NYT: تتزايد عزلة إسرائيل دوليا مع تزايد عدد القتلى في غزة
تاريخ النشر: 23rd, February 2024 GMT
نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا لمدير مكتبها في لندن مارك لاندلر قال فيه إنه عندما تم تحذير ديفيد بن غوريون، أحد الآباء المؤسسين لإسرائيل، في عام 1955 من أن خطته للاستيلاء على قطاع غزة من مصر ستثير رد فعل عنيفا في الأمم المتحدة، سخر من الأمم المتحدة، مرددا اختصارها العبري، "أوم شموم".
وجاءت هذه العبارة لترمز إلى استعداد إسرائيل لتحدي المنظمات الدولية عندما تعتقد أن مصالحها الأساسية معرضة للخطر.
وبعد مرور ما يقرب من 70 عاما، تواجه إسرائيل موجة أخرى من الإدانة في الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، ومن عشرات الدول بسبب عمليتها العسكرية في غزة، والتي أسفرت عن مقتل ما يقدر بنحو 29 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال وخلفت دمارا شاملا في المنطقة.
لقد أدى التضخم الهائل في الضغوط العالمية إلى ترك الحكومة الإسرائيلية ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في عزلة شديدة، وإن لم تكن قد خضعت بعد، فيرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنها لا تزال تحظى بدعم أقوى حليف لها، الولايات المتحدة، بحسب المقال.
وتابع: "لكن هذه المرة، تواجه إسرائيل قطيعة نادرة مع واشنطن. تعمم إدارة بايدن مشروع قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يحذر الجيش الإسرائيلي من شن هجوم بري في رفح، بالقرب من مصر، حيث يقيم أكثر من مليون لاجئ فلسطيني. كما سيدعو إلى وقف مؤقت لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن".
وقال مارتن إنديك، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل: "إنها مشكلة كبيرة للحكومة الإسرائيلية لأنها كانت قادرة في السابق على الاختباء خلف حماية الولايات المتحدة. لكن بايدن يشير الآن إلى أن نتنياهو لم يعد قادرا على اعتبار هذه الحماية أمرا مفروغا منه".
وقال إنديك: "هناك سياق أوسع من الإدانة من قبل الرأي العام الدولي، وهو أمر غير مسبوق من حيث الاتساع والعمق، والذي امتد إلى الولايات المتحدة. لقد أصبحت الدوائر الانتخابية التقدمية والشبابية والعرب الأمريكيين في الحزب الديمقراطي غاضبة وتنتقد بشدة بايدن لدعمه لإسرائيل".
حتى الآن، لم يسمح الرئيس بايدن للضغوط الدولية أو المحلية بالتأثير عليه. وفي يوم الثلاثاء، رجعت الولايات المتحدة للقيام بدور مألوف، حيث استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع صدور قرار، برعاية الجزائر، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. وهذه هي المرة الثالثة خلال حرب غزة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد قرار يضغط على إسرائيل.
منذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، أي قبل قيام دولة إسرائيل بثلاث سنوات، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من 40 مرة لحماية إسرائيل من مجلس الأمن. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث الأميركيون مجرد صوت آخر، أصبحت القرارات ضد إسرائيل أمرا شائعا. وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، صوت المجلس بأغلبية 153 صوتا مقابل 10، مع امتناع 23 عضوا عن التصويت، على وقف فوري لإطلاق النار.
وقال مايكل أورين، سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة، متحدثا عن الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وهيئات أخرى: "فيما يتعلق بالإسرائيليين، فإن هذه المنظمات تقف ضدنا. إن ما يفعلونه لا يؤثر علينا استراتيجيا أو تكتيكيا أو عملياتيا".
لكن أورين أقر بأن أي قطيعة مع الولايات المتحدة، أكبر مورد لها للأسلحة، وحليفها السياسي القوي، والمدافع الدولي الرئيسي عنها، سيكون "مسألة مختلفة تماما".
وبينما تتعرض إسرائيل لضغوط شديدة منذ الأيام الأولى لهجومها على غزة، فإن جوقة الأصوات من العواصم الأجنبية أصبحت مدوية في الأيام الأخيرة. وفي لندن، دعا حزب العمال المعارض، الثلاثاء، إلى وقف فوري لإطلاق النار، مغيّرا موقفه عن موقف حزب المحافظين الحاكم، تحت ضغط من أعضائه ومن أحزاب معارضة أخرى.
وحتى الأمير ويليام، وريث العرش البريطاني البالغ من العمر 41 عاما، دعا إلى "إنهاء القتال في أقرب وقت ممكن"، وهو تدخل جيوسياسي نادر من قبل أحد أفراد العائلة المالكة الذين عادة ما يتجنبون مثل هذه القضايا. وقال ويليام في بيان يوم الثلاثاء: "لقد قُتل عدد كبير جدا".
ولعل العرض الأكثر إثارة للانتباه لعزلة إسرائيل هو ما حدث في محكمة العدل الدولية في لاهاي، حيث يصطف ممثلو 52 دولة هذا الأسبوع لتقديم مرافعاتهم في قضية تنظر في شرعية "احتلال إسرائيل واستيطانها وضمها" للأراضي الفلسطينية. بما في ذلك الضفة الغربية والقدس الشرقية، وكان معظمهم ينتقدون إسرائيل بشدة.
وشبهت جنوب أفريقيا معاملة إسرائيل للفلسطينيين بـ "شكل متطرف من الفصل العنصري". وقد اشترت حكومة جنوب أفريقيا قضية منفصلة في المحكمة تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
وفي يوم الأربعاء، هبت الولايات المتحدة مرة أخرى للدفاع عن إسرائيل، وناشدت المحكمة عدم إصدار حكم يلزم إسرائيل بالانسحاب غير المشروط من هذه الأراضي. وقال محامي وزارة الخارجية، ريتشارد فيسيك، إن هذا من شأنه أن يجعل التوصل إلى تسوية سلمية بين إسرائيل والفلسطينيين أكثر صعوبة لأنه لن يأخذ أمن إسرائيل بعين الاعتبار.
لكن صوت أمريكا كان صوتا وحيدا، ولم تقدم سوى بريطانيا حجة مماثلة.
وقال فيليب ساندز، محامي حقوق الإنسان الذي تحدث نيابة عن الفلسطينيين: "الحقيقة هي العكس تماما". وفي إشارة إلى أن المحكمة أكدت بالفعل حق الفلسطينيين في تقرير المصير، قال: "إن وظيفة هذه المحكمة – وظيفة هؤلاء القضاة، ووظيفتكم – هي تبيين القانون: توضيح الحقوق والالتزامات القانونية التي تسمح بحل عادل في المستقبل."
وسيكون حكم محكمة العدل الدولية استشاريا فقط، وقد رفضت إسرائيل حضور هذه الإجراءات. لكن تحدي إسرائيل للهيئات الدولية لا يعني أنها تتجاهلها تماما.
ورفضت الحكومة الإسرائيلية في البداية ادعاءات جنوب أفريقيا بالإبادة الجماعية ووصفتها بأنها "حقيرة ومزدرية". كانت هناك تقارير تفيد بأن نتنياهو أراد إرسال آلان ديرشوفيتز، المحامي الذي دافع عن دونالد ترامب والممول ومرتكب الجرائم الجنسية، جيفري إبستين، لعرض قضية إسرائيل - وهو الاختيار الذي قال البعض إنه كان سيحول جلسة الاستماع إلى جلسة سيرك. وفي النهاية، أرسلت فريقا قانونيا رفيع المستوى، بقيادة المحامي الأسترالي الإسرائيلي المحترم، تال بيكر، الذي قال إن جنوب أفريقيا قدمت "وصفا مخالفا للواقع" للصراع.
وفي حكم مؤقت صدر في أوائل شباط/ فبراير، أمرت المحكمة إسرائيل بمنع ومعاقبة التصريحات العامة التي تشكل تحريضا على الإبادة الجماعية، وضمان دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكنها لم تستجب لطلب رئيسي من جنوب أفريقيا: وهو أن تعلق إسرائيل حملتها العسكرية.
وحتى مع الأمم المتحدة نفسها، فإن الدافع الإسرائيلي لقول "أم شموم" لا يذهب أبعد من ذلك. وكثيرا ما تقوم إسرائيل بمناورات لنسف أو تخفيف قرارات مجلس الأمن لأنها تدرك أنها يمكن أن تفتح الباب أمام العقوبات.
في كانون الأول/ ديسمبر 2016، ضغط المسؤولون الإسرائيليون على ترامب، الذي انتخب للتو رئيسا، للضغط على الرئيس الأسبق باراك أوباما لاستخدام حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن يدين إسرائيل بسبب المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية (امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت، وتم تمرير القرار).
وقال دانييل ليفي، مفاوض السلام الإسرائيلي السابق الذي يدير الآن مشروع الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وهي مجموعة بحثية مقرها في لندن ونيويورك: "إنهم يدركون أنه يتعين عليك إبقاء المعارضة العالمية على مستوى الخطابة. لا يمكنك السماح لها بالدخول إلى عالم التكاليف والعواقب".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية غزة إسرائيل احتلال إسرائيل احتلال حماس غزة طوفان الاقصي صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة العدل الدولیة الأمم المتحدة لإطلاق النار جنوب أفریقیا مجلس الأمن حق النقض فی غزة
إقرأ أيضاً:
إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟
نشر موقع " لو ديبلومات" الفرنسية تقريرا سلّط فيه الضوء على طبيعة القوة الحقيقية في الولايات المتحدة، حيث لا يستأثر الرئيس بصنع القرار بشكل مطلق بل تلعب المؤسسات الفيدرالية وخاصة البيروقراطية والإدارات الأمنية والعسكرية دورا أساسيا في توجيه الاستراتيجية الأمريكية.
وقال الموقع، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن السلطة الإمبريالية الأمريكية لا تكمن في البيت الأبيض - على عكس ما يُعتقد - حتى عندما يحظى بدعم أغلبية الكونغرس، بل الأجهزة الضخمة للإدارة الفيدرالية هي التي تحدد مسار الأمة مما يضمن الاستمرارية الاستراتيجية للهيمنة الأمريكية.
يُنظر إلى انتخاب الرئيس على أنه محطة مفصلية في المسار الإمبريالي، لكنه في الواقع لا يعدو كونه تغييرا في التمثيل والسرد السياسي أكثر من كونه تغييرا حقيقيًا في النهج، حسب التقرير.
وأشار الموقع إلى أن الانتخابات الأمريكية وتنصيب الرئيس الجديد دائمًا ما يثيران اهتمامًا كبيرًا لما يكتسيانه من أهمية في مسار القوة العظمى المهيمنة عالميًا. لكن في الواقع، يعد مدى تأثير الرئيس في الولايات المتحدة على السياسات العامة والمسار الاستراتيجي للبلاد مبالغًا فيه إلى حد كبير.
وقال الموقع إن أكبر جهة توظيف في العالم ليست إحدى الشركات متعددة الجنسيات الخاصة التي تعمل على نطاق عالمي مثل "وول مارت" أو "ماكدونالدز" أو "كوكاكولا"، وليست أيضًا جيش أحد البلدين الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، الهند والصين، بل هي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التي تضم ما يقارب ثلاثة ملايين موظّف. وهذا الرقم لا يشمل الموظفين "السريّين" أو العاملين في الشركات الخاصة التي تعتمد عليها الوزارة، مثل المتعاقدين.
تعد أجهزة المخابرات الأمريكية بدورها كيانا واسعا ومعقدا للغاية، حيث تتألف من سبع عشرة وكالة استخباراتية أبرزها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) التي غالبًا ما تختلف في رؤاها وتكتيكاتها وتتنافس بشدة فيما بينها. ونظرًا للشبكة الواسعة من المنظمات ومراكز الأبحاث والشركات المرتبطة بها، يصعب تحديد العدد الدقيق لإجمالي العاملين في هذا القطاع.
قدّمت صحيفة "واشنطن بوست" في سنة 2010 تقديرًا تقريبيًا يفيد بأن أكثر من 800 ألف شخص لديهم حق الوصول إلى معلومات حساسة تتعلق بالأمن القومي. لكن هذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار العدد غير المحدد من العملاء المنتشرين في جميع أنحاء العالم الذين لا تظهر أسماؤهم في السجلات الرسمية بسبب عملهم كعملاء سريين أو متخفين.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المنظومة الفيدرالية الأمريكية بكاملها، فإننا نتحدث عن أكثر من خمسة ملايين موظف مسجلين، من بينهم آلاف المسؤولين الحكوميين الذين يشغلون مناصب رفيعة يدعمهم عشرات الآلاف من الخبراء الفنيين الذين يمتلكون مهارات متخصصة ويتولّون إدارة وتحمل مسؤولية المناطق الجغرافية الموكلة إليهم حول العالم.
ووفقا للتقرير، فإنه بغض النظر عن هوية الشخص الذي يشغل البيت الأبيض أو الانتماء السياسي للأغلبية في الكونغرس، فإن الآلة الضخمة للإدارة الفيدرالية تضمن الاستمرارية الاستراتيجية للإمبراطورية غير الرسمية التي تقوم على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على جميع بحار العالم والهيمنة على أوروبا. للحفاظ على هذه السيطرة وتعزيزها، من الضروري تمامًا منع ألمانيا من التقارب الجيوسياسي مع روسيا والصين وكذلك منع بكين من فرض سيطرتها على بحر الصين من خلال الاستيلاء على تايوان. على هذا النحو، لن يكون بإمكان أي رئيس للولايات المتحدة مهما كان توجّهه السياسي أو أي أغلبية في الكونغرس التخلي عن هذه المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد لأن الأجهزة الفيدرالية لن تسمح بذلك.
لكن التواجد في الخطوط الأمامية للحفاظ على الهيمنة العالمية وتعزيزها هو مهمة شاقة للغاية، وليس فقط بسبب حالة الحرب الدائمة التي تفرضها. فكما كان الحال مع الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية اللتين سبقتاها، لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهل عاملين أساسيين يحددان مكانتها كقوة مهيمنة: العجز التجاري الهائل والتدفق الهائل للمهاجرين. العجز التجاري هو أداة ضرورية لإبقاء الدول التابعة اقتصاديًا، حيث تصبح أميركا المستهلك الرئيسي لمنتجاتها مما يضمن استمرار تبعيتها. أما الهجرة الجماعية، فهي ضرورية للحفاظ على مجتمع ديناميكي وتنافسي للغاية، والأهم من ذلك، إبقاء السكان في حالة شبابية عدوانية وعنيفة.
لكن التضحيات الاقتصادية الناجمة عن إلغاء التصنيع والاستيعاب المتواصل للمهاجرين بأعداد متزايدة والاستنزاف الناتج عن الحروب المستمرة، كلها عوامل أدت إلى تنامي شعور بالضيق والسخط داخل بين صفوف العرق المهيمن، وهو شعور يميز جميع الإمبراطوريات الكبرى في مراحلها المتأخرة. في الولايات المتحدة، بدأت ملامح هذا الاستياء بالظهور خلال الولاية الثانية لإدارة جورج بوش الابن، ومنذ ذلك الحين استمرت في التصاعد بشكل ملحوظ.
