الدغمسة في حوار التمويل الخارجي
تاريخ النشر: 22nd, February 2024 GMT
من أساليب دغمسة الخداع وذر الرماد في العيون الحديث عن التمويل الأجنبي وكأنه كتلة موحدة. وهذا تضليل إما عن جهل أو غرض. لان طبيعة التمويل تختلف باختلاف الممول والمستلم والغرض منه.
هناك فرق بين التمويل الأجنبي الممتد للدول، أو الحكومات، أو المنظمات غير الحكومية، أو الأفراد، من ناحية، أو للأحزاب والمجموعات السياسية, من ناحية أخري.
يختلف المحللون بشكل عام حول مزايا ومشاكل التمويل الأجنبي لأنه يمكن استخدامه لإفساد السياسيين وصناع القرار، أو شراء وكلاء وعملاء محليين، ولكن يمكن استخدامه أيضًا لدعم التعليم ولمساعدة الفقراء والضعفاء وتعزيز التعليم والثقافة وتوفير الاحتياجات الأساسية للمجتمعات المحلية والمجموعات الديموغرافية المستضعفة من النساء والمجموعات المنسية. ولكن هذا لا يعني أن التمويل الأجنبي خير مطلق لا تشوبه إشكالات أساسية. في أحسن الظروف التمويل الأجنبي ضرورة مرحلية وشر لا بد منه ولا شك في وجود جوانب مظلمة تتخلله.
لكنني لا أعرف أي دفاع جدي عن التمويل الأجنبي للأحزاب والجماعات السياسية، لأن هذه المجموعات بحكم تعريفها من المفترض أن تكون حامية السيادة الوطنية ولأنها تتمتع بسلطة اتخاذ قرارات وطنية سيادية يمكن تحريفها لخدمة أجندة الممول الاجنبي، سواء أن كانت سياسية أو إقتصادية، علي حساب السيادة والمصلحة الوطنية.
ومن ناحية أخرى، لا تتمتع المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والأفراد بسلطة اتخاذ القرارات نيابة عن الأمة (حتى لو كان تمويلها يمكن أن يشوه ويحرف التنمية السياسية) وهكذا ليس في متناولها تطفيف مصير الوطن السياسي والاقتصادي خدمة للمول الأجنبي.
يقع عل عاتق الأحزاب والجماعات السياسية ليس فقط تجنب تضارب المصالح بل قبل ذلك شبهة تضارب المصالح. وحتي لو قبلت التمويل الأجنبي كشر لا بد منه فمن واجب الجميع الشفافية الكاملة بشان مصادر التمويل وأوجه صرفه.
معتصم اقرع
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: التمویل الأجنبی
إقرأ أيضاً:
سوريا بين الأمس والغد: حوار بين العقل والتاريخ والوطن
في ليلة ساهرة من ليالي التاريخ، جلس العقل مستندا إلى مصباح الزمن، يتأمل وجه الأرض الذي كان يوما مهد الحضارات، فإذا بها قد أمست خريطة مليئة بالندوب والجراح. تنهد بعمق، ثم التفت إلى التاريخ وقال:
العقل: لقد سقط الطاغية، فهل آن للأرض أن تستريح؟
التاريخ: سقوط الطاغية ليس إلا بداية الرحلة، فكم من مستبد رحل ليُبعث مستبد آخر في ثوب جديد! الحرية لا تأتي بالهتاف، بل تبنى بالحكمة والعدل.
العقل: وكيف نحفظ العدل إن كان الظلم قد صار ميراثا يتناقله الناس؟
التاريخ: لا عدل بلا ميزان، ولا ميزان بلا يد تحمله بثبات. فليُحاكم الظالمون، ولكن بميزان لا ترجحه الكراهية. إن كنتم تريدون بناء وطن، فاجعلوا العدالة شفاء لا انتقاما، كي لا تحفروا في الأرض بذور صراع لا ينتهي.
إذا جار الأمير وحاجباهُ
وقاضي الأرض أسرف في القضاءِ
فويحُ الأرضِ إن لم يرفعوا
يدا عن ظلمهم يوم الجزاءِ!
في هذه اللحظة، انضم الوطن إلى الحوار، جلس على كرسيه العتيق، يتأمل أبناءه الذين طال صراعهم حول هويته، مستمعا لصراخهم بين السياسة، الدين، والقومية.
الوطن (مخاطبا الجميع بحزم): كفى صراخا! لقد هُدم بيتي مرارا، كل منكم يزعم أنه حارس أبوابي، لكنه في النهاية يُحاصرني أكثر. أريد أن أفهم، كيف نعيد البناء؟
السياسي (مشبكا أصابعه وكأنه يزن الكلمات بدقة): الحل سهل، يجب أن نؤسس لعقد اجتماعي حديث، يحترم الحقوق والواجبات، ويضمن لكل فرد مكانه في هذه الأرض.
الديني (رافعا يده كأنما يستشهد بنص مقدس): ولكن دون أن نخلع الإيمان من قلوب الناس، فالعدل لا يتحقق إلا حين يكون للناس ركن روحي يثبّتهم في مواجهة الفوضى.
القومي (ضاربا بقبضته على الطاولة): ومن دون الهوية، سنصبح كالريشة في مهب الريح! كيف نبني وطنا لا يعرف من هو؟
العقل: لكن ماذا عن أجهزة القمع؟ لقد تحولت إلى سوطٍ يجلد الناس، فكيف نضمن أنها لن تعود؟
التاريخ: الحرس إن خُلق ليكون للسلطان لا للوطن، كان كالذئب في ثياب الحارس. لا بد أن تُعاد صياغة هذه المؤسسات، أن تكون يدا تحمي لا سيفا يضرب، عينا تراقب العدل لا تترصد الأحرار. فليُبنَ الأمن على أسس جديدة، ولتكن قلوب الناس سندا له لا ضحايا بين يديه.
العقل: وماذا عن المكونات المختلفة؟ لقد أشعل الطغاة نار الطائفية، فكيف نضمن أن تذوب الجدران بين أبناء الأرض الواحدة؟
التاريخ: الوطن لا يكون وطنا إن لم يحتضن جميع أبنائه. لا فرق بين عربي وكردي، ولا بين مسلم ومسيحي إلا في مقدار إخلاصه لهذا التراب. ليكن عقدكم الاجتماعي شاملا، لا يستثني أحدا، فالتهميش يخلق الغضب، والغضب يهدم الأوطان.
إذا افتخر الأنامُ بفرقةٍ
ففخرُ المرءِ أن يُؤوي الجميعا
الوطن (متنهّدا وهو يحدق في الأفق): أيها السادة، أريدكم أن تفهموا أنني لا أطلب منكم أن تهدموا جدرانكم، بل أن تفتحوا نوافذها. السياسي، لن ينجح عقدك الاجتماعي ما لم تؤمن بأن الحرية مسؤولية وليست فوضى. والديني، لن يُحترم إيمانك ما لم تفصل بين قداسته وبين أداة القمع. أما أنت أيها القومي، فحبك لي لا يعني أن تسجنني داخل جدران الماضي، بل أن تعيد تعريف الانتماء ليكون جسرا بين الأجيال، لا سلاسل تكبلهم.
العقل: لكن ماذا عن القوى الأجنبية؟ إنهم ينتشرون في البلاد كالأشواك في الحقول، لكل واحد مصلحته، فكيف نعيد الوطن إلى أهله؟
التاريخ: لا حرية مع احتلال، ولا سيادة مع وصاية. لكن القوة وحدها لا تكفي، فالتفاوض أحيانا أمضى من السيف. لا تكونوا جسرا لأحد، لا تبيعوا الأرض تحت شعارات واهية، ولا تدخلوا في حرب تستهلككم أكثر مما تحرركم. السياسة فن، فأتقنوا لعبتها.
العقل: وماذا عن الذين هُجِّروا؟ الملايين في المنافي، ينتظرون ساعة العودة، فكيف نعيدهم دون أن نلقي بهم إلى الضياع؟
التاريخ: الوطن ليس حنينا فقط، بل حياة كريمة. لا تُعيدوهم ليجدوا بيوتهم تحت الأنقاض، وفرص العمل سرابا، والأمن حلما بعيدا. لا تكونوا كمن يبني سورا بلا أساس، بل اجعلوا الأرض مهيأة لاستقبال أبنائها، حتى لا يغدو الرجوع ندما.
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرامُ!
العقل: والاقتصاد؟ كيف نبني وطنا والجوع ينهش أهله، والأمل صار عملة نادرة؟
التاريخ: الخراب ليس في الأبنية وحدها، بل في العقول التي اعتادت التسول بدل الإنتاج. لا تنتظروا المعجزات، بل اصنعوها. ليكن العمل ثقافة، والشفافية قاعدة، ولا تسمحوا للفاسدين أن يكونوا أسياد المرحلة القادمة، فقد كان الفساد شريكا في سقوط من سبقكم.
لا تَسقني ماءَ الحياةِ بذلَّةٍ
بل فاسقني بالعزِّ كأس الحنظلِ!
العقل: ولكن، ماذا عن الفوضى؟ هل نثق بأن الناس لن يُعيدوا إشعال الحرائق بأنفسهم؟
التاريخ: الناس تُقاد بالفكر كما تُقاد بالجوع والخوف. فإن لم يكن لهم وعي، صنعوا لأنفسهم جلادا جديدا. لا تتركوا التعليم آخر همكم، ولا تُهملوا بناء الثقافة السياسية، فالجهل أبو الاستبداد.
الوطن (مبتسما لأول مرة): أحسنتم، الآن يمكننا البدء بالبناء. لكن قبل ذلك، قولوا لي: من منكم مستعد لوضع حجر الأساس؟
ساد الصمت، ثم مد الجميع أيديهم معا، ووضعوا أول حجر..
إذا الشعبُ يوما أراد الحياةَ
فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ!