احتلال فلسطين هو آخر استعمار.. بعد الجزائر
تاريخ النشر: 22nd, February 2024 GMT
منذ السابع من أكتوبر 2023 لا تسمع في إعلام المحتل وإعلام حلفائه كلمة (احتلال أو استعمار!).. وهذا التحيل العنصري الواسع مستمر منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1947 بإنشاء كيان يهودي (كما سماه اللورد بلفور) وزير خارجية بريطانيا عام 1917 ولم يكتب مصطلح (دولة إسرائيلية).. وحتى عندما اعترف القانون الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة بأن حالة فلسطين هي حالة استعمار شعب لشعب آخر، بدأت عملية تعويض القانون الدولي بقانون أمريكي أصبح هو الذي يقرر "الحقوق" ويعلن الحدود ويسن العقوبات.
وهكذا في كنف نظام استعماري جديد نعتوه بالعالمي نكتشف أن سبيل المقاومة للمحتل يبقى فرض عين على أمتنا شعوبا وحكومات مع الإلحاح على أن فلسطين ترزح تحت نير آخر استعمار في العالم!
وعنوان مقالي هذا هو ما قاله الزعيم بورقيبة في خطابه الشهير في مخيم أريحا الفلسطيني يوم 5 مارس 1965 حين دعا فيه اللاجئين تحت الخيام إلى تغيير أساليب مقاومتهم لما سماه بورقيبة "آخر استعمار بعد تحرير الجزائر".. وكان الزعيم التونسي متأثرا بأوضاع الفلسطينيين ويعتبرها نتيجة السياسات الناصرية والبعثية الشعبوية التي تحركها الحماسة ولكن تفتقد إلى عقل ومنطق وتخطيط..
ثم تحولت سياسات جامعة الدول العربية منذ أمينها العام المؤسس عبد الرحمن عزام باشا إلى أمينها العام الراهن إلى ظاهرة صوتية وجعجعة بلا طحن والزعيم بورقيبة الذي قارع الاستعمار الغاشم على مدى أربعين عاما أخذ في الاعتبار دائما واقع اختلال توازن القوى. المهم لدينا نحن العرب ألا نظل غافلين مغفلين بينما يشتد بأس اليمين العنصري المتطرف ضد فلسطين كما هو شأن حكومة نتنياهو المتحالفة مع العنصري بن غفير والأحزاب اللاهوتية.
تقول أخبار غزة هذه الأيام: "وبحسب حصيلة أعدتها وكالة فرانس برس: قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 30 ألف شهيدا منذ طوفان الأقصى وإصابة 70 ألف نصفهم من الأطفال الأبرياء والحرائر في بيوتهن والشيوخ والمرضى في المشافي مع بلوغ عدد الصحفيين الضحايا 130 وهو يفوق بضعفين عدد ضحايا الصحافة خلال الحرب العالمية الثانية!! كما قتل المحتلون 170 من موظفي الأونروا و140 من الأطباء والممرضين والمسعفين!
ورفع العنصريون وأعداء فلسطين والإسلام شعارات تزوير مفادها أن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"! يعني أننا كما تكهن بورقيبة منذ 60 سنة نصارع استعمارا يعتبر الأخير في العالم! أو اعتقدنا أنه الأخير!
وفي قلب أحداث المقاومة المشروعة التي تعصف هذه الأيام في أرض فلسطين سطع الأمل بميلاد حركات مقاومة جديدة لم يتعود عليها الاستعمار غير الشرعي، يحضرني أكثر من أي وقت مضى مثال تحرير الجزائر العربية المسلمة من طاغوت استعمار استيطاني أوحش وأخطر من أي استعمار! وكأن أحداث فلسطين اليوم هي ما كنا نتابعه على أمواج إذاعة (صوت الجزائر) من تونس أعوام 1956 وما بعدها.. وكان الزعيم بورقيبة قال في (مارس) 1965 بأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو واقع استعماري وأنه آخر استعمار في التاريخ الحديث..
في قلب أحداث المقاومة المشروعة التي تعصف هذه الأيام في أرض فلسطين سطع الأمل بميلاد حركات مقاومة جديدة لم يتعود عليها الاستعمار غير الشرعيثم إن الاعتبار بالتاريخ القريب أمر ضروري ونحن نعيش مخاض الحرية وصحوة الإسلام في فلسطين لأن التاريخ قدم لنا النموذج الجزائري وهو مثال حي قائم أمامنا، فالجزائر استقلت عام 1962 بعد ثورة شعبية عارمة تفاعل معها جيلي وآمن بها وتعلق بنصرتها وعاشها بتفاصيلها يوما بيوم على الأنغام الرجولية الصامدة لنشيد الثورة الذي كتبه المرحوم الشاعر مفدي زكرياء: "قسما بالصاعقات الماحقات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا الله أكبر فوق كيد المعتدي… الخ".
ما أشبه الجزائر بفلسطين وما أشبه ثورتها الراهنة بأحداث مماثلة عاشتها شوارع القصبة وشارع ديدوش مراد وعنابة ووهران وجبال الأوراس..
لكن وجه الاختلاف واضح في التعامل العربي الإسلامي مع الثورة. فالجزائر ابتليت باستعمار استيطاني عنصري فرنسي عام 1830 وقام فيها الأمير الشاعر عبد القادر مثلما قام في فلسطين الشيخ المجاهد الشهيد عز الدين القسام لأن الجزائر بعكس تونس والمغرب اللتين كانتا "محميتين" حسب مصطلحات فرضها الاستعمار الدموي عليهما ربما لإيهام الشعبين بأنهما "تحت حماية فرنسا" وكأنهما نصف مستقلتين.. وندرك اليوم في سنة 2024 أن فرية (الاستعمار حماية) ما تزال تعشش في عقول بعض الحكام العرب المتمكنين في تسيير مصائر شعوبهم بفضل أدوات الاستعمار ذاتها فيبرؤون مستعمر أوطانهم وناهب خيراتهم ومبيد أبريائهم فيسمونهم (حماة) لأن الاستعمار بشكليه القديم و الجديد يحميهم هم و يؤمن لهم كراسيهم المؤبدة!
ونفس الحكام يسمون المقاومين الشرفاء بالسلاح (فلاقة.. يعني قطاع طرق! إلى اليوم كما في الشمال الافريقي أو إرهابيين ومخربين كما في فلسطين) أما الجزائر فقد تحملت وحدها كارثة الاستعمار الاستيطاني حين تحولت عام 1832 إلى مقاطعة فرنسية عمل الاستعمار على طمس هويتها وتمت (فرنستها) مثلما فعلت سلطات الاحتلال الصهيوني مع فلسطين!
وللتاريخ لم يعد بعد هزيمة الأمير عبد القادر عام 1846 هناك كفاح مسلح فاعتقد الاستعمار الفرنسي أن فرنسة الجزائر تمت بنجاح مثلما اعتقد الاستعمار الإسرائيلي أنه "صهين" فلسطين وأتم تهويدها! ولكن روح الجزائر عادت بلظى العروبة والإسلام على أيدي زعماء جمعية العلماء المسلمين أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي، ثم اندلعت شرارة الثورة المسلحة عام 1954 مثلما انطلقت ثورة فلسطين على يد "فتح" ثم استمرت جذوتها على أيدي "حماس" والجهاد..
لكن لماذا اختلف تعامل الجيران العرب مع ثورة الجزائر ومع ثورة فلسطين وبين الثورتين نشأ جيل عربي مسلم تعلم بأن التاريخ لا يعيد نفسه ولا يكرر أحداثه لكننا لا بد أن نقرأ الأحداث لنعتبر..
لا يمكن أن ينسى أي عاقل تضحيات إخوتنا المشارقة إلى جانب فلسطين فقد خاضت مصر وسوريا والأردن ولبنان حروبا معروفة وهبّ العرب أجمعين ولم يترددوا في نصرة فلسطين انطلاقا من أن قضية القدس هي قضية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربهاوجدت ثورة الجزائر من جمال عبد الناصر نصيرها الكبير باسم القومية العربية، وقد قال لي وزير الخارجية الفرنسي الأسبق مهندس العدوان الثلاثي على مصر (كريستيان بينو) حرفيا: لقد قمنا بالعدوان الثلاثي لمعاقبة عبد الناصر على تأييده للجزائر.. جاء ذلك العدوان بأيدي (كرستيان بينو) عن فرنسا و(أنتوني ايدن) عن بريطانيا و(بن جوريون) عن إسرائيل.. كما وجدت الجزائر نصرة أخوية من تونس وعوقبت تونس بوابل من القنابل على قرية ساقية سيدي يوسف يوم 8 فبراير 1958.. كما عوقبت تونس لمناصرتها لقضية فلسطين عندما اعتدت الطائرات الإسرائيلية على مقر المنظمة بحمام الشط يوم 1 أكتوبر 1985.. ووجدت ثورة الجزائر كذلك مناصرة المغرب وملكها الراحل المغفور له محمد الخامس وكانت الأسلحة بأنواعها تعبر حدود الجزائر وتصل إلى المجاهدين ولم تتخلف لا تونس ولا المغرب ولا ليبيا عن واجبها المقدس لتزويد الثورة بالسلاح.. وجرى الدم المغاربي هنا وهناك رمزا من رموز الوحدة والصمود.
وبالطبع لا يمكن أن ينسى أي عاقل تضحيات إخوتنا المشارقة إلى جانب فلسطين فقد خاضت مصر وسوريا والأردن ولبنان حروبا معروفة وهبّ العرب أجمعين ولم يترددوا في نصرة فلسطين انطلاقا من أن قضية القدس هي قضية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. لكن وجه الاختلاف بين مثال الجزائر ومثال فلسطين هو ما حدث من تداعيات استراتيجية إقليمية ودولية حالت دون تواصل النصرة بدعوى إنجاح عملية السلام.. فعاد أبو عمار إلى جزء ضئيل من الأرض المحتلة وتم تأجيل كل الملفات الساخنة إلى أجل غير مسمى وأهمها ملف القدس وملف اللاجئين وإقامة الدولة… وأصبحت كل حدود الدول العربية حدودا آمنة لإسرائيل دون أن تتفاعل إسرائيل بإيجابية مع ما سمي بخيار السلام العربي بعد أن تأكدت إسرائيل من أن خيار المقاومة تم إسقاطه وإجهاضه مما يجعل (السلام) استسلاما ولم تهب حركة طوفان الأقصى إلا بعد اليأس التام من أوهام السلام المغشوش واكتشاف حقيقة إسرائيل والغرب الصليبي المتمثلة في تصفية القضية الفلسطينية نهائيا!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه احتلال الفلسطيني المقاومة احتلال فلسطين مقاومة رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
أزمة زيت الزيتون في تونس: الشعبوية المدمّرة
تعيش تونس منذ أسابيع على وقع أزمة حادة في قطاع زيت الزيتون، أحد أهم أعمدة الاقتصاد الوطني. انهارت أسعار الزيت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تدنى سعر اللتر في المعاصِر إلى أقل من 10 دنانير (3.2 دولارات)، بعد أن كان يُباع في الموسم الماضي بسعر يصل إلى 25 دينارًا (8 دولارات).
مع تعطُّل البيع والشراء وتكدُّس الإنتاج في المعاصر، بات الفلاحون يعانون من غياب السيولة وانعدام الطلب، مما دفعهم إلى تعليق تجميع الزيتون، في انتظار حلول قد تأتي متأخرة. وقد أفضى ذلك إلى موجة احتجاجات في مختلف المناطق الريفية، تُنذر بمزيد من الاحتقان الاجتماعي.
أسباب الأزمة: حرب ضد الفساد بمآرب أخرىالأزمة الحالية فاجأت الجميع، بعد أن ساد انطباع عند بداية موسم الجني أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن البلاد ستشهد هذه السنة موسمًا استثنائيًا، سيتجاوز فيه محصول الزيتون 350 ألف طن، وتتحقق فيه بالتالي إيرادات قياسية للدولة من العملة الصعبة، ولشركات تصدير الزيتون والمعاصر والفلاحين.
وبدأت ملامح الأزمة تظهر بعد أيام معدودة من إيقاف صاحب كبرى الشركات المصدرة للزيت في تونس يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، في إطار تحقيقات بخصوص ملفات فساد، ما أدى إلى توقف شركته عن اقتناء الزيت من الفلاحين، مما أربك السوق تمامًا.
إعلانجاءت هذه الخطوة على خلفية زيارة الرئيس قيس سعيد للمركب الفلاحي "هنشير الشعال" يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإلقائه سيلًا من الاتهامات بالفساد ضد المرتبطين بتلك التجاوزات، مع توعده بالمحاسبة لكل من تورط في هذه المخالفات. وطبعًا، كانت الزيارة فرصة جديدة لإلقاء خطاب شعبوي، تعهّد فيه بمواصلة "حربه المقدسة لتطهير البلاد من الفساد".
استهداف صاحب أبرز شركة خاصة في قطاع زيت الزيتون في البلاد بإجراءات اعتباطية مستعجلة، قبل فتح تحقيقات جدية، ودون الاكتراث بدراسة التداعيات الاقتصادية في بداية موسم واعد لأهم قطاع يدخل موارد للدولة، قاد إلى شلل القطاع بأكمله. إذ توقفت شركة CHO، الرائدة في التصدير، عن العمل، ما ألقى بظلاله على قدرة تونس على تصدير فائض إنتاجها.
في ذات السياق، يعاني الهيكل الرسمي المعني بالإشراف على قطاع الزيت، أي الديوان الوطني للزيت، من أوضاع كارثية هيكلية، جعلته غير قادر على التدخل بشكل فعال لإنقاذ القطاع، حيث لا تتجاوز طاقة التخزين في مراكزه 60 ألف طن، وهي كمية تقف عاجزة أمام محصول قياسي متوقع يفوق 350 ألف طن.
كما أن وضعه المالي الكارثي وعدم توفره على السيولة اللازمة لشراء كميات كبيرة من الزيت بسعر معقول يضمن الحد الأدنى من ربح الفلاحين، حال دون إدماجها في حصة تونس السنوية المخصصة للتصدير إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تتراوح بين 60 و100 ألف طن سنويًا من الزيت السائب والمعلب.
أرقام تكشف عمق الكارثةتُعتبر تونس من أكبر المنتجين العالميين لزيت الزيتون، حيث تضم البلاد قرابة 110 ملايين شجرة زيتون، أي بمعدل 10 شجرات لكل مواطن. وتُغطّي زراعة الزيتون مليوني هكتار، أي حوالي 45% من الأراضي الصالحة للزراعة.
يُساهم القطاع بنحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر 50 مليون يوم عمل سنويًا لأكثر من 250 ألف عامل، نسبة كبيرة منهم نساء. لكن هذه الأرقام الإيجابية تُخفي وراءها أزمات هيكلية، وأي أزمة تحصل في القطاع تنعكس سلبًا على أكثر من 300 ألف عائلة تونسية ترتكز في معيشتها على زيت الزيتون.
إعلانالديوان الوطني للزيت، الذي يُفترض أن يكون صمام الأمان للقطاع، يعيش وضعية إفلاس غير معلن، حيث بلغت الخسائر المتراكمة 423 مليون دينار (135 مليون دولار) بنهاية 2022. وتدهورت الأموال الذاتية في تلك الفترة لتصل إلى حوالي 365 مليون دينار (116 مليون دولار) بالسلب. رغم أن الديوان يتلقى سنويًا دعمًا يقارب 360 مليون دينار (114 مليون دولار) لدعم الزيت النباتي المستورد، الذي لا يكاد يظهر في الأسواق بكميات قليلة حتى يختفي في المسالك الموازية.
وقد أدت هذه الوضعية إلى توقف البنوك التونسية عن تمويل عمليات الديوان، بينما يستمر الرئيس في إطلاق شعارات فضفاضة حول ضرورة استعادة الديوان الوطني للزيت دوره التاريخي، دون تقديم حلول عملية، لتمكين الديوان من موارده المتراكمة المستحقة لدى الدولة، والتي تبلغ ما يقارب 430 مليون دينار (137 مليون دولار)، أو لضمان تطوير حوكمة الديوان ومنظوماته المعلوماتية، والتصدي للفساد الخطير الذي ينخره، والاختراقات من طرف اللوبيات المحلية والمافيات الدولية.
مافيا الزيت العالمية: بصمة واضحةالأزمة لم تكن محلية فقط، بل كشفت أيضًا عن صراع دولي على الأسواق. تونس، التي تفوقت في السنوات الأخيرة على إيطاليا في تصدير زيت الزيتون، أصبحت هدفًا للمنافسة غير الشريفة من طرف عديد الشركات الإيطالية التي فقدت أسواقها، والتي يرتبط بعضها بما يُعرف بـ”الأغرومافيا” الإيطالية، وهي شبكات للجريمة المنظمة في إيطاليا تتغلغل في قطاع الفلاحة وسلاسل التوريد الغذائي.
تسعى هذه المافيا للسيطرة على الأسواق من خلال ممارسات غير قانونية، منها التلاعب بجودة المنتجات واستهداف الشركات المنافسة لافتكاك أسواقها.
شركة CHO، الرائدة في السوق الأميركية (التي تمثل 35% من السوق العالمية لتوريد زيت الزيتون)، والسوق الكندية (5% من السوق العالمية)، مستهدفة منذ أشهر طويلة بسلسلة من الأعمال الإجرامية والسرقات الممنهجة في تلك الأسواق، شملت شحنات بمئات الآلاف من زجاجات زيت الزيتون البكر الممتاز.
إعلانأضف إلى ذلك، تعرض شحنات من الزيت المصدّر إلى أميركا أثناء توقفها في ميناء أوروبي إلى عملية تسميم عبر زرع دودة تم اكتشافها في التحليل الصحي المنجز عند وصول الشحنات إلى ميناء أميركي. ما أثار تساؤلات حول تورط جهات خارجية في ضرب سمعة الزيت التونسي لإعادة الأسواق التي افتكها بجودته العالية.
تونس اليوم تنافس الكبار الذين بدؤُوا في التقهقر في سوق الزيت العالمي، حيث بدأت تحتل منذ سنوات قليلة المرتبة الثانية عالميًا في تصدير الزيت بعد إسبانيا. وهو ما يضعها في مواجهة مباشرة مع دول تحاول حماية مكانتها التاريخية بشتى الوسائل. إيطاليا، التي لطالما سيطرت على جزء كبير من السوق العالمية، تسعى لاستعادة نفوذها من خلال استغلال أي اضطراب في الإنتاج أو التصدير التونسي.
تزامن مريبوقد طرح تزامن اشتداد الحملة الأجنبية ضد أهم علامة تجارية تونسية في قطاع الزيت، لضرب مكاسبها في السوق العالمية – خاصة في أميركا الشمالية، والحديث عن عرض من إحدى الشركات الإيطالية لشرائها، مع الإجراءات الاستثنائية الاستعجالية المتخذة ضد مالك تلك الشركة في تونس بشكل استعراضي من طرف أعلى هرم الدولة، ومع حملة إعلامية داخلية شعواء – شكوكًا عديدة لدى جهات متابعة.
