قالوا فى الأمثال إن أقوى الأشجار ترتفع من بين شقوق الصخور، ولهذا فكل من اعتمد على ذاته واجتهد وعافر وواجه المحن صنع لنفسه مكانة وحفر بصمته، وظلت جذوره ثابتة راسخة، وبقى نجاحه ملهمًا لكل من جاءوا بعده، والحاج محمود العربى واحد من المعافرين، قاتل ليصنع اسمه، وجاهد ونحت فى الصخر ليحقق حلم أمن به، خاض المعركة بصبر وتحمل المتاعب من أجل هدفه، فكان نجاحه كبيرًا والأهم أنه نجاح دام واستمر وأنتج من يحافظ عليه ويكمل المسيرة، بقى اسم العربى ملهمًا للآخرين، ليس فى النجاح فقط بل فى الانتماء أيضاً، الانتماء للمجتمع الذى تربى وعاش فيه، وانتماء للصنعة التى أحبها، والوطن الذى عشقه، لم يتعامل العربى يوما مع مجتمعه الذى عاش فيه وخاصة قريته بتكبر بل كان الأبسط والأكثر تواضعًا والأسرع فى تقديم الدعم والمساندة لغيره، وفى صنعته لم يغلق بابها على نفسه ولم يحتكرها بل فتح الطريق لكل من اجتهد وساعد كل من طلب الدعم، وتبنى تقديم أجيال من أصحاب المهارة فى تخصصه الصناعى، أما وطنه فكان مقدمًا عنده على كل شيء، لم يبخل عليه ولم يتهرب من واجب تجاهه، بل كان سباقًا فى مسارات الخير، لم يزايد يومًا على بلده ولم يسع للتربح أو الضغط على دولته، لم يساوم على استثماراته كما يفعل بعض رجال الأعمال حاليًا، ولم يعش العربى حياة البذخ التى اشتهر بها أبناء هذه الفئة رغم أنه كان يملك أن يفعل ما يشاء، لكن المال عنده لم يكن سوى وسيلة لصناعة ما يبقى، والحياة عنده ليست رغدًا وابهة وإنما بناء يستمر وعمل يدوم ويبقى اسمه، فكانت مشروعاته الصناعية العملاقة، وفى الوقت نفسه كان دوره الاجتماعى الذى تجسد فى الكثير من المشروعات سواء بناء المستشفيات أو المدارس أو المعاهد الدينية وغيرها من المشروعات الخيرية التى تسهم فى نهضة المجتمع وبناء إنسان قادر على صناعة المستقبل دون السقوط فى فخ العوز أو أن يسلك طريقًا غير سوى يضر به وبالمجتمع.
كان العربى نموذجًا حيًا لرجل الأعمال الذى يجمع بين الوطنية الخالصة والإبداع فى طرق النجاح، ليس لنفسه فقط بل لكل من حوله، لم يتردد فى أن يسعد الجميع بمشروعات تفتح الرزق لهم ولأولادهم فى مجال الصناعة والتكنولوجيا الحديثة لأنه كان يؤمن بدور العامل فى بناء الاقتصاد المصرى من خلال منظومة عمل شاملة.
عندما تقرأ كتاب «سر حياتى» الذى يحكى قصة الحاج محمود العربى تجد فيه رسائل عديدة لا يستغنى عنها كل من يريد النجاح الحقيقى فالكتاب يحكى مشوارًا من الجهد والعرق، والإخلاص والتفانى وفيه سر خلطة النجاح وكيف يحقق الإنسان حلمه ولا يستسلم للصعب، ولا يتنازل عن قيمه ولا أخلاقه، فالهوية والقيم كانت دستور الحاج محمود العربى الذى لم يخالفه فى مشواره بل سار عليه واحتمى به أمام كل تحد.
إن قصة محمود العربى يجب أن تدرس وأن تكون عبرة لكل رجال الأعمال ليس فى مصر، على الأقل حتى نجد رجال أعمال وليس انتهازيين ونجد صناعًا وتجارًا يعرفون معنى الضمير والمسئولية وليس محتكرين ومتربحين.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الحاج محمود العربي الدعم والمساندة محمود العربى
إقرأ أيضاً:
محمود حامد يكتب: مصطفى بيومى.. الحاضر دومًا رغم الرحيل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قمة سعادته حين يجلس مع الشباب وينصت إليهم باهتمام وهم يطرحون أفكارهم ويعتبرهم "المخزون الأساسى" لمؤسسة "البوابة"
امتلك من الإصرار والعزيمة ما يفوق أى احتمال.. ولعل هذا هو الذى جعلنا نتمتع بكل ما أمد به المكتبة العربية من إنتاج متنوع فى مجالات عديدة.
أحاول الكتابة عن مصطفى بيومى، فتتملكنى رهبةٌ شديدة.. لم أتخيل أن يأتى يومٌ من الأيام لأجد نفسى أنعيه وهو الحاضر دومًا رغم الرحيل.. كيف أنعى هذا الصوفى المتعبد فى محراب الأدب حتى النهاية؟.. عندما زرته فى مرضه الأخير بصحبة مجموعة من الأصدقاء، أخبرته بأننا نجهز لإصدار العدد الخاص عن يحيى حقى حسبما طلب قبل فترة، فإذا به يحاول أن يتحدث عن رؤيته للعدد مشيرًا إلى كتابه الذى صدر للتو عن "المسكوت عنه فى أدب يحيى حقى".. كان يتحدث بصعوبة وبصوتٍ واهن أنهكه المرض حتى أنى أشفقت عليه فرجوته أن يتوقف عن الكلام وأن يطمئن "سوف يصدر العدد بالشكل الذى يليق وفق ما تصورت فى تخطيطنا للعدد".
نعم، كان مصطفى بيومى الركن الأساسى فى التخطيط للأعداد الخاصة منذ انطلقت فى إصدارها الأول، وكان من أشد الحريصين على ضرورة إشراك الشباب الواعد والمتميز فى التخطيط لتلك الأعداد وليس مجرد المشاركة بالكتابة فيها.. كنت أراه فى قمة سعادته حين يجلس مع الشباب وينصت إليهم باهتمام وهم يطرحون أفكارهم ويعتبرهم "المخزون الأساسى" لمؤسسة "البوابة".. دائمًا تراه يتحدث بصوتٍ خفيض وذهن مرتب، يوضح رأيه فيما يتحدث عنه فى نقاط محددة ومركزة، فيساعدك على فهم ما التبس عليك بسرعة غير عادية.. إنه يمتلك، مثل بطل روايته «إنسان»، حسًا صوفيًا للإنسان الذى يمنح تسامحه وسلامه لجميع المتصارعين والانتهازيين والباحثين عن غنائم فى الحياة.
ومثلما كان معنا دائمًا فى كل الأعداد الخاصة، نقدم له هذا العدد الخاص باقة حب لا ينتهى لمن علمنا الكثير فى طريق العمل والحياة.
أستعيد شريط السنوات الأخيرة، كى أتذكر بعضًا من المواقف.. فى أحد الأيام، طلب أن يلتقى بقسم الثقافة فى مؤسسة «البوابة».. أبلغتهم برغبته فكانت فرحتهم عارمة وإن شابها بعض التخوف والرهبة من الجلوس فى حضرة الأستاذ.. وكان اليوم الموعود ودار نقاش ثرى بينه وبينهم، قال لى بعده: «الولاد ممتازين وفاهمين شغلهم كويس».. أما الزملاء فقال معظمهم: تعلمنا من هذه الجلسة دروسًا توازى ما تعلمناه طوال سنوات الدراسة.. لم يبالغ أى زميل من الزملاء فيما ذهب إليه، ذلك أن الدروس التى يمكن أن نتعلمها جميعًا من مصطفى بيومى كثيرة ومتعددة لمن شاء أن يتعلم.
أول هذه الدروس: حسن إدارة الوقت واستثماره فيما يفيد النفس والبشر عامةً، وكان هو كذلك ومازال.. يجيد ترتيب وقته بدقة متناهية.. ويوزعه بطريقة محكمة بين القراءة والكتابة ولقاء الأصدقاء والتواصل مع تلاميذه والتمتع بوقتٍ طيب مع أولاده وأحفاده.
ثانى هذه الدروس: التواضع المتناهى.. رغم كل إنتاجه الراقى والغزير، يتكلم معك بكل أريحية ولا يعرف لغة التعالى على البشر، وليس للضغينة مكان فى قلبه وهو العاشق لكل البشر، كبيرهم وصغيرهم.
ويرتبط بذلك الدرس الثالث: لا يبخل بوقته على طالب علم أو نصيحة، بل قد يتصل بصاحب موهبة معينة فى الأدب أو الفن أو غيرهما، ليشد من أزره ويشيد بأعماله، أو يتصل بآخر ليبلغه رؤيته النقدية فى عمل من أعماله بأسلوب يجعل المتلقى ممتنًا له نصائحه الثمينة.
أما الدرس الرابع فيمكن أن نطلق عليه «الإصرار».. فنحن إزاء رجل لديه من الإصرار والعزيمة ما يفوق أى احتمال، ولعل هذا الإصرار هو الذى جعلنا نتمتع بكل ما أمد به المكتبة العربية من إنتاج متنوع فى مجالات عديدة.. إن إصرار مصطفى بيومى رسالة ضمنية لكنها واضحة لكل الأجيال: اصنع مستقبلك بإصرارك، حقق حلمك بعزيمة لا تلين مهما كانت الصعاب، لا تلتفت إلى الوراء ولا تشغل بالك بالصغائر واهتم بمشروعك الذى تريد له أن يتحقق.
كل هذه الدروس أو الملامح الأساسية لمصطفى بيومى، هى سر عبقريته المتدفقة فى أكثر من مجال.. كاتب صحفى، ناقد أدبى، ناقد فنى، شاعر، روائى، مؤلف ترجمات عن شخصيات عديدة.. وغير ذلك من إبداعاته التى تضعه بلا مبالغة فى خانة الموسوعيين، وهى خانة لا يتواجد بها إلا النذر اليسير على مستوى العالم.
يقول نيكوس كازانتزاكيس: «هل تعرف ما معنى أن يعيش الإنسان؟ معناه أن يشمر ساعديه ويبحث عن المتاعب».. واستطاع مصطفى بيومى أن يستوعب ما يرمى إليه الفيلسوف اليونانى، فتحقق بالفعل رغم أية متاعب، طالما امتلك الإصرار والتحدى.. لكن مصطفى رحل فى لحظة كنا نتمنى جميعًا أن يظل بيننا ينشر بين البشر الحب والخير والنماء، إلا أن أمثاله وهم قليلون يبقون أحياءًا ما بقيت على الأرض حياة.