دروس من التاريخ حتى لا يقنط الفلسطينيون!
تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT
من يتأمل المشهد الفلسطيني الراهن واستمرار الاحتلال في ارتكاب مجازر يندى لها الجبين وسط خرس دولي لابد أن يتسرب إلى عروقه اليأسُ والقنوط. لكن قضية التنكيل بأهل غزة وإبادتهم والقضية الفلسطينية ككل تحتاج في رأيي إلى الاستعانة بدروس من التاريخ من أجل فهم أفضل للواقع ليس فقط حتى يلهم الفلسطينيين ويقوي عزائمهم ويصبرهم على مآسيهم وإنما ليزرع في نفوسهم الثقة للعمل بإرادة وحذر للوصول إلى الهدف.
ويهدينا هنا التاريخ معاني وعظات عظيمة عند قراءة صفحات حروب التحرير التي خاضها العديد من الشعوب لإنهاء الاحتلال بما في ذلك الاستيطان الذي يطرح نفسه كاستعمار دائم. الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي امتد 130 عاما كان استيطانيًا في طبيعته وكانت فرنسا تعتبر الجزائر امتدادا طبيعيا لأراضيها وتنهب خيراتها وتزيح أي نوع من المقاومة لوجودها بكل عنف ووحشية. ولم تبد منذ 1830 أي مؤشرات إلى احتمال خروجها من الجزائر أو قبولها بالجلوس على طاولة المفاوضات. بل إن المجازر التي ارتكبها المستعمر الفرنسي كانت على نفس القدر من البشاعة والإجرام التي نراها اليوم ضد أهل غزة، وراح ضحيتها أكثر من مليون ونصف المليون جزائري. ومع ذلك، استطاعت جبهة التحرير الجزائرية أن تحول المستحيل إلى ممكن خلال سبع سنوات وحتى التحرير عام 1962. وهذا لم يحدث لأن المستعمر الفرنسي استعاد ضميره وإنسانيته فجأة بل لأن المقاومة أجبرته على ذلك!
المؤتمر الوطني الهندي والثورات الأكبر والأهم في تاريخ شبه القارة الهندية بل والعالم كله خلال أعوام 1857 و1921 و1930 أجبرت هي الأخرى التاج البريطاني على الرضوخ لمطالب الهنود. لم تتخيل بريطانيا العظمى أنها بإمكانها التخلي يومًا عن أثمن وأزهى جوهرة في التاج البريطاني. ومع ذلك تحقق استقلال الهند عن الحكم البريطاني عام 1947 بعد استمرار الاحتلال لمدة قرنين كاملين!
أستحضر أيضا مثالًا آخر قد يكون الأطول في التاريخ الاستعماري للشعوب وأقصد المستعمرة البرتغالية "ماكاو" التي استمرت ستة قرون وأعادتها البرتغال فقط سنة 1999 إلى الصين. والحقيقة أن الأمثلة كثيرة في سجل الدول الاستعمارية وجرائمها التي وصفت كتب المؤرخين بشاعتها، لكننا لم نشاهد تلك الوحشية صوتًا وصورة كما نراه الآن على أرض غزة وهذا عامل لصالح الفلسطينيين في توثيق مقاومتهم للاحتلال رغم قسوة المعاناة. وليس هناك أي فرق في رأيي في جوهر الصراع بين أمس البعيد واليوم. والدعاية والتضخيم في عضلات المستعمر وشدته وبأسه هي التي اختلفت فقط في أدواتها. وسيذهب المستعمرون الجدد إلى الجحيم كما ذهب من سبقهم إلى مزبلة التاريخ. وهذا ليس من باب ترديد الشعارات ولكنَّ التاريخ قال كلمته وحكم عليهم بناء على سجلاتهم وجرائمهم!
وللحديث عما يمكن توقعه في القادم من أيام، سأرتكز على ما ذكره السيد عمرو موسى بما لديه من خبرة سياسية، وطالب بإبعاد نتنياهو أولًا عن المشهد السياسي حتى يمكن الحديث عن وقف إطلاق النار في غزة والسعي بعد ذلك لتحقيق سلام عادل وشامل. السيد عمرو موسى عبَّر عن هذا الرأي خلال ندوة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ شهرين، موضحًا أن من يقود الحرب ويتورط في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني ويرتكب جرائم تدينها القوانين والأخلاق والأعراف الدولية والإنسانية لا يمكن أن يؤمن بالسلام ويتفاوض على مكوناته لذلك لابد أن يكون المطلب هو رحيله.
ويضاف لهذه الخطوة خطوة أخرى مفصلية وهي التوحد الفلسطيني بين كافة الفصائل حول سدّ الفجوات بما في ذلك الاتفاق حول الهدف النهائي وهو إنشاء الدولة الفلسطينية. أما بالنسبة لأطراف تلهث نحو تطبيع بأي ثمن فلدى العرب مبادرة بيروت للسلام عام 2001 والتي بلورت نهجا يشترط قبل التطبيع الاعتراف بحق تقرير المصير الفلسطيني والانسحاب الاسرائيلي والاتفاق بشأن اللاجئين.. هذا كان بإجماع عربي من الدول الاثنين والعشرين. ولأن الكيان الاسرائيلي المحتل يسعى للتطبيع المجاني ودون تنازلات فإنه يتعامل مع الأراضي الفلسطينية بطريقة "القضم" قطعة قطعة - وهذا تشبيه السيد عمرو موسى- لذلك، جاءت عملية 7 أكتوبر لتتعامل مع هذا النهج في محاولة لإيقافه وإعادة طرح القضية الفلسطينية بقوة من جديد. وبناء عليه فإن المحاولات التي تبذلها أطراف الوساطة العربية محكوم عليها بالفشل حاليًا طالما استمرت إسرائيل في تسويق الأوهام وانتظار تقديم تنازلات عربية دون تنازلات من جانبها. وإذا ما أردنا جني ثمار المجهودات المبذولة لتحقيق السلام العادل فلابد أن تستقيل حكومة الدولة العبرية وتفسح المجال لغيرها فمن يرتكب جرائم الحرب لا يمكن أن يقود للسلام. حينئذ لربما يكون المأمول أفضل!
وإذا كان البعض واقعًا تحت وطأة الخوف من الاحتلال الاسرائيلي الذي رسم لنفسه عبر التاريخ المعاصر صورة "أسطورية" فلابد من الاستيقاظ وإدراك أن 7 أكتوبر قامت و8 أكتوبر في الطريق وربما 9 و10 وغيرها من مواعيد المقاومة المشروعة للاحتلالَ طالما أن الحيف العالمي مستمر. وعلى الدول الغربية التي تناصر بدعم كامل للكيان الإسرائيلي أن تستيقظ هي أيضًا لأن التاريخ سبق وحكم على الاستعمار بالزوال ولأن الدول العربية وشعوبها لن تسكتَ للأبد، كما أن الرأي العام العالمي أصبح متفطنًا لهذه السياسات الاستعمارية المرفوضة والتي مهما طالت فمصيرها معروف كما كان مصير امبراطوريات استعمارية تصورت أنها لن تغيب عنها الشمس!.
*كاتبة صحفية متخصصة فى الشأن الدولى
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: المشهد الفلسطيني القضية الفلسطينية
إقرأ أيضاً:
لئلّا يتسلّل هذا التاريخ إلى لبنان!
كتب نبيل بو منصف في" النهار": لم تُخفّف التوقعات المسبقة بإخلال إسرائيل باتفاق وقف الأعمال العدائية المبرم بينها وبين لبنان في 27 تشرين الثاني يوم 18 شباط الجاري من الوقع الشديد السلبية لهذه الصدمة الأولى التي تلقاها عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام. ولعل ما زاد من وقع الصدمة أن الانسحاب الإسرائيلي المجتزأ والمنقوص والذي اقترن بإحياء إسرائيل كابوس إقامة شريط حدودي أو منطقة عازلة عبر خط تحصينات عسكرية على خمس تلال استراتيجية محتلة داخل الأراضي اللبنانية، جاء على وقع التغنّي الواسع بمضمون البيان الوزاري للحكومة الجديدة الذي اعتُبر فاتحة عصر العودة إلى الدولة من خلال إسقاط موروث تشريع "المقاومة" وحصر السياسات السيادية والدفاعية وامتلاك السلاح بالدولة وحدها. تبعاً لهذا التطوّر، ولو أن إسرائيل جلت عملياً عن معظم الجنوب اللبناني، لن يكون متاحاً النوم على الإنجاز المنقوص ما دامت وتيرة التطورات مفتوحة على الاحتمالات التي تبقي باب المفاجآت الحربية مفتوحاً. وأن يهرع لبنان الحكم والحكومة إلى المراجع الدولية، ولا سيما منها "المرجع" الحامل كل مفاتيح الحلّ والربط في إدارة الحلّ الميداني لاتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل، أي الولايات المتحدة الأميركية، فهو المسلك المنطقي الوحيد الذي يسنده موقف حاسم للعهد والحكومة باعتماد الجهد الديبلوماسي وحده وسيلةً للضغط على إسرائيل وتحميل الإدارة الأميركية تبعة ترك ثغرة خطيرة في اتفاق استولده الوسيط الأميركي وأخلّت به إسرائيل. بات الامر الآن يقاس من زاوية مختلفة عن تلك المقاييس التي كانت سائدة إبان السيطرة المطلقة لـ"حزب الله" على القرارات والسياسات الدولتية للبنان.يصحّ في هذا السياق أن المفاوض اللبناني الذي وقّع اتفاق 27 تشرين الثاني كان عملياً وواقعياً الثنائي الشيعي وليس حكومة نجيب ميقاتي التي جاء توقيعها شكلياً وصورياً، بمعنى أن إسرائيل تتذرّع بمضامين وتفسيرات موجودة في الاتفاق للمضيّ في اختراقاتها المتوالية والمتواصلة لوقف النار، علماً بأنها تتكئ في عمق الأسباب على حساباتها بأن خسائر "حزب الله" الكارثية لم تعد تبقي له أيّ إمكان للمقاومة العسكرية الحربية مجدداً.
ومع ذلك فإن مجمل التبريرات لبقاء حالة احتلالية إسرائيلية في الجنوب ستبقى بمثابة سيف مسلط على العهد والحكومة اللبنانيين تنذرهما بأن مسار استعادة الدولة كاملة معرّض دوماً للسقطات والمفاجآت. لا يمكن لبنان الرسمي في هذه الحال إلّا أن يمضي بلا هوادة في الضغط المعنوي والسياسي والديبلوماسي على الإدارة الأميركية ودول الخماسية كلها باعتبارها الحليف الأول والأقوى للبنان لكي تنزع كل احتمالات إعادة إدخال إيران من نافذة الاحتلال الإسرائيلي بعدما خرجت من بوابة الكارثة التي لحقت بـ"حزب الله" ولبنان من جراء استدراج نفوذها وسلاحها وأموالها إسرائيل إلى الحرب عليهما.
مضت عقود على "تبادل" الاستباحات والتوظيفات المدمّرة المتبادلة بين إيران وإسرائيل حتى حصل الانفجار الزلزالي التسلسلي الأخير من غزة إلى لبنان وسوريا وسائر الإقليم. ليس من المفترض أبداً أن تغيب عن ذاكرة لبنان "الدولة الجديدة" هذه الوقائع بكل فصولها المدمّرة فيما هو يطارد الدول لتحصيل حقوقه السيادية، وإلا تسلل تاريخ مشؤوم مجدداً إلى لبنان وليست هناك ضمانات قاطعة لعدم تسلله!