«هنا أمدرمان» بوابة الانقلابات وسجلّ ذاكرة وطنية مهدّدة بالخراب
تاريخ النشر: 22nd, February 2024 GMT
منصور الصويم
في رواية “الخريف يأتي مع صفاء”، يقدم الروائي أحمد حمد الملك، مشهدا سحريا بديعا لمحاولة انقلابية ناجحة، ويصور قائد الانقلاب – بطل الرواية – في مشهد فانتازي ساخر، وهو يقود دبابة بمفرده يتحرك بها متنقلا في شوارع المدينة إلى أن يصل إلى مبنى إذاعة أمدرمان، ليقتحم أبوابها ويعلن انقلابه على الحكم من داخل أحد استديوهاتها، ويصير بعد ذلك الحاكم الأوحد للبلاد، وديكتاتورا يرهبه الجميع ويخشون حتى الاقتراب من ظله.
خلال الأسبوع الماضي نبّهت نقابة الصحفيين السودانيين، من خطورة المعارك التي تدور في محيط إذاعة أمدرمان، وأشارت إلى أن القتال العنيف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بات قريبا من مباني الإذاعة والتلفزيون، ومهددا – من ثم – لكل الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني بالاحتراق والضياع، وحذرت النقابة في بيانها من “تدمير أو إتلاف أرشيف يقترب عمره من المئة عام”.
ما الذي يحويه أرشيف الإذاعة؟ وما الذي يمثله بالنسبة إلى السودانيين؟ وهل يشكل بالفعل جزءا من الذاكرة الجمعية للشعب السوداني؟ أم أن الإذاعة نفسها لم تكن سوى إحدى وسائل الدولة السودانية في التهميش والإقصاء وإعلاء ثقافة واحدة على بقية الثقافات التي يعج بها بلد متنوع الثقافات مثل السودان؟
أسئلة مثل هذه طرحها كثيرون قبل اندلاع الحرب المدمرة في السودان وبعدها، وجلها ارتبط بقضايا الهوية وما يعرف بـ “الهامش والمركز”، والانتقادات التي توجه إلى دولة السودان، أو “دولة 56″ عند البعض، و”الغولة السودانية” عند البعض الآخر، مما جعل البعض يعتبرها إقصائية و”أمدرمانية” صرفة، في حين يرى فيها بعض آخر سجلا للذاكرة الجمعية.
قبلة الانقلاباتأصيب ديكتاتور “الخريف يأتي مع صفاء” بداء النسيان مع تعمق الرواية، تاه عن بيته وعن نفسه، وارتبكت في رأسه الأشياء، وعلى الرغم من ذلك ظل حاكما أوحد للبلاد. وقائع غريبة ومفارقات لا تصدق حوتها تلك الرواية التخيلية الذكية، وهي تروي سيرة الفساد المحزنة في بلاد السودان، إلا أن الواقع السوداني حوى ما هو أفظع وأكثر غرائبية، إن تتبعنا سيرة الانقلابات، التي تبدأ – كما في الرواية – باقتحام دبابة أو قوة ما للإذاعة، وتنتهي غالبا بتعليق الناس على المشانق أو حصدهم بالرصاص. تقف الإذاعة إذن عند حدّين، كونها البوابة الأولى لكل مآسي السودان، البيان الأول وما يليه من خراب، وربما المصدّ الشفيف الذي يمرر الديكتاتوريين المخربين عبر منافذه اللامرئية، ولكن يُبقي هناك في العمق الإرث الحقيقي لهذه البلاد “تاريخها”، محفوظا ومصونا وشاهدا على الأيام.
إذن، ظلت إذاعة أمدرمان هي القبلة الأولى لكلّ انقلاب عسكري شهده السودان طوال سنواته السابقة، بل هي المقياس الأول لنجاح الانقلاب، أو الحركة التصحيحية، والثورة، وغيرها من المسميات التي كان يطلقها قادة الجيش الانقلابيون عند استيلائهم على الحكم في البلاد. فالمارشات العسكرية و”البيان الأول”، الآتيان من الإذاعة، كانا المؤشر الأول الذي يدل السودانيين على حدوث تغيير سياسي في البلاد ونظام الحكم. ومن بين عشرات الانقلابات العسكرية – بعضها أذاع بيانه الأول وأسمع الناس موسيقاه – نجحت ثلاثة انقلابات كبرى، حكمت البلاد لأكثر من نصف قرن من الزمان، دمرت خلاله الاقتصاد وأرجعت السودان وناسه قرونا إلى الوراء.
وطوال هذه السنوات العسكرية المأساوية، ظلت “هنا أمدرمان” تعمل نشطة، محروسة بالدبابات والعسكر، تتوقع ميكروفوناتها كل فجر صوت مغامر جديد يعلن ثورته، بينما تستمر أستديوهاتها في بث الأغاني والبرامج المتنوعة، منقادة إلى السلطة الجديدة أيا كانت، من أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
برامج متنوعةفي يوم ما، قبل عقود من الزمان، كان السودانيون، لاسيما العشاق والمحبون، يتحلقون حول أجهزة الراديو للاستماع إلى أغنياتهم الأثيرة، التي يختارونها بأنفسهم ويهدونها إلى من يودون من أحباء وأصدقاء، عبر البرنامج الرائج وقتها “ما يطلبه المستمعون”.
مدير البرامج في الإذاعة والتلفزيون، خلال الفترة الانتقالية، السر السيّد، يرى أن برنامجا مثل ما يطلبه المستمعون “شكّل فرصة لبناء خريطة لتنوع اختيارات السودانيين وأذواقهم الغنائية بصورة ديمقراطية”، لكنه عاد واستدرك بقوله: “نعم قد تكون الغلبة كانت لما يوصف بأنه أمدرماني، وذلك بسبب الحيز المتاح له في الخريطة البرامجية”، يقول لـ “المجلة”.
المقصود بالأغنية الأمدرمانية، والنسبة هنا تعود إلى الإذاعة، هي تلك الأغنيات التي تمثل ثقافة وسط السودان من حيث اللغة واللحن (السلم)، والأداء وأسلوب تناول الموضوعات، سواء العاطفية أم الوطنية، والأغنية الأمدرمانية نفسها مقسمة من الداخل إلى عدد من الأنماط المتشابهة والمتطورة عن بعضها، مثل أغنية الحقيبة، والأغنية الشعبية، والأغنية الحديثة، ويقصد بها التوزيع الموسيقي الحديث ذاته، وتعتمد في تقديمها على الآلات الموسيقية الأوركسترالية والصورة النمطية للفنان العصري (بدلة وربطة عنق وأناقة حداثية). استحوذ هذا النمط من الأغنيات على الحيز الإذاعي تماما طيلة عمر الإذاعة (أسسسها المستعمر البريطاني في أبريل/ نيسان 1940 لنشر أخبار الحرب العالمية الثانية) إلى الحد الذي خصصت فيه برامج استمرت لسنوات طويلة تشرح وتوثق لنمط واحد من هذه الأغنيات، مثل برنامج “حقيبة الفن”، وهو برنامج توثيقي مهم، حفظ أرشيف أغنية الحقيبة وعرّف الأجيال على الظروف التي أوجدت هذا الشكل من الأغنيات العاطفية، وسرد القصص والحكايات عن شعرائها ومغنيها والمناسبات التي قيلت فيها الأشعار. وسر التسمية يعود حسب ما يروى إلى اللحظة التي أعلن فيها مقدم حفل إذاعي شهير، واحدة من هذه الأغنيات، وأخرج من حقيبة يحملها حزمة أوراق كتبت عليها القصائد الغزلية، فسميت أغنياتها بالحقيبة.
في الجانب الآخر غابت تماما عن برمجة الإذاعة ألوان أخرى للغناء، ذات أساليب شعرية مختلفة وإحالات رمزية غير مألوفة لدى أهل الوسط، إضافة إلى اختلافها في بعض المناطق من حيث التوزيع الموسيقي، وهذا ربما يفسّر الدهشة التي أصابت الكثيرين لحظة استماعهم لأغنيات البدو الرحل التي انتشرت بعد اندلاع الحرب الأخيرة! فلصالح من غُيّبت هذه الثقافات، وما الغناء إلا أحد مظاهرها، شرقا وغربا وجنوبا، في أرض السودان الفسيح؟
سؤال التنوعيقول السر السيّد إنه ليس من الدقة وصف الإذاعة السودانية بأنها كانت تكريسية للثقافة الأمدرمانية، وهذا من خلال النظرة الكلية لما قدم من برامج. ويضيف أن هذا لا يعني أن السياسة البرامجية كانت مدركة طيلة مسيرتها لسؤال التنوع، لأنه سؤال جديد على مستوى العالم، ومع ذلك أنجزت الإذاعة فيه الكثير.
هناك برامج حققت نجاحا كبيرا في التواصل مع كل السودانيين مثل برنامج “الصفحة الأولى” – يقول مدير البرامج السابق – وهو برنامج منوعات فيه رسائل من كل ولايات السودان ذات طابع إخباري وثقافي، ويبث على الهواء مباشرة وتطرح عبره يوميا قضية للتداول.
ومن البرامج الأخرى المهمة برنامج “النفّاج” ويعنى بالتراث الثقافي السوداني بوجه عام، وبرنامج “شريط الذكريات” وفيه سرد لسير ومذكرات رموز سودانية من مختلف جهات السودان، إضافة إلى برامج “أقنعة القبيلة”، و”مع الموسيقى الأفريقية”، والبرنامج المهم “تفسير القرآن الكريم مع البروفسور عبدالله الطيب”، وفيه فسر القرآن الكريم باللغة العامية السودانية المبسطة، فوصلت شروحاته إلى كل الناس. هذا إلى جانب برامج الدراما الإذاعية الذي شكل حضور الريف السوداني حيزا كبيرا فيه.
من المفارقات أن أخصب فترة للإذاعة السودانية – حسب قول السر السيد – هي فترة نهاية الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي واحدة من أكثر الفترات التي شهدت انقلابات عسكرية ومحاولات متتالية لاقتحام الإذاعة عبر الدبابات.
يبقى أخيرا وبغض النظر عن اتجاهات الإذاعة السودانية خلال الحقب الماضية، إلا أنها تحوي إرثا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا مهما للذاكرة السودانية، وهذا الإرث بات الآن في مهب الريح، أو تحت لفح نيران الحرب إن صح التعبير.
*نقلا عن مجلة “المجلة”
الوسومإذاعة أمدرمان الانقلابات العسكرية السودانالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الانقلابات العسكرية السودان
إقرأ أيضاً:
الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
يأخذك الحديث وأنت تتأمل فيلم غيوم لمُزنة المسافر إلى التطور الفني والموضوعي في تجربتها، موضوعا التعددية الثقافية والعرقية في المجتمع العماني كمصدر ثراء غني، تتجه إليه مزنة في استقصائها الطويل، مزيلة وهم ما يفصل بيننا، عبر البحث عن ما يجمع بيننا ويأتلف في نسيج اجتماعي واحد. عبر هذا الثراء العرقي واللغوي نخلق تجانسنا الحقيقي، التجانس المميز لمجتمعنا منذ جذوره التاريخية البعيدة. فنيا يشكل فيلم غيوم تحولا نوعيا تخرج به مزنة عن الطرح الأفقي للتجربة، عن أحكام البداية فتتسلسل الأحداث وصولا إلى نهايتها. فيلم غيوم يخرج عن القوالب التقليدية في السينما منحازا إلى شاعريتها، الغائب والماضي والمفقود هم من يشكل وهج الأحداث، ويدفع بشخوصه إلى المحبة والأسى والفراق والندم، محكومة بالماضي الذي تسدل ظلال أحداثه على الحاضر والمستقبل معا. فنيا ينحاز السيناريو إلى الصورة السينمائية عنه إلى الحوار، الصورة خاصة في تجسيدها المباشر لملامح شخوص الفيلم، قادرة حقا على نقل عواطفهم واختلاجات قلوبهم، سينمائيا تضفي هذه اللغة الجمال السينمائي، الذي تريد مزنة إيصاله إلينا، ما لا يستطيع الحوار نقله عبر السينما.
اختيار مُزنة لطرح تجربتها جبال ظفار، عائدة بنا إلى عام ١٩٧٨م، أي بعد ثلاثة أعوام من نهاية حرب الجبل بعد حرب طويلة استمرّت عشرة أعوام. هذه الحرب هي الماضي الذي يثقل أرواح رعاة الجبل، الماضي الذي يسدل على الحياة مشاعر الفقدان والخوف من عودة الحرب ثانية. الحرب التي تركت في كل منزل قتيلًا، أو قريبًا لقتيل، أحرقت المراعي وفتكت بالإبل مصدر حياة سكانه، والأثقل أنها تركت روح الفرقة بين أبناء الجبل، نظرا لتغير مواقفهم من موقع إلى آخر، ذلك ما نقرأ ثقله في حياة بطل الفيلم دبلان الذي يتحول بعد الحرب إلى رجل منطو على نفسه، يرفض مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ويقضي معظم وقته في العناية ببندقيته، وملئها بالرصاص حتى تكون جاهزة للقضاء على النمر في أي وقت تتكرر عودة الحرب ثانية إلى جبال ظفار.
مزنة في هذا الفيلم العميق والشاعري في آن تبتعد عن تقديم الرصاص والقصف والقتلى، كما أن المرأة القتيلة لم تظهر في الفيلم أبدا، رغم ظهور ذكراها المتواصل، كهاجس يومي يلازم حياة الأب وابنه عمر وابنته سلمى، المرأة ومقتلها الغامض هي السر المكتوم في الفيلم، ابنها عمر كل ليلة ينام في حضن أخته الكبرى، متخيلا والدته تنام على سحابة بعيدة في السماء، يراقب أباه يوميا أثناء تنظيف وتعمير بندقيته، محاولا أكثر من مرة خطفها منه، دون أن يتبين لنا السبب المباشر لذلك، حتى نجاح اختطافه البندقية في مشهد سينمائي أخاذ، يوجّه فيه عمر البندقية إلى صدر أبيه طالبا منه فك لغز اختفاء أمه، تكون الفرصة مؤاتية آنذاك للأب للاعتراف لابنه وابنته أن الأم قد توفيت برصاصة طائشة أثناء معارك الجبل، دون أن يحدد من أي طرف جاءت الرصاصة، ذكاء مزنة يوقف التجربة برمتها أمام تقييم جديد يكشفه التاريخ في مستقبل الأيام، والوقت ما زال باكرا لإدانة طرف ضد آخر، فقط الخوف من عودة الحرب ثانية، هي النمر الذي يستعد دبلان يوميا لمواجهته. وأخيرا لتعليم ابنه طريقة استخدام البندقية لقتل النمر وحش الحرب قبل وصوله إلى الجبال.
مصدر إيحاء غيوم هي مجموعة من الصور الوثائقية التقطها والدها الفنان موسى المسافر، الذي دون شك عاصر مرارة تلك الأحداث، تكشف لنا جانبا مهما من حياة أبناء الجبل في ظفار أثناء الحرب وبعد انتهائها. من تلك الصور الوثائقية استمدت مزنة هذا الإلهام المتدفق، وصاغت سيناريو فيلم غيوم، الذي يأتي ليس لإدانة طرف دون آخر، بل لإدانة الحروب البشرية برمتها، ذلك لأنها نظرت لنتائجها الوخيمة في عيني دبلان رب العائلة الذي مع خروجه حيا منها إلا أنه خرج مهزوما فاقد القدرة على الحياة، معذبا بالماضي الذي قدمته مزنة كنمر يفترس كل ما أمامه دون تمييز ورحمة.
مزنة تعي جيدا آثار الحروب على تغيير العلاقات الاجتماعية بين البشر، العلاقة بين دبلان وشيخ القبيلة بعد الحرب، ليست هي العلاقة إياها قبل الحرب، يتقدم شيخ القبيلة المتقدم في العمر لخطبة سلمى صبية دبلان، المرتبطة بعلاقة عاطفية مع سالم الصبي الجبلي من جيلها. يقف دبلان وهو راعي الإبل الجبلي موقفا متقدما عندما يرفض تزويج ابنته شيخ القبيلة الثري، مزوجا إياها الصبي الفقير مع مباركة الأب له بحبات من شجرة اللبان الأسطورية والتي تصل محبة أبناء الجبل لها إلى درجة التقديس، نظرا لارتباط استخدامها بطقوس دينية في معابد الأديان الهندية بل وفي معابد الأديان السماوية قديما.
الفيلم ناطق بالشحرية لغة رعاة الجبال بظفار، كان ذلك ضروريا، هذا ما أدركته مزنة، منذ بداية اشتغالها على المشهد السينمائي العماني، بما يحمله من تنوع عرقي وثقافي أخاذ منذ قديم الزمان. قبلها قدمت فيلم شولو الناطق بالسواحيلية وفيلم بشك الوثائقي الناطق بالبلوشية. هي السينمائية التي لا تعترف بفوارق وهمية بين أبناء الوطن الواحد، القادرة على اكتشاف النسيج الاجتماعي المخفي، الرابط أبناءه روحيا على أرض واحدة، وتحت سماء واحدة.
فيلم تشولو، تناقش مُزنة فيه تجربة الانتماء الوطني والحنين إلى الجذور البعيدة خلف البحار، تدور أحداثه في زنجبار، موطن أساسي لهجرة العمانيين عبر التاريخ لقرون مضت، يستقبل تشولو الصبي أخاه عبدالله القادم من عُمان، يعيشان معا توافق البحث عن جذورهم المشتركة، يتعرضان للاعتداء من رجال أفارقة بسبب انتماء عبدالله العربي الواضح في لونه، تتراءى عمان وطنا بعيدا مجهولا لتشولو، أرضا سحرية لن يعود إليها أبدا، يعود عبدالله مع أبيه ويظل تشولو ينظر إلى البحر، إلى السفن وهي تبحر عائدة إلى عمان التي لن يراها أبدا، هكذا تتكرر تجربة الماضي الساكن كقيد يرتبط به المرؤ. ولكن بشكل إيجابي في تشولو عنه في غيوم، مزنة تتجاوز تجربة الحنين النوستالجي إلى الماضي، في الفيلمين تنظر إلى الماضي كقيد يجب علينا كسره والانطلاق إلى المستقبل دون الالتفات إليه. خاصة في مرارة أحداثه كما هو في فيلم غيوم، حيث يبقى الدم الأفريقي العماني المشترك، تجربة حضارة مشتركة أيضا، تغذي النسيج الاجتماعي العماني بخصوبة العطاء في فيلم تشولو، أي أنها تنطلق من الإيجابي في ثراء الوجود العماني بشرق إفريقيا، الثراء الذي دفع بالأفارقة إلى ما هو مثمر، حيث حمل العمانيون معهم الأساليب الحديثة في الزراعة، وارتياد آفاق العمل التجاري، ونشر الدين الإسلامي وغيرها من الدلائل الحضارية المهمة، التي تؤكد إيجابية وجودهم المبكر في شرق إفريقيا. وحش الماضي الذي يصوب له دبلان وابنه عمر البندقية لمواجهته، يحتفظ له تشولو وأخيه عبدالله بمئة قطعة من المندازي الذي خبزته لهما جدتهم الإفريقية، يحشوان فم النمر المفترس بها حتى لا يكون قادرا على افتراسهما معا. ذلك دون شك مشهد طفولي ساحر يؤكد وحدة الأخوين ضد وحش الحرب المأساوية بين العمانيين والأفارقة، أي من المحبة المشتركة بينهما نخلق إمكانية التعايش المشترك والوحش الذي يطعمه الطفلان العماني والأفريقي المندازي، هي الحرب التي خلقت روح الكراهية بينهما، وآن لنا جميعا طي صفحاتها الدموية، نحو خلق عالم أجمل لأجيالنا القادمة.
مُزنة التي جاءت بعد ستين عاما على مأساة خروج العمانيين من شرق إفريقيا بطريقة مأساوية فقد فيها العمانيون الآلاف من أبنائهم ثم أنها جاءت بعد خمسين عاما أيضا بعد نهاية حرب الجبل بظفار، تنصت إلى أوراق التاريخ التي تحفظ لنا ما فقد وتم نسيانه، مؤهلة حقا للذهاب أبعد مستقبلا، نحو تقديم تجارب العطاء العماني المتدفق عبر التاريخ، ورفد السينما العمانية الناشئة بلغة شاعرية متميزة، ذلك حقا جوهر الفن الطليعي الجاد، يضيء كالنجوم ترشد المسافرين في ليل البحار إلى المجهول.
فيلم غيوم /روائي قصير /ناطق بالشحرية/ جائزة أفضل فيلم روائي قصير /المهرجان السينمائي الخليجي ٢٠٢٤م. إخراج مزنة المسافر.
فيلم تشولو/ روائي قصير/ ناطق بالسواحيلية /جائزة أفضل سيناريو /مهرجان أبوظبي السينمائي ٢٠١٤ م. إخراج مزنة المسافر.
سماء عيسى شاعر عُماني