لندن- أعاد الموقف من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة رسم خريطة الاصطفاف في صفوف الطبقة السياسية البريطانية، وذلك في عام انتخابي لا تمكن فيه قراءة أغلب المواقف بمنطق عائد الأصوات فقط، بل أيضا بانقسام سياسي وأيديولوجي واضح بشأن التعاطي مع القضية الفلسطينية.

ففي الوقت الذي تتماهى فيه الحكومة البريطانية -بقيادة حزب المحافظين– مع السياسات الإسرائيلية، وتؤيد استمرار الحرب على القطاع، يبرز حزب الخضر في بريطانيا ليكون أحد الأصوات الأشد نقدا لسلوك صناع القرار في لندن.

ودعا حزب الخضر -في بيان له- الحكومة البريطانية إلى تبني نهج أكثر صرامة مع إسرائيل، لدفعها للاستجابة للدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، وطالب بمنع إمداد تل أبيب بصادرات الأسلحة، وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب من القادة الإسرائيليين ممن يحملون الجنسية البريطانية، إلى جانب فرض مقاطعة على إسرائيل تمنع مشاركة وفودها في الفعاليات الرياضية والفنية.

وحذر الحزب مما وصفه بـ"تواطؤ الحكومة البريطانية مع حكومة إسرائيلية لا يبدو أنها تُلقي بالا للتحذيرات الدولية بشأن التداعيات الكارثية لأي عملية عسكرية محتملة في رفح"، مطالبا المجتمع الدولي بالتدخل لوقف عمليات القتل الجارية بحق المدنيين في قطاع غزة.

حزب الخضر يعتبر رابع قوة سياسية في المملكة المتحدة (غيتي) تمرد على التقليد

يتبنى حزب الخضر في بريطانيا (المعروف أيضا باسم حزب الخضر في إنجلترا وويلز) أيديولوجية يسارية مناهضة للسياسات التقليدية للأحزاب السياسية البريطانية، ومنحازة لقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات وسياسات حماية البيئة، وتزامن صعوده في الساحة السياسية البريطانية مع ما وُصفت بـ"الموجة الخضراء" في أوروبا.

وشهدت تلك الفترة بروزا لأحزاب الخضر وتحول عملها السياسي من "جماعات ضغط" مناهضة لسياسات الرأسمالية إلى أحزاب سياسية تنافس ببرامج انتخابية على مقاعد البرلمانات الأوروبية، إذ يعد حزب الخضر في بريطانيا رابع قوة سياسية في البلاد، ويتطلع لحصد نسبة تمثيل كبرى خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة المرتقبة العام الجاري.

وفي حين دأب خصوم الخضر على وسم خطابهم السياسي بـ"الطوباوي" الذي لا يتسق مع التحديات الآنية التي تواجهها البلاد، فربما لا تغيب حسابات فوز أو خسارة أصوات الناخبين عن أجندة الحزب هذه المرة، وسعيه لتعزيز حظوظه في الانتخابات المقبلة، في الوقت الذي تتصاعد فيه المخاوف في الجوار الأوروبي القريب من استحواذ اليمين الشعبوي على أغلبية مريحة في انتخابات البرلمان الأوروبي المرتقبة منتصف العام الجاري.

وتعد هذه الانتخابات الأولى من نوعها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يطرح تحديا جديدا بالنسبة لأحزب يسار الوسط وأحزاب الخضر، التي تحاول فرض أجنداتها على قادة القارة، ويبدو أن وجودها مهدد أمام الصعود القوي المتوقع لليمين الشعبوي.

ورقة الحرب

ورغم أن التحديات الداخلية تعد الخيط الناظم للبرامج الانتخابية لمختلف الأحزاب السياسية البريطانية، وفي مقدمتها دخول البلاد في حالة انكماش اقتصادي وأزمة القطاع الصحي، فإن تداعيات الحرب على غزة، وحالة الاستقطاب السياسي الحاد التي أثارها الموقف البريطاني من العملية العسكرية الإسرائيلية على أهالي القطاع، يتوقع أن تحتل مركزا متقدما في سلم أولويات الناخب البريطاني.

فبعد أن شهدت البلاد طول الأشهر الأربعة الماضية مظاهرات حاشدة تطالب بوقف الحرب على القطاع، وسط ارتفاع نسبة البريطانيين المؤيدين لتبني بلادهم موقفا يدعو لوقف فوري لإطلاق النار، كان حزب الخضر قد طالب بوقف استهداف المدنيين منذ بدء الحملة العسكرية، معتبرا أن الفراغ السياسي وغياب حل يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أدى إلى تنامي خطاب الكراهية واتساع دائرة العنف والصراع في المنطقة.

وواصل الحزب خلال الأشهر الماضية تبنيه خطابا ناقدا للدور الذي تلعبه الحكومة البريطانية في هذا الصراع، ودعمها غير المشروط للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد ما يصفها بـ"المذبحة المروعة" ضد أهالي قطاع غزة.

انتقاد حزب العمال

لكن دائرة النقد الحاد الذي وجهه حزب الخضر للحكومة امتدت لتشمل أيضا حزب العمال، أحد أبرز أحزاب المعارضة، الذي تتقاطع أدبياته السياسية مع التوجه اليساري لأحزاب الخضر، إذ يرى الخضر أن تلكؤ زعيم العمال كير ستارمر في الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار في غزة يوازي السلوك السياسي الذي تتبناه الحكومة البريطانية الداعمة لإسرائيل.

في المقابل، يحاول زعيم حزب العمال، الذي عمقت مواقفه المؤيدة لاستمرار الحرب ضد القطاع الشروخ في صفوف كوادر حزبه وقواعده الانتخابية، تدارك أزمة حزبه الداخلية، عبر صياغة موقف متمايز عن توجه خصمه السياسي حزب المحافظين، لكن من دون إثارة غضب اليمين وداعمي إسرائيل.

و قال ستارمر -خلال خطاب له أمام مؤيدي حزبه في أسكتلندا- إن "وقفا دائما لإطلاق النار في غزة يجب أن يحدث الآن"، في الوقت الذي يستعد فيه مجلس العموم البريطاني يوم الأربعاء للتصويت للمرة الثانية على قرار بوقف فوري لإطلاق النار في غزة طرحه الحزب الوطني الأسكتلندي، يُخشى أن يدخل الحزب على إثر ذلك في طور آخر من الانقسامات والسجالات الحادة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: السیاسیة البریطانیة الحکومة البریطانیة لإطلاق النار النار فی غزة حزب الخضر فی

إقرأ أيضاً:

جيل زد السوري الذي دفع الثمن مبكرا

تزداد الأثمان التي يدفعها الجيل "زد" (Gen Z) في سوريا، كلما تأخر المجتمع الدولي وقوى الأمر الواقع في بناء سلام يستند إلى حل سياسي يطوي صفحة الصراع الذي اندلع قبل نحو 13 عاما.

فمواليد هذا الجيل الذين رأت عيونهم النور بين عامي (1996-2011) -وهي السنوات التي يُصنف بها عالميا- تتراوح اليوم أعمارهم بين 13 و28 عاما، وتعيش النسبة الأكبر منهم في دول الجوار وفي المخيمات وأوروبا، حيث دفعتهم مآسي الحرب للهرب نحو حياة آمنة، وسط حالة عدم يقين ليس بحاضرهم فحسب، بل وبمستقبلهم الذي يلفه الغموض مع استمرار الصراع، وتدهور الوضع الإنساني داخل البلاد.

وتقدر المؤشرات الديمغرافية للنمو السكاني -التي يصدرها البنك الدولي تباعا- إلى جانب مصادر حكومية سورية، عدد أفراد هذا الجيل في عام 2011، وهو العام الذي شهد بداية الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، نحو 8 ملايين فرد، بلغت نسبتهم 38.3% من عدد السكان.

في حين تُجمع منظمات حقوقية عالمية على أن أغلب أفراده تعرضوا بين عامي 2011-2024 لدورات متكررة من العنف الحكومي والنزوح واللجوء ولحرمان غذائي وصحي وتعليمي شديد، علاوة على عواقب جسدية ونفسية مدمرة طويلة المدى أثّرت على تكوينهم واهتماماتهم.

القمع في مرحلة متقدمة

خلال العقدين الأخيرين من حكم الرئيس السابق حافظ الأسد، شهد جيل إكس (1980-1965)، وجيل الألفية (1996-1981)، مجريات سياسية مؤثرة بدءا من ظاهرة "الأسد إلى الأبد" إلى شعار "لا حياة في هذا البلد إلا للتقدم والاشتراكية"، ترجمهما نظام دمشق لحملات قمع واعتقالات واسعة، ومجازر ارتكبها الجيش السوري (1983-1980) في مناطق تدمر وحماة وحلب وجسر الشغور، انتهت بمصرع عشرات الآلاف من المدنيين.

وورث جيل زد -حسب السياسي السوري المعارض عماد غليون- مظاهر الخوف والقلق التي تركها الأسد الأب في نفوس السوريين، واستمرت بعد وفاته مع نظام الأسد الابن عام 2000.

ولفت غليون، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن التحولات العميقة التي جرت في بنية الدولة وتحولها لما يُعرَف بسوريا الأسد من خلال نظام حكم إقصائي يستند إلى ركيزتي المخابرات والجيش، لم تكن لتحمي النظام الحالي من غضب شعبي صامت، خرج إلى العلن مع شعارات جدارية شارك في كتابتها أطفال من جيل زد -كما في مدينة درعا جنوب البلاد- مطلع عام 2011، تناهض النظام وسياسته الداخلية.

ورغم محاولة تدجين هؤلاء الأطفال بفرض مناهج تعليم ذات طابع سياسي وإلزامية الانضمام لثلاث منظمات عقائدية ترافق حياتهم الدراسية (طلائع البعث، وشبيبة الثورة، واتحاد الطلبة) للسيطرة على عقولهم، فإن النظام -بحسب غليون- فشل في تحطيم حلمهم وتطلعاتهم للحرية والكرامة.

غليون: رغم محاولة تدجين هؤلاء الأطفال فإن النظام فشل في تحطيم حلمهم وتطلعاتهم للحرية والكرامة (شترستوك) التحرر من عباءة الخوف

في مطلع عام 2012، انضم عبد السلام -ابن الـ15 عاما آنذاك- إلى الاحتجاجات التي خرجت بمدينة حماة، وشهد -حسب حديثه للجزيرة نت- مقتل عشرات المتظاهرين من أبناء جيله برصاص القوات الحكومية، في ساحة العاصي (مركز المدينة) ووصف المشهد بقوله: لقد لقوا مصرعهم وهم يحملون الورود بأيديهم.

في العام نفسه، فر عبد السلام إلى الأردن بمساعدة أصدقائه بعد أن لاحقه الأمن الحكومي، وقدم للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين طلب لجوء تم قبوله، ثم استكمل دراسته، ويتابع حياته في العاصمة عمان على أمل أن يعود لبلده، وقد تحققت تطلعات جيله.

تقدر الأمم المتحدة عدد الذين لقوا مصرعهم من أفراد هذا الجيل على يد قوات الأمن السورية والجيش النظامي، بأكثر من 10 آلاف طفل، خلال السنوات الثلاث الأولى من الصراع، إضافة إلى أن عددا أكبر أصيب بجروح جراء القصف الجوي والبري.

ورصد تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن في يناير/كانون الثاني 2014 حول حالة الأطفال والنزاع المسلح في سوريا، حالات لا تُحصى من قيام القوات الحكومية بقتل الأطفال وتشويههم، وعرقلة حصولهم على التعليم والخدمات الصحية.

وذكر التقرير الذي غطى الفترة الواقعة بين مارس/آذار (2011-2013) أن القوات الحكومية ألقت القبض على عدد كبير من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاما، واستخدمتهم أمام الدبابات كدروع بشرية، في حين تعرض عدد كبير بعمر الـ11 عاما للرصاص في تظاهراتهم المناوئة للحكومة في عدد من المحافظات، وقُتل أغلبهم وأصيب آخرون بإصابات بليغة.

وأرجع التقرير الإصابات التي تعرض لها أفراد هذا الجيل خلال تلك السنوات إلى إطلاق الرصاص العشوائي على المتظاهرين والقصف المكثف بالمدافع والطائرات الحربية على القطاعات المدنية، إذ أدى الأخير إلى حروق وجروح وبتر أطراف وإصابات بالعمود الفقري طالت الكثيرين منهم.

شاب يسير على أنقاض وسط مبانٍ متضررة إثر قصف على مدينة حلب السورية 2014 (شترستوك) سلوكيات مضطربة وغضب سريع

من منظور عام، تأثر الأبناء السوريون من جيل زد بتجارب آبائه من جيلي (إكس والألفية) خلال نصف قرن من الإقصاء والاستبداد السياسي وسطوة الحزب الواحد الذي يقود الحكم في سوريا، وأسهمت تجارب محيطه العائلي والاجتماعي المتراكمة، حيث أمضى مئات الأفراد سنوات قيد الاعتقال كسجناء رأي في فترات مختلفة، على نظرته للحياة والمستقبل.

ورغم سمة التمرد التي نافس بها سابقيه ومحاولته كسر القيود التي حدت من تطلعاته، فإن علاقته بجيل الألفية في بعض المسائل تبدو تكاملية، خاصة فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والتغيير والحرية والعدالة والمساواة.

كما زاد رواج المصطلحات الحديثة، مثل الدولة المدنية، والمواطن العالمي، والجندر، والاقتصاد الرقمي، ومنصات التواصل الشبكية، من تماهيه بين المحلي والإقليمي والعالمي، متأثرا بأفكار وتوجهات جديدة تتعلق بالهوية والقيم المجتمعية ومفاهيم غالبا ما كانت تدفعه إلى تجاوز المألوف والنزوع نحو التمرد والعصيان والعنف، وفي أحيان أخرى إلى الانكماش بداعي القلق والتوترو الاكتئاب.

وكشفت دراسة استطلاعية أجرتها جامعة كامبردج بين عامي (2019-2020) شملت نحو 1300 فرد من جيل زد ممن عاشوا ودرسوا في مدينة دمشق، عن وجود آثار سلبية عند 53% منهم نتيجة الصراع كاضطراب ما بعد الصدمة وسرعة الغضب.

وأفادت الإجابات التي نقلتها الاستبيانات على لسان فتيان وفتيات من الصف العاشر وما فوق، في 7 مدارس حكومية تَعرّض 58% منهم لخطر مباشر، في حين قال 40% إنهم فقدوا أحد الأقرباء، و61% عانوا كثيرا بسبب ضوضاء الحرب، و62% عانوا من سرعة الغضب لأتفه الأمور، مما تسبب لهم بمشكلات كثيرة.

ولفتت الدراسة إلى أن تأثيرات الحرب كانت أسوأ بالنسبة للفتيات، حيث ذكرن أنهن يعانين في أغلب الأحيان من نسب أعلى لاضطراب ما بعد الصدمة، ما جعل نوعية حياتهن أسوأ من أقرانهم الذكور.

دراسة: تأثيرات الحرب في سوريا كانت أسوأ بالنسبة للفتيات إذا يعانين غالبا من نسب أعلى لاضطراب ما بعد الصدمة (رويترز) اصطفافات أنتجت هوية مجزأة

علل الخبير المختص في التنمية البشرية إبراهيم السعيد ميل بعض أفراد الجيل الذين ولدوا مع بداية الصراع في المناطق الساخنة للعنف وتقمص شخصية المحارب، إلى صورة الدبابة والطائرة وبندقية الكلانشينكوف التي لا تزال تتحكم بمخيلتهم، فأغلب هؤلاء لا يعرفون شيئا في الحياة سوى الحرب والقتال والهرب إلى أمكنة أكثر أمانا تحميهم من القصف.

بالمقابل، رد السعيد قصور الجيل المعرفي تجاه الماضي وإرثه التاريخي وعدم إلمامه بتضحيات أجداده في مرحلة الاستقلال 1945-1925، ونضالاتهم ضد الديكتاتوريات التي حكمت في بداية نشوء الدولة السورية الوطنية، وعادت مع حكم البعث في عام 1963، إلى سياسة تجهيل كانت تهدف لصنع ذاكرة جديدة لا تحتوي غير إرث الأسد.

وأوضح، في حديثه للجزيرة نت، أن تفاوت السمات التي يحملها أنتج هوية مجزأة تعكس الأزمة العميقة التي يواجهها المجتمع السوري بعد أن عززت الحرب الطريق لاصطفافات سياسية وعقائدية ونمو هويات صغرى وفرعية تسعى جميعها للتميز والهيمنة عبر نهج إقصائي بدأه النظام أولا واستثمرته مكونات أخرى لأبعاد سياسية.

وشدد السعيد على أن أغلب أفراد الجيل الذين نزحوا تتوزع هويتهم بين قوالب نمطية ذات خلفيات أيديولوجية محددة، وأخرى ذات فضاء حر لا ترتبط فكريا بأية أيديولوجية، لكنهم جميعا مندفعون تجاه دولة تحمي حقوقهم وتطلعاتهم المشروعة.

وفي السياق نفسه، عبّر همبرفان كوسه عضو غرفة دعم المجتمع المدني السوري (CSSR) -وهو فريق عمل تابع للأمم المتحدة- عن مخاوفه من وجود تصدّعات في جسد الشباب السوري، ودعا -في كلمة خلال افتتاح مؤتمر بروكسل السادس حول سوريا- إلى دعم الحوار بين فئاتهم بما يتجاوز الانتماءات الجغرافية والطائفية، وطالب بالابتعاد عن أولئك الذين ينشرون خطاب الكراهية.

السعيد: أغلب أفراد جيل زد الذين نزحوا تتوزع هويتهم بين قوالب ذات خلفيات أيديولوجية محددة وأخرى ذات فضاء حر (غيتي) فقر في الأمن والتعليم والمنظومة الرقمية

تصف الأمم المتحدة الصراع السوري بأنه أكثر الحروب دموية في العالم، فعلاوة على حجم الدمار الهائل وخسائر الاقتصاد التي بلغت نحو 400 مليار دولار، خسرت البلاد رأسمالها البشري؛ إذ لقي ما يزيد عن 500 ألف شخص مصرعهم، وأكثر من 970 ألف مغيبين قسريا، بينهم 155 ألف سيدة، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.

كما سجلت سوريا أعلى نسبة نزوح داخلي بنحو 7.2 مليون نازح، ولجوء حوالي 6.5 مليون للخارج، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، وذلك لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية على المستوى العالمي.

ويرى محللون أن حصة جيل زد من هذه الخسائر غير متوفرة بدقة، لكنها كبيرة، تختزلها 3 أوضاع تنم عن تعرضه لفقر في الأمن والتعليم وفي حصته من التكنولوجيا الرقمية.

وتشير معظم ردود أفراده حول الأسباب التي دعتهم للفرار خارج البلاد إلى وجود مخاطر أمنية تتعلق بمواقفهم من السلطة، إضافة إلى ما يشكله تجنيدهم الإجباري في الجيش الحكومي من استثمار -يرفضونه- يعمل له النظام بهدف ضخ دماء جديدة إلى قواته المنهكة على جبهات الحرب.

من جهة ثانية، رصدت تقارير الأمم المتحدة تأثر هذا الجيل خلال سنوات الصراع بآليات تكيف سلبية اتبعتها الأسر في مواجهات المتغيرات التي أفرزتها الحرب، كالعمل بدل المدرسة لإعالة الأسرة، نتيجة الضائقة المالية التي تعاني منها 90% من العائلات.

وتأسفت إيلينا ديكوميتيس، مستشارة السياسات المعنية بالشباب في المجلس النرويجي للاجئين، من أن "الشباب أجبر على وضع مرحلة المراهقة جانبا، بغية خوض مرحلة البلوغ على عجل، والنهوض بمسؤوليات كبيرة من أجل إعالة أسرهم".

محللون: حصة جيل زد من الخسائر كبيرة تختزلها أوضاع تنم عن تعرضه لفقر في الأمن والتعليم والتكنولوجيا (الأناضول)

وتؤكد اليونيسيف، في تقرير لها، أن ما يزيد عن 2.5 مليون طفل خسرهم التعليم في سوريا، حيث تواجه البلاد أكبر أزمة تعليم في التاريخ الحديث بحسب المصدر، وصنف التقرير المرافق التعليمية في المدن والبلدات التي شهدت هجمات حكومية، بأنها إما مدمرة أو مصابة بضرر أو تؤوي أسرا نازحة، في حين تعاني أخرى في المدن الخاضعة لسلطة النظام من ضغط شديد.

لمس ماجد -أحد مواليد الجيل زد- بعد فراره توفر بدائل أكثر جاذبية في دول اللجوء، ونفى امتلاكه في مطلع حياته السبل والمهارات التي كان من المفترض أن تمكنه من الاستثمار في المبتكرات الحديثة ومجاراة الثورة الرقمية وتكنولوجيا الاتصالات التي يشهدها العالم.

وأكد للجزيرة نت أنه لم يشعر بضرورة تفاعله مع الموجة الرقمية، إلا بعد أن غادر البلاد وأقام في تركيا، إذ قال "لقد اكتشفت فجوة كبيرة بين ما وصلت إليه قدرات الجيل زد في المجتمعات المجاورة، وبين واقع جيلنا في سوريا".

يصف ماجد مواليد جيله بجيل الرقمنة الذي عاش أفراده على مستوى العالم زمن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ويرى أن حصة جيله كانت ضعيفة، بسبب موانع فرضتها السلطات أدت لحالة انغلاق عن العالم عاشها المجتمع السوري سنوات طويلة.

ونقل عن أحد أقاربه كيف كان استخدام جهاز الفاكس -في بداية انتشاره زمن الأسد الأب- دون موافقة جهاز المخابرات، جريمة تعرض صاحبه للتوقيف، وكيف كانت أغلب العائلات تخفي جهاز الستلايت أيضا الخاص باستقبال القنوات التلفزيونية عبر الأقمار الاصطناعية تحت أغطية من القماش، خوفا من انكشاف أمره لأجهزة الأمن.

واصطدم أبناء هذا الجيل بأول احتكار لتكنولوجيا الاتصال الخلوي ومعلومات الإنترنت بعد أن حصلت شركة خاصة على امتياز استثمار الشبكة عام 2001، ورفعت أسعار الخطوط الخلوية لأرقام لم تتمكن من تسديدها سوى نخبة المجتمع السوري.

وذكر تقرير أصدرته الأمم المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 2003 أن عدد مشتركي خدمة الهاتف الخلوي بلغ 12 مشتركا لكل 1000 شخص (25 ألف مشترك في دمشق و20 ألفا في حلب).

غير أن الرقم الذي ارتفع بعد عدة سنوات، حين أصبحت أسعار خدمة الشبكة متاحة لمختلف طبقات المجتمع، أعطى مؤشرا حول اندفاع محدود لاستدراك الفجوة التي فصلته عن العالم الرقمي، وحقق إنجازا بارزا عندما نقل للعالم بالصوت والصورة عبر كاميرات أجهزة الخلوي والنت الفضائي -لتوقف الأرضي- وقائع الاحتجاجات الشعبية عام 2011، وردود فعل النظام العنيفة تجاهها.

وتواجه أعداد كبيرة داخل البلاد تحدي الوصول إلى فرص سبل العيش الرقمية اللائقة، بسبب عدم كفاية سرعة الإنترنت وتقطعه أو انقطاعه لفترات طويلة.

وكانت عينة شبابية من الجيل نفسه قد بررت، في دراسة أجراها مكتب اليونسكو في بيروت عام 2021 بعنوان "محو الأمية وتقييم المهارات الحياتية للشباب السوري"، أن عدم حضورهم عبر الإنترنت يعود إلى:

عدم امتلاكهم جهاز كمبيوتر شخصيا أو لابتوب. غياب الطاقة ومشكلات في إشارات الهاتف المحمول. صعوبات مالية أدت إلى عدم توفر الهواتف الذكية وعدم توفر أجهزة التلفاز.

مقالات مشابهة

  • بقائي: معيارنا في التقييم هو الأداء الذي تبديه الحكومة الأمريكية
  • أول موقف أمريكي من إعلان ميلاد التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية، في اليمن
  • جيل زد السوري الذي دفع الثمن مبكرا
  • الحرب الاقتصادية على غزة
  • السامرائي: وجهة نظرنا هي الذهاب مع الفريق السياسي الذي يحقق النجاح لجمهورنا
  • الحكومة الفلسطينية: الاحتلال يمنع دخول 5 آلاف شاحنة مساعدات لغزة
  • اسماء الأحزاب والمكونات السياسية في التكتل السياسي الجديد برئاسة بن دغر وموعد الإشهار
  • السياسيّ البريطانيّ المخضرم جورج غالاوي: “السنوار مات محاربًا وسيُصبِح مشهورًا أكثر من جيفارا”
  • ما المكان الذي اختارته مطروح لإنشاء موقف لسيارات الأجرة والأتوبيسات؟
  • "أونروا": "إسرائيل" قلصت دخول المساعدات لغزة خلال أكتوبر