جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-02@06:49:37 GMT

ظلال شك.. محض اختيار

تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT

ظلال شك.. محض اختيار

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري

 

وَكَمْ طَافَتْ عَلَيَّ ظِلاَلُ شَكٍّ ///

أَقَضَّتْ مَضْجَعِي وَاسْتَعْبَدَتْنِي

 

بغضِّ النظر عن المناسبة التي قال فيها الأمير الشاعر عبدالله الفيصل هذه القصيدة الجميلة، والتي شنَّفتْ بها آذاننا كوكب الشرق أم كلثوم، فإنَّ للشكوك والوساوس ثورةً تقوِّض كيان الإنسان، وتمزِّق عقله، وتعذب روحه، وتشتِّت فكره، وتقضُّ مضجعه، فتجده في الهزيع المتأخر من الليل موغلًا في التفكير والظنون وتقليب الخيالات، فلا يذوق للنوم طعما ولا للراحة سبيلا، شعاره: "أما للنوى من هدأة فتريح"، ويبقى يعيش ضجة داخلية لا ينعم معها بطعم السعادة والراحة والرضا، ويظل في عذابات مستمرة يُذكِّرنا بالأسطورة الإغريقية القديمة حين حكمت الآلهة على بروميثيوس بأن يشد وثاقه إلى صخرة فوق الجبل، ثم يأتي النسر الجارح وينهش قطعة من لحمه في النهار فتنمو مكانها قطعة أخرى في الليل لينهشها النسر من جديد في الصباح التالي!

لذا؛ جاء في القرآن الكريم ذم الإيغال في الشكوك والظنون البائسة، وأنها سبب هلاك الإنسان وضياعه وخسرانه، يقول تعالى: "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ" (غافر: 34)، وقوله تعالى: "وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (فصلت:23)، كما قرر القرآن الكريم أن الظنون والشكوك الفاسدة تجعل الإنسان في حيرة وشتات فلا يهتدي إلى أية طريقة، ولا يمكنه معها تحديد وجهة، ويصبح التردد والحيرة سمة ملازمة له: "فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ" (التوبة:45)؛ لذلك جاء النداء الرباني الكريم للإنسان لتجنب الظنون السيئة والشكوك المقيتة حتى تستريح نفسه وتتحسن علاقته بالآخر ويسلم له دينه ويسمو خلقه، فقال عز من قائل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ "(الحجرات:12).

إنَّ مُعضلة الشكوك وبلوى الظنون التي تعتري الإنسان في مواقف الحياة وأحداثها المختلفة تعد من أعقد الاضطرابات النفسية؛ إذ إنها ارتباك نفسي يفقد الإنسان الكثير من التركيز والإحساس بمتعة الحياة، وتتضمَّن الكثير من الأفكار والتخيلات والنزعات التي تولد الكرب والقلق؛ لذا وجدت الدراسات أن 30% من صرعى الوساوس والظنون لديهم نوبات اكتئاب، وأن 40% منهم يعانون اضطرابات النوم، كما تترافق أعراض هذه الوساوس مع المبالغة والتضخيم لاحتمالات توقع حدوث كوارث ومصائب نتيجة أحداث الحياة العادية، وتبقى لديهم الوساوس في متوالية لا تنتهي، وقد أصاب الرافعي حين قال: "لا يريد الهم منك أكثر من أن تريده فيأتي!".

والواقع أنَّ كثيرا من الشكوك التي تعترينا لا أصل لها، بل هي صور ذهنية ينسجها الإنسان في عقله وليس لها من الواقع نصيب، وكثيرا ما فاجأتنا معها أنوارٌ من لطيف الحكمة الإلهية والأقدار الربانية الكريمة فمسحت تلك الشكوك وبدَّدت تلك المخاوف فجعلتها حديثا من أحاديث الماضي؛ لذا فأيا ما تكن الشكوك هل هي محض اختيار كما يراها بعض المختصين في الجوانب النفسية، كما عند ويليم جلاسر الذي يرى أن الاضطرابات النفسية كالوساوس وغيرها تغذيها اختياراتنا الخاطئة وسلوكياتنا المدمرة لذواتنا، أم هي قهرية ونتيجة لشخصية حدية تنشد الكمال في كل شيء كما عند التوجهات النظرية الأخرى؟ فإنَّ الإنسان مُطالب بمجابهة أسبابها والتصدِّي لكل ما من شأنه زعزعت فكره وكيانه والاعتصام بأسباب النجاة التي تخلصنا من براثن الوساوس والظنون، فيعلم أنَّ الدندنة حول مخاطر المستقبل ومخاوفه واحتمالاته السلبية أحد معيقات العمل البناء والاستمتاع بمباهج الحياة، وأنَّ الطمأنينة والراحة والهناء هي جوائز النفوس المتصالحة مع الذات والعالم.

كما أنَّ التحلِّي بالمرونة وتجنب تخشب الآراء وترك التعميمات والتهويل والتضخيم جميعها إحدى أهم أدوات مجابهة الظنون المحبطة بإيجابية وتفاؤل، وأنه "من السيئ أن تعتقد أنَّ ما يحدث أحيانا فهو يحدث دائما"، وأن إحسان الظن بالآخر مع التمسك بالانتباه واليقظة في تعاملاتك معه، والحرص على الاندماج والاستمتاع بالعمل الذي تقوم به فتمارسه بأريحية وشغف، وقد كان هناك تقليد جميل دأب عليه البحارة حينما يكونون في أعالي البحار ويهاجمهم حوت ضخم؛ إذ كانوا يقومون بإلقاء قارب فارغ باتجاه الحوت ليشغلوه به ويصرفوه عن مهاجمة السفينة التي تُقلهم، وفي تلك الأثناء يقومون بمحاولة صيد الحوت المنشغل بمناطحة القارب الفارغ وكثيرا ما تنجح خطتهم، أو على الأقل يكسبون فرصة الفوز والنجاة من الغرق حين يمل الحوت من مناطحة القارب الفارغ وينصرف بعيدا عنهم؛ لذا عندما تهاجمك فيالق الشكوك والظنون انغمس في عمل مفيد بئَّاء حتى تهدأ سورة تلك الظنون وتقل وطأتها.

وإنَّ من الأدوية الفاعلة أيضا التسليم والرضا والاطمئنان لإرادة الخالق جل شأنه وحسن اختياراته وتدبيره لنا والثقة بجميل صنعه وأنّ لله عاقبة الأمور، ولتتذكر أن "عمرك طيرٌ من يديك يطير" فلا تضعه في الآلام والهموم ولا تبعثره في الشكوك والظنون، ولتعلم أنَّ الكمال لله وأنَّ التدين الحق هو ألا تفعل ما يخالف إنسانيتك ويهدم أخلاقك وآدميتك، وعلى رأي توماس بين "الشك هو الصديق الحميم للأرواح الضعيفة"، فعلى الإنسان أن يواجه أقداره بصبر وشجاعة وثبات. ولله در الشاعر حين قال:

وإنِّي لأدعو الله حتى كأنَّني

أرى بجميل الظنِّ ما الله فاعلُهْ

وأقرع أبواب السماوات راجيا

عطاء كريمٍ قطُّ ما خاب سائلُهْ

ومنْ لي سوى الرحمن ربّا وسيّدًا!؟

ومن غيره أُبديه ما الغير جاهلُهْ!؟

وهل لانكسار العبد إلاَّ وليهُ!؟

وقد واربَ الأحزانَ والهمُّ قاتلُهْ

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

معايير اختيار الصديق الصالح على الطريقة النبوية

تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأرشدنا إلى كل ما فيه خير وفلاح لنا في الدنيا والآخرة، ونهانا عن كل ما يعرضنا لغضب الله سبحانه وتعالى.

علمنا سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، معايير اختيار الصديق الصالح، وفهمنا الفرق بمثالين وهما حامل المسك ونافخ الكير.

ففي الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً".

دعاء أول يوم من ذي القعدة.. يفرج كربك ويشرح صدركدعاء شهر ذي القعدة.. ردده تغفر ذنوبك وتوفق للخير

وحامل المسك هتشم منه رائحة طيبة، ولو لم تشترى منه، أما نافخ الكير لن تشم ريحا طيبا ويمكن أن تحرق بناره، وهذا هو الفرق بين الصاحب الطيب والغير طيب. 

فالصاحب الصالح، هو اللى بيأخد بيدك وبيعرفك الله، وبيعلمك الخير، وبيسحبك إلى الخير، لكن الاحب الغير صالح، ممكن يضرك ويأخد بيدك إلى الشر والمعاصي".

كيف أرشد الإسلام إلى أهمية اختيار الصديق؟

سؤال أجاب عنه مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية.

وقال مركز الأزهر إن الإنسانُ اجتماعيٌّ بطبعه، فقد فُطِر الإنسان على حب الاستئناس ببني جنسه، وتكوينِ صداقات مع بعضهم؛ ولذا نجد من الشرع الشريف إرشادًا إلى أسس اختيار الأصحاب وتكوين الصداقات.

وأضاف مركز الأزهر: ولمَّا كان الصّديقُ يتشبّه بصديقه ويتشرَّب من صفاته؛ شدَّد الشرع على ضرورة الفحص والنظر قبل مصاحبته وطول مجالسته؛ فقال سيدنا رسول الله ﷺ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ». [أخرجه الترمذي].

وأوضح مركز الأزهر أن الشرعُ الشريف حثنا على مجالسة أهل العلم والخير ومكارم الأخلاق؛ لِما يعود من نفعٍ بمجالستهم، ونهَى عن مجالسة أهل الشرّ ومساوئ الأخلاق؛ لِما يعود من ضررٍ بمجالستهم.

واستشهد مركز الأزهر بقول رسول الله ﷺ: « إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً».[أخرجه مسلم].

وأشار مركز الأزهر إلى أن الله قد حذَّر من اجتماع الأصدقاء على الشرور والآثام والإفساد في الدنيا، وجعل عاقبةَ ذلك انقلابَ صداقتهم عداوةً يوم القيامة، فلا تدومُ إلا صداقةُ الخير والعمل الصالح؛ قال تعالى: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. [الزخرف: 67].

ونوه الى أن الصداقة الحقيقية هي التي يكون أساسَها المحبةَ الخالصةَ لوجه الله تعالى، وعظَّم أجرها، وجعل جزاءها محبةَ الله والاستظلال بظلّه يوم القيامة؛ فقال سيدنا رسول الله ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ». [أخرجه البخاري]، وقال ﷺ أيضا:«قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ». [ أخرجه مالك في الموطأ]. وقد أرشدنا سيدنا رسول الله ﷺ كان رجلٌ عند سيدنا رسول الله ﷺ فمرّ به رجلٌ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَأَعْلَمْتَهُ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «أَعْلِمْهُ» قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. [أخرجه أبو داود]، وقال ﷺ:« إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ». [أخرجه أبو داود]. والصداقةُ المخلصة هي التي يٌبَصِّر فيها كلُّ صاحبٍ صاحبَه بعيوبه وأخطائه التي يقع فيها؛ ليتخلَّص منها؛ حتى يأخذ الصاحبُ بيد صاحبه إلى الجنة؛ قال سيدنا رسول الله ﷺ: « الْمُؤْمِنُ مرْآةُ أَخِيهِ، إِذَا رَأَى فِيهَا عَيْبًا أَصْلَحَهُ». [أخرجه البخاري في الأدب المفرد].

طباعة شارك كيف أرشد الإسلام إلى أهمية اختيار الصديق كيفية اختيار الأصدقاء على الطريقة النبوية الصاحب الصالح

مقالات مشابهة

  • حملة "دوووس"..لعبة الحياة التي تُعيد القيم المفقودة للشباب المصري من طلاب إعلام عين شمس
  • المنارات التي شيدها أول مايو: النقابة وإنسانيتنا الإسلاموعروبية
  • ظلال البيتكوين: لغز استهلاك الكهرباء يخنق العراق
  • اخر التطورات حول اختيار البابا الجديد
  • الخميسي: كلام بوجناح يثير علامات استفهام حول معايير اختيار موردي الأدوية
  • أبطال مسلسل ظلم المصطبة يكشفون كواليس اختيار اسم المسلسل
  • "في ظلال الحياة".. توثيق دقيق لمسيرة حمود البوسعيدي
  • البيت الأبيض: ترامب يركز على تراجع معدلات التضخم التي خلفتها إدارة بايدن
  • معايير اختيار الصديق الصالح على الطريقة النبوية
  • الحلبوسي يعود من ظلال التزوير ويطمح الى استعادة عرش البرلمان