فضيحة الأهداف الإستراتيجية الأميركية
تاريخ النشر: 23rd, February 2024 GMT
توشكُ الحرب الروسية على أوكرانيا أن تكمل عامَها الثاني، وتوشك الحرب الصهيونية على قطاع غزة أن تكمل شهرَها الخامس، دون أن تحقّق كلٌّ منهما أيًا من أهدافها المعلنة للحرب، باستثناء نتائجهما الفادحة على المدنيين والبنى الفوقية والتحتية، وعلى العمل والإنتاج في كافة مجالات الحياة؛ السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والصناعية، والعلمية، والتعليمية، والاجتماعية، لتصيبها بشلل شبه تام، أعاد عقارب الحياة فيها إلى الوراء سنوات طويلة.
لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن هاتين الحربين، وبدلًا من أن تقوم بدورها كقائدة للعالم في هذه المرحلة التاريخية؛ غاصت في دمائهما إلى درجة أضرّت كثيرًا بشعارات وخطط إدارة الرئيس جو بايدن التي لم يبقَ له سوى بضعة أشهر. كما أضرت أكثر بالأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي بجوانبها؛ السياسية، والعسكرية، والاقتصادية.
سياسات الولايات المتحدة وحلفائها تجاه الحرب في أوكرانيا وقطاع غزة، فضحت تمامًا أهدافها الإستراتيجية القومية، التي باتت بحاجة ماسّة إلى ضبط ممارساتها بميزان العدالة المطلقة، التي لا تقبل بالمعايير المزدوجة، ولا تميز بين إنسان وآخر
فهم الأهداف الإستراتيجية لإدارة بايدنتحت شعار: "إعادة بناء أميركا بشكل أفضل" خاض الرئيس جو بايدن حملته الانتخابية عام 2020م ليتغلّب على خَصمه الجمهوري دونالد ترامب، ويقود الإدارة الأميركية باعتباره الرئيس 46 للولايات المتحدة للفترة 2021-2025م. وانطلاقًا من هذا الشعار حدّد بايدن الأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي التي أعلن عنها في مارس/ آذار 2021م؛ في العناوين الثلاثة التالية:
حماية الشعب الأميركي. توسيع الأمن الاقتصادي وزيادة الفرص. تعزيز القيم الديمقراطية في الولايات المتحدة وخارجها.موضّحًا أن تحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية يحتاج إلى:
الدفاع عن مصادر القوة الأساسية الأميركية. ردع ومنع خصوم الولايات المتحدة وحلفائها. قيادة النظام العالمي. تنشيط التحالفات والشراكات في جميع أنحاء العالم.وبناء على ذلك؛ وفي أول خطاب له بتاريخ 4/2/2021م، أعلن بايدن أن إدارته ستباشر العمل على تحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي، من خلال المسارات الخمسة التالية:
إعادة أميركا لقيادة العالم. مواجهة الصين وروسيا، الأولى لكونها المنافس الأكبر للولايات المتحدة، والثانية بسبب محاولتها الإضرار بالديمقراطية الأميركية وإفسادها. إصلاح ما أفسده الرئيس ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي والناتو، والشروع في إعادة بناء التحالفات الإقليمية والدولية ودعمها. تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعمل على إنهاء النزاعات الإقليمية كما في اليمن وليبيا والسودان (في الشرق الأوسط على سبيل المثال). تعزيز الدبلوماسية الأميركية باعتبارها السبيل الوحيدة لاستعادة المكانة العالمية للولايات المتحدة، وإدارة علاقاتها مع المنافسين على أساس المصالح المشتركة وتجنب الصدام.وكانت كلمة بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2021م مبشّرة بعالم مزدهر، يزخر بالاستقرار والتعاون والتعايش والمساواة، ويحقق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، ولكنها ظلت مجرد كلمات موسمية لا تتجاوز أهميتها قيمة الورق الذي كُتبت عليه.
