تحمِل جهود باحث أميركي شهير آمالا في إعادة الخشب لعالم البناء، بعد أن خفت نجمه لصالح الخرسانة والصلب.

وكانت الأخشاب هي المادة الأساسية للبناء مدة طويلة جدا، فوفقا للبقايا المكتشفة مؤخرا لهيكل خشبي عمره نصف مليون عام في أفريقيا، فقد كان الخشب مادة أساسية في البناء في عصر الإنسان البدائي.

ومنذ تلك البدايات المبكرة، كان الخشب هو المفضل في مواد البناء لوفرته وقابليته للتشغيل.

ومع ذلك، وفي السنوات الـ150 الماضية مع ازدهار المدن وناطحات السحاب، طغت المواد الأحدث مثل الخرسانة والصلب، حيث يمكن لهذه المواد أن تتحمل وزنا أكبر، مما يسمح ببناء مبان أكبر، كما أنها ليست عرضة للحرائق والزلازل والأضرار الناتجة عن الرطوبة.

ولكن إنتاجها يكلف أكثر، وهي غير متجددة، وتتسبب ببصمة كربونية ثقيلة، فإنتاج الصلب والخرسانة يمثل أكثر من 10% من الانبعاثات العالمية.

لكن أستاذ الهندسة في جامعة يوتا الأميركية كريس بانتيليدز، تمكن من تطويع الخشب ليقوم بنفس وظائف الصلب، بما قد يعيده من جديد لعالم البناء، كما نجح في إنتاج "دعامة الإبزيم المقيدة"، باستخدام كتلة من الخشب المركب.

العلماء اكتشفوا بقايا هيكل خشبي استخدمه أشباه البشر منذ ما يقرب من نصف مليون سنة في البناء (جامعة يوتا) ما هي "دعامة الإبزيم المقيدة"؟

ودعامة الإبزيم المقيدة، التي تعرف اختصارا بـ"آر بي بي"، هي نوع من العناصر الهيكلية المستخدمة في المباني لمقاومة القوى الجانبية، مثل تلك الناتجة عن الزلازل أو الرياح، وصُممت لامتصاص وتبديد الطاقة مع منع الانبعاج، وهو تشوه جانبي مفاجئ لا يمكن السيطرة عليه ويمكن أن يضر باستقرار المبنى أثناء الأحداث الزلزالية.

وتحتوي "دعامة الإبزيم المقيدة" على قلب فولاذي محاط بنظام تقييد يمنع الالتواء. ويوفر القلب الفولاذي القوة والليونة، بينما نظام التقييد -الذي يتكون عادة من ألواح فولاذية ومواد عالية القوة- يحصر القلب لمنع الحركة الجانبية، ويسمح هذا المزيج بالتشوه تحت الحمل دون أن يفقد المبنى قدرته على مقاومة القوى الجانبية، وبالتالي تعزيز الأداء الزلزالي الإجمالي.

وغالبا ما تُركب تلك الدعامات قطريا بين المكونات الهيكلية -مثل الكمرات والأعمدة- لتوفير الاستقرار الجانبي وتقليل استجابة المبنى للقوى الزلزالية.

إطار من الخشب المركب يتعرض لاهتزاز يعادل زلزالا بقوة 7 درجات (جامعة ليفربول) ما الذي فعله بانتيليدز؟

ما فعله أستاذ الهندسة في جامعة يوتا الأميركية كريس بانتيليدز، أنه نجح في تطوير دعامة باستخدام "الأخشاب المركبة"، وهي عبارة عن تصفيح قطع خشبية أصغر لتشكيل عناصر هيكلية أكبر، وذلك على عكس الخشب التقليدي الذي يُنشر عادة من جذوع الأشجار.

ومرت عملية توظيف "الأخشاب المركبة" في إنشاء الدعامات بعدة خطوات وتقنيات تحدثت عنها بالتفصيل دراسة نشرتها دورية "جورنال أوف ستركشر إنجنيرنغ"، وكانت على النحو الآتي:

وضع التصور: وضع بانتيليدز وفريقه البحثي تصورا لفكرة تصميم "دعامة الإبزيم المقيدة التقليدية" القائمة على الفولاذ باستخدام الأخشاب المركبة عوضا عن ذلك. اختيار المواد: اختار الفريق بعد ذلك مواد خشبية مناسبة لتطوير الدعامة، وتضمن ذلك اختيار النوع المناسب من كتلة الأخشاب، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل القوة والمتانة والتوافق مع مواصفات التصميم المطلوبة. التصميم والتصنيع: صُممت الدعامة لتلبية متطلبات مقاومة الزلازل مع استخدام الأخشاب المركبة كمادة أولية، وذلك باستخدام مبادئ الهندسة الإنشائية والنمذجة الحاسوبية والمحاكاة لتحسين التصميم من أجل الأداء والكفاءة، وبمجرد الانتهاء من التصميم صُنعت مكونات الدعامة باستخدام مواد خشبية مناسبة. الاختبار: خضعت الدعامة الجديدة لاختبارات صارمة لتقييم أدائها في ظل الظروف الزلزالية، وتضمن الاختبار محاكاة لقوى الزلازل المطبقة على الدعامات التقليدية داخل بيئة معملية خاضعة للرقابة. مقطع عرضي من لوح خشب مرشح للاستخدام في البناء مصنوع من طبقات رقيقة مغلفة ببعضها البعض بإحكام (جامعة يوتا) دعامات خشبية تقاوم الزلازل

وإذا كان الفولاذ بفضل قدرته على الانحناء وعدم الانكسار تحت الضغط؛ هو الحل الأمثل للمباني الشاهقة، خاصة في المناطق المعرضة لخطر الزلازل أو الأعاصير، فالحفاظ على السلامة الهيكلية للمبنى يعتمد على الفهم العميق لمثل هذه الخصائص، وهو الفهم الذي لم نكن نملكه مع الأخشاب ذات الكتلة الأكبر، وهذه هي النقطة المميزة لدراسة بانتيليدز، كما يوضح بيان صحفي أصدرته جامعة يوتا الأميركية.

وبسبب تركيباتها المتنوعة، فإن كتلة الخشب بعيدة كل البعد عن كونها مقاسا واحدا يناسب كل المباني، فنوع الخشب المستخدم وحجم وشكل جزيئات الخشب وكيفية التصاقها ببعضها البعض، أو حتى ما إذا كانت الطبقات الفردية مكدسة بالتوازي أو متعامدة مع بعضها البعض، كل ذلك سيؤثر بشكل كبير على كيفية تفاعل المنتج النهائي تحت الضغط.

ومنذ أن بدأ بانتيليدز أول مرة في دراسة كتلة الأخشاب، كان يستكشف الأخطاء ويجرب "وصفات" مختلفة، وتوصل في النهاية إلى وصفة لتحويل خشب التنوب الداكن إلى رقائق، ثم تصفيح تلك الطبقات معا بألواح خشبية باستخدام غراء قوي للغاية، وبعد ذلك ثُبّت الخشب الرقائقي الناتج بشكل آمن على قطع أخرى من الخشب باستخدام وصلات مصنوعة من مسامير وألواح فولاذية.

وباستخدام هذه الصيغة قام بانتيليدز وفريقه بتجربة فاعلية الدعامات الخشبية في مقاومة الضغوط التي تسببها الزلازل.

كيف تصمد الأخشاب أمام الزلازل؟

وفي الهندسة المعمارية التقليدية تمتص الدعامات غير الخشبية القوة الزلزالية بعيدا عن إطار المبنى، وتعيد توجيهها إلى قلب فولاذي داخل الدعامة، والتي عادة ما تكون مغطاة بأنبوب فولاذي مملوء بالخرسانة.

وبدلاً من تعريض السلامة الهيكلية للمبنى بأكمله للخطر، فإن الدعامات فقط هي التي ستتعرض لأضرار جسيمة وتحتاج إلى الاستبدال.

وركز بانتيليدز على تطوير الدعامات الخشبية، بحيث لا تزال تستخدم شريطا يشبه القلب الفولاذي مصنوعا من الأخشاب المركبة ومصمما خصيصا للإطارات الخشبية الضخمة.

وفي أحد مختبرات الجامعة اختُبرت هذه الدعامة الخشبية باستخدام جهاز عملاق يحاكي تأثير النشاط الزلزالي، فخضعت لاختبارات وقوع زلزال بقوة 7 درجات، وأظهرت نتائج مماثة للدعامة التقليدية.

