يقول صديقنا الأستاذ "عادل بابكر" صاحب كتاب (الحردلو: صائد الجمال) إن الإعجاب أو لنقل (الشعبية المتصاعدة) حالياً للشعر البدوي (Bedouin poetry) يمكن اعتبارها بمثابة البعث الجديد لتراث مضى عليه قرن من الزمان..! والحردلو (1830- 1916) يُنظر إليه على نطاق واسع كأحد الشعراء الكبار ذوي الأهمية في تاريخ السودان الإبداعي.

.!
فبعد أكثر من مائة عام من وفاته، ظل حياً في ذاكرة الناس وفي أغانيهم..واستمر صدى أشعاره ومقاطعه عبر الأجيال بالرغم من إغراقها في الخصوصية البدوية...!
ويعود الفضل في ذلك إلى غنائيتها الخصبة (rich lyricism) وحيويتها وتجسيدها الذي يماثل التصوير السينمائي..! فكثير من أعمال الحردلو تم تقديمها عبر التلحين الموسيقي والأغاني التي يتم سماعها اليوم في مختلف بقاع السودان..!
ومقاطعه وإشعاره الرومانسية والتي تصف الطبيعة تدفع لمقارنته بشعراء كبار مثل امرؤ القيس وذي الرمة من عهود الشعر العربي الكلاسيكي..وأيضاً بالرواد من شعراء الانجليز الرومانتيكيين..وتحديداً (وليام ووردزورث) و(كوليردج) و(جون كيتس)..!
**
كان ميلاد الحردلو في عام 1930 لأسرة ذات ثراء ونفوذ..وكان والده هو "شيخ الشُكرية"..إحدى القبائل البدوية الرعوية التي تسكن في سهول البطانة، والتي تبلغ مساحة أرضها 120 ألف كيلومتر مربع، وتمتد من الحدود الإثيوبية عبر جنوب شرق وأواسط السودان. ويقضي ساكنوها وقتاً مُعتبراً من العام في التنقل والرحيل نحو المراعي؛ من النيل الأزرق في الغرب إلى (نهر سيتيت) في الشرق؛ ومن القضارف في الجنوب الشرقي إلي حدود الخرطوم في الشمال الشرقي..!
حياة البداوة هذه منحت الشُكرية جذوة مشتعلة من التوق لمراتعهم ووديانهم علاوة على "مَلَكة شعرية" متوقّدة..! ولا غرو أن امتازوا على مدى زمني طويل بأشعار بدوية رائعة. ويلعب الشعر (دوراً مركزياً) في حياتهم؛ وهو يكاد يمثل الشكل الثابت لـ(نمط الاتصال) الذي يجري بينهم كل يوم..من خلال رحلاتهم وراء المراعي المعشوشبة، أو حفلات الزواج والمناسبات الاجتماعية الأخرى، أو من خلال الاشتباك مع القبائل الأخرى..!
وهكذا فإن كل مناحي حياتهم اليومية يمكن أن تنتج عنها مقاطع شعرية جميلة تكتسب الرواج في الجوار وما وراء الجوار. ومن أشهر أغراض أشعارهم الحب والغزل والحنين واللواعج والفخر والفروسية وكذلك الرثاء والتغنّي بوصف الطبيعة..!
كم كان الحردلو بارعاً في فن الغزل وسبر مظاهر وغوامض مطارحات الغرام وسلوك معشوقاته بين المنع الرفيق وبين (الإتاحة المحسوبة) ذات النواهي..!
اكتسب الحردلو شهرته من تشكيلة و(خلطة) متفرّدة من العوامل؛ ويُعزى جانب من شهرته وسيرته الحياتية والاجتماعية والإبداعية إلى حياته الخصبة المتنوّعة و(تحولاتها الحادة)..!! حيث تتباين تلك الحياة من سعة الثراء والدعة والحياة الخليّة اللاهية..إلى الفقر المُدقع والنفي والابتعاد من مسقط رأسه ومراتع قومه..! وبينما ألهمت المرحلة المبكرة من حياته شعره العاطفي؛ صبغت سنواته الأخيرة أشعار الحنين والشوق الجارف إلى أيام وليالي زمانه الجميل..!
ويشتهر الحردلو بمساديره الرائعة التي تنطق بالحنين والوجد وتزدهي بالتأمل ووصف مجالي الطبيعة وحركة الحياة..! أما المسدار فهو "بيان شعري طويل" يتم فيه وصف رحلة واقعية أو متخيّلة..فهو سرد إبداعي مؤثر يحتشد بالصور التي تماثل تقنية الفيديو والغرافيك والتجسيد الطبوغرافي والبايولوجي للطبيعة وهي في حالة حركة..! مع (أنسنة) موجوداتها المادية والحيوانية (Personification)..إنه سرد حي من عاشق متبتّل في محراب الطبيعة ومدافع حميم عن الحياة الخلوية البدوية..!
هكذا مسادير الحردلو...في حين أن مقاطعه الرومانسية أكثر في عددها وأقصر بشكل كبير من مساديره، وتكشف هذه المقاطع عن جوانب مختلفة من نفسه..ويبدو فيها خليّاً غير مبالٍ؛ وشعر الحردلو في كل الأحوال لا يفقد سِمة وسمت البلاغة والإثارة والحيوية بحيث لا يزال يجرى ترديده على طول البلاد..بل لقد أصبحت بعض مقاطع أشعاره بمثابة الأمثال السائرة والمأثورات الشعبية (proverbs and aphorisms)..!
يجتهد كتاب "عادل بابكر" في تسليط أقباس من الضوء على إسهام الحردلو الثمين في الشعر البدوي والشعر السوداني بعامة، وتحديد وترسيم أسلوبه ونمطه الشعري المتجاوز، وبيان الموضوعات التي تتكرر في شعره ومصادرها ومؤثراتها من خلال المنظومة الاجتماعية/ الاقتصادية في عصره، وتقديم بعض المؤشرات لبيان كيف أصبح الحردلو رمزاً وتراثاً حيّاً وموحياً، ثم النظر من خلال أشعاره إلى مُجمل الشعر البدوي السوداني كمثال على فن وجنس أدبي متفرّد (ابن بيئته وزرع أرضه)..ومن ثم توصيف وتعريف دوره في صناعة الحس والمذاق الجمالي والتعبير عن هوية السودان الثقافية الهجين كإحدى الأمم (الأفرو-عربية)..التي تغني بلسان..وتصلي بلسان..!!

murtadamore@yahoo.com
//////////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

بلقيس فتحي: إطلالة مثيرة وأغنية جديدة تُشعل الأجواء الفنية

سبتمبر 29, 2024آخر تحديث: سبتمبر 29, 2024

المستقلة/- ظهرت الفنانة بلقيس فتحي بإطلالة أنيقة ومميزة خطفت بها الأنظار، مرتدية فستاناً باللون الأحمر الفاقع الذي أظهر قوامها بشكل جذاب.

لكن هذه الإطلالة ليست مجرد عرض أزياء؛ بل هي جزء من صورة أكبر تتعلق بكيفية تصدّر الفنانات للمشهد الفني والثقافي في العالم العربي.

الجمال والمكياج: أي معايير نحتفظ بها؟

اختارت بلقيس فتحي أقراطاً وخواتم من الألماس، وتميزت بارتداء عقد يحتوي على 2400 ماسة، مما يعكس استثماراً كبيراً في الموضة. مع ذلك، يطرح هذا التساؤلات حول معايير الجمال والفخامة في الوسط الفني. هل نحن بصدد تعزيز ثقافة الرفاهية المفرطة، أم أن هناك جانبًا فنيًا يستحق الإشادة؟

أحدث الأعمال الفنية: هل ترقى للمستوى المتوقع؟

في شهر أبريل الماضي، طرحت بلقيس أغنيتها الجديدة “حاولت أغير” على موقع يوتيوب، وحققت تفاعلًا كبيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي. كلمات الأغنية كتبها تركي المشيقح، مع ألحان عيسى العوهلي، وهو ما يثير تساؤلات حول التوجه الفني للفنانة. هل تحاول بلقيس فتحي تغيير نمطها الفني، أم أنها تسير على نفس النهج الذي اعتادت عليه؟

الأعمال الرمضانية: عبور الثقافات

قدمت بلقيس فتحي خلال شهر رمضان 2024 أغنية “شكون كان يقول” لجينيريك المسلسل الرمضاني المغربي “بين القصور”. هذه الخطوة ليست مجرد مشاركة فنية، بل تعكس اندماج الثقافات العربية المختلفة. هل يعني ذلك أن بلقيس تسعى لتوسيع جمهورها وتقديم نفسها كممثلة ثقافية تعبر عن كافة الأطياف العربية؟

النهاية: فن أم استعراض؟

تستمر بلقيس فتحي في التألق في الساحة الفنية، ولكن مع كل نجاح، تظهر تساؤلات حول معايير الجمال والمواهب في عالم الفن. هل نحن نشجع الفن الأصيل، أم أننا نشهد ظاهرة استعراضية؟ في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستكون بلقيس قادرة على تحقيق التوازن بين الجمال والفن، أم ستتجه نحو السطحية التي تسيطر على بعض نجوم الساحة الفنية؟

مقالات مشابهة

  • فوائد زيت اللوز الحلو للبشرة: كنز الجمال الطبيعي
  • فوائد زيت جوز الهند للبشرة: الجمال الطبيعي والعناية الفائقة
  • فوائد الشاي الأخضر للبشرة: سر الجمال الطبيعي
  • خلال ندوة لجائزة الشيخ حمد للترجمة هل الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل المترجم؟ متخصصون يجيبون
  • الحردلو (24) كِملت كوتة التُمباك قصعنا الجَرّه..!
  • طلاب الدفعة (26 طب) مارسوا نفس الفوضي التي كانت تحدث في الخرطوم فتم طردهم الى السودان
  • «حل سلمي» للسودان… «أولوية مصرية» خلال رئاسة «الأمن الأفريقي» .. وفد من المجلس يزور بورتسودان للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب
  • فوائد الكركم للبشرة: سر الجمال الطبيعي
  • مبزرة الخضراء.. ملاذ ساحر في العين لعشاق الطبيعة
  • بلقيس فتحي: إطلالة مثيرة وأغنية جديدة تُشعل الأجواء الفنية