ومن غزة أيضا.. يبدأ تغيير الواقع
تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT
المشهد في غزة غريب وعجيب، ففي غزة كما يرى العالم تُقصف البيوت وتسقط على سكانها، وتُحرق الدبابة ميركافا" وناقلات الجنود، والانفجارات تطال كل شيء المخابز والمدارس والمستشفيات ومحطات الوقود وخزانات المياه، وحتى حضانات الأطفال تتوقف عن العمل.
إنه مشهد لا يخضع لمنطق العقل، ولا لقوانين الحرب، ولا لقواعد العلم والأخلاق، ولا لضوابط الحضارة والإنسانية، إنه مشهد تشترك في صناعته وصياغته قوتان متناقضتان:
القوة الأولى: قوة همجية وبربرية متفلتة من أي ضوابط، تمارس المذابح والإبادة الجماعية، وقد تعودت على حروب خاطفة تقضي فيها على عدد من الدول في أيام معدودة، فتحطم قدرتها العسكرية وتحتل أرضها، ثم تشرب نَخب البطولة وتحتفل بالانتصارات.
القوة الثانية: هي إرادة شعب يعاني من الاحتلال أكثر من سبعين سنة، يقاوم هذا الجيش بصمود وقدرة هائلة على امتصاص الكوارث بثبات وإصرار على البقاء في أرضه ورفض التهجير القسري.
ومع الفارق الهائل في الإمكانيات والتدريبات والتكنولوجيا والسمعة العالمية يدخل نفس الجيش المحتل في حرب داخل مدينة غزة، استمرت حتى الآن لأكثر من مئة وأربعين يوما، والعدو المحتل يعتمد أقسى وأفظع أنواع الإبادة الجماعية كأول سلاح في كسر الإرادة وتحقيق الهزيمة النفسية لعدوه، بحثا عن انتصار وهمي، يغطي به هزيمته، فإذا به في غزة يواجَه بإصرار متألق يعلو فوق الجراح ويسمو فوق الآلام، ويواجِه حالة الفقد للأهل والأحبة بسلام نفسي قَل أن تجده إلا في غزة، فتسمع الدنيا من الشعب الأعزل عبارات أيقظت ضمير العالم، وخطفت سمع سكان الأرض وأبصارهم، وأبكت عيون الكثيرين في كل الدنيا رجالا ونساء. وكان للنغم الطاهر الذي يتردد على ألسنتهم في تلك العبارات سحر جديد دفع غير المسلمين إلى البحث عن معنى تلك الكلمات: "الحمد لله"، "إنا لله وإنا إليه راجعون"، "نلتقي في الجنة"، "كلنا مشروع شهادة"، ومن ثم تفجرت أيضا ينابيع الوعي من عمق المأساة في غزة.
وتعجب الجميع وتساءلوا:
أي نوع من الناس هؤلاء؟
هل هم من سكان الأرض؟
من أين جاءوا بكل هذه القوة وهذا الثبات؟
ولماذا تقصف إسرائيل هؤلاء وتحتل أرضهم وتجرف مزارعهم وتدمر مساكنهم؟
ولماذا تصر إسرائيل على إذلالهم وسحقهم وقتلهم؟
ولماذا أيضا يصمت العالم على جريمة المحتل الغاصب؟
وبدأت دورة الوعي الجديد تسري في العقول والوجدان سريان الضوء والسنا في الليل الطويل المعتكر.
ورأت الدنيا كلها وشاهد العالم في صمود نساء غزة وأطفالها انتصار الإرادة، حتى وإن دُمرت البيوت وقصفت المدارس، والكنائس، والمساجد، والمستشفيات.
الأبطال الصغار أطفال غزة يعيدون للوجود الأمل بعد يأس طويل، ويستعيدون مهابة الإنسان في دنياه، وكأن الزمن قد قفز بهم وتجاوز بوجودهم عصور الوهن وقلة الحيلة والهوان والاستضعاف، فتسمعهم يرددون ببساطتهم وتلقائيتهم: "سنعود لبيوتنا المدمرة، وسنجلس على الحطام، وسنبقى على الأرض لأنها أرضنا، ولن نغادرها مهما فعلوا بنا".
