قيل أنّ عصفورة كانت تجاور حيّة رقشاء، إذا هي فرّخت، سرت الحية لأكل فراخها في الظلام، في عام بعد عام، فقضى بتلك الحية أن أصبحت كفيفة، فلزمت الوجار، فقال أحباء العصفورة: «لم لا تأتين الحيّة الظالمة، فتظهرين الشماتة فيها؟ قالت: لو كنتُ وهي المبصرة أقدر على ضير، لكنت إليها وشيكة السير، فأما إذ كفتنيها الأقضية، فإن عيني عليها مغضية».
هذه واحدة من حكايات كتاب (القائف) لأبي العلاء المعرّي
والقائف، لغة، هو مَنْ يُحْسِن معرفة الأَثَر وتَتّبُعَهُ، وهو كتاب مفقود لم تصلنا منه سوى شذرات على هيئة حكايات تجري على ألسنة الحيوانات، في إطار رمزي، يغلب عليها صوت الحكمة، وقد يرمي واضعو الحكايات التي تجري على ألسنة الحيوانات والطير، إلى أبعد من ذلك، فقاموا «بانتقاد الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية، بدءا بخرافات أيسوب اليوناني وفايدر الروماني، ولافونتين الهادفة ثم حكايات أمير الشعراء أحمد شوقي» كما يقول أ.د. سيدي محمد بن مالك في كتابه (حكايات الحيوان في الشوقيات).
وكتاب (القائف) يشبه كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع، ويؤكد الدارسون أّنّه أكبر حجما منه، رغم مجيئه بعده، حتى أن المعري لا ينكر ذلك، فقد ذكر في رسالته لابن سنان أنّه لا يملك نسخة من (كليلة ودمنة)، وهذا دليل على معرفته به، لكنّ الكتاب، للأسف الشديد، فُقِد، فخسرنا بفقدانه، الذي لا نعرف ظروفه، وكيف جرى، كنزا أدبيا، وقد بذل المهتمون بكتب التراث جهودا من أجل العثور عليه، لكنها لم تسفر عن شيء، يقول د.وليد محمود خالص الباحث المعروف في كتب الأدب العربي القديم والمخطوطات «بحثتُ عن نسخة مخطوطة منه، فلم أنجح وقرأت قبل سنتين، أو أكثر في إحدى المنشورات التي تعتني بالمخطوطات أن أحد الباحثين المغاربة عثر على نسخة منه في المغرب، فقوي الأمل في قراءته وخصوصا أن (بنت الشاطئ) -رحمها الله- اعتمدت على نسختين مخطوطتين من كتاب المعري (الصاهل والشاحج) عثرتْ عليهما في المغرب وكتبتُ - والكلام للدكتور وليد- وقتها إلى تلك النشرة أسالها وأطلب عونها أن تعطيني اسم الباحث المغربي، فلم ترد».
و(القائف) ليس الكتاب الوحيد المفقود للمعرّي، فهناك كتب أخرى مفقودة من بينها كتاب (الفصوص)، الذي فقده خلال سنوات إقامته ببغداد، بينما كان يحمله قاصدا أحد الأمراء، فسقط منه في نهر دجلة، فقال أحد الشعراء مداعبا إياه:
قد غاص في النهر كتاب (الفصوص)
وهكذا كل ثقيل يغوص
فأجابه المعرّي:
عاد إلى معدنه إنما
توجد في قعر البحار الفصوص
وللجاحظ الذي عاش في العصر العباسي في الفترة من 159 إلى 255 هجرية، كتاب مفقود عنوانه (حيل اللصوص) ذكره في مقدمة كتابه (البخلاء) ويقال هما كتابان؛ الأول عنوانه «حيل لصوص النهار» والثاني «حيل سراق الليل»، وعنه يقول الخطيب البغدادي أنه من الكتب التي ضاعت من جملة ما ضاع من تصانيف الجاحظ، ويقال أنه أُحرق بأمر الحاكم، عندما صار اللصوص يقرؤونه، ويتعلّمون منه حيلهم في اللصوصية، فإذا ألقى العسس، أو(الشرطة) القبض على لص، يسألونه عن مصدر تلك الحيلة، فيجيب: قرأتها في كتاب الجاحظ، لذا صدر أمر بإتلافه.
لقد خطرتْ ببالي سيرة الكتب المفقودة، وأنا أتنقل بين أجنحة معرض مسقط الدولي للكتاب، بحثا عن كتب لها مكانة عالية في الذاكرة ولها دور في تكويننا المعرفي والثقافي، لكنها اليوم لم تعد تحتلّ حيزا في رفوف المكتبات كما كانت، تلك الكتب روايات عالمية مترجمة، وقصص قصيرة ودواوين شعرية ومسرحيات من الأدب العالمي.
و إذا كانت كتب المعري والجاحظ قد بقيت مخطوطة وفُقدت، فالكتب التي اختفت من رفوف المكتبات كانت رائجة في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن الناشرين أداروا لها ظهورهم، لقلة إقبال الجيل الجديد من القرّاء عليها، فلكل زمان دولة ورجال.
لكنهم حرموا هذه الأجيال من كنوز أدبية، ولا يتحمّل الناشرون كامل المسؤوليّة، بل المؤسسات الثقافية، التي نتمنّى عليها تبنّي إعادة طبعها لتعريف الأجيال الجديدة بها، قبل أن تصبح كتبا مفقودة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: