“الحوثيون” والميليشيات… عسكرة المجتمع ضد قيام الدولة
تاريخ النشر: 22nd, February 2024 GMT
هل أصبحت الدولة في اليمن مطلبا سياسيا واجتماعيا ضروريا وملحا؟ لا يتعلق هذا السؤال باليمن وحده، بل يشمل السودان والعراق وسوريا ولبنان وليبيا. وهذا بعدما انهارت هذه “الدول الوطنية الجمهورية” المستقلة، الناشئة بعد الحقبة الكولونيالية.
بعد نجاح “الثورة” في إيران سنة 1979، واتخاذها من “تصدير الثورة” إلى العالم الإسلامي عقيدة للدولة الجديدة، عملت “دولة الملالي” على استغلال الضعف واضطراب وطنية بعض الدول العربية، بغية “تصدير الثورة” إليها.
استهلت إيران “الخمينية” عملها التخريبي في المشرق العربي بإنشائها “حزب الله” في لبنان سنة 1982، في خضم حروبه الأهلية– الإقليمية بمشاركة أساسية من المنظمات الفلسطينية المسلحة والرئيس حافظ الأسد الذي ساهم بقوة، قبل إيران، في تصديع الدولة اللبنانية والاحتراب الأهلي اللبناني، والأحرى “الملبنن”. وتصدر ذاك الحزب الشيعي وميليشياته تاج إيران التخريبي في الديار المشرقية.
أما في العراق، بعدما غزته أميركا واحتلته سنة 2003، وفي اليمن وسوريا ما بعد “الربيع العربي” بدءا من 2011، فصارت إيران- حسبما تباهى كبار ضباط حرسها “الثوري”- تسيطر على (تحتل) عواصم عربية أربع: بيروت، بغداد، دمشق، وصنعاء، وتتحكم في القرار السياسي والأمني فيها. و”فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”، هو الذي رعى، بقيادة قاسم سليماني، نشأة الميليشيات في بلدان هذه العواصم، وهو من يسلّحها ويدربها ويقودها.
فلسطين ذريعة إيرانية- حوثيةإذا كان لضعف الهويات الوطنية دور متقادم في اضطراب بعض الدول العربية الناشئة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإن قيام دولة إسرائيل في فلسطين المنكوبة بعد هزيمة الجيوش العربية فيها سنة 1948، فاقم الاضطراب في تلك الدول. وهذا ما تجلى في الانقلابات العسكرية وسيطرة نظام الحزب الواحد في كل من مصر وسوريا والعراق، ولاحقا ليبيا والسودان، نسجا على منوال “النظام الناصري” المصري (نسبة إلى الزعيم جمال عبد الناصر).
استغلت إيران الحرب الراهنة في غزة، فجعلتها مطية يمنية حوثية لتعطيل الملاحة الدولية في باب المندب
وأدت نكبة الفلسطينيين ولجوؤهم إلى دول عربية كثيرة، وإنشاؤهم في بعضها منظمات عسكرية لتحرير بلدهم، إلى حروب أهلية: في الأردن (سنة 1970) وفي لبنان (سنة 1969–1982). وسنة 2007 انقلبت حركة “حماس” في غزة على سلطة “منظمة التحرير الفلسطينية” في رام الله بالضفة الغربية.
ومنذ استيلاء الإمام الخميني على السلطة في طهران سنة 1979، جعل من القضية الفلسطينية والعداء لأميركا والغرب، مطيّة مزدوجة لتصدير ثورته إلى دول عربية مشرقية أنهكنها تبعات القضية عينها: لبنان الممزق بحرب أهلية منذ 1975، وبنشوء “حزب الله” فيه. وبعده العراق الذي غزته أميركا واحتلته سنة 2003، وظهر فيه تنظيم “داعش” سنة 2014. وهكذا جعلت إيران بقيادة “المرشد” علي خامنئي و”الحرس الثوري” عداءها لأميركا مطيّة أخرى جديدة لسيطرة ميليشيات شيعية عراقية تابعة لها على قرارات أساسية في الدولة العراقية.
وها هي ميليشيا “أنصار الله” الحوثية الزيدية المنقلبة إلى اثنى عشرية في دعوتها السياسية العقائدية الموالية لإيران، تسيطر على العاصمة اليمنية صنعاء منذ سنة 2014. واستغلت إيران الحرب الراهنة في غزة، فجعلتها مطيّة يمنية حوثية لتعطيل الملاحة البحرية الدولية في مضيق باب المندب، مدخل البحر الأحمر وقناة السويس. وهذا لهدف إيراني صرف يخدم طهران في نزاعها ومفاوضاتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وذكر موقع “المشهد اليمني” الإلكتروني (4 يناير/كانون الثاني 2024) أن الميليشيات الحوثية ضاعفت حملات التحشيد والتجنيد من معقلها في صعدة وحتى صنعاء، تحت عنوان القتال في فلسطين. لكن هدف هذه الحملات الحقيقي والفعلي أن يظل اليمن أرضا ومجتمعا “دار حرب” داخلية دائمة تحول دون قيام مجتمع عادي أو طبيعي غير منقسم عموديا، ودون قيام دولة موحدة فيه.
ومن مظاهر “النفير الحوثي” قيام عناصر من “أنصار الله” بجولات على كبار التجار في صنعاء لإجبارهم على التبرُّع بقسط من أموالهم للقتال في فلسطين، أي للحركة الحوثية التي أصبح نفر من قادتها من كبار الأثرياء في اليمن، أولئك الذين لا يتركون مصيبة تنزل بأي من البلدان من دون تحويلها إلى فرصة يستفيدون منها. وهذا ما يفعلونه حين يجندون جماعات من الأفارقة الفارين من الحرب والتصحر والجوع في بلادهم، لزجهم في حروب اليمن الداخلية.
وليكتمل مشهد استعمال الحرب في غزة مطية حوثية- إيرانية، عمدت ميليشيا “أنصار الله” إلى تزوير صور بأسماء مقاتلين تابعين لها، مدعية أنهم “شهداء سقطوا في فلسطين”. وقد بيّنت استطلاعات موقع “المشهد اليمني” الصحافية أن أصحاب تلك الصور ما زالوا أحياء يرزقون في ديارهم.
ماذا تريد الحركة الحوثية الميليشياوية من هذا كله؟
ليس أقل من السيطرة على اليمن بتحويله إلى قاعدة عسكرية إقليمية في خدمة المصالح القومية والدولية لدولة الولي الفقيه الإيرانية. وهي لذلك تعمل دائبة على منع قيام دولة يمنية وطنية مستقلة وقادرة على رعاية مصالح اليمنيين في أطيافهم الاجتماعية المتنوعة.
الحركة الحوثية تمنع قيام دولة يمنية مستقلة وقادرة على رعاية مصالح اليمنيين بأطيافهم المتنوعة
وهناك من الخبراء الدوليين في الشؤون اليمنية من يقول إن الرعاية الإيرانية مكّنت “الحوثيين” من إقامة نظام ميليشياوي شبه توتاليتاري في اليمن الشمالي. وبعضهم يشبهه بنظام كوريا الشمالية، لكن بلا قنبلة نووية. أي قوة منعزلة وعدوانية، مسلحة تسليحا جيدا، وتمتلك قدرات عسكرية فاعلة من الصواريخ والطائرات دون طيار والمروحيات. وهذه الخصائص- إضافة إلى العقيدة الدينية الحربية المتطرفة، وإلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي الدولي والصلة العضوية بإيران- جعلت من القوة الحوثية قاعدة إيرانية “جنوبية” (باعتبار “حزب الله” في لبنان قاعدة إيرانية شمالية) معادية لأميركا والغرب ودول الخليج العربية.
لكن هل للولايات المتحدة- بوصفها القوة العالمية العظمى، وحسب الخبراء الدوليين إياهم- خطة واضحة حول كيفية ردع “الحوثيين” عن تكرار اعتداءاتهم على الممرات العالمية وزعزعة طرق الملاحة البحرية الدولية في البحر الأحمر بعد الضربات التي وجهتها لقواعدهم ردا على تعكير خطوط الإمداد الدولية في باب المندب؟ يشير الخبراء أيضا إلى ضرورة أن تعزز واشنطن دعمها للقوى غير الحوثية في اليمن. وذلك لضمان عدم تمكّن ميليشياتهم من اجتياح مناطق يمنية أخرى، وخصوصا مأرب الغنية بالنفط والغاز، وحيث قامت في الأيام الأولى من هذا العام احتجاجات على ارتفاع أسعار الوقود، فعملت السعودية على احتوائها خشية تحولها إلى مواجهات بين مسلحين قبليين في مأرب الخاضعة للحكومة اليمنية الشرعية التي تقاوم الميليشيات الحوثية الراغبة في التمدد إليها.
ما تحاوله وتريده الميليشيات الحوثية التي انقلبت على الدولة اليمنية، بتسليحٍ وتدريب إيرانيين، هو تحويل ما تسيطر عليه من مناطق اليمن وسواها الراغبة في التمدد إليها بالقوة العسكرية، إلى نظام راسخ الجذور في المجتمع ليصبح مجتمع حرب دائمة ضد قيام دولة ومؤسسات وحياة سياسية يمنية متوائمة ومستقلة في إطارها.
أنشأ “الحوثيون” مؤسسات موازية للسيطرة على المجتمع الأهلي. فجندوا الأطفال للالتحاق بنظام الميليشيا
ومجتمع الحرب الحوثي، الذي تشكّل محافظة صعدة الشمالية نواته بكونها موطن قبائل جبلية محاربة، تمدّدت نواته تلك إلى محافظات شمالية كثيرة وصولا إلى صنعاء. وقوام مجتمع الحرب ذاك، بثُّ الدعوة العقائدية الدينية الحوثية في نسيج المجتمع وعلاقاته ومؤسساته الأهلية. وذلك للسيطرة عليه عرفيا، وجعله مجتمعا غير سياسي (أي شبه توتاليتاري) تتسلط عليه ميليشيا منظمة تنشر ثقافة ونمط حياة يوهمان الناس بأن لا ضرورة للدولة التي تنظم المجتمع وتجعله مجتمعا سياسيا، بناء على دستور وقوانين تتيح تداول السلطة وتصريف الخلافات والنزاعات والحؤول دون تحولها حربا أهلية.
وفي المناطق التي سيطرت عليها منذ عام 2014، دأبت الحركة الحوثية (على غرار “حركة طالبان” الأفغانية) على إنشاء مؤسسات اجتماعية أمنية مثالها نظام الميليشيات العسكرية وعقيدته. فإلى سيطرتها على جهاز القضاء وسواه من أجهزة ومؤسسات الدولة السابقة، أنشأ “الحوثيون” مؤسسات موازية للسيطرة على المجتمع الأهلي. فجنّدوا الأطفال وتلاميذ المدارس لإعدادهم كي يكونوا مؤهلين للالتحاق بنظام الميليشيا. ومن ثم أنشأوا للنساء جهاز “الزينبيات”. وهو جهاز شبه أمني يراقب النساء على غرار شرطة الآداب في إيران. ومنذ أكثر من سنة أدخلت الميليشيات الحوثية تعديلات أساسية على المناهج التعليمية في مدارس المحافظات اليمنية التي تسيطر عليها. وهدف هذه التعديلات التربوية تنشئة التلاميذ على ثقافة وقيم جديدة تلائم العقيدة الدينية الشمولية للحركة الحوثية، وتغذي الكراهية والعنف. وقد أشرف على ذلك يحيى الحوثي، شقيق زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، والذي شكل هيئات ولجانا أصدرت توصيات وبرامج بغية تطبيقها في قطاع التعليم، خدمة لمشروع الميليشيا.
نشأة الحركة الحوثيةنشأت الحركة الحوثية عما سمّي “منتدى الشباب المؤمن” الذي تأسس سنة 1992 في صعدة، موطن أكبر تجمعات المذهب الزيدي. وذلك بذريعة الحفاظ على المذهب، بعدما أقدم الشيخ مقبل الوادعي على إطلاق دعوة دينية سلفية في دماج القريبة من صعدة. وفي طريق زحفهم إلى صنعاء سنة 2014، دمّر “الحوثيون” “دار الحديث” التي كان يرأسها الشيخ يحيى الحجوري بدماج.
قبل ذلك، كانت “حركة الشباب الزيدية” قد تحولت إلى “حزب الحق” كممثل سياسي لأهل المذهب، ففاز حسين بدر الدين الحوثي (1960- 2004) في الانتخابات البرلمانية. لكنه تخلى عن النيابة لاحقا وانصرف إلى تأسيس مدارس دعوية دينية للمذهب. وهذا بعدما رحل ووالده بدر الدين إلى إيران ولبنان، فاتصلا بالملالي الإيرانيين وبمشايخ “حزب الله” قبل أن يتحصل حسين الحوثي على شهادة في العلوم الشرعية في السودان.
الدعوة الحوثية تستقطب قبائل وجمهورا من محاربي الجماعة الزيدية، وتريد التغلب بالعصبية الحربية على اليمن وحكمه
ويرى باحث يمني أن الدعوة الحوثية تستقطب قبائل وجمهورا من محاربي الجماعة الزيدية. وهي تريد التغلب بالعصبية الحربية والسيطرة على اليمن وحكمه، رغم أنها أقلية في المذهب الزيدي نفسه. وهي تعتمد- إضافة إلى العصبية الحربية- على المدد والمال الإيرانيين، كحال “حزب الله” في لبنان.
دولة الوحدة وتفككهالكن الحركة الحوثية لم يكتب لها النجاح العسكري لولا التشققات العميقة والتاريخية الضاربة الجذور في المجتمع والدولة اليمنيين وتحولاتهما. فتاريخ الشمال الإمامي الزيدي، مختلف عن تاريخ الجنوب الذي كان محمية بريطانية في عدن، قبل تحرره وتحوله إلى دولة نظامها اشتراكي ماركسي تابع للاتحاد السوفياتي. هذا فيما تحول الشمال إلى جمهورية سنة 1964. وكان أن نشبت حروب أهلية في كلا اليمنين الشمالي والجنوبي، أدت في مطلع التسعينات إلى وحدة قاهرة للجنوب برئاسة علي عبدالله صالح، قبل أن تنشب حرب طاحنة بين الشمال والجنوب سنة 1994، ليستمر حكم صالح مديدا في طغيانه حتى عام 2011.
في ذاك العام، وفي إطار “الربيع العربي”، أطلق الشبان اليمنيون ثورتهم على نظام بلادهم القهري، فخرجوا إلى الساحات العامة لإسقاطه. لكن القوى والجماعات اليمنية المتباينة والتي تبيّت الثارات والعداوات في ما بينها، سرعان ما قفزت إلى ساحات التغيير لممارسة ثاراتها وعداواتها:
– “حزب الإصلاح الإسلامي” الإخواني، وتحالفه مع الفريق علي محسن الأحمر، لمنع الرئيس علي عبدالله صالح من توريث الحكم لنجله، ولممارسة عداوته لـ”الحوثيين” ولحركة الشبان المستقلين الثائرين.
– الحركة الحوثية بثاراتها ضد نظام صالح والأحمر وحزب الإصلاح.
– “الحراك الجنوبي” الذي انتفض وسار جمهوره من عدن إلى صنعاء للخلاص من حكم الشمال القهري والتسلطي.
– هناك أيضا الشقاقات والثارات القبلية والجهوية القوية الحضور في المجتمع والدولة في اليمن.
– والرئيس علي عبدالله صالح المعزول من سدة الرئاسة، ظل نفوذه قويا في الجيش ومؤسسات الدولة والتركيبات والولاءات القبلية، ويتحيّن الفرص لاستعادة سلطته.
– حالف صالح الحركة الحوثية بعدما شن عليها 6 حملات عسكرية (2004-2009)، وبعدما مكّنها انقلابها على مخرجات الحوار الوطني من الزحف الميليشياوي من صعدة إلى صنعاء. وقد حالفها صالح لظنه أنه يستخدمها للعودة إلى الحكم. لكن الحوثيين هم من استخدموه وبادروا إلى قتله سنة 2017.
وهكذا تفككت الدولة اليمنية، فملأت الحركة والميليشيا الحوثيتان– بدعم إيراني- الفراغ الذي نشأ عن ذاك التفكك.
في إطار “الربيع العربي”، أطلق الشبان اليمنيون ثورتهم على نظام بلادهم القهري، فخرجوا إلى الساحات العامة لإسقاطه
تعدد قوى الشرعية الحكومية
يشكل “الحوثيون” ومن خلفهم إيران، العامل الأول والأساسي الذي يحول دون إعادة تكوين الدولة وقيامها في اليمن. لكن القوى التي تجابه المشروع الحوثي وتقاومه، ممثلة في الحكومة الشرعية اليمنية المتخذة من عدن عاصمة مؤقتة لها في الجنوب، غير موحدة عمليا وعلى الأرض، رغم التقائها تحت مظلة الشرعية الحكومية، ورغم عمل التحالف العربي بقيادة السعودية على دعمها وتوحيدها.
ويرى باحث يمني أن القوى والميليشيات المناوئة للحوثيين، والمندرجة في إطار الشرعية، تتصدّرها قيادات وزعامات متعددة الولاءات والأهداف والانتماءات القبلية والجهوية والمناطقية. وهذا يترك آثاره السلبية على مجابهتها ميليشيا الحوثي.
واتخذ الباحث إياه مدينة تعز ومحافظتها مثالا على ذلك. فتعز المدينة يتوسطها خط تماس حربي، وتسيطر الميليشيا الحوثية على شطر منها. أما الشطر الآخر من المدينة فتسيطر عليه ميليشيات وقوى عسكرية عدة. منها “كتائب أبو العباس”، وهي خليط من السلفيين والقوميين اليمنيين. هذا إضافة إلى ميليشيا “حزب الإصلاح” الإخواني. والحال هذه- أي تعدد القوى والميليشيات التي تجابه “الحوثيين” وتقاومهم- تشمل أيضا مأرب والحديدة التي للميليشيا الحوثية حضور وسيطرة على بعض أجزائها.
وكان الجيش اليمني الموحد- يعود تأسيسه إلى ما بعد حرب التوحيد القسري بين الشمال والجنوب سنة 1994- قد انقسم أثناء زحف “الحوثيين” على صنعاء واحتلالها سنة 2014. وفي عام 2015 أُعيد تأسيس الجيش الوطني الحكومي اليمني التابع للشرعية، غداة انطلاق عمليات “التحالف العربي” في اليمن. وقد أُدمِجت في هذا الجيش قوات “المقاومة الشعبية” التي جابهت وتجابه “الحوثيين”. أما القوات التي يقودها طارق صالح، ابن شقيق علي عبدالله صالح، فقد التحقت لاحقا بهذا الجيش، بعد قتل “الحوثيين” عمه سنة 2017. وتتمركز قواته في شطر من الحديدة وفي مدينة المخا التي أنشأ فيها مطارا. ويتولى طارق صالح منصب نائب رئيس “مجلس الرئاسة اليمني” المكون من 7 أعضاء يعتبر كل منهم نائبا للرئيس رشاد العليمي.
وللولاءات القبلية والمناطقية والجهوية حضورها القديم الضارب الجذور في اليمن المجتمع والدولة. وانقلاب “الحوثيين” على الشرعية اليمنية وشنهم الحرب عليها واحتلالهم صنعاء، أديا إلى مفاقمة الولاءات والانقسامات. ومن الصعب اليوم، في ظل الوضع المعقد القائم في اليمن، التخلص منها. وإذا كانت القبائل اليمنية منقسمة في ولائها بين “الحوثيين” وقوات الشرعية الحكومية، فإن القوات التي تجابه “الحوثيين” تخضع لتوجيهات وولاءات عدة، قبلية ومناطقية وجهوية. فعلى سبيل المثال، وحسبما ورد في موقع “المشهد اليمني” (27 ديسمبر/كانون الأول 2023) التقى قائد “الحراك التهامي”، و”المقاومة التهامية” (نسبة إلى تهامة) السفيرة الفرنسية في اليمن، وتحدث عن “مظلومية شعب تهامة، وحقه في إدارة شؤونه بنفسه، لتحقيق العدالة والحرية والعيش الكريم”.
ويرى الباحث الفرنسي الخبير في الشؤون اليمنية، فرنك مرمييه، أن اليمن المنقسم اليوم بين حكومة شرعية معترف بها دوليا، وسلطة ميليشيا حوثية تناوئ قيام الدولة اليمنية الموحدة، يعاني من انقسامات شديدة التعقيد. فهناك معاقل وحصون كثيرة نشأت بعد الانقلاب والحرب الحوثيين اللذين فككا الدولة والمجتمع. فالميليشيا الحوثية تسيطر على ثلاثة أرباع سكان اليمن سيطرة عسكرية عرفية غاشمة، وصولا إلى الحديدة ومينائها على البحر الأحمر. وهناك الجنوب ومساحته الكبرى، لكنه لا يضم سوى 7 ملايين نسمة من إجمالي عدد سكان اليمن البالغ 27 مليون نسمة. أما تعز في الوسط، فهي مركز لـ”حزب الإصلاح الإسلامي” الإخواني، لكنها مدينة محاصرة ومدمّرة. هذا فيما يتمركز في مدينة المخا ومينائها ابن أخ علي عبدالله صالح الذي أسس هناك حزبا جديدا.
الجيش اليمني الموحد انقسم أثناء زحف “الحوثيين” على صنعاء واحتلالها سنة 2014
وفي الجنوب هناك حضرموت التي لديها هوية خاصة ونازع استقلالي عن محيطها الذي يضخ من يافع والضالع مقاتلي “المجلس الانتقالي الجنوبي” في عدن. وهناك مأرب التي كانت تابعة للشمال، محافظة ومدينة، وتقع على حدود حضرموت، وحيث ثروة اليمن من النفط والغاز، ولا تزال مأرب تقاوم “الحوثيين” مقاومة عنيفة وشرسة. وبعدما كان عدد سكانها 50 ألف نسمة، صار اليوم مليون نسمة، بسبب تدفق اللاجئين إليها من صنعاء وسائر المحافظات المجاورة. وقد تمكّن أحد مشايخ قبائلها النافذة، وهو سلطان عرادة، من تكوين ميليشيا قبلية وتعبئة القبائل الأخرى في جبهة متعددة الأطراف ضد “الحوثيين”، وإلى جانب جيش الشرعية.
هذه الشروخ والمعاقل والحصون قد تزول في حال البدء بإعادة تكوين الدولة وتوحيدها في اليمن. لكن المتمردين الحوثيين، ومجتمع الحرب الدائمة الذي أنشأوه، بغية حكمهم اليمن واحتلاله احتلالا داخليا، هما العقبة الكبرى في وجه ذلك المسار الصعب والطويل.
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الحوثيون اليمن باب المندب عسكرة المجتمع كتابات المیلیشیات الحوثیة علی عبدالله صالح الحرکة الحوثیة میلیشیا الحوثی حزب الإصلاح الدولیة فی قیام دولة فی فلسطین إلى صنعاء حزب الله فی لبنان فی الیمن سنة 2014 فی غزة
إقرأ أيضاً:
ما بعد “قازان”: ما الذي يحتاجه “بريكس” ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟
منذ أن تأسس تجمع “بريكس” عام 2006 من قِبل البرازيل وروسيا والهند والصين، وانضمام جنوب إفريقيا إليه عام 2011، ثم انضمام دولة الإمارات ومصر وإثيوبيا وإيران في أول يناير 2024، استطاع لفت الأنظار إليه كرمز لنظام دولي جديد متعدد الأقطاب أكثر تنوعاً وعدلاً، وكبديل يسعى لتعزيز التنوع والمساواة في صنع القرار العالمي.
وتحت شعار “تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين”، ومشاركة ممثلي 32 دولة بينها 24 على مستوى رئاسي، وقيادات ست منظمات دولية؛ عقد رؤساء دول “بريكس+” قمتهم الـ16 في مدينة قازان عاصمة جمهورية تتارستان الروسية، وهي القمة الأولى بعد توسعة هذا التجمع؛ لتُلخص نتائج رئاسة روسيا له، والتي حددت أولوياتها في السياسة والأمن، والتعاون في الاقتصاد والتمويل، والتبادلات الإنسانية والثقافية.
وهدفت قمة قازان، التي عُقدت في الفترة من 22 إلى 24 أكتوبر 2024، إلى كتابة فصل جديد يُعزز التأثير المتنامي لـ”بريكس” في الساحة العالمية؛ وهو ما برز في الموضوعات التي ناقشتها القمة، وحجم الوفود المشاركة، وكذلك مشاركة أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة.
مخرجات القمة:
على الرغم من تركيز قمة قازان على القضايا الاقتصادية، ومشكلات الطاقة، ومكافحة الفقر والإرهاب، وضمان التنمية المستدامة للأمن الغذائي؛ فإنها لم تغفل عمّا تشهده الساحة العالمية من حروب وتحديات، وفي صدارتها الحرب الروسية الأوكرانية، وتصعيد ماكينة الحرب الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط. وقد تضمن البيان الختامي للقمة 134 بنداً تشمل جوانب متعددة، منها الآتي:
– ضرورة إصلاح المؤسسات الدولية مثل: الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ لتصبح أكثر تمثيلاً وفعالية، مع تعزيز دور الدول النامية في اتخاذ القرارات الدولية.
– أهمية احترام مبادئ تعدد الأقطاب في العلاقات الدولية، والتعاون في مواجهة التحديات العالمية.
– التركيز على تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، وعلى الحاجة لتقديم التمويل اللازم من الدول المتقدمة للدول النامية.
– تعزيز نظام منع الانتشار النووي، وإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، مع الدعوة لتجديد جميع الأطراف للاتفاق النووي الإيراني.
– الموافقة المبدئية على قبول 10 دول جديدة، مع استطلاع رأي الدول الأعضاء قبل الموافقة النهائية، واستحداث فئة “الدول الشريكة”، في ظل إبداء 30 دولة اهتمامها بالانضمام إلى “بريكس”.
– تعزيز التعاون بين دول “بريكس” في المجالات الاقتصادية والمالية، وتطوير المشروعات المشتركة، وتشجيع استخدام العملات المحلية، والعمل على إنشاء بنك التنمية الجديد ليصبح بنكاً تنموياً متعدد الأطراف.
– تدشين منصة مالية جديدة هي “بريكس كلير”؛ بهدف معالجة التضخم ودعم الاقتصاد الوطني لدول التجمع، إلى جانب بورصة للحبوب، ودراسة إنشاء منصة نقل موحدة لضمان الخدمات اللوجستية المتعددة الوسائط بين بلدان التجمع.
– الإعراب عن القلق إزاء تدهور الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والدعوة إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار في قطاع غزة، والإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن والمحتجزين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتأييد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وانضمام دولة فلسطين المستقلة إلى الأمم المتحدة. كما أبدت الدول الأعضاء انزعاجها من الوضع في جنوب لبنان، ودعت إلى الوقف الفوري للأعمال العسكرية والحفاظ على سيادة لبنان وسلامة أراضيه، والالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، فضلاً عن الدعوة لحل الصراع الروسي الأوكراني بالطرق السلمية.
مستقبل “بريكس”:
أبرزت قمة قازان مجموعة من العوامل التي قد تُشكل مستقبل تجمع “بريكس”، والتي يمكن تقييمها على النحو التالي:
1- محفزات:
أ- سياسية:
– اهتزاز الثقة في النظام العالمي الراهن بشقيه السياسي والاقتصادي، في الوقت الذي تبحث فيه الدول النامية عن فضاء أفضل وأكثر مصداقية لتمويل برامجها الاقتصادية والتنموية.
– نظرة دول الجنوب العالمي (تمثل 85% من سكان العالم، و40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي) لتجمع “بريكس” باعتباره منصة مهمة لإيصال أصواتها؛ إذ بدا وكأنه واجهة براقة لدول الجنوب لتحظى بتمثيل أكبر على الساحة الدولية، ومناقشة قضاياها، وزاد من وعي هذه الدول بأهمية تعميق تعاونها بشكل يتوافق مع مشاغلها وأولوياتها ضمن هيكل عالمي أكثر إنصافاً وشفافية وشمولية.
– تشكيل وجود روسيا والصين عنصر قوة للتكتل؛ إذ تُمثل موسكو قوة سياسية وعسكرية ومصدراً أساسياً للسلاح، فيما أضحت بكين قطباً اقتصادياً وتكنولوجياً مهماً.
– قدرة “بريكس” على إذابة التناقضات التي تسود علاقات العديد من الدول، مثل: مصر وإثيوبيا، والصين والهند.
– احتمالية أن يساعد “بريكس” على إحداث توازن دولي يؤدي إلى تهدئة أجواء الصراعات العالمية.
– توسعة “بريكس” يمكن أن تؤدي إلى زيادة نفوذه الجيوسياسي والاقتصادي، وتمنحه تنوعاً أكبر في الموارد والأسواق.
ب- اقتصادية:
– يُمثل تجمع “بريكس” 33.9% من إجمالي مساحة اليابسة، و45% من سكان العالم. ويبلغ حجم اقتصاد التجمع 29 تريليون دولار (30% من الناتج الاقتصادي العالمي)، وتستحوذ دوله على 25% من صادرات العالم، وتُنتج نحو 35% من الحبوب عالمياً، وتتحكم في أكثر من 50% من احتياطي الذهب والعملات.
– تكملة اقتصادات دول “بريكس” بعضها؛ إذ تُعد مصدراً للغاز والنفط والمعادن والتكنولوجيا والثروات الزراعية والإمكانات العسكرية.
– امتلاك “بريكس” مجموعة من المؤسسات المالية، منها “بنك التنمية الجديد” لتمويل مشروعات البنية التحتية والتنمية في الدول الأعضاء، والذي سيُقلل من الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية، و”صندوق احتياط نقدي” لدعم الدول على سداد ديونها.
– زيادة التبادل التجاري بين دول “بريكس” بعملات محلية سيُقلل من الاعتماد على الدولار الأمريكي، وسيُعزز استقلالية التكتل.
– المساهمة في تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول الجنوب؛ مما يُسهم في نموها وتطورها. وتشير التقديرات إلى أن تنفيذ منظومة الدفع المتكامل يمكن أن يُعزز التجارة بين أعضاء “بريكس” بنسبة تتراوح بين 5% و7%.
ج- جغرافية:
– عدم انتماء دول “بريكس” إلى الحضارة الغربية، وليس لها ماضٍ استعماري؛ بل تنتمي إلى دول الجنوب، وهي تُشكل مزيجاً من حضارات مختلفة.
– انتشار الأعضاء الجغرافي يُمكن أن يُعزز مرونة التكتل في مواجهة التحديات العالمية، وقد يزيد قدرة “بريكس” على التأثير داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
2- تحديات:
أ- سياسية:
– غياب أمانة عامة لإدارة وتنسيق أنشطة “بريكس”، أو مؤسسات وهياكل تنظيمية.
– الخلافات والتوترات بين بعض دول التكتل، منها: الصين والهند، ومصر وإثيوبيا، والسعودية وإيران.
– الصراعات الداخلية والأزمات الحادة التي تشهدها بعض بلدان التكتل.
– التنافس القائم بين بعض دول “بريكس” مع الولايات المتحدة (روسيا والصين)، في مقابل دول أخرى ترتبط بعلاقات وطيدة مع واشنطن (الهند)، وعدم رغبة البعض الآخر في الدخول في مواجهة مع أقطاب النظام العالمي الراهن والمؤسسات الغربية.
ب- اقتصادية:
– امتلاك دول “بريكس” أنظمة اقتصادية ذات أحجام متفاوتة وأسعار عملات متباينة؛ وهو ما ينعكس على اختلاف تصوراتها حيال القضايا الاقتصادية والتجارية والتمويل.
– التنافس الاقتصادي والتجاري بين بعض دول التكتل، خاصةً بين الصين والهند.
– التخوف من هيمنة بكين على التكتل، ومن سياسات الإغراق وغياب التنسيق في الأسواق؛ فالصين تُمثل 69% من إجمالي الناتج المحلي لـ”بريكس”، وهو أكثر من ضعف حجم جميع الأعضاء الآخرين مجتمعين.
– عدم امتلاك “بريكس” أو مؤسساته المالية التمويل اللازم لمنح قروض كبيرة أو إخراج الدول من أزماتها الاقتصادية.
– بالرغم من سياسة التعامل بالعملات الوطنية، يُعد القضاء على هيمنة الدولار الأمريكي أمراً صعباً لعدة أسباب؛ أولها، استمرار هيمنة الدولار في النظام التجاري (80% من حجم التجارة العالمية) والمصرفي العالمي. وثانيها، اعتبار الدولار مخزوناً للمدخرات والقيم المالية واحتياطيات البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم. وثالثها، تمتع غالبية دول “بريكس” بعلاقات اقتصادية وثيقة مع الدول الغربية؛ ومن ثم يصعب عليها التخلي الكامل عن استخدام الدولار.
ج- جغرافية:
– غياب الرابط الجغرافي والثقافي بين دول “بريكس”.
– تحفظ بعض الدول على انضمام دول جديدة، والمطالبة بتحديد معايير وشروط واضحة، خاصةً أن التوسع ربما يؤثر في تماسك التكتل ويُبطئ التقدم في عملية صُنع القرار في كتلة يتم فيها اتخاذ القرارات بالإجماع، وفي ظل وجود اختلافات في المصالح بين الدول الأعضاء.
ماذا يحتاج “بريكس”؟
يُعد تجمع “بريكس” إحدى أهم المنصات لتحويل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب أكثر عدالة، لكن هذا التحول ربما يتطلب ما يلي:
1- أن تكون هناك أيديولوجيا أو سياسة واضحة تتفق عليها جميع الدول الأعضاء، بما في ذلك قبول الأعضاء الجدد.
2- أهمية التفكير بجدية في فكرة العملة الموحدة التي تجمع دول “بريكس”، وفي إنشاء عملة رقمية ونظام مالي مبتكر بعيداً عن تأثير النظام العالمي القائم.
3- التعاون المشترك بين دول التجمع في مواجهة الأزمات التي تؤثر سلباً في الاقتصاد العالمي والنظام الغذائي؛ وإلا سيظل “بريكس” كياناً ضعيفاً.
4- يتطلب نجاح “بريكس” التعاون من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي داخل الدول الأعضاء.
5- تنفيذ إصلاحات هيكلية في بعض الاقتصادات الوطنية من أجل تعزيز قدرة دول “بريكس” على المنافسة العالمية.
6- التركيز على التعاون في مجالات مثل: الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة؛ بما يزيد من قدرة “بريكس” التنافسية.
ختاماً، قد تكون التحديات التي تواجه تجمع “بريكس” كبيرة، لكن الفرص والإمكانات المتاحة أكبر؛ إذا تم استغلالها بالشكل الصحيح، فمستقبل “بريكس” واعد، وهذا يتطلب تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي وتضافر الجهود من قِبل الدول الأعضاء لتحقيق أهدافه الطموحة؛ من أجل أن يصبح “بريكس” قوة مؤثرة في تشكيل مستقبل النظام العالمي.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”