عن أي ديمقراطية تتحدث الإدارة الأميركيّة، وهي تدعم الأنظمة الاستبدادية ما دامت تلبّي طلباتها وترعى مصالحها؟، وعن أي حقوق إنسان تتحدث وهي ترفض وقف إطلاق النار في غزة، التي بلغ عدد ضحاياها المدنيين في خمسة أشهر، خمسة أضعاف الضحايا المدنيين الأوكرانيين في عامين؟
تجليات السياسة العوجاءممارسات الإدارة الأميركية تجاه الحربين الدائرتين في كل من أوكرانيا وقطاع غزة؛ وضعت المسارات الخمسة السابقة على المحك، لتكشف مدى التضليل الكامن فيها، ومدى الضرر الذي لحق بها وبالأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي التي انهارت تحت الدمار والأشلاء، ليس بسبب السياسة العوجاء التي اتبعها الرئيس بايدن فحسب، وإنما التي تتبعها الإدارات الأميركية المتعاقبة بشكل عام، ونستعرض فيما يأتي أبرز التجليات التي توضّح ذلك:
لم يمضِ عام على تحديد هذه المسارات، حتى اجتاحت القوات الروسية المحافظات الشرقية لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022م، بعد أن فشلت الدبلوماسية الأممية والأميركية والغربية سريعًا في احتواء الأزمة ومنع الحرب.فيما يمكن تفسيره بأنه فشل متعمد؛ لأن هذه الدبلوماسية لم تنطلق أبدًا من الحرص على احتواء النزاعات وتعزيز الاستقرار في العالم، وضربت عُرضَ الحائط بالأسبابِ التي دفعت روسيا إلى التحرُّك لشنّ الحرب، مطالبة إياها بالانسحاب دون قيد أو شرط، دون تقديم أي ضمانات لها تدفعها بعيدًا عن الخيار العسكري.
وكان ذلك بمثابة فضيحة كبرى لمزاعم إدارة بايدن حول سعيها لتعزيز الدبلوماسية، باعتبارها "السبيل الوحيدة لاستعادة المكانة العالمية للولايات المتحدة، وإدارة علاقاتها مع المنافسين على أساس المصالح المشتركة وتجنب الصدام".
كان يمكن نزع فتيل الحرب الروسية على أوكرانيا قبل بدئها، وحقن دماء أكثر من نصف مليون جندي سقطوا بين قتيل وجريح، منهم أكثر من 300 ألف روسي وأكثر من 200 ألف أوكراني، بالإضافة إلى أكثر من 10 آلاف قتيل و18500 مصاب من المدنيين الأوكرانيين حسب تقديرات الأمم المتحدة.
كان يمكن نزع فتيل الحرب والكفّ عن زرع حوالي 175 ألف لغم في 30٪ من الأراضي الأوكرانية، تحتاج إلى 757 عامًا حتى يتم نزعها، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
كان يمكن إيقاف الحرب، وتوفير حوالي 350 مليار دولار تم إنفاقها واعتمادها للعام الجاري، من أموال الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية لتسديد فاتورة الحرب العسكرية والمالية والإنسانية في أوكرانيا، وهو المبلغ الذي تجاوز الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة عام 1948م، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حسب خطة مارشال لإعمار وتشغيل الاقتصاد الأوروبي والمصانع الأوروبية، والبالغ وقتها 13.3 مليار دولار، أي ما يعادل 173 مليار دولار عام 2023م.
كان يمكن إيقاف الحرب وتوفير 486 مليار دولار تحتاجها أوكرانيا للتعافي وإعادة بناء اقتصادها على مدى 10 سنوات، حسب تقديرات البنك الدولي مؤخرًا، وتوفير تكلفة الأضرار التي بلغت في العامين الماضيين 152 مليار دولار، إضافة إلى نصف تريليون دولار قيمة الخسائر الناجمة عن تعطل الاقتصاد التجاري والتكاليف المرتبطة بالحرب، إضافة إلى تكاليف إعادة الإعمار التي تحتاج الأعمال العاجلة منها لعام 2024م حوالي 15 مليار دولار، حسب البنك الدولي.
عادت الولايات المتحدة لقيادة العالم، وتحدثت إدارة بايدن مرارًا وتكرارًا عن تعزيز النظام العالمي القائم على القواعد، ولكنها ظلّت عودة شعاراتية لم تتحول إلى حقيقة واقعية إلا مع الدول الحليفة أو الشريكة للولايات المتحدة.فقد كشفت الحربان في أوكرانيا وقطاع غزة أن هذه القواعد عبارة عن الأحكام والسياسات التي تعزّز هيمنة الولايات المتحدة، وتحقق مصالحها ومصالح حلفائها، وتستعملها بالطريقة التي تراها بما يحافظ على سلامة واستقرار هذه المصالح.
وقد قدّم ذلك المبررات التي تدعم الدول التي تطالب بإعادة بناء النظام العالمي وتحريره من هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، وفي مقدمتها الصين وروسيا.
فضحت الحرب الروسية في أوكرانيا والحرب الصهيونية في قطاع غزة هذا النظام العالمي الذي لا يعمل إلا لحساب الولايات المتحدة وحلفائها.ولذا نجدها تدعم حق أوكرانيا في الاستقلال والحرية والسيادة الكاملة على أرضها، وتدعو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الانسحاب منها دون قيد أو شرط، وتفرض عليه كل أنواع العقوبات، وتقدّم للحكومة الأوكرانية (الضحية) كافة أنواع الدعم السياسي والعسكري والأمني والمالي والإنساني، لتمكينها من إلحاق الهزيمة بروسيا (الجانية) التي يجب على الدول الغربية ألا تسمح لها بالنصر.
وعلى العكس تمامًا؛ تقف الإدارة الأميركية إلى جانب الكيان الصهيوني (الجاني) في حربه على غزة، وتوفر له كافة أنواع الدعم السياسي والعسكري والمالي والإنساني، لينتصر على حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزة (الضحية)، التي لا تعترف الولايات المتحدة بإنسانيتهم، ولا بحقهم في مقاومة الاحتلال واستعادة حقوقهم السليبة التي كفلها لهم القانون الدولي والإنساني.
إنها ازدواجية المعايير الإجرامية التي كشفت بشكل صارخ، طبيعة النظام العالمي الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها، الذي صار سخرية الغالبية العظمى من البشر، حتى داخل الولايات المتحدة والدول الغربية.
ومن قبل أوكرانيا وغزة، سقط هذا النظام سقطة مدوية، عندما واصلت الولايات المتحدة موقفها الداعم لتايوان سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا في وجه الصين، رغم اعترافها بسيادة الصين على تايوان.
وزادت الحرب الصهيونية على قطاع غزة من كشف عورة هذا النظام العالمي القائم على القواعد الأميركية؛ عندما عطّلت الولايات المتحدة عمل المؤسسات الدولية لهذا النظام- الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأمم المتحدة، والصليب الأحمر الدولي، والأونروا ومنظمة الصحة العالمية- الداعمة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنعت مجلس الأمن للمرة الثالثة على التوالي من اتخاذ قرار يلزم الكيان الصهيوني بوقف إطلاق النار.
نجحت إدارة الرئيس بايدن في إعادة بناء تحالفات الولايات المتحدة مع الدول الغربية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، والتي تضررت كثيرًا في فترة رئاسة دونالد ترامب.وسرعان ما كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا، أن هذه التحالفات ليست مجرد رد على ترامب، وإنما لحشد دول العالم ضد روسيا والصين، وفرض الخطط والمشروعات الأميركية الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية على العالم، بما يحقق الأهداف الإستراتيجية الثلاثة التي حددتها إدارة الرئيس بايدن للأمن القومي الأميركي، وبما يعزز هيمنة الولايات المتحدة وتفردها بزعامة العالم.
وجاءت الحرب الصهيونية على قطاع غزة لتؤكد ذلك، عندما هبّت الولايات المتحدة وحلفاؤها هبة واحدة في وجه (الضحية) لينتصروا لـ(الجاني)، مثلما هبّوا من قبل هبّة واحدة في وجه روسيا (الجاني) لينتصروا لـ(الضحية) المتمثلة في أوكرانيا.
كان سلوك الإدارة الأميركية تجاه حرب الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة، خير دليل على الخلل المفاهيمي لديها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتناقضه مع ممارساتها التطبيقية في العديد من دول العالم.فعن أي ديمقراطية تتحدث الإدارة الأميركية، وهي تدعم الأنظمة الاستبدادية ما دامت تلبي طلباتها وترعى مصالحها؟، وعن أي حقوق إنسان تتحدث الإدارة الأميركية وهي ترفض وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي بلغ فيه عدد الضحايا من المدنيين ما بين قتيل وجريح في خمسة أشهر حوالي خمسة أضعاف الضحايا المدنيين الأوكرانيين في عامين على أيدي القوات الروسية التي تحتل الترتيب الثاني بعد الولايات المتحدة كأقوى الجيوش في العالم، حسب تقرير "غلوبال فايرباور" لهذا العام؟.
وما هذا البون الشاسع في الضحايا المدنيين بين قطاع غزة وأوكرانيا إلا بسبب وقوف الولايات المتحدة وحلفائها إلى جانب الكيان الصهيوني، وتوفير جميع أنواع الدعم اللازم لتحقيق أهدافه من الحرب. علمًا أن عدد سكان أوكرانيا قبل الحرب مباشرة كان حوالي 44 مليون نسمة.
الصورة التي رسمتها الولايات المتحدة، بعدم احتوائها الحربَ في أوكرانيا ومساندتها الكيانَ الصهيوني في غزة؛ فضحت تمامًا الأهداف الإستراتيجية القومية للولايات المتحدة، التي باتت بحاجة ماسّة إلى ضبط ممارساتها بميزان العدالة المطلقة التي لا تقبل بالمعايير المزدوجة، ولا تميّز بين إنسان وآخر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة وحلفائها الإدارة الأمیرکیة الإدارة الأمیرکی للولایات المتحدة الحرب الصهیونیة النظام العالمی الحرب الروسیة فی أوکرانیا إطلاق النار ملیار دولار فی قطاع غزة إعادة بناء هذا النظام کان یمکن أکثر من
إقرأ أيضاً:
WP: تحول مواقف الأمريكيين تجاه إسرائيل شهد فورة في عهد بايدن
نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريرا أعدته ياسمين أبو طالب قالت فيه إن مواقف الأمريكيين من "إسرائيل" شهدت تحولا جيليا في ظل إدارة الرئيس جو بايدن. وقالت إن الإجماع على دعم "إسرائيل" كان شاملا للطيف السياسي الأمريكي، لكن رئاسة بايدن عمقت من الفجوة داخل الحزب الديمقراطي. ففي نهاية تشرين الثاني/نوفمبر سارع البيت الأبيض وحلفاؤه في الكونغرس إلى قتل تحرك في مجلس الشيوخ يمنع ثلاث شحنات أسلحة إلى "إسرائيل"، وكان خطوة حساسة، حيث قاد الإجراء أو رعايته أعضاء مجلس الشيوخ المقربين من بايدن، بمن فيهم السيناتور بيرني ساندرز والسيناتور فان هولين.
وقد التقى وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ للاحتجاج على أن الإجراء من شأنه أن يشجع حماس في الوقت الخطأ على وجه التحديد. ودعا زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، السيناتور تشارلز شومر أعضاء مجلس الشيوخ إلى مكتبه واحدا تلو الآخر لحثهم على قتل التحرك والتصويت بلا. كما وأطلقت لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) المؤثرة حملة من الإعلانات عبر الإنترنت تستهدف مؤيدي الإجراء.
ومع ذلك صوت 19 عضوا ديمقراطيا في مجلس الشيوخ، أي ثلث الأعضاء لصالح تحرك ساندرز، إما بالكامل أو دعم أجزاء منه. وأرسلوا رسالة واضحة إلى بايدن، عبروا فيها عن عدم رضاهم عن سياسة بايدن الشرق أوسطية ومن حزبه.
وتعلق أبو طالب إن هذه هي المرة الأولى التي يصوت فيها الكونغرس على منع مبيعات الأسلحة لـ"إسرائيل"، ولم يتمكن البيت الأبيض من منع ذلك.
ويسلط التحرك الضوء على تحول جوهري في علاقات أمريكا بـ"إسرائيل"، وهو التحول الذي بدأ منذ سنوات لكنه انفجر في عهد بايدن مع هجوم حماس على "إسرائيل" وغزو إسرائيل اللاحق لغزة.
فقد ساهم رده في انقسام حزبه الذي من المرجح أن يكون جزءا من إرثه، على الرغم من أنه قد لا يرغب في ذلك، حيث من غير المرجح أن تظل سياسة "إسرائيل" في أمريكا كما هي.
وقالت الصحيفة إن دعم "إسرائيل" كان منتشرا بين الأمريكيين منذ إعلان تأسيس "إسرائيل" عام 1948، لكن الدعم أصبح قضية مثيرة للانقسام، حيث يواصل الجمهوريون بقيادة ترامب دعمهم لـ"إسرائيل"، في وقت يزداد فيه نقد الديمقراطيين، وينظم الجناح التقدمي في الحزب احتجاجات ضد "إسرائيل" وسياستها.
ويقول بروس ريدل، المحلل الذي عمل في قضايا الشرق الأوسط مع رؤساء من الإدارتين: "يرى الجيل الأصغر سنا من الناخبين الأمريكيين أن "إسرائيل" ليست الطرف المظلوم، بل الطرف الذي خلق الوضع من خلال احتلالها المستمر وغياب أي مفاوضات مع السلطة الفلسطينية"، و"الخلاصة هي أن سياسات الصراع العربي - الإسرائيلي تغيرت الآن بشكل كبير. وقد حدث ذلك في عهد بايدن".
وتقول الصحيفة إن أسباب التحول سابقة عن بايدن، فقد تحولت "إسرائيل" إلى اليمين، وبخاصة في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. كما أن الأمريكيين الأصغر سنا ليست لديهم أي ذاكرة شخصية عن الهولوكوست أو تأسيس "إسرائيل" ويعبر الكثيرون عن تعاطف أكبر مع الفلسطينيين، الذين يرون أنهم يعانون في ظل دولة استعمارية بعد طرد مئات الآلاف من منازلهم بسبب تأسيس "إسرائيل".
وبنفس السياق يعاني المجتمع اليهودي الأمريكي، رغم ميوله الديمقراطية الليبرالية، من انقسام حول "إسرائيل"، وأكثر من أي وقت مضى . ومع ذلك، تسارعت الدينامية وتعززت خلال رئاسة بايدن.
فبعد هجمات حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، شنت "إسرائيل" حربا مدمرة ضد غزة وخلقت كارثة إنسانية. وفي حين انتقد بايدن "إسرائيل" طوال الحرب لتعريض حياة المدنيين للخطر ولعرقلتها المساعدات الإنسانية، فقد أكد على مواصلة الدعم العسكري الهائل، بحجة أن حرب "إسرائيل" هي دفاع عن النفس ضد عدو إرهابي. وبالنسبة للعديد من الديمقراطيين كان موقفه منسجما مع نسخة سابقة للحزب الديمقراطي و"إسرائيل" مع أنها لا تتساوق مع الواقع الحالي.
وبدا بايدن متمسكا بوجهة نظر قديمة كونها من لقائه عندما كان عضوا شابا في الكونغرس، مع رئيسة وزراء "إسرائيل"، غولدا مائير عام 1973.
وقال تومي فيتور، المتحدث السابق باسم الأمن القومي في البيت الأبيض للرئيس باراك أوباما: "جزء من مشكلة بايدن هو أنه يتمتع بخبرة عميقة" لكنه "لا يزال يتحدث عن لقاء غولدا مائير، وإسرائيل هذه قد اختفت تقريبا".
ومن جانبهم قال الديمقراطيون الذين صوتوا لصالح مشروع قرار منع إرسال الأسلحة إلى "إسرائيل"، إن المسألة لا تتعلق بما إذا كان ينبغي دعم "إسرائيل" أو ما إذا كانت "إسرائيل" تتمتع بحق الدفاع عن نفسها، بل إنهم يقولون إن جوهر المناقشة في حزبهم يتلخص فيما إذا كان الوقت قد حان لإعادة النظر في العلاقة التي تعني إرسال الولايات المتحدة كميات هائلة من المساعدات العسكرية إلى "إسرائيل" دون أي قيود تقريبا.
وقال فان هولين، وهو ناقد صريح لسياسة بايدن في غزة: "إن جميع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ يدعمون الشراكة الوثيقة مع إسرائيل. ولكن الشراكة يجب أن تكون طريقا باتجاهين، وليس شيكا مفتوحا في اتجاه واحد، وهذا هو جوهر القضية"، وأضاف: "هناك مجموعة كبيرة ومتنامية [من الديمقراطيين] تؤمن بالشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لكنها تعتقد أن الولايات المتحدة بحاجة إلى استخدام نفوذها بشكل أكثر فعالية لضمان الامتثال للقانون الأمريكي".
وأشارت الصحيفة إلى دور نتنياهو في تفاقم إحباط الديمقراطيين، حيث تخلى عن سياسة الزعماء الإسرائيليين السابقين المتمثلة في التعاون الحزبي الدقيق بين الحزبين ومال إلى دعم الجمهوريين.
كما وانتهك قواعد البرتوكول في عام 2015 عندما قبل دعوة القادة الجمهوريين لإلقاء خطاب في الكونغرس ومهاجمة سياسة الرئيس أوباما آنذاك بشأن إيران. وفي تموز/ يوليو، اتخذ نتنياهو قرارا مشابها عندما خاطب الكونغرس بدعوة من رئيس مجلس النواب، الجمهوري عن لويزيانا، مايك جونسون، حيث كان هو وبايدن على خلاف علني بشأن مسار الحرب في غزة.
وقال فيتور، الذي يشارك حاليا في استضافة بودكاست "أنقذ أمريكا": "هذه الحركة في الحزب الديمقراطي سبقت هذه الحرب في غزة" و"بدأ بيبي نتنياهو في تسميم العلاقة مع باراك أوباما في وقت مبكر من عام 2009، لكن زيارة عام 2015 وخطابه أمام الكونغرس كشفت عنه وما هي خططه. وأدى إلى تآكل مستمر للدعم بين المشرعين".
وكان دعم بايدن لـ"إسرائيل" بعد هجوم 7 أكتوبر حماسيا، وحصل على إشادة الحزبين. فقد ألقى خطابا في وقت الذروة بعد أقل من أسبوعين من الهجمات وتعهد فيه بأن تقف الولايات المتحدة مع حليفتها في سعيها للقضاء على حماس. وسافر إلى "إسرائيل"، متفاخرا بأنه أول رئيس أمريكي يزورها أثناء الحرب. وعانق نتنياهو عندما التقيا.
ولكن المزاج السياسي بين الليبراليين تغير بسرعة مثل العملية العسكرية. فقد أسفرت الغارات الجوية الإسرائيلية عن صور يومية للمعاناة واليأس في غزة، وتدمير المباني الفلسطينية التي سويت بالأرض بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية والأطفال الذين تم انتشالهم من تحت الأنقاض.
وقد أدت القيود الإسرائيلية الصارمة على المساعدات الإنسانية على الرغم من المناشدات الأمريكية المتكررة إلى انتشار الجوع والمرض والدمار في غزة، مع تزايد الغضب إزاء صور وقصص الأطفال الذين يتضورون جوعا وفي غضون أشهر، واجه بايدن المتظاهرين في كل مكان الٌقى فيها خطابا، وهم يهتفون ضد "جو الإبادة الجماعية".
وبين ليلة وضحاها، تحولت غزة إلى قضية محورية لدى التقدميين الذين نظروا إلى الفلسطينيين كمجموعة مهمشة و"إسرائيل" كقوة استعمارية، وهو تحول صارخ عن صورتها السابقة بين العديد من الأمريكيين باعتبارها ولادة جديدة لشعب مضطهد. وحتى مع وقوف العديد من القادة اليهود إلى جانب "إسرائيل"، تحدث آخرون بشكل متزايد ضد حكومة نتنياهو، من الحاخامات الليبراليين إلى السياسيين مثل ساندرز وشومر.
وفي بيان لها، قالت "إيباك" إن أغلبية الكونغرس والجمهور الأمريكي يدعمون "إسرائيل".
وتزعم مجموعات مثل "صوت اليهود من أجل السلام"، على الرغم من صغر حجمها نسبيا، أن العسكرة الإسرائيلية ليست فقط خارج نطاق القيم الأمريكية بل وأيضا القيم اليهودية.
وقال إيلان غولدنبرغ، مستشار السياسة السابق للبيت الأبيض، إن الناس على جانبي المجتمع اليهودي المنقسم قد حصنوا أنفسهم على مدار العام الماضي.
وقال غولدنبرغ، الذي عمل مديرا للتواصل مع اليهود في الحملة الرئاسية لنائبة الرئيس كامالا هاريس: "المعسكر الأول متشكك بالفعل من نتنياهو، ثم أصبح أكثر تشككا بسبب الحرب، وابتعد أكثر عن هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية. وهذا يشكل جزءا كبيرا من المجتمع اليهودي. أما الجزء الآخر فهم الجمهوريون والديمقراطيون المحافظون الذين ضاعفوا بعد السابع من أكتوبر والحرب في غزة دعمهم لأفعال الحكومة الإسرائيلية".
ومر العرب والمسلمون الأمريكيون بتحول ثقافي خاص بهم، فبعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، شعر كثيرون منهم بأنهم صاروا هدفا للتشهير بعد كل هجوم شنه مسلحون إسلاميون، وترددوا في التحدث علنا أو لفت الانتباه غير الضروري إلى دينهم أو عرقهم، وفقا لمقابلات عديدة أجريت مع أفراد المجتمع.
ولكن حرب غزة قلبت هذا الأمر رأسا على عقب، وخاصة بين أفراد المجتمع الأصغر سنا. وأصبح العديد من العرب والمسلمين صريحين في الحديث عن القضية الفلسطينية وارتدوا الكوفية، الذي أصبح يرمز إلى التضامن معها.
وفي مجال النشاط الآخر، مثل حركة "حياة السود مهمة" فقد جاء تضامنهم مع الفلسطينيين وهم شعب من أصحاب البشرة الملونة الذين تستهدفهم دولة بوليسية وحشية وانضموا إلى القضية. وبحلول شهر تشرين الأول/ أكتوبر هذا العام، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث أن 50% من الديمقراطيين والمستقلين ذوي الميول الديمقراطية يعتقدون أن حملة "إسرائيل" ضد حماس قد ذهبت بعيدا، في حين شعر 13% من الجمهوريين وقادة الحزب الجمهوري بهذه الطريقة.
ومع دخول الحملة الرئاسية المرحلة الأخيرة، سعى كل من هاريس وترامب إلى استمالة المجتمع العربي والمسلم، وخاصة في ميشيغان، التي تضم واحدة من أكبر التجمعات للعرب والمسلمين في أمريكا. ويقول ريدل: "قد ننظر للوراء وإلى عام 2024 ونقول إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية التي ساعد فيها العرب بتحديد النتيجة" و"لم يكن الصوت العربي والمسلم في الحقيقة مهما في الانتخابات الأمريكية لأنه كان صغيرا".
ومع تمسك بايدن بنهجه التقليدي المتساهل تجاه "إسرائيل"، بدأ التحريض خارج واشنطن يتسلل إلى قاعات الكونغرس. وفي نواح كثيرة، كان هذا يشبه مسار الاحتجاجات ضد حرب فيتنام في الستينيات من القرن الماضي، والتي بدأت في الحرم الجامعي لكنها وجدت في نهاية المطاف أبطالافي مجلسي النواب والشيوخ.
وقال ساندرز إنه يعتقد أنه كان من الممكن أن يكون هناك المزيد من الدعم لإجراءاته لمنع شحنات الأسلحة إذا لم يحشد فريق بايدن وشومر بقوة ضدها. وتداول البيت الأبيض نقاط الحديث بين المشرعين بتأكيدات مثل، "الآن هو الوقت المناسب للتركيز على الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن ووقف الحرب. إن قطع الأسلحة عن "إسرائيل" من شأنه أن يجعل هذا الهدف أبعد من المنال ويطيل أمد الحرب، وليس تقصيرها". وقال ساندرز إن الضغط وضع زملاءه في موقف صعب. وأضاف ساندرز: "كان لديك رئيس الولايات المتحدة وإدارته، حرفيا في يوم التصويت، يفعلون كل ما في وسعهم للتحرك ضدنا" و"كان لديك زعيم الأغلبية يفعل كل ما في وسعه"،إلى جانب "إيباك".
وعبر عدد من المشرعين في الكونغرس عن إحباط من إدارة بايدن التي أعلنت عن قرارات لتخفيف حدة الغضب ثم تتردد في متابعتها، تماما كرسالة بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن التي هددت "إسرائيل" وطلبت منها تحسين الظروف الإنسانية خلال 30 شهرا وإلا واجهت العواقب. وعندما حان الموعد لم تفعل الإدارة شيئا.