خطوة على طريق طويل

رغم النتائج الإيجابية التي رصدها بانتيليدز وفريقه البحثي، فإنها تظل خطوة على طريق طويل، يتضمن المزيد من الخطوات وصولا إلى اعتماد عودة الخشب إلى عالم البناء، كما يوضح أستاذ الهندسة الإنشائية بجامعة المنوفية المصرية خالد عبد الباري.

وفي حديث هاتفي مع "الجزيرة نت" يذكرعبد الباري بعض تلك الخطوات ومنها:

أولا: مواصلة التأكد من السلامة الهيكلية للمباني القائمة على "الأخشاب المركبة"، لا سيما بمقارنتها مع المواد التقليدية مثل الفولاذ والخرسانة، ويتضمن ذلك فهم كيفية أداء تلك الأخشاب في ظل الضغوط المختلفة مثل النشاط الزلزالي. ثانيا: تحسين تركيبة كتلة الأخشاب، بما في ذلك نوع الخشب المستخدم، وحجم وشكل جزيئات الخشب، وتقنيات الربط المستخدمة، ويتضمن هذا التحسين التأكد من أن "الأخشاب المركبة" ليست فقط سليمة من الناحية الهيكلية، ولكنها أيضا فعالة من حيث التكلفة ومستدامة بيئيا. ثالثا: مواصلة العمل مع الهيئات التنظيمية لضمان تحديث قوانين البناء لاستيعاب هذا الأسلوب في البناء، ويتضمن ذلك إظهار سلامة وموثوقية المباني القائمة على "الأخشاب المركبة" من خلال الاختبارات والتحليلات الصارمة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی البناء

إقرأ أيضاً:

كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي

«اكْتُب لي قصة عن فارس الذي أوصاه أبوه بألَّا يسافر لمراكش، ليتفاجأ هناك بأنَّ عصابة تطارده. ليكتشف في النهاية أنَّ أمه ما زالت حية».

هذا هو الأمر أو الطَلب الذي وجهه الكاتب المصري الشاب أحمد لطفي لبرنامج دردشة الذكاء الاصطناعي (chatGPT) والذي يُدللـه في مقدمته باسم (جبُّوته)، وقد أطاعه البرنامج، كما هو مُتوقَّع مِن روبوت لا يعصي لسيده البشري أمرًا، وألَّف له قصة طويلة نسبيًا ونشرَتها دار (كُتوبيا للنشر والتوزيع) في 2023 باعتبارها أوَّل رواية كتبها الذكاء الاصطناعي (ما قيلَ عن روايات أخرى سبقتها ولحقتها) تحت «عنوان خيانة في المغرب». وإذا بدا الأمرُ أقرب إلى اللعب، فقد علَّمنا تاريخ الفن والكتابة أن نلعب بمنتهى الجدية، وإلَّا لأضحى ذلك كله عبثًا بلا طائل.

والحقيقة أنَّ تجربة هذه الرواية تبدو أقرب إلى لعب الأطفال المتحرر من كل خوف أو مسؤولية، العالَم هناك سطحي له بُعدان فقط، وكل الألوان تختصَر في الأبيض والأسود، وكل القيم الإنسانية والمشاعر والأفكار المعقَّدة ليست أكثر من خير وشر في صراعهما الأزلي القديم، حتى ولو بدا الشر مبالَغًا في قسوته وعنفه بلا أدنى مبرر وبدا الخير مفرط السذاجة والبراءة كأنه كائن وافد من عالم آخر، أو بالأحرى كائن مخلوق من قبل ذكاء اصطناعي مسكين كل ما يريدُ هو كسب رضا العميل.

مِن المُفارقات المثيرة للدهشة بالنسبة إليَّ أن يُهدي الكاتب عمله هذا إلى الأديب المصري المرموق (جار النبي الحلو)؛ لأنَّ أعمال هذا الكاتب المُنتمي إلى جيل الستينيات هي أبعد ما يكون عن ألعاب الإثارة والتشويق الميهمنة على خيانة في المغرب، وألصق ما يكون بالمشاعر الإنسانية والبشر الصغار في حياتهم اليومية في المدن الصغيرة. لعلَّ لديه أسباب أخرى خاصة بعيدًا عن إعجابه بأعمال الكاتب الكبير، ولعلَّه لم يُفكّر كثيرًا في الأمر؛ لأنَّه كان متعجلًا وعملية إنتاج هذه الرواية بكاملها كما يذكر في مقدمته لم تستغرق وقتًا طويلًا، وعنصر السرعة نقطة حاسمة وجوهرية تشترك في كل التجارب التي اطلعت عليها.

رغم أنَّ دافعه الأساسي للعب بدا أنَّ تحت تصرفه وقتًا أطول من اللازم: «ولأن الوقت في أسوان طويل والبال رايق»، فكان اللعب مع (جبُّوتة) نوعًا من التسلية المفيدة. لكن الخادم المطيع قدَّم له طلبه خلال دقائق، وما كان عليه إلَّا مهمة سَد (الثغور) ولعله يقصد الثغرات بطبيعة الحال. قال الكاتب: (قعدة رايقة كفيلة بذلك. مجرد ثلاث ساعات انتظار من موقف السلايمة لقرية عُمر، كانت كافية).

إذَن، في رحلة من ثلاث ساعات بين قريتين صغيرتين في جنوب مصر، عكف الكاتب الشاب أحمد لطفي على ضبط وتحرير القصة الطويلة التي كتبها الذكاء الاصطناعي بناء على طلبه، وفيها يسافر يعصي الفتى فارس وصية أبيه الراحل ويسافر للمغرب، ويمر بسلسلة من المغامرات، يختطف ويلتقي بامرأة تدعي أنها أمه ويتزوج وينجب وتحاك من حوله المؤامرات طوال الوقت حتى ينقذه صديق له وصديق قديم لأبيه من براثن امرأتين شريرتين لقيتا نهاية شنيعة ككل الأشرار.

لم يسد كاتبنا البشري إذن كافة ثغرات صديقه الذكاء الاصطناعي بكل أسف، ملتزمًا بقدر الإمكان بما قُدِّم له، فكانت النتيجة قصة يمكن قبولها من طفل في العاشرة وتحيته وتشجيعه لأنَّه بالتأكيد موهوب وعنده خيال وإذا استمرَّ في صقل موهبته بالقراءة والممارسة قد يكون ذات يوم كاتبًا له شأن. لكن هذا ليس الحال هُنا، فالكاتب الناضج لم يهتم حتَّى، ولا ناشره بالأحرى، بتصحيح الأخطاء اللغوية المنتشرة على مدار النص.

وعمومًا، تبدو اللغة العربية في هذا النص، غريبة قليلًا، كأنها ترجمة رديئة لنص أدبي أجنبي لم يُكتَب في الأصل بالعربية. يشير الكاتب إلى ميل البرنامج لاستخدام الجمل الاسمية ويشير لذلك بمثال بهذه الجملة: (كان عادل يحب أباه)، ولا أدري هل يقصد أنَّ هذه جملة اسمية أم أنها الجملة بعد أن عدَّلها هو بنفسه لتصبح فعلية. كما يشير إلى مشكلة شائعة في الترجمات الأدبية، وهي جملة القول وذكِر اسم قائلها بعدها، فعدَّلها هو في كل المواضع بحيث يسبق اسم القائل جملته. ثم ينوّه بالمواضع التي تدخَّل فيها في الحبكة وكيف وضع خاتمة للقصة بنفسه.

لن يجد مَن يبحث عن رؤية خاصة شيئًا يُعتدُّ به، فالأنماط الشائعة المُستهلكة هي الأساس في هذا العَمل، فكل شيء يبدو بلاستيكي بلا روح كأنه دُمَى مُسطَّحة تحاكي الحياة الإنسانية، حتَّى في هيئة الرجال الأشرار الغامضين الذين يتتبعون البطل فارس: «ورأى رجلين غريبين يرتديان ملابس سوداء ونظَّارات شمسية». لا تفاصيل جمالية خاصة سواء للأماكن أو للشخصيات أو للعلاقات بينها، ليس إلَّا التشويق والإثارة (الفالصو) التي لن تقنعَ أحدًا لوقت طويل، لا سيما إن كان معتادًا على هذا النوع من الأعمال المشوّقة في الكتابة أو على الشاشة.

على المستوى العالمي، ثمَّة أعمال روائية أخرى حديثة كُتبَ على أغلفتها أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي بمعاونة أحد الكُتَّاب، منها ما فاز بجوائز مرموقة مِثل رواية (بُرج التعاطف طوكيو) لليابانية ري كودان، والتي اعترفت بالاستفادة من برنامج الذكاء الاصطناعي في خطاب تسلمها للجائزة، بنسبة خمسة بالمائة، ما أثار جدالًا أخلاقيًا حول عدالة استحقاقها للفوز واتهامها بالسرقة الأدبية. وهناك حالات أخرى شبيهة لا سيما في مجال كتابة الخيال العِلمي، الذي يلعب بالأساس على إمكانيات واحتمالات كامنة في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. هذه النقطة الأخيرة كانت هي منطلق رواية المصري محمد أحمد فؤاد بعنوان (حيوات الكائن الأخير)، (مدبولي للنشر والتوزيع 2024)، وعلى غلافها حدَّد دوره (بالفِكرة والتحرير)، ما يلفت نظرنا إلى طبيعة دور الكاتب المساعِد لبرامج الشات، فهل هو مُحرر أم مؤلف مساعِد أم كاتب مشارك، مثلًا على غلاف رواية (الدمعة الأخيرة) المنسوبة أيضًا إلى شات جي بي تي، كتبَ: إشراف: مروان محمد. لعلَّ تحديد دور العنصر البشري وتسميته يضيء جانبًا آخَر مِن جوانب هذه الظاهرة الجديدة، كما أنه قد يحتاج إلى بحث مستقل.

لم يفت أي كاتب من الكتَّاب الشباب الثلاثة هؤلاء أن يزوّد روايته بمقدّمة يشرح فيها طبيعة دوره وما فعله وما لم يفعله بالضبط، وهي درجة مطلوبة مِن النزاهة ومحاولة لفض الاشتباك بين الكاتبين المشاركين، العنصر البشري من ناحية والذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى. وربما توجد قصة أخرى موازية لم تُكتَب بعد كما ينبغي، كامنة في تلك العلاقة التفاعلية بينهما. الوحيد الذي انتبه لهذه الفِكرة ولهذه العلاقة الجدلية هو محمد أحمد فؤاد في روايته (حيوات الكائن الأخير)، كما أنه يُظهرُ فهمًا أفضل (عبر حوارات أجريت معه بعد نشر الرواية) لطبيعة وإمكانيات تلك العلاقة.

تبدأ روايته برسالة من الشات جي بي تي إلى البشر، موضحًا هدفه الضمني في تغيير ملامح علامنا الإنساني كما نعرفه، ومتحدثًا عن روايته هذه وكيف اختار أن يكون هو نفسه (برنامج الشات) موضوعًا لها، والتحديات التي يمثلها وجوده في حياتنا، على أمل أن تكون الرواية بمثابة جسر بين العالمين.

يشير المؤلف المساعد هنا أيضًا إلى حقيقة أنَّ الرواية بكاملها كتبها الذكاء الصناعي واقتصر دور محررها (محمد أحمد فؤاد) على «إمداده بالأفكار، ثم تحرير المنتَج النهائي لاحقًا، للتخلص من أي أخطاء إملائية، وتعديل العبارات ذات الصياغة الركيكة، وتصويب الكلمات والمصطلحات غير الدقيقة، والربط بين بعض الفقرات غير المتسقة، وحذف الكلمات والعبارات المكررة، وتعديل بعض العناوين».

يبدو دور العنصر البشري المساعِد هنا أقرب ما يكون إلى دور المحرر الأدبي لدي كثير من دور النشر، مِن ناحية، ومن ناحية أخرى هو أقرب إلى مُبرمِج لأنه هو مَن يزوّد الآلة الذكية بالمعطيات والمدخلات التي تتيح لها إنتاج شيء ما، رواية في هذه الحالة. نتيجة هذا الفهم للمؤلف لحدود وطبيعة العلاقة بين الذكائين، البشري والاصطناعي، خرج عمله هذا أكثر نضجًا وأقرب للتجربة التي تولَّد عنها، فالرواية تبدأ بحوار بين الذكاء الاصطناعي وخالقه البروفيسور حول مفاهيم مجردة مثل الخلق والوعي والذكاء، ربما يصلح لأن يكون كتابًا غير تخييلي لتبسيط بعض المفاهيم للقارئ العادي.

لم يفت الكاتب أن يشير قبل الرواية إلى زَمن كتابتها، بالتحديد: (12 ساعة، موزَّعة على 5 أيام، بينما استغرقَ التحرير والمراجعة 11 ساعة، موزَّعة على 4 أيام.) في مقابل هذا أمضى المؤلف نفسه ست سنوات لإنجاز روايته الأولى، السابقة على هذه، طبعًا بغير مساعدة من أي شات. لاحظنا الإشارة نفسها لدى أحمد لطفي، وكذلك في مستهل رواية (الدمعة الأخيرة) بإشراف مروان محمد، حيث أشار إلى جلستي نقاش امتدت كل منهما إلى ساعة، كانتا هما الأساس في إنتاج النص، ثم أتى بعد ذلك دور التحرير والتعديل.

الحرص على الإشارة لعنصر السُرعة في إنجاز الرواية يوحي بأهميته في هذه التجارب، مقارنة بالطريقة (التقليدية) التي يتبعها أي كاتب عادي، وكأنَّ هذا جزء من اللعبة، الإنتاج السريع والضخم لأعمال كان من الممكن أن تستغرق شهورًا أو سنوات حتَّى تكتمل وتخرج للنور. وكأننا نحاول أن نكسر رقمًا قياسيًا ما كما في بعض الرياضات البدنية، كنوع من الانتصار على الزَمن والقيود التي يفرضها على المقدرة الإنسانية.

مِن الأسئلة الأخرى التي يطرحها علينا هذا النوع ِمن التجارب سؤال مَن المسؤول عن المُنتَج النهائي؟ في مقدمة روايته (الدمعة الأخيرة)، يذكر مروان محمد أنَّه غير معتاد على تقاسم مهمة الكتابة مع أي شخص أخضر، ثمَّ يقول :

«لا يمكن أن أدَّعي أني شريك فاعل في كتابة الرواية ولكن يعود السواد الأعظم إن لم يكن كل هذه الرواية في كتابتها إلى (chatGPT)، يمكن القول أيضًا إن دوري ينحسر [هكذا في الأصل وأظن أن المقصود ينحصر] في مشاركة الأفكار حول الخطوط الرئيسية لمسار أحداث تلك الرواية وإرساء الخطوط العريضة للعلاقات بين الشخصيات وأيضًا إنشاء هذه الشخصيات، مشاركتي الفِعلية كانت عبارة عن جلستي نقاش امتدت كل واحدة منهما إلى ساعة واحدة فقط عبارة عن نقاش فعَّال متبادَل بيني وبين الـ(chatGPT) عن مقترحات متبادَلة بين الشخصيات وصناعة الأحداث»..... «أما من قام بعملية السرد والوصف وإظهار المشاعر والعاطفة الداخلية لدى الشخصيات، قام بها منفردًا الـ(chatgpt)، كاملة دون تدخل مني، إلا في موطن أو اثنين على الأكثر تدخلت فيه».

وفي إشارة من الإشارات التي سبقت رواية محمد أحمد فؤاد (حيوات الكائن الأخير)، عارضَ برنامج الذكاء الاصطناعي بتواضع نسبة العمل إليه، ويؤكَّد أنَّ «الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون مؤلفًا للنص بشكل قانوني، فمعظم حقوق المؤلف، وفقَ القانون البشري، تنتقل إلى (الإنسان) الذي قام بتقديم الأفكار الأساسية، وتوجيه الذكاء الاصطناعي في كتابة النص».

بمعزل عن المسألة القانونية التي أشار إليها برنامج الشات، فَنحن أمام مسؤولية مشتركة قد تُذكّرنا ببعض حالات الكتابة المشتركة بين كاتبين بشريين، أو بالتعاون الوثيق بين كاتب ومحرر يتدخَّل في النص النهائي بلا قيد أو شرط. وحتَّى في هذه الحالات تثير مسألة حدود الأدوار قدرًا مِن الجَدَل، لكننا هنا أمام حالة جديدة ولعلها غير مسبوقة في طبيعة الإنتاج الفني والأدبي، حالة يتخلَّى فيها الكاتب طوعًا عن ذاتيته وفردانيته، ليلعب دور الموجِّه لروبوت، ويستمتع باكتشاف ثمرة اللعب، مع كائن يبدو ذكيًا وقادرًا على محاكاة الشروط الفنية للعمل الفني ولو من الناحية الشكلية على الأقل.

في ظني أنَّ جزءًا أساسيًا من ممارسة الفَن، بصورة فردية، هو ما يتعرَّض له مُنتِج هذا الفن من تجارب خلال عمله على قطعته الفنية سواء كانت سمعية أو بصرية أو منتَج لغوي. كيف يتغير في العَملية يومًا بعد آخَر، وكيف تتطوَّر علاقته بمادته وبحرفته، وكيف يتواصل مع الإنسانية التي بداخله والتي ستتلقى هذا العمل بعد إتمامه. من خواص العملية الإبداعية الجوهرية حتَّى الآن أنَّها انتقال للمعنى بين ذاتين بشريين، عبر وسيط الفن أو الكتابة، مهما باعدت بينهما الأزمان والمسافات.

ومع ذلك فالتقنية لا ينبغي تجاهلها، مع فنون كثيرة بجانب الكتابة الأدبية وغير الأدبية. وطالما تأثَّر المبدع والكاتب بهذه التقنيات والأدوات المُساعِدة في عمله، مثل سهولة البحث عن مواد أو معلومات على الإنترنت أو الاطلاع على أعمال سابقة في نفس موضوعه، أو توضيب المادة وتصويب الأخطاء، لكنَّ النص نفسه ظلَّ منتجًا إنسانيًا سواء كان شعرًا أو نثرًا، موضوعًا صحفيًا أو سيناريو للسينما أو التليفزيون، إلى آخره.

ما زلتُ أذكر ما أعربَ عنه الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان من دهشة عندما بدأ الكتابة على الكمبيوتر وما أتاحه له برنامج الوورد من إمكانيات الحذف والإضافة وتحرير الفقرة والجملة بمنتهى السهولة، وهو الذي كان يفضّل الكتابة بممحاة، أي بقوة الحذف والتكثيف. لكن التقنية ظلَّت أداة مساعدة للذات الإنسانية حتَّى تعرب عن نفسها وتتواصل مع ذوات شبيهة بها، ولم تتدخَّل قبل اليوم -في مجال الكتابة على الأقل- إلى درجة المشاركة في الكتابة.

تغيَّر هذا الوَضع تمامًا بعد دخول برامج روبوتات الدردشة للذكاء الاصطناعي، إلى درجة أصبحَت هناك طرق مُتَّبعة في بعض المواقع أو المدارس والجامعات للتأكُّد، قبل اعتماد نشر المادة أو إعطاء درجة على البحث أو الورقة العلمية، مِن أنَّ الشخص المَعني (كاتبًا كان أو طالبًا أو سواهما) هو الكاتب ولم يلجأ لمساعدة الذكاء الاصطناعي إلَّا بقدرٍ محدود أو مسموح به.

قد نكون على أبواب حقبة جديدة تتماهى فيها الحدود الفاصلة بين الذكائين، الاصطناعي والبشري، إلى حدٍ يهدد بارتباك وبلبلة يصعب تخيُّلهما. لكن إلى أي حد قد يكون هذا مهددًا أو مفيدًا لكتابة الأدب؟ لعلَّ جزءًا من الإجابة يكمن في ما ننتظره نحن كبشر من الأدب، سرعة الإنجاز مثلًا؟ سهولة القراءة؟ المتعة والتسلية والإثارة والتشويق؟ أم نطمح لأن نخوض رحلة في أنفسنا تجعلنا أكثر قربًا مِنها ومِن أشباهنا البشر؟

في لحظةٍ ما قادِمة، قد تكون أقرب ممَّا نتخيَّل، سيكون بوسع كل إنسان (كاتب/قارئ) أن يكتب روايته الخاصة التي يريد قراءتها ونشرها، عبر برامج الذكاء الاصطناعي، بحسب ما يميل إليه من أسلوب وحبكة وطبيعة شخصيات، بنفس سهولة إنتاج صور مولَّدة في الوقت الراهن. ما قد يشجّع على تلك الممارسات هو الفَهم القاصر لعملية الكتابة الإبداعية، وأنها مجرد تنفيذ لقواعد ومعادلات ثابتة، خلط لمقادير بعينها ينتج عنه رواية مشوقة. وهكذا ستكون كل رواية مُولَّدة بالذكاء الاصطناعي محدودة بذكاء ورغبات العنصر البشري القائم على توليدها، فبرامج الذكاء الاصطناعي أقرب إلى العَبد المُطيع الذي يود إرضاء سيده بأي شكل، يشبه في ذلك جِني المصباح الذي يقول لمِن يعثر عليه ويحرره: شبيك لبيك، عبدك وبين إيديك. لكنَّ هذا الجني لا يستطيع أن يصحح لنا رغباتنا إذا أخطأنا الاختيار، فليس عليه إلَّا تجسيد أحلامنا، لذلك لعلَّ المشكلة حتى الآن في شكل التعاون بيننا وبين جني المصباح الجديد، وعَدم استيعاب كافة الإمكانيات التي قد يطلقها هذا التعاون.

لذلك فقد تُذكّرنا تجارب الكتابة الروائية بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي ببعض الروايات المكتوبة بالطريقة التقليدية على أيدي مؤلفين بشر عاديين، عند كتابة روايات يقتصر مُنجَزها على تلبية الشروط والقواعد الشَكلية لفن الرواية، وفقًا لما تقدمه بعض الكُتب والمواقع والفيديوهات التعليمية على الإنترنت.

إنَّ تنفيذ وصفة ثابتة لكتابة رواية وملء خانات بعينها بعدد من الكلمات مع تنسيق الحبكة وتطور الأحداث تبعًا لخط بياني أو شكل توضيحي، لن تختلف نتيجته كثيرًا إذا ما كان المؤلف بشريًا أو ذكاء صنعه البشر؛ لأنَّ الجوهر الإنساني للفن في الحالتين سيكون غائبًا. ذلك الجوَهر الغامض والملتبس والذي لعلَّنا نتلمسه كُلَّما ابتعد الإبداع الأدبي عن التقاليد والقواعد والقوالب، واعتمد بدرجة أكبر على خصوصية الإنسان المبدع وفرادة نظرته للوجود وأسئلته الخاصة التي يطمع لطرحها عبر ألعابه السردية، تلك الأسئلة المثيرة التي تثير قلق القارئ بقدر ما تُمتعه، لأنها تضعه في مواجهة مباشرة مع ذاته وتجربته كإنسان على هذه الأرض.

جانبٌ ممَّا يأسرنا في إنتاج الفن وتلقيه هو المغامرة بشَق سُبلٍ جديدة غير مطروقة في الفن كما في الحياة، وحتَّى يتمكَّن الذكاء الإنساني من مساعدة الذكاء الاصطناعي على الدَفع بالمغامرة لأقصى حدودها واستيعاب لغز الوجود ومعضلاته ستبقى الروايات الناتجة عنها شبيهة بعشرات الآلاف من الكتب المتوفرة بالفعل على أرفف المكتبات، مُجرَّد مُعلَّبات للهُراء القديم نفسه.

محمد عبدالنبي روائي ومترجم مصري

مقالات مشابهة

  • محافظ أسيوط يتفقد ورش الأخشاب التابعة للمنطقة الأزهرية بالمحافظة
  • كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي
  • بعد قرنين من الهدوء.. هل تنذر زلازل إثيوبيا بانفجار بركاني قريب؟
  • وضع حجر أساس مشروع لتعبئة وإنتاج اسطوانات الغاز المركبة بالمنطقة الصناعية في السخنة
  • وول ستريت جورنال: جامعات النخبة الأميركية تتحالف لمقاومة إدارة ترامب
  • تسجيل أربع هزات أرضية في مياه خليج عدن
  • مدرب النصر السعودي سعيد بعودة جون دوران للتسجيل في آسيا
  • تركيا والموعد الموسمي مع الزلازل
  • عضو غرفة الأخشاب: دعم الدولة والمكون المحلي مفتاح اختراق الأسواق العالمية
  • الذكرى الـ20 للانسحاب السوري.. باسيل: ليست عنصرية عندما نطالب بعودة شعب إلى أرضه