ووصل البعض إلى اتهام الدوائر الرسمية بافتعال التتبعات ضد "إمبراطور الزيت" في تونس، وتعطيل عمل شركته في بداية موسم واعد، خدمة لمصالح إيطاليا على حساب المصلحة الوطنية العليا، وهناك من قبض الثمن. بالضبط كما كانت معالجة قضية المهاجرين السريين الأفارقة ومنع تسللهم عبر البحر مع القبول بتوطينهم في تونس، تمامًا في خدمة الجار الشمالي ضمن اتفاقيات سرية تم إخفاؤها عن التونسيين.
في حين اعتبر البعض الآخر أن الغرض الحقيقي من افتعال الأزمة هو تدمير النخبة الاقتصادية القديمة، التي يعتبرها الرئيس غير منخرطة في مشروعه الوطني، لتعويضها بنخبة اقتصادية جديدة من "أنصار المسار" المؤيدين للرئيس، وذلك عبر منظومة "الشركات الأهلية" التي يدفع الرئيس إلى ضخ موارد عديدة لأجل إنجاحها ونشرها في مختلف الجهات والقطاعات، مع تمكينها من التصرف في أراضي الدولة ومنشآتها.
إعلان قصور مقاربة الدولة وضعف الإجراءاتتعاني الدولة من قصور واضح في مقاربة الأزمة، حيث اقتصرت الإجراءات على إصدار بلاغات فضفاضة لا تتضمن خططًا تنفيذية واضحة. فقد أعلنت السلطات عن نيتها شراء الزيت بأسعار تُراعي السوق العالمية، لكنها لم تحدد آليات التنفيذ أو التمويل. كما أنها أعلنت تشجيع تخزين الكميات الجاهزة من الزيت، لإفراغ المعاصر وتمكينها من استقبال الكميات القادمة، خاصة أثناء عطلة نهاية السنة، التي تنضم فيها عشرات الآلاف من العائلات، بكبارها وصغارها، إلى عملية جمع الزيتون.
لكن ضعف طاقة التخزين لدى الديوان (قرابة 15٪ من الصابة المنتظرة)، وتعقُّد إجراءات التنقل إلى العدد المحدود جدًا من مراكز التخزين، والتكلفة العالية للنقل، وتعقُّد إجراءات الخلاص وتأخره، وغياب الحوافز، كلها عوامل أدت إلى عزوف المنتجين عن التعامل مع ديوان الزيت.
الديوان الوطني للزيت، الذي كان يُفترض أن يكون جزءًا من الحل، بات اليوم جزءًا من المشكلة، وتحول من أداة لدعم الفلاحين وتعديل السوق إلى عبء على القطاع بأكمله.
والأزمة تواصل الاستفحال، لأنه لا أحد في الدولة يجرؤ على اتخاذ قرارات جدية تقطع مع الشعارات الشعبوية الفارغة؛ خوفًا من الإقالة أو التعرض للتشهير. الجميع مطالب بتبني السردية الرسمية التي يقدّمها الرئيس، بأن الأزمة مفتعلة وتقف وراءها لوبيات الفساد التي تتآمر مع الخونة لأجل تعطيل "حربه المقدسة لتطهير البلاد من الفساد".
ما يحصل اليوم من ارتباك من طرف أجهزة الدولة المعنية بقطاع الزيت، يبين بوضوح كيف أن الشعبوية تدمّر روح المبادرة والمسؤولية، وتضرب المصلحة الوطنية.
حلول لإنقاذ القطاع: بين العقلانية والمسؤوليةلحل أزمة قطاع زيت الزيتون في تونس، يتطلب الأمر تبني نهج شامل ومتكامل يجمع بين التدخلات الفورية والإصلاحات طويلة المدى.
على المدى القريب، يجب أن تعمل الدولة على تخصيص ميزانية استثنائية لدعم ديوان الزيت والشركات المصدرة، مع تحديد أسعار دنيا مضمونة للزيت، مما يضمن استقرار السوق ويخفف من أعباء الفلاحين. بالإضافة إلى ذلك، يجب توفير سيولة طارئة للديوان الوطني للزيت، وتوسيع طاقاته التخزينية عبر الاستفادة من المنشآت العامة المتاحة. كما ينبغي أن تُطلق الدولة حملات ترويجية عالمية لتسويق زيت الزيتون التونسي، تبرز فيها جودته وتعيد بناء سمعة العلامة التجارية الوطنية.
إعلانأما على المدى الطويل، فإن الإصلاحات الهيكلية ضرورية لتعزيز الحوكمة داخل ديوان الزيت، والشركة الخاصة التي أنشأها للإشراف على تصدير الزيت، بالاستفادة من الامتيازات الممنوحة للشركات الخاصة المصدرة، وضمان الشفافية والكفاءة في عملياتهما.
يجب أن يترافق ذلك مع تطوير البنية التحتية للنقل والتخزين لتحسين كفاءة الإنتاج والتصدير، مع تعزيز الرقابة على عمليات الصادرات لمنع الهيمنة الأجنبية وحماية المنتجين المحليين. على الصعيد الدولي، ينبغي على تونس التفاوض مع الشركاء الأوروبيين لحماية حصتها في الأسواق العالمية، مع وضع قوانين صارمة لمواجهة الممارسات الاحتكارية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لتونس تعزيز دور التمثيليات الدبلوماسية في دعم مصالح المصدرين وفتح أسواق جديدة. هذه الخطوات مجتمعة يمكن أن تشكل خارطة طريق لإنقاذ القطاع، وتحويل الأزمة إلى فرصة لتطوير صناعة زيت الزيتون، وتحقيق نقلة نوعية في موقع تونس التنافسي عالميًا.
الأزمة تلد الفرصةأزمة زيت الزيتون في تونس ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي نقطة تحول حاسمة تكشف عن مدى قدرة الدولة على حماية مواردها وتحقيق التنمية المستدامة. الحل لن يكون ممكنًا إلا من خلال التخلي عن الشعبوية والخطابات الجوفاء، وتبني سياسات عقلانية قائمة على الشراكة بين القطاعين؛ العام والخاص، مع إشراك المجتمع المدني والخبراء في صياغة الحلول.
من الأمثلة الملهمة التي يمكن لتونس أن تستفيد منها، تجربة إسبانيا، حيث نجحت في تعزيز موقعها في الأسواق العالمية بفضل الاستثمار في الجودة، وتطوير العلامات التجارية الوطنية، واعتماد تقنيات حديثة في الإنتاج والتعبئة. هذه التجربة تثبت أن الإرادة السياسية والإدارة الحكيمة يمكن أن تحوّلا التحديات إلى فرص ذهبية.
في هذا السياق، يجب على تونس أن تستغل هذه الأزمة لتعزيز تنافسيتها الدولية عبر تحسين جودة منتجاتها وتوسيع شبكة توزيعها العالمية. الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، وتطوير أساليب التعبئة والتسويق لا يقلان أهمية عن تحسين الحوكمة وتعزيز الشفافية داخل المؤسسات الوطنية.
إعلانفي النهاية، تقع المسؤولية التاريخية على عاتق القيادة السياسية، التي يجب أن تتجاوز الشعارات الرنانة وتتحمل دورها في إعادة بناء القطاع. تونس تمتلك كل المقومات لتصبح رائدة عالمية في إنتاج زيت الزيتون، ولكن النجاح يتطلب رؤية بعيدة المدى وإستراتيجيات مدروسة.
بدون تلك الرؤية، وبمواصلة التخبط الشعبوي، سيتواصل الانهيار، مصداقًا لقول الفيلسوف الروماني سينيكا: "عندما لا نعرف إلى أي ميناء نتجه، تصبح جميع الرياح غير مواتية".
تونس الآن بحاجة إلى رُبان يقود سفينتها نحو بر الأمان، حيث تتحول التحديات إلى فرص، وتصبح أزمة الزيتون نقطة انطلاق لنهضة اقتصادية جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية