اكتظت السجون البريطانية بالمجرمين خلال القرن الثامن عشر، ولم تكن عقوبة الإعدام كافية لردع الجرائم التي استمرت معدلاتها في الارتفاع، فبرزت فكرة نقل المدانين من بريطانيا العظمى وأيرلندا إلى الأراضي الأسترالية المكتشفة حديثا. فما بين عامي 1788 و1868، نُقل نحو 162 ألف مدان إلى مستعمرات عقابية أنشئت في أجزاء مختلفة من أستراليا، وكان خليج بوتاني هو وجهة الأسطول الأول الذي حمل المدانين إلى أستراليا.

نقل المدانين

كان عدد سكان إنجلترا وويلز ما بين عامي 1700 و1740م لا يتجاوز 6 ملايين نسمة، لكن ابتداء من 1740 بدأت أعداد السكان ترتفع بشكل كبير، وتدهورت الظروف المعيشية.

وبعد عدة سنوات أصبحت لندن مكتظة بالعاطلين عن العمل، لا سيما مع حلول الثورة الأميركية التي بدأت عام 1765، وكانت نتيجتها استقلال المستعمرات الأميركية عن بريطانيا العظمى.

انتشرت الجرائم في البلاد بشكل خارج عن السيطرة، إضافة إلى الفقر والظلم الاجتماعي وعمالة الأطفال. وأصبحت ضواحي لندن مرتعا لقطاع الطرق مع حلول عام 1784، ومما زاد الأمر سوءا أن المدن البريطانية آنذاك لم تعرف بعد قوات الشرطة بمعناها الحديث. كما أن العديد من المسؤولين الحكوميين رفضوا المنشآت الإصلاحية ومراكز الاحتجاز المؤقتة، واعتبروها مفاهيم أميركية دخيلة.

ونظرا لاكتظاظ السجون، كانت السلطات تنفذ عقوبات الإعدام على الجرائم حتى لو كانت بسيطة، ففي سبعينيات القرن الثامن عشر كان هناك 222 جريمة يعاقب عليها القانون البريطاني بالإعدام، بما في ذلك الجرائم المتعلقة بالاعتداء على الممتلكات وسرقة البضائع التي تزيد قيمتها عن حد معين، وقطع الأشجار وسرقة الحيوانات.

جعلت هذه العوامل المُشرعين يفكرون في طرق جديدة لتخفيض معدلات الجرائم والتخلص من المجرمين، فتم اقتراح نقل المدانين إلى مناطق بعيدة عقابا لهم، إذ نقل حوالي 60 ألف سجين إلى المستعمرات البريطانية في أميركا الشمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر بموجب أحكام قانون النقل لعام 1717م، لكن بعد هزيمة بريطانيا خلال أحداث الثورة الأميركية، توقفت عمليات نقل المجرمين إلى الأميركتين.

وبما أن الأعداد الكبيرة من المجرمين كانت لا تزال تشكل أزمة في بريطانيا، بدأت عملية إيجاد بدائل للمستعمرات الأميركية، واقترح الساحل الشرقي المكتشف حديثا لهولندا الجديدة (كان مصطلح "هولندا الجديدة" هو الاسم التاريخي الأوروبي الذي أطلق على البر الرئيسي لأستراليا).

صورة تخيلية لإنزال المدانين في مستعمرة خليج بوتاني (مواقع التواصل الاجتماعي) خليج بوتاني أول مستعمرة جزائية بريطانية

كانت الوجهة الجديدة الأولى التي اختارتها بريطانيا للمدانين هي "خليج بوتاني"، الواقع في سيدني بنيو ساوث ويلز في أستراليا. ففي يوم 18 أغسطس/آب 1786، اتخذ قرار بإرسال مجموعة من المدانين والعسكريين والمدنيين إلى خليج بوتاني تحت قيادة النقيب آرثر فيليب، الذي أصبح أول حاكم للمستعمرة الجديدة.

وكان هناك 775 مدانا على متن سفن النقل، وكان برفقتهم مسؤولون وأفراد الطاقم وأفراد من مشاة البحرية وعائلاتهم وأطفالهم الذين بلغ عددهم 645.

تكون الأسطول الأول -الذي أرسل إلى المستعمرة الجديدة في خليج بوتاني- من 11 سفينة أبحرت يوم 13 مايو/أيار 1787، ووصلت إلى الخليج في يناير/كانون الثاني 1788. وبعد أن حطت السفن رحالها، بدأ الحاكم آرثر فيليب باستكشاف المنطقة، فاكتشف خليج جاكسون وخليج سيدني، إذ بنيت هناك أول مستعمرة أوروبية دائمة في القارة الأسترالية، داخل نيو ساوث ويلز، يوم 26 يناير/كانون الثاني 1788.

الوضع الصحي للمدانين

كانت معدلات الوفيات في البداية مرتفعة بين أعضاء الأسطول الأول، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى الظروف الصحية السيئة ونقص الغذاء، إذ لم يتمكن المستوطنون من تأمين الغذاء الكافي لهم بسبب قلة أعداد المزارعين المهرة والماشية، لذا كان لا بد لهم من انتظار وصول الأسطول الثاني.

لكن الأسطول الثاني، الذي وصل عام 1790، كان كارثة حقيقية، فقد حمل أعدادا هائلة من المدانين المرضى والمحتضرين، مما أدى إلى تفاقم الوضع الصحي في المستعمرة الجديدة.

وقد عومل المدانون المنقولون إلى المستعمرة الجديدة بشكل لا إنساني، وفرضت عليهم عقوبات ضخمة لا تتناسب مع جرائمهم، كما كانوا يتعرضون لما يشبه الاستعباد خلال فترة قضاء عقوباتهم ولا يمنحون أي حقوق عند انتهاء فترة العقوبة.

عهد ريتشارد بورك

لم يتغير وضع المدانين في نيو ساوث ويلز إلا في عهد السير ريتشارد بورك، وهو الحاكم التاسع للمستعمرة، وقد استلمها ما بين عامي 1831 و1837، وعارض العقوبات المفرطة المفروضة على المدانين، فاستحدث قوانين لتخفيفها، لذلك كانت إدارته مثيرة للجدل لدرجة أن القضاة والمسؤولين في المستعمرة شكوه إلى التاج البريطاني.

الحاكم التاسع للمستعمرات في أستراليا ريتشارد بورك استحدث قوانين لتخفيف عقوبات المدانين (غيتي)

ومع ذلك، استمر بورك في إصلاحاته، وواجه المعاملة اللاإنسانية التي كان يتعرض لها المدانون، ومنح حقوقا للمفرج عنهم مثل السماح بحيازة الممتلكات. وإذا كان المحكوم عليه حسن السلوك، فيمكن منحه تذكرة إجازة، مما يمنحه بعض الحرية.

وفي نهاية مدة عقوبة المحكوم عليهم، وهي 7 سنوات في معظم الحالات، يُمنحون شهادة الحرية، ويخيرون بين أن يصبحوا مستوطنين أو يعودوا إلى بريطانيا.

وبسبب تصرفات بورك ورجال آخرين، ومنهم المحامي الأسترالي المولد ويليام تشارلز وينتورث، عُلّق نقل المدانين إلى نيو ساوث ويلز مع حلول عام 1840، لكن لم يتوقف نقلهم بشكل رسمي إلى هذه المستعمرة حتى أكتوبر/تشرين الأول 1850.

لكن هذا التاريخ ليس تاريخ توقف نقل المدانين بشكل نهائي، فعلى الرغم من أن خليج بوتاني كان الوجهة الأولى للمدانين، فإنهم انتشروا كذلك في العديد من المستعمرات الأخرى التي أنشئت في أستراليا، بما في ذلك تسمانيا وجزيرة نورفولك وخليج بورت فيليب وخليج موريتون ومستوطنة أستراليا الغربية وغيرها.

توقف نقل المدانين إلى المستعمرات الأسترالية

مع تزايد أعداد المستوطنين الأحرار الذين دخلوا نيو ساوث ويلز وتسمانيا بحلول منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ارتفعت الأصوات التي تعارض نقل المجرمين إلى المستعمرات الأسترالية.

فقد جادل المعارضون بأن استمرار نقل المدانين إلى المستعمرات يسهم في نشر الجرائم داخل البلاد، ورأوا أن المدانين ينافسون "العمال الأحرار" في مصدر رزقهم، ومع ذلك دافع بعض أصحاب النفوذ والممتلكات في المستوطنات على عملية نقل المدانين، وذلك لأنهم كانوا يشكلون مصدرا للعمالة المجانية أو المنخفضة الأجر.

لكن في نهاية المطاف أثمرت جهود المستوطنين المعارضين لنقل المدانين إلى المستعمرات، وصدر قرار بوقف نقل المدانين إلى نيو ساوث ويلز عام 1840 بعد أن نقل حوالي 150 ألفا إلى المستعمرة منذ بداية تأسيسها، وتوقف النقل بشكل نهائي عام 1850. أما في وتسمانيا فقد توقف نقل المدانين بشكل مؤقت إلى المستعمرة عام  1846، لكن سرعان ما نشطت حركة النقل مجددا تزامنا مع اكتظاظ السجون البريطانية بالمجرمين.

وبحلول أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر، صُنف معظم المدانين الذين أرسلوا إلى أرض وتسمانيا (إضافة إلى أولئك الذين أرسلوا إلى مستعمرة فيكتوريا) على أنهم "منفيون"، وكانوا أحرارا في العمل مقابل أجر أثناء فترة العقوبة.

آرثر فيليب أول حاكم لمستعمرة خليج بوتاني (مواقع التواصل الاجتماعي)

تشكلت "الرابطة الأسترالية المناهضة للنقل" في عام 1850 للضغط على الحكومة من أجل الوقف الدائم لنقل المدانين إلى المستعمرات، وهكذا توقفت عمليات النقل إلى تسمانيا بحلول عام 1853. لكن استمر نقل المدانين بأعداد صغيرة إلى غرب أستراليا، وقد وصلت آخر سفينة تحمل مدانين من إنجلترا إلى أستراليا الغربية بحلول عام 1868.

إحصائيات

نُقل حوالي 164 ألف مُدان إلى المستعمرات الأسترالية بين عامي 1788 و1868 على متن 806 سفن، وكانوا يتكونون من الإنجليز والويلز (بنسبة 70%) والأيرلنديين (24%) والأسكتلنديين (5%)، وكانت نسبة 1% المتبقية عبارة عن مدانين من البؤر الاستيطانية البريطانية في الهند وكندا، والماوريين من نيوزيلندا، والصينيين من هونغ كونغ، والعبيد من منطقة البحر الكاريبي.

وما بين عامي 1788 و1852، كان هناك حوالي 24 ألفا من المنقولين من النساء، أي واحدة من كل سبع، وقد أُدينت 80% منهن بالسرقة. كما نُقل ما يقرب من 3600 سجين سياسي إلى المستعمرات الأسترالية، وقد وصل الكثير منهم في فترات الاضطرابات السياسية في بريطانيا وأيرلندا.

يذكر أن معظم المدانين بقوا في أستراليا وانضموا إلى "المستوطنين الأحرار" بعد قضائهم فترة عقوباتهم، وارتقى بعضهم إلى مناصب بارزة في المجتمع الأسترالي، ومع ذلك بقيت الإدانة وصمة عار مجتمعية لحقت بأبنائهم وأحفادهم.

لكن مع حلول القرن العشرين بات المجتمع أكثر تقبلا لهم حتى إن بعض الأستراليين الحاليين يشعرون بالفخر إذا اكتشفوا أن أصولهم تعود لأحد المدانين، ويذكر أن نحو 20% من الأستراليين المعاصرين إضافة إلى مليوني بريطاني هم من هذه الأصول.

آخر المدانين المنقولين

يُعتقد أن صموئيل سبيد كان آخر المدانين المنقولين على قيد الحياة. وقد ولد في برمنغهام عام 1841، ونُقل إلى أستراليا الغربية عام 1866 بعد ارتكاب جريمة إشعال النار عمدا في كومة قش.

وأطلق سراحه بشروط عام 1869، وحصل على شهادة الحرية بعد ذلك بعامين. وكان سبيد يعمل في البناء، ولم يدن بأي جرائم أخرى، وتوفي في بيرث عام 1938.

وقد كانت حقبة الإدانة مصدر إلهام للعديد من الكتاب والروائيين، وعلى رأسهم الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، كما درس العديد من الكتاب والمؤرخين تأثير تلك الحقبة على الشخصية الوطنية الأسترالية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: إلى المستعمرة نیو ساوث ویلز فی أسترالیا حلول عام مع حلول

إقرأ أيضاً:

أستراليا تستقبل العام الجديد 2025 بعروض مبهرة تُضيء السماء.

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

شهدت مدينة سيدني في أستراليا احتفالًا مميزًا بمناسبة دخول العام الجديد، حيث أقيم عرض استثنائي للألعاب النارية استمر لأكثر من عشر دقائق، محولًا سماء المدينة إلى لوحة مضيئة بألوان زاهية ومبهرة.

وتم تخصيص ميزانية كبيرة لهذا الحدث، تضمنت كميات هائلة من المواد المستخدمة في العرض.  

وكالعادة، كانت سيدني من بين أولى المدن عالميًا التي ترحب بالعام الجديد، حيث جذبت الاحتفالات عددًا هائلًا من الزوار الذين تجمعوا مبكرًا للحصول على مواقع مميزة لمتابعة العرض.

وتجاوز عدد الحاضرين التوقعات، واصطفت الحشود في الشوارع والمناطق المفتوحة للاستمتاع بهذه المناسبة.  

هذا العام، قدمت الاحتفالات عنصرًا جديدًا وغير مسبوق عبر استخدام طائرات مسيرة لعرض الألعاب النارية، مما أضاف طابعًا تقنيًا فريدًا إلى المشهد.

كما شملت الفعالية استخدام مواقع جديدة للإطلاق من مناطق شهيرة في المدينة، مما زاد من جمال العرض.  

رافق الأضواء الساطعة موسيقى أعدت خصيصًا للحدث، من إبداع فنانة محلية، وقد عزز هذا التناسق بين الموسيقى والألعاب النارية من تجربة المشاهدين، حيث أُطلقت آلاف المفرقعات في نقاط بارزة حول الميناء، لتضفي رونقًا خاصًا على هذه الاحتفالات السنوية التي باتت من أبرز الأحداث في التقويم العالمي.

شهدت مدينة ملبورن الأسترالية أجواءً احتفالية مميزة بمناسبة حلول العام الجديد، حيث تدفق مئات الآلاف من السكان والزوار إلى الشوارع لمتابعة عرض استثنائي من الألعاب النارية وعروض الليزر.

غطى العرض مساحة واسعة تجاوزت عدة كيلومترات مربعة، فيما أُطلقت الألعاب النارية من عشرات المباني الشاهقة التي زينت سماء المدينة بالأضواء والألوان.

مع وصول عقارب الساعة إلى منتصف الليل، ارتفعت صيحات الفرح والتصفيق في جميع أنحاء المدينة، لتعلن بداية عام جديد وسط أجواء مفعمة بالحماسة.

العرض تميز بتناسق بصري وموسيقي، إذ صُممت الموسيقى خصيصًا لهذه المناسبة بالتعاون مع جهات إعلامية محلية، ما أضاف لمسة فنية إلى الاحتفالات.

لم تقتصر الفعالية على الألعاب النارية، بل خطفت عروض الليزر الأنظار، حيث اخترقت أشعتها ذات الألوان الزاهية السماء لتنعكس على واجهات المباني، ما خلق مشهدًا بصريًا أخاذًا.

وكانت محطة شارع فليندرز التاريخية محورًا لهذه الاحتفالات، حيث أضيئت بألوان نابضة بالحياة أضفت طابعًا احتفاليًا ساحرًا.

بهذا العرض الفريد، أكدت ملبورن مجددًا على مكانتها كواحدة من المدن الرائدة في تنظيم احتفالات العام الجديد، ما جعل استقبال العام الجديد في أستراليا تجربة مفعمة بالحيوية والابتكار.

مقالات مشابهة

  • أستراليا تدين حادث الدهس في نيو أورليانز
  • الفئران تغزو مدينة “غلاسكو البريطانية” وتثير الذعر بين السكان
  • عمرها 166 مليون سنة.. اكتشاف آثار أقدام ديناصورات في أوكسفوردشاير البريطانية
  • مطار غامض يتم بناؤه بصورة متسارعة في جزيرة يمنية سوف يهيمن على طرق الملاحة الدولية عبر خليج عدن ومضيق باب المندب
  • تقرير يكشف كواليس قرار مشاركة أستراليا بحرب العراق عام 2003
  • التركة الاستعمارية: عقائدُ صفوية في استثناء السودان من قبل الإنجليز (1-2)
  • الفئران تغزو مدينة غلاسكو البريطانية وتثير الذعر بين السكان
  • أستراليا : ميناء سيدني يتألق بعرض ألعاب نارية استثنائي لاستقبال 2025
  • غياب الاحتفالات برأس السنة في بورتوريكو البريطانية لهذا السبب
  • أستراليا تستقبل العام الجديد 2025 بعروض مبهرة تُضيء السماء.