وأمام هذه القوة المدمرة والمزودة بأحدث أساليب الفتك والقتل والأرض المحروقة، ومع طول أمد الحرب، كان صمود شعب غزة أمام كل تلك المذابح سببا في إزالة الغشاوة عن عيون شعوب العالم ليرى الصورة على حقيقتها، حيث أشلاء الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين العزل تتناثر في الشوارع وبين الركام، فأزالت تلك الصور عن وجه المحتل مساحيق الماكياج الإعلامي ومصانع الخداع والكذب.
وبذات الأسباب كان أهل غزة سببا في تحريك عقل المواطن الغربي ومعه كل شعوب الدنيا لتستعيد يقظة ضميرها الإنساني وتستفيق من خداع استمر لأكثر من نصف قرن، فاستردت الدنيا وعيها المسروق، وكأن قدر أهل غزة ومهمتهم خلال مئة وأربعين يوما وتزيد قليلا أن يعيدوا للدنيا بتضحياتهم العظيمة وعيها المفقود، ويردوا للزمن اعتباره، وللعروبة شرفها الشارد الضال، ويشيّدوا من جديد بنيان الإنسانية الذي تهدّم بالخوف من غرور القوة وصلافة الاستبداد ووحشية الغابة حين يمتلك حيوانها الضال أدوات الفتك والقتل والتدمير.
ولأول مرة في تاريخ الكون يشعر الرأي العام العالمي أنه كان يتناول معلومات مغلوطة، وأنه كان أسيرا معصوب العينين معزول الوجدان، خاضعا لما تمليه عليه مصانع الكذب ومراكز الخداع، ليظل مخدرا وتحت السيطرة الكاملة للصوص الحضارة وتجار الحروب وسرّاق أحلام الشعوب.
وبذلك الصمود أحيت غزة ليل الأحرار وبددت ظلامهم، وأعادت إليهم إحساسا جديدا بالحياة كان قد غاب عن الناس وافتقدوه تحت وطأة الخنوع والخضوع، والتطبيع مع الواقع اليائس والبائس، وكأن قدر الأحرار أن يعيشوا مقهورين أبدا، ومحبطين أبدا، ولا سبيل لهم إلى الحرية والكرامة والعزة أبدا.
ولأكثر من مئة وأربعين يوما وكل أهل غزة كانوا وما زالوا الظهير والسند الشعبي والرصيد الحضاري لإرادة قررت في إصرار إحياء القضية وبعثها من جديد، بعد أن خطط البعض لتصبح ذكرى أليمة، لا يملك أصحابها غير البكاء على أطلالها.
أكثر من مئة وأربعين يوما وأهل غزة يثبتون للوجود بتضحياتهم أن الإرادة لا تهزم، وأن الرجولة في الأمة لن تموت، ربما تدخل في غيبوبة لبعض الوقت فتغيب عن المشهد الحضاري، ولكنها لن تموت، وأن من يعيشون في الحصار هم الأحرار حقا.
ثم كانت قصة الأسرى.. وما أدراك ما الأسرى! الأسرى الذين أطلقت المقاومة سراحهم أثبتوا للعالم كذب دولتهم..
ولأكثر من مئة وأربعين يوما وصمود غزة يكشف عوار المجتمع الدولي وقد أضحى مجروحا في عدالته ومفضوحا في تحيّزه.
والفضيحة الأكثر والأكبر هي فضيحة بعض الأنظمة العربية حين تخلت عن غزة، بينما قامت جنوب أفريقيا بما كان يجب أن يقوم به العرب، فتأكد لكل شعوب المنطقة حجم خيانة بعض حكامهم وتواطئهم.
ولم تعد تصريحات الاستهلاك المحلي بالشجب والإدانة كافية لستر فضائحهم ورغبتهم لدى العدو بالتخلص من الغريم السياسي في غزة، ولو اقتضى الأمر إبادة كل أهلها.
وتساءل الناس في استغراب وذهول:
هل صحيح أن أصلكم عربي؟
وأن شخوصكم أعراب في الجنس والدم واللسان؟
من أي أبناء العُرْب أنتم وقد لوّثتم تاريخ العروبة ومرّغتم أنفها في أوحال العار؟
وسيقول التاريخ كلمته فيمن تآمروا على غزة وموّلوا حملة العدو ضدهم، وستلعنهم ألسنة الناس في كل جيل، وسينظر إليهم أبناؤهم وأحفادهم مستنكرين:
لماذا جلبتم لنا العار وكنتم رمزا للخسة حين كُنْتُمْ عونا للعدو على إخوتنا؟!
لماذا تكرهون الشرفاء وتتآمرون عليهم؟
لماذا ساهمتم بأموالكم في هدم البيوت ويتم الأطفال وصرخات الثكالى؟
لماذا كان إصراركم على الخيانة وكان يمكنكم أن تكونوا شرفاء؟
من أجل ماذا تستمطرون على أنفسكم لعنة الناس وغضب السماء وبراءة الله ورسوله منكم؟
أي شيء في دنياكم يغسل كل هذا العار؟
وكم من الأموال وخزائن النفط تكفي لستر تلك الفضيحة؟
وبأي وجه تعيشون بين البشر إن كانت أخراكم ليست في الحسبان وهي جد قريبة وقادمة لا محالة؟
في غزة ليس التاريخ فقط هو الذي تعاد صياغته، بل البطولة والإنسان والجغرافيا أيضا.
غزة يكتب عنها التاريخ ليسجل أكبر فضيحة لقادة الغرب ومراكز القرار فيه، وهم يرون صنيعتهم إسرائيل تمارس إبادة جماعية بآلة الحرب التي قدمها لها الغرب وبلا ثمن.
الحضارة الحديثة ستقف في حالة من الخزي والعار أمام ما يحدث حين سكت قادتها ولم ينطقوا ببنت شفة، وهم يرون بنك الأهداف الإسرائيلية يستهدف الأطفال والأمهات والمدنيين الذين لا ذنب لهم.
غزة بعدد شهدائها، وحجم البيوت التي تهدمت فيها، والدماء الزكية التي أريقت على أرضها؛ تنتصر وتنهزم الأنظمة العربية، وترتفع ويسقط أغلب القادة العرب، وتشمخ بإباء وكرامة رغم الآلام والجراح، بينما كل خصومها من الصهاينة في العواصم العربية يلحقهم العار، ويلعنهم الناس والأشياء.
كل الشرفاء في الوطن، وكل الشرفاء في العالم، ومعهم شعب غزة؛ يدركون أن هناك من باعوها لتبقى عروشهم، وخذلوا شعبها ليبقوا هم فوق صدور الشعوب، وأسلموا أطفالها لمحرقة حليفه.
غزة استطاعت أن تصمد لأكثر من مئة وأربعين يوما أمام حملات الإبادة والاستئصال، لكن المؤامرة كبيرة وبحجم دين وطن، وستحدث مذابح وبالملايين، وسيعاد رسم خريطة المنطقة برمتها من جديد وفق رؤية الذين يستعملون إسرائيل رأس حربة لتنفيذ مخططهم في مجتمع "المليار الذهبي"، ومن ثم فهناك دول ستختفي من الوجود، وأخرى يعاد تقسيمها، فهل ستصمد فلسطين وحدها أمام الخيانات؟ أم تتحرك الشعوب لتكسر السكين قبل أن تجري على عنق الضحايا؟
حفظ الله غزة وأهلها من شر سماسرة السياسة الذين يبيعون أوطانهم ويفرضون عليها الهزائم والذل، ويسوقون للتطبيع ولقبول خطط العدو على أنها المخرج والملاذ الآمن.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال غزة الاحتلال جرائم مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی غزة
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف: الإسلام يتفاعل مع الواقع والمستجدات عبر 3 آليات
شارك الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف - رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، في ندوة بجناح دار الإفتاء المصرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب تحت عنوان “الفتوى والشأن العام”، بدعوة كريمة من الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ونخبة من المفكرين والعلماء، من بينهم: الدكتور مصطفى الفقي، المفكر السياسي؛ والدكتور عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية.
هدفت الندوة إلى مناقشة أهمية الفتوى في ضبط مسار المجتمع، والحفاظ على التوازن الفكري والديني، وضرورة الالتزام بالضوابط الشرعية في تناولها إعلاميًا، واستشراف مستقبل الفتوى في ظل التطورات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد استهل الدكتور أسامة الأزهري كلمته بتأكيد أن الانتماء الوطني يأتي في مقدمة دوائر الانتماء، يليه الانتماء إلى العروبة، ثم إلى الإسلام، مشيرًا إلى أن هذا الترتيب هو المدخل الصحيح لخدمة الإسلام، إذ لا يمكن أن تُخدم الشريعة على أنقاض أوطان منهارة.
هل يجوز للزوجة أن تتجسس على هاتف زوجها.. احذرنه لـ5 أسبابهل يجوز إعادة صلاة الوتر مرة أخرى في آخر الليل؟ ..الإفتاء ترد
وأشار إلى أن معرض القاهرة الدولي للكتاب يُعد ملتقىً للعقول والمفكرين من مختلف أنحاء العالم، إذ تقوم مصر من خلاله برسالتها العلمية والمعرفية.
وأوضح أن الإسلام يتفاعل مع الواقع والمستجدات عبر آليات ثلاث:
١. التجديد: الذي تُبعث به روح الإسلام وفق متطلبات العصر، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".
٢. الاجتهاد الفقهي: وهو استنباط الأحكام الفقهية وفق معطيات الواقع.
٣. الفتوى: التي توجه الأفراد والمجتمعات وفق الضوابط الشرعية.
وأكد وزير الأوقاف أن التجديد هو أوسع هذه الدوائر، بينما يركز الاجتهاد على القضايا الفقهية، والفتوى تعد حلقة الوصل بينهما لتلبية احتياجات المسلمين المعاصرين، مشددًا على أن العالِم بحق هو الذي يدرك طبيعة العصر وتحدياته وتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ليصدر الفتوى بمنهج علمي يحقق التوازن، ويحفظ الأوطان، ويضيء العقول.
كما أكد الوزير أن الفتوى التي تتعلق بالشأن العام يجب أن تقتصر على المؤسسات العلمية المعتمدة، نظرًا لتشابكها مع قضايا الدولة والمجتمع، مشددًا على ضرورة إصدار تشريع قانوني يحدد الجهات المخولة بإصدار الفتاوى العامة، حفاظًا على استقرار المجتمعات وصيانة الشريعة.
وفي كلمته، أشار الأستاذ الدكتور أشار نظير عياد إلى أن الفتوى المتعلقة بالشأن العام تختلف عن الفتاوى الشخصية، إذ يجب مراعاة المصلحة العامة، واستحضار التنوع الفكري والديني والاجتماعي عند إصدار الفتوى.
كما أكد أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح في القضايا الكبرى، وأن على المؤسسات الدينية أن تتعاون مع الجهات التنفيذية والتشريعية لضمان صدور الفتاوى في إطار يحافظ على الاستقرار المجتمعي.
وفي كلمته، أشاد الأستاذ الدكتور مصطفى الفقي بموسوعة الدكتور أسامة الأزهري، مؤكدًا أنها وثقت سير علماء الأزهر في مصر وخارجها بدقة؛ ما يؤكد دوره الفكري والمعرفي الرائد. كما شدد على خطورة الفتوى العشوائية وأثرها السلبي على المجتمعات، داعيًا إلى ضرورة وجود مؤسسات قوية قادرة على ضبط الخطاب الديني وحماية المجتمعات من الفوضى الفكرية.
من جانبه، أكد الدكتور عبد الله النجار أن الوطن جزء لا يتجزأ من الحكم الشرعي، وأن استقرار الدين مرتبط بوجود أرض آمنة مطمئنة بشعبها وجيشها. وأوضح أن الفتاوى التي تتعلق بالشأن العام يجب أن تراعي المصلحة العامة، وتقدم حق الله على حقوق الأفراد إذا تعارض الأمر بينهما، فالدين لا يمكن أن يستقيم في بيئة مضطربة.
اختُتمت الندوة بتأكيد المشاركين أن التجديد الفقهي ضرورة لضمان استمرارية الشريعة في مواكبة العصر، وأن ضبط الفتوى وفق أسس علمية رصينة يسهم في حفظ الأمن الفكري والمجتمعي، كما شددوا على أهمية التعاون بين المؤسسات الدينية والإعلامية لضمان تقديم الفتاوى بطرق دقيقة ومتزنة، تحافظ على مقاصد الشريعة، وتخدم قضايا المجتمع المعاصر.