أورد الموقع أن دونالد ترامب يُعد تجسيدًا بارزًا للعرق الجرماني المهيمن، وقد تمكن من التعبير عن استيائه بوضوح. ارتكزت حملته الانتخابية على شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" وهي تستند إلى ثلاثة أهداف رئيسية لمعالجة هذا الاستياء: إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة واستعادة الهيمنة الاقتصادية، تقليص تدفق الهجرة للحد من التأثيرات الثقافية والديموغرافية، وإنهاء الحروب الخارجية وإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن.
لكن هذه الرؤية غير واقعية إلى حد بعيد لأنها تعني انسحاب الولايات المتحدة من إمبراطوريتها غير الرسمية والتراجع إلى عزلة قومية قديمة الطراز. وهذا أمر لن يسمح به الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو ما أكده بوضوح خلال الولاية الأولى لترامب الذي اصطدم بصلابة "الدولة العميقة" التي حالت دون تنفيذ الكثير من سياساته.
لهذا تتمحور نوايا ترامب، رغم غموضها الكبير، حول تقليص نفوذ الإدارة الفيدرالية التي يصفها بـ "الدولة العميقة" - بمعنى سلبي - ورفع سلطة البيت الأبيض بدعم من الأغلبية في الكونغرس لإعادة تشكيل نهج أميركا الجيوسياسي نحو العزلة. لكن هذا الطموح يصطدم بعائق جوهري وهو استحالة تنفيذ نظام "التطهير الإداري" على عشرات الآلاف من البيروقراطيين المتخصصين، الذين يشكلون العمود الفقري للدولة. حتى لو نجح ترامب بمعجزة في هذا التحدي الضخم، فإن الهوية العميقة للأمة الأمريكية لن تتخلى أبدًا عن دورها كقوة عظمى مهيمنة عالميا.
وقال الموقع إن هنا تصطدم الدعاية الانتخابية بالواقع الجيوسياسي الصلب، حيث لا يمكن للرئيس بغض النظر عن سلطته ونفوذه أن يغيّر بسهولة الأسس الاستراتيجية التي تقوم عليها الهيمنة الأمريكية في العالم. لكن موظفي ما يُعرف بـ"الدولة العميقة" ينتمون في الغالب إلى التيار المهيمن، مما يجعلهم شديدي الحساسية والاستجابة لمشاعر هذا التيار وتوجهاته. وقد شكّل الهجوم على مبنى الكابيتول قبل أربع سنوات نقطة تحوّل كبيرة في المسار الإمبراطوري لواشنطن، حيث أن الأجهزة الحكومية لم تستهِن أبدًا بهذه الموجة الحادة من السخط التي اجتاحت العاصمة قادمة من عمق البلاد.
يوضح ذلك التغيير التاريخي في الموقف الذي بدأته الولايات المتحدة خلال إدارة باراك أوباما، والذي تسارع بشكل كبير في عهد جو بايدن، مباشرة بعد محاولة الانقلاب في 6 كانون الثاني/ يناير 2021. وقد قلّصت أمريكا إلى الحد الأدنى تدخلها بل وحتى وجودها في المناطق التي تعتبرها أقل استراتيجية، معتمدة على وكلائها المحليين لإدارة تلك الساحات بدلاً منها.
يعد الشرق الأوسط، حسب التقرير، مثالًا بارزًا حيث عملت الأجهزة الحكومية الأمريكية بشكل مكثف على تحقيق تقارب بين "إسرائيل" والدول العربية السُّنية بهدف احتواء إيران، مما أدى في النهاية إلى توقيع "اتفاقيات إبراهيم". وبنفس النهج، جاء الانسحاب من أفغانستان، لكن بطريقة "غير منظمة" – إن صح التعبير – حيث لم يكن هناك توافق بشأن الانسحاب وتسليم البلاد في الوقت نفسه إلى حركة طالبان، بل شهدت الساحة انقسامًا واضحًا بين الوكالات الفيدرالية الأمريكية المختلفة.
وفي منطقة الساحل الإفريقي، أدت إعادة تموضع واشنطن إلى فشل فرنسا في الحفاظ على جميع مواقعها، مما تسبب في خسارة بعض معاقلها التقليدية أمام نفوذ روسيا. وفي الوقت ذاته، كثفت الولايات المتحدة سيطرتها على المناطق التي تعتبرها استراتيجية، مثل ألمانيا وأوروبا الشرقية والشرق الأقصى.
وذكر الموقع أن فرض الرسوم الجمركية أو تبني سياسات تحفيزية للصناعة الأمريكية، التي بدأت في عهد "باراك أوباما"، واستمرت خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب وتسارعت تحت إدارة جو بايدن لم يكن يهدف إلى تحقيق هدف وهمي أو غير اجتماعي متمثل في إعادة التصنيع كجزء من مشروع إمبريالي، بل كان الهدف منه تحقيق هدف استراتيجي واضح يتمثل في تقليص الفوائض التجارية الضخمة لكل من الصين وألمانيا.
تعتمد هاتان الدولتان بشكل رئيسي على تلك الفوائض للحد من القوى الانفصالية الداخلية القوية، التي لولاها لتفككت وحدتهما الوطنية. في الوقت نفسه، تساعد هذه الفوائض في تعزيز طموحاتهما الجيو-اقتصادية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. ومع ذلك، لا يمكن للتأثير الجانبي الناجم عن إعادة التصنيع الجزئي الناتج عن هذه التدابير إلا أن يخفف من حالة السخط الاقتصادي داخل الفئة السكانية المهيمنة في الولايات المتحدة.
أشار الموقع إلى أن بناء جدار حدودي مع المكسيك، الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ولا يزال مستمرًا منذ أربع سنوات، لا يهدف إلى وقف تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية بل يسعى لتحقيق هدف إمبريالي بحت يتمثل في تسهيل عملية استيعاب المهاجرين من خلال إنشاء حاجز مادي يقطع روابطهم الثقافية مع وطنهم الأم.
نتيجة انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر والخطاب الافتتاحي الأول لدونالد ترامب يؤكّدان توجهًا هيكليًا مستمرًا منذ ما يقارب عشرين عامًا داخل المجتمع الأمريكي: وهو الشعور بالسخط داخل العرق المهيمن. فالولايات المتحدة القارية، التي يغلب عليها الأصل الجرماني والتي تتحمل العبء الثقيل للإمبراطورية، تشعر بالإحباط والغضب. إنها تحمل ضغينة تجاه السواحل و"مقاطعات" أوروبا الغربية - أو ما يُعرف بـ"القارة العجوز" - حيث تُعتبر هذه المناطق طفيليات تعيش على حسابها وتُصنف على أنها المستفيد الأكبر من "السلام الأمريكي" دون تقديم أي تضحيات ضرورية لحمايته. وقد تمكن الرئيس الجديد من استيعاب هذا الشعور بالغضب والسخط والتعبير عنه بمهارة، مما مكنه من تحقيق انتصار في المواجهة الانتخابية.
بعيدًا عن كونه نقطة تحول أو حتى بداية لعصر جيوسياسي جديد، فإن تولي رجل الأعمال النيويوركي الرئاسة في البيت الأبيض سيعزز الموقف الأمريكي الجديد الذي يتبناه الجهاز الفيدرالي منذ أواخر سنة 2010، لا سيما على مستوى السرد السياسي. سترتفع الرسوم الجمركية، خاصة تلك المفروضة على المنتجات الألمانية والصينية.
وبحسب التقرير، فإنه من المؤكد أن "الشركاء" الأوروبيين سيتم دفعهم لتحمل مسؤوليات أكبر داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) للمساهمة في الدفاع عن "السلام الأمريكي" ضد خصومه. ومع أن نبرة الخطاب حول هذه القضايا تتغير، إذ أصبحت أقل ودية مقارنة بالحكومة السابقة، إلا أن الجوهر لا يزال كما هو.