تأسست الدّول باعتبارها شخصا معنويا سياسيا منظّما كأرقى تنظيم بشري لصون الحقوق وتحقيق مصالح شعوبها في الحرية والكرامة والعيش الكريم.
وبهذا الغرض النبيل تطور الأمر في الدول من التسيير الفردي إلى تسيير المؤسسات إذ تضمن ديمومة خدمة الإنسان من دون ارتباط الحكم بشخص أو مجموعة أشخاص إلى مؤسسات ثابتة لا تتغير ولا تتبدل إلّا بالقدر الذي يضمن أداء خدمة المواطن ضمن قواعد العدل والصّرامة والإنصاف.
لهذا السبب تصبح الخدمة العامّة شرفا وتكليفا؛ تصبح شرفا لأنّ الذي يقوم بالخدمة العامّة يكون نتاج خيار المواطن وإرادته، وتكليفا لأنّ مناطه المسؤولية، فإذا قصّر في القيام بالواجب الذي يتطلبه التكليف استُبدِل بغيره بالطرق القانونية التي تحكم طبيعة نشأة مؤسَّسات الدولة وطرق تسييرها.
هذه القواعد والمبادئ التي أصبحت في الدولة المعاصرة ثابتة ومعلومة، ما زالت في بعض الدول المتخلِّفة محطّ جدل وشك وتذبذب، بل صارت أحيانا محل تحايل لا يُؤخذ بها إلّا صوريا على سبيل التّذرع والتغطية، إذ تصبح الخدمة العامة غطاءً لتمرير أولوية خدمة الذّات، أو المسار المهني، أو الفئة، أو الجهة، أو أيًّا ما كانت هذه الجهة إقليما، أو تنظيما، أو طائفة، أو ما شابه ذلك.
وعندما تُسيَّر شؤون الدولة وتُسخَّر إمكاناتها لخدمة شخص، أو طائفة، أو جهة، أو فئة، أو نخبة، أو حزب، أو جماعة، أو تيار، وتتأخَّر بذلك عن واجب خدمة شؤون المواطنين بل وتحجبها أحيانا، عندها تُصبح الوطنية وسيلة مخادعة، ويصبح الواجب الوطني عند المواطن غير ذي شأن، بل أسوء من ذلك يفقد المواطن شعور الانتماء تدريجيا إلى الحد الذي يرى فيه أنّ الهجرة إنقاذٌ له وأُفقٌ لتحسين ظروف حياته بل وإنجاز متميّز ومتفرِّد.
وتبعا لذلك، يتغير مفهوم “رجل الدولة” من ذلك الشخص الذي يُكلَّف بتحمُّل واجبات أثقل لحُسن تأهيله في تقدير المصلحة العامة والتّفاني في تحقيقها إلى اعتبار مركزه امتيازا له يؤهِّله لنيل حقوق تفضيلية على بقيّة أبناء شعبه، وعندما يعمّ هذا المفهوم تصبح الدولة غنيمة في أيدي هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بـ”رجال دولة”.
إنّ خدمة مصالح الناس ابتغاء إسعادهم وتحسين ظروف حياتهم من أجلِّ العبادات في المفهوم الشرعي، وهي تاجٌ على رأس الوطنيين الصادقين الذين يرَوْن في مسؤولية الدولة تكليفا وأمانة لا مركزا للإثراء والإطراء وربما للاعتداء والاستكبار. وعليه سُمِّي المسؤول مسؤولا لأنّه يُسأل عن أمانته في خدمة الآخرين. والمسؤولية بهذا المعنى ليست مركزا تفضيليا تجعل صاحبها مخدوما لا خادما كما يفهمها البعض اليوم.
وما لم تأخذ هذه المعاني طريقها إلى التجسيد العملي بفعل الوعي أو بسلطان القانون، فإنّ الرِّباط الوطني يصبح هشّا، وربما ينذر بالزوال والاندثار لا قدّر الله.
وقد وصل الدّاءُ في بلدان كثيرة من عالمنا العربي والإسلامي إلى درجة التّحقير والتّهميش لمن يعيد التذكير بهذه الأصول البديهية في تولّي المسؤولية وإدارة الشّأن العام.
وأعتقد أنّ الأولوية اليوم هي لمعالجة هذا الموضوع بجدية وصرامة لأنها الخطوة الصحيحة الأولى لإعادة التقويم والقضاء على داء “القفازة” الذي أصبح عُملة شائعة في التعامل العامّ وكاد أن ينزع الثّقة نهائيا في الانتماء الوطني والحضاري لشعوبنا ودولنا.
قيل قديما (لا وطن للعبد) ومِن ثمَّ فإن الذي يشعر أنّه مُستعبَد في حرية رأيه ومسكنه ومعاشه وعلاجه وكل متطلبات حياته لا يمكن أن يلعب دور المواطن الصالح المُبدِع المُنتِج، وقد تزداد خطورة إصابته فلا يشعر معها بالانتماء، ويسهل بذلك احتواؤه والتّلاعب به، وقد يُستَغلُّ وضعه لتوظيفه ضد وطنه وقومه، والتاريخُ القديم والحديث مليء بالنّماذج المصابة بهذا الداء، وأخشى أن تتوسع دائرته مع انتشار ثقافة (إذا مِتُّ ضمآنا فلا نزل القطر).
عبدالوهاب دربال – الشروق الجزائرية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
للمرة الأولى.. التضامن تمنح الفرصة للسيدات في التقدم للإشراف على الحج
شهدت الدكتورة مايا مرسي وزيرة التضامن الاجتماعي ورئيس مجلس أمناء المؤسسة القومية لتيسير الحج افتتاح الدورة التدريبية لمشرفي حجاج الجمعيات الأهلية لعام 1446هـ- 2025م والتي عقدت بمقر المركز العام للهلال الأحمر المصري.
وحضر افتتاح الدورة الدكتور عبد الهادي القصبي رئيس لجنة التضامن الاجتماعي والأسرة والأشخاص ذوي الإعاقة بمجلس النواب، وأيمن عبد الموجود الوكيل الدائم لوزارة التضامن الاجتماعي والمدير التنفيذي للمؤسسة القومية لتيسير الحج، والدكتور محمد العقبي مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي، وهشام محمد مدير مكتب وزيرة التضامن الاجتماعي، والدكتورة آمال إمام المدير التنفيذي للهلال الأحمر المصري، والدكتور أحمد عبد الرحمن رئيس الإدارة المركزية للحماية الاجتماعية، وعلي مبارك أمين صندوق المؤسسة القومية لتيسير الحج، واللواء ممدوح شعبان عضو مجلس أمناء المؤسسة القومية لتيسير الحج.
وأعربت وزيرة التضامن الاجتماعي عن تشرفها لوجودها اليوم، في صفحة جديدة من سجلٍ مشرف لطالما كتبته وزارة التضامن الاجتماعي ممثلة في المؤسسة القومية لتيسير الحج، في العام الأول كوزيرة للتضامن الاجتماعي؛ حيث تعد هذه الرحلة المباركة، أنبل المهام التي تقوم بها الوزارة وهي خدمة حجاج بيت الله الحرام.
وأكدت الدكتورة مايا مرسي أنها تعلم جيدًا أنها تسير على طريقٍ شيده المشرفون بجهودهم، وكرسوا له من أعمارهم سنواتٍ طويلة من الإخلاص والتفاني، مشيرة إلى أن المؤسسة لديها 18 عامًا من الريادة والتميز، كانت وما زالت فيها وزارة التضامن الاجتماعي نموذجًا مشرفًا في تنظيم موسم الحج، بفضل كوكبة من المديرين والمشرفين الذين ضربوا أروع الأمثلة في الانضباط والالتزام والحرص على خدمة حجاج بيت الله الحرام؛ فكل موسم حج هو شهادة جديدة على أن هذا التنظيم يقوم على أشخاص مؤمنة برسالتها، تعمل في صمت، وهذا العمل لا يبدأ مع موسم الحج، ولكنه يبدأ من نهاية موسم الحج الذي يسبقه، ويستمر شهور وسنوات بخطوات محسوبة وقلوب صافية.
وأوضحت وزيرة التضامن الاجتماعي أن هذا العام تقدم 1227 مرشحًا للإشراف على حج الجمعيات الأهلية، خاضوا الاختبارات التحريرية الإلكترونية التي أجرتها المؤسسة؛ وفقاً لمعايير شفافة ومنضبطة، للقضاء على أي شائبة قد تشوب عملية الاختيار باعتبار المشرف أحد العوامل الرئيسية المهمة في نجاح منظومة الحج؛ اجتاز الاختبارات 630 مرشحاً عقدت لهم اللجنة مقابلات شخصية؛ اختارت منها 272 مشرفًا لموسم حج 1446هـ - 2025م.
كما أنه ولأول مرة هذا العام؛ منحت وزارة التضامن الاجتماعي هذا الموسم الفرصة للسيدات في التقدم للإشراف هذا العام ممن يقل سنهم عن 50 عاماً للمشرفين الجدد، و60 عاماً لأصحاب الخبرات الإشرافية ومنحهن نسبة تمثيل أكبر من الأعوام السابقة، مشيرة إلى أن قواعد المؤسسة تقوم على وضع مشرف لكل 46 حاجا، يخصص منها نسبة 60% على الأقل ممن سبق لهم الإشراف على حج الجمعيات ونسبة 40% للمشرفين الجدد، ليقوموا على خدمة 12 ألف حاج، هي حصة حج الجمعيات الأهلية لهذا الموسم، خصصتها اللجنة العليا للحج برئاسة دولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، حيث تقدم ما يزيد على 41 ألف مواطن ومواطنة تم تسجيلهم عبر البوابة الموحدة للحج.
وأعربت الدكتورة مايا مرسي عن شعورها بالفخر والامتنان الكبير لكم كفريق عمل مؤسسي، كل فرد فيه يعرف دوره ويقوم بواجبه على أكمل وجه، من فريق المؤسسة إلى المشرفين؛ فريق يواصل الليل بالنهار ليكون الحجاج في أمانٍ وطمأنينة، ويجدون في خدمة حجاج بيت الله الحرام عنوانًا للإنسانية والرقي، فهذه المؤسسة لم تُشيد فقط بالبناء، بل تُشيد بالناس، بالقيم، وبالإخلاص في كل خطوة.
وأعلنت وزيرة التضامن الاجتماعي عن إطلاق مسابقة لاختيار أفضل خمس بعثات إشرافية على مستوى بعثة حج الجمعيات الأهلية وتكريمهم عقب انتهاء موسم الحج.
واختتمت وزيرة التضامن الاجتماعي كلمتها قائلة :"وأوصيكم بحجاج بيت الله الحرام خيرا؛ فأنتم الواجهة المشرفة التي يراها الحاج في كل خطوة، واليد الحانية التي تمتد بالرحمة والتنظيم والرعاية.. أثق فيكم كل الثقة، وأعلم أنكم ستكونون على قدر المسؤولية كعادتكم دائمًا، وسنواصل معًا هذه المسيرة المباركة، بكل إخلاص ومحبة وتفانٍ في خدمة من قصدوا بيت الله الحرام.. أنتم بترفعوا اسم التضامن فوق، وتخلوا الناس تحس إن الخدمة دي مش بس مسؤولية، لكنها شرف كبير..وشكرًا لأنكم فعلاً… بتعظموا شعائر الله وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليم".