يسألونك عن الصيانة بالعالم الثالث
تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT
قادني ذات يوم طارئ صحي بسيط ظاهريا إلى عيادة طبية لا تعمل بنظام المواعيد بل تكتفي القائمات على شؤونها بتوزيع أرقام تسلسلية على المرضى. كان حظي من الأرقام تعيسا بنفس درجة تعاسة أحوال الطقس في ذلك الصباح الشتوي. وأثناء الانتظار الطويل اضطرتني إكراهات بيولوجية في وقت من الأوقات إلى زيارة المرحاض. ومنذ الوهلة الأولى لاحظت أن طراد الماء كان معطلا حتى قبل أن أختبره.
وفي مستهل خريف هذه السنة قدمت إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية ربورتاجا حول أزمة الماء الشروب المستفحلة بجزيرة غوادلوب، التي على الرغم من تبعيتها لحكام باريس وقراراتهم إلا أنها تتقاسم مع دول العالم الثالث مجموعة من السمات. وهكذا، فقد ألقى معدو التحقيق الصحفي الضوء على واحد من أهم عوامل الأزمة ويتعلق الأمر بالتسربات الناتجة عن اهتراء قنوات الجر والأنابيب والتي تتسبب في ضياع ما يناهز 45 بالمائة من المياه. وقد مكنت هذه المادة الإعلامية المتفرج من إدراك حجم الإهمال وحجم تبعاته في زمن التغيرات المناخية وبجزيرة يبدو أن القائمين على شبكة توزيع الماء بها يفتقرون حتى إلى ثقافة الوقاية فأحرى ثقافة الصيانة.
وقبل سنوات عديدة حكى لي أحد معارفي عن زيارة قصيرة قام بها رفقة وفد رسمي لأحد القصور الملكية بالشرق الأوسط. وبقدر ما انبهر صاحبنا برونق وفخامة الجناح الذي جرى به الاستقبال بقدر ما اندهش من منظر مقبس كهربائي منفصل عن جداره ولم تكن إعادته إلى مكانه تتطلب أكثر من حركة بسيطة من “بطل” لا يخشى الصعقات الكهربائية أو من محترف لن يزيد حجم أتعابه عن ما يعادل ربع قيمة برميل واحد من النفط.
هذا إذن هو العالم الثالث حيث معضلة الصيانة مازالت قائمة وبحدة لا لشيء إلا لغياب ثقافتها. والناس بهذا العالم لم يدركوا بعد بأن حس الصيانة ليس كنظم الشعر أو كتابة القصص والروايات وصناعة النكات… وغيرها من الأصناف الإبداعية التي تتطلب وجود موهبة دفينة تولد مع الإنسان في الغالب بل هو مثل الأناقة، أي أنه قابل للاكتساب متى توفرت الرغبة والتربية الملائمة والقدوة الحسنة. والأغرب ما في الأمر أنه حتى في ظل وجود الإمكانيات المادية الكفيلة بتقويم ما يجب تقويمه يبقى الإهمال سيد الموقف الشيء الذي قد يهدد جديا حتى وجود المنشآت والمشاريع المنجزة ويحط من قيمتها، وقد يعطل أيضا مصالح الأفراد والمؤسسات ناهيك عن تشويه المنظر العام كما يحدث مثلا عند التخلف عن تجديد طلاء واجهة بناية أو عند تعويض مربع زجاجي مكسور بآخر من الخشب أو البلاستيك أو الكرتون. وهذه الإشكالية لا تحتاج إلى مجهر إلكتروني لملاحظة تمظهراتها، إذ جولة ولو قصيرة بالقاهرة أو باماكو أو هافانا أو الدار البيضاء، من شأنها أن تعطينا صورة واضحة عن حجم أشغال الصيانة التي مازالت تنتظر الإنجاز بهذه الحواضر وغيرها لا بالقطاع العام ولا بالقطاع الخاص.
فكم من حديقة تحولت من مساحة خضراء إلى مساحة جرداء، وكم من شارع يتوفر على ما يحتاجه من الأعمدة المخصصة للإنارة لكنه يفتقر إلى نور معظم مصابيحها، وكم من بالوعة اختفى غطاؤها فظلت فاتحة فمها على أمل ابتلاع الأطفال المتهورين أو الساهين من البالغين، وكم من حافلة مخصصة للنقل العمومي لم يعد يربطها بالحياة غير نبض المحرك، وكم من بناية اجتمعت فيها كل شروط البؤس فيخالها المرء مهجورة وهي مازالت تؤدي وظيفتها، وكم من إشارة ضوئية تعطلت لأيام فلم يعد يعرف مستعملو الطريق ما إذا كان عليهم التوقف أو مواصلة المسير، وكم من ملعب تحول إلى مرعى، وكم من جهاز خارج الخدمة وكم من آلة معطلة بشكل دائم أو شبه دائم، وكم من طريق أصبح مصدر رزق للميكانيكيين، وكم من معلمة تاريخية لم تمتد إليها يد الإصلاح فأصبحت في خبر كان، وكم من شجرة ظلت دون تشذيب حتى جرد الرصيف من وظيفته الأساسية، وكم من دراجة وكم من آلة فلاحية وكم من عربة مجرورة بدون أضواء أو بأضواء معطلة ورغم ذلك تراها تسلك الطرق الوطنية والجهوية تحت جنح الظلام دون أن يكون لسائقيها أدنى وعي بخطورة استعمالها، وكم من… وكم من… وأن تتعطل الأشياء من وقت لآخر بطريقة أو بأخرى فهذا أمر عادي، لكن أن تظل معطلة هنا يكمن الفرق بين دول العالم الأول المتقدم ودول العالم الثالث المتخلف، وهذا علما بأن ثمة إصلاحات لن تقتطع من ميزانية البلدية أو المقاولة أو العائلة ما يعرضها للإفلاس ولا تتطلب سوى العزم وسرعة التدخل ونجاعته.
وفي الغالب -عندما تكون الإصلاحات والترميمات المطلوبة من اختصاص البلدية- لا يتردد التقنيون المعنيون في تبرير تقاعسهم بتخلف المواطنين عن التبليغ بالاختلالات المرصودة (الأمر الذي يسائل نجاعة التواصل بين الساكنة وممثليهم بالبلدية) أو بمحدودية الموارد المادية أو البشرية أو بالوتيرة غير الطبيعية لتجدد الأعطاب، مع اتهامهم لشريحة معينة من المواطنين بالميل إلى التخريب لتبقى مسؤولية الوضع الحالي مشتركة بين الجميع، إلى أن يبزغ فجر جديد بعقلية جديدة لا تؤمن فقط بضرورة البناء بل وتؤمن أيضا بضرورة الحفاظ على ما تم بناؤه.
ومن يرغب في ملامسة مشكل الصيانة ببلدنا بشكل خاص وعن قرب ما عليه سوى التطوع لتدبير شؤون مكتب اتحاد الملاك بعمارته أو مركبه السكني وسيرى العجب العجاب. فجميع السكان واعون بأن للصيانة ثمنا وبأن مساهماتهم المالية هي السبيل الوحيد لتحقيقها. رغم ذلك، هناك للأسف الشديد من يستكثر على هذه المؤسسة القانونية 50 درهما في الشهر بشتى الأعذار أو حتى بالاختفاء الدائم ما يجعل من عملية تحصيل المبالغ المستحقة في أحيان كثيرة قطعة من جهنم ومصدرا للإحراج وسببا في توتر الأجواء وتسمم العلاقات، بل إن أصداء هذا الصنف من النزاعات تصل أحيانا إلى ردهات المحاكم، لا لشيء إلا لوجود ملاك يعدون أنفسهم غير معنيين بأجور حراس الأمن الخاص ولا تهمهم النظافة ولا يكترثون لإنارة السلالم والممرات ولا يولون أي اهتمام للترميمات التي تفرض نفسها بين الفينة والأخرى بفعل تقادم البناية، ويعتبرون العناية بالحديقة من الكماليات ويعتبرون المصعد زائدا عن الحاجة وخاصة عندما تتواجد شققهم بالطابق السفلي أو بالطابق الأول.
وفي نهاية التحليل لا يسعني إلا أن أردد ملاحظة فاه بها باحث من إحدى دول الشمال إذ قال: العالم الثالث يبدأ حيث تنتهي الصيانة.
إضافات لها علاقة بما سبق:
في أمريكا الشمالية هناك أعوان بلديون مجهزون بأدوات للقياس وتتمثل مهمتهم في تحرير مخالفات في حق كل من أهمل العناية بعشب بيته الخارجي المحاذي للرصيف، إذ على علو هذا العشب ألا يفوق حدا معينا!!!
وفي جمهورية كوسوفو الفتية -وهذه حالة تستحق التأمل- قامت الدولة مباشرة بعد الإعلان عن الاستقلال بهدم سور يعود بناؤه إلى الحقبة العثمانية ليس بهدف طمس جزء من تاريخ هذا البلد بل فقط لكون مقدراتها المالية لا تسمح بمواجهة تكاليف ترميمه وصيانته على الدوام!!!
ويحكى أن باحثا ألمانيا قضى فترة لا يستهان بها من حياته بمجموعة من بلدان الشرق الأوسط. وخلال مقامه هناك لاحظ كيف أن بيوت الناس تسر العين ونظيفة ومرتبة بشكل أنيق وتخضع للترميمات والأشغال التزيينية من وقت لآخر، وكيف أن الأزقة والشوارع والساحات والمرافق العامة متسخة ومهملة في الغالب، فجاء استنتاجه على النحو التالي: إن للعرب بيوتا لكن ليس لهم وطن!!!!!!!
محمد كرم – هسبريس المغربية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: العالم الثالث وکم من
إقرأ أيضاً:
أقدم أسير بالعالم.. نائل البرغوثي حر بعد 44 عاما بسجون إسرائيل / فيديو
#سواليف
بعد أكثر من 4 عقود خلف القضبان، خرج #نائل_البرغوثي (67 عاما)، #عميد_الأسرى_الفلسطينيين، إلى #الحرية محملا بسنوات من #الصمود والمعاناة في سجون إسرائيل.
" نتوجه إلى كل أهلنا في غزة، من الأطفال و النساء و المقاومين جندًا و قادة، و إلى تراب غزّة بالتحيّة، و مهما كان من الكلمات و المعاجم فإنّها لا توفي أهل غزّة المقاومين الشجعان.. "
– الأسير المحرر نائل البرغوثي. pic.twitter.com/IThb3MymUG
وفجر الخميس، أفرجت إسرائيل عن البرغوثي ضمن مئات الأسرى الفلسطينيين المحررين، في إطار الدفعة السابعة والأخيرة من المرحلة الأولى باتفاق وقف إطلاق النار بين حركة “حماس” وتل أبيب.
مقالات ذات صلة مساع لتمديد المرحلة الأولى من اتفاق غزة وحماس تدعو للالتزام بالاتفاق 2025/02/27وأمضى البرغوثي ما مجموعه أكثر من 44 عاما متنقلا بين #زنازين السجون الإسرائيلية، ويعد أبرز رموز الحركة الفلسطينية الأسيرة.
ويمثل الإفراج عن البرغوثي لحظة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني، إذ يجسد نموذجا للثبات رغم العقوبات المتكررة التي فرضتها عليه إسرائيل ولم تنجح في كسر إرادته.
** من هو نائل البرغوثي؟
وُلد في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1957 ببلدة كوبر شمال رام الله وسط الضفة الغربية المحتلة.
واعتُقل للمرة الأولى عام 1978 وحُكم عليه بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، إضافة إلى 18 عاما بتهمة تنفيذ عمليات مسلحة، وتنظيم خلايا للعمل ضد الاحتلال الإسرائيلي، والانتماء لحركة “فتح”.
في 18 أكتوبر 2011، أُفرج عن البرغوثي ضمن صفقة “وفاء الأحرار” (شاليط)، حيث أُطلق سراحه ضمن مئات الأسرى، وبعد الإفراج عنه، تزوج من الأسيرة المحررة أمان نافع.
لكن فرحته لم تدم طويلا، ففي 18 يونيو/ حزيران 2014، أعادت إسرائيل اعتقاله، وحكمت عليه بالسجن 30 شهرا.
وبعد انقضاء محكوميته، أعادت فرض حكمه السابق بالسجن المؤبد و18 عاما، بحجة وجود “ملف سري”، كما حدث مع عشرات الأسرى المحررين ضمن صفقة “وفاء الأحرار”.
** محطات مؤلمة
في 2021، فقد نائل شقيقه ورفