسوف نشهد تبدلا في حال الأنظمة التي تحاصرها، من التجبر إلى الذل ومن الرخاء إلى الشدة، حدث مثل ذلك قديما للمؤمنين في شعب أبي طالب ويحدث اليوم في شعب اليمن وفي شعب غزة، وهناك الكثير من المماثل التاريخي، ورأينا كيف تحولت الأحوال من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة والكرامة، تلك معادلة صعبة قد لا يفقهها الغرب ولا الصهاينة ولا عرب الصحراء لكنها قادمة وسوف نشهد الكثير من تفاصيلها في قابل الأيام، فروسيا اليوم تسقي أمريكا من ذات الكأس الذي شربت منه ذات يوم، واليمن بالضرورة سوف تسقي جيرانها من ذات الكأس، وفلسطين سوف تسقي الصهيونية من ذات الكأس، لكن ليس بذات الحقد ولا ذات الطريقة والأساليب .
من المفيد اليوم القول أن كل هذا الاشتغال الذي نراه اليوم في واقعنا العربي بالذات، وكل حركة الصراعات في المنطقة العربية يصب في بوتقة القضايا التي تتعلق بالعولمة وفي جوهرها الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي، إذ أن القوة الاقتصادية تريد أن تجعل من الكونية هدفا لها بحثا عن سوق عالمية ومستهلك كوني ولذلك لا نستبعد كثيرا أن تعترف أمريكا بمركزية ايران في الخليج وخليج عمان وأن تتداخل مع ايران في مصالح اقتصادية وسياسية واستراتيجية فهي تحرص على ألا تذهب ايران إلى الصين وألا تشكل مع روسيا محورا قد يحدث قلقا لها كما كانت في سالف أيامها إبان الحالة الاشتراكية ومؤشرات ذلك بدأت تطفو على سطح الحقيقة والواقع، وما تلك المناورات السياسية والإعلامية سوى عوامل قد تحسن شروط التفاوض لطرف على آخر ليس أكثر.
فالرأسمالية تريد دولا ضعيفة وغير فاعلة تعاني التشظي والانقسام حتى يسهل عليها فرض ثنائية الخضوع والهيمنة عليها، ولذلك تدير حركة الانقسامات والحروب في المنطقة العربية وهي من خلال تفاوضها مع إيران وعقوباتها المتكررة عليها تريد ايرانا قويا لكن بالقدر الذي يخدم مصالحها ويوفر لها الحماية وتدفق الأموال.
ولا بد أن ندرك أن لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخاصة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات، وتحدد هوية وطبيعة العلاقات بينهم، ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على إنتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتجاه توسيع المحتوى الدلالي أو تضييقه أو تعديله بشكل من الأشكال.
ولذلك نقول أن المعركة الثقافية اليوم لا تقل شأنا عن المعركة العسكرية ولا بد لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة من الوعي بمجالاتها حتى نحقق الانتصار الذي نرغب مالم فنحن ندور في دوائر مفرغة لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل، فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدين العقل والفن ولا بد من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرة على أخرى فيكون الصراع تعبيرا عن النقص لا استقرارا عبر توازن الكمال بينهم .
وبالوقوف عند الإشكالية التاريخية نرى أنه من الضرورة بمكان قراءة التاريخ بمنهجية جدلية وبرؤية تفكيكية قادرة على بعث الروح في الذات المنهزمة فينا، كي تستعيد وعيها بمقوماتها التاريخية والحضارية، وبحيث تتمكن من تسجيل حضورها في العصر الحديث، بوعي أكثر تطلعا وأكثر تقدما وأكثر إنتاجا، بعيدا عن روح الغنيمة والصحراء.
فالبناء الجديد قد يتطلب هدما في أحايين كثيرة حتى يكون البناء الجديد أكثر قوة وأكثر متانة في مقاومة عوامل الطبيعة وتطورات المراحل التاريخية.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
طلائع ديسمبر وثورة وسائل التواصل الاجتماعي- بين قلق السلطة وأمل التغيير
يعيش السودان مرحلة حاسمة، حيث باتت وسائل التواصل الاجتماعي منبرًا قويًا للتعبير، وصوتًا صارخًا للمطالب الشعبية التي تطالب بإحداث تغييرٍ حقيقي في المجتمع والسياسة. أصبحت طلائع ديسمبر حركة شبابية رمزية تعبّر عن سخط السودانيين من البطش والتهميش وتسلّط النخب التقليدية على السلطة والثروة، ما يثير قلق حكومة الأمر الواقع والجماعات الإسلاموية التي ترى في وسائل التواصل سلاحًا قد ينقلب ضدها.
وسائل التواصل الاجتماعي في عصر الطلائع وسيلة مقاومة جديدة
على مدار السنوات الأخيرة، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي قلب الثورة النابض في السودان، حيث تجاوزت الحركات السياسية التقليدية، وتجلّت فيها أصوات الشباب الطامح نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لم تعد هذه المنصات مجرد أدواتٍ للتعبير الشخصي، بل تحوّلت إلى أدوات فاعلة لتوجيه الرأي العام، والتحفيز على الاحتجاج، وتشكيل وعي جماعي يعكس التطلعات الشعبية. اليوم، تلعب وسائل التواصل دورًا محوريًا في تحفيز الحراك السياسي ونشر الوعي، الأمر الذي جعلها مصدر قلق كبير للحكومة والنخب المحافظة، باعتبارها تُفقدهم السيطرة على سردياتهم المعتادة وتتيح للمواطنين مساحةً حرّة لتداول الآراء والأفكار بشكل مباشر.
قلق الحكومة والإسلاميين من قوة الوعي الشعبي
يثير صعود الوعي الشعبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي مخاوف السلطات التي تسعى إلى إرساء نظامٍ قمعي شامل يرفض كل أشكال التفكير النقدي ويحاول ترويض المعارضة من خلال القمع والتنكيل. بدلًا من الاستجابة لمطالب الشعب ودراسة سبل بناء مجتمع أكثر وعيًا وقدرة على التغيير، تتمسك السلطة بتكتيكات تقليدية تعتمد على البطش واعتبار الشعبوية والبروباغندا أدواتٍ لتوجيه الرأي العام. وهنا تبرز "طلائع ديسمبر" كحركة مقاومة تستمد قوتها من هذا الوعي الشعبي، لا من الانتماء الحزبي أو العقائدي، مما يجعلها عصية على الاحتواء ويعزز من قدرة الشباب على إحداث تغيير حقيقي بعيد عن قيود النخب أو الانتماءات الحزبية.
البروباغندا: سلاح النظام لإسكات أصوات المعارضة
إن البروباغندا تمثل أحد أساليب السيطرة على العقول، حيث تستخدم الحكومة والنخب المتحالفة معها هذا السلاح لتوجيه الرأي العام نحو أهدافٍ محددة، وتُبقي المواطنين في إطار سردياتٍ مغلقة تكرر أفكارًا لا تعبر عن آمالهم وتطلعاتهم الحقيقية. من خلال وسائل الإعلام الحكومية، تُمارس السلطة تزييف الحقائق وصياغة خطاباتٍ شعبوية ترتكز على الخوف والتخويف من "الفوضى" و"التآمر"، وتبرر بذلك سياساتها القمعية وتكميم الأفواه، محاولةً تصفية أي صوت مخالف أو منتقد.
غير أن طلائع ديسمبر ووسائل التواصل الاجتماعي اليوم تفوقت على هذه الاستراتيجيات. لقد بدأ السودانيون في استخدام أدوات جديدة لكسر حاجز الصمت، فقد كشفوا عن وجوه النظام المستترة وسلّطوا الضوء على الفساد والممارسات القمعية التي تسعى إلى إسكاتهم. وقد أثبتت وسائل التواصل قدرتها على تجاوز الحواجز، وباتت منصة بديلة يثق بها الشباب كأداة للتنظيم والتعبير.
كيان شعبي بامتياز قُدرة طلائع ديسمبر على الاستقلالية
رغم الضغوط، تبرز طلائع ديسمبر كحركة شعبية تستمد قوتها من الجماهير، وليس من قياداتٍ حزبية تقليدية. هذا الكيان الشعبي الممتاز ينأى عن الانقسامات السياسية، ويتجنب الاصطفاف خلف شخصياتٍ بعينها، بل يتركز حول أهدافٍ سامية تتعلق بالعدالة والحرية وبناء مجتمعٍ ينعم بالكرامة. هذه الاستقلالية هي ما جعلت الحركة عصية على الاحتواء أو التشويه، وأكسبتها احترام الشارع السوداني الذي يرى فيها أملًا لتحطيم قيود البروباغندا والنخبوية التي أودت بالبلاد إلى الهلاك.
نحو مجتمع أكثر وعيًا وإبداعًا: حاجة السودان لتطوير نظمٍ جديدة للتفكير
في هذه المرحلة، يحتاج السودان إلى تغييرٍ حقيقي لا يُختزل في إسقاط الأفراد أو النظم فحسب، بل في ابتكار نظمٍ جديدة للتفكير والمساءلة. إن وسائل التواصل، كما أثبتت طلائع ديسمبر، هي جزء من الحل، ولكنها لا يمكن أن تكون كل الحل. لا بد من تعزيز الوعي المجتمعي وبناء ثقافة مدنية تُؤمن بالمشاركة وتحترم الاختلافات وتعزز من قدرة الأفراد على التفكير النقدي.
هذه الحركة الشبابية تُلهم النخب الجديدة وتدفعها للنظر في سبل بناء مجتمع يعي حقوقه ويسعى وراءها بطرق مدروسة، متجاوزًا عقبات التهميش الفكري والسياسي. على السودان أن يتعلم من هذه الحركة أهمية تمكين الشباب وتبني نظمٍ حرة تتيح لهم المشاركة الفاعلة في صناعة المستقبل بعيدًا عن الهيمنة الفكرية للنخب القديمة، ودون الاعتماد على القيود العقيمة أو تكتيكات التنكيل الموروثة من العهود السابقة.
وطلائع ديسمبر أصبحت رمزا لقوة التغيير الشعبي، فهي ليست مجرد حركة احتجاجية، بل صوتٌ جديدٌ يعبر عن إرادة الشارع السوداني الطامح نحو الحرية والكرامة. يترجم هذا الحراك عبر وسائل التواصل الاجتماعي الرفض الشعبي للسلطة الشمولية ولأدوات القمع الفكري والسياسي، ويجسد رغبة السودانيين في تأسيس مجتمع يتمتع بالوعي والاستقلالية. هذه القوة الشعبية التي تحررت من الهيمنة، وأصبحت قادرة على تحدي البروباغندا وتفادي الحيل التي اعتمدتها الحكومات لعقود، قد تكون هي المفتاح لتغيير مستدام يبني مجتمعًا يحقق التطلعات دون أن يرتكب أخطاء الماضي.
zuhair.osman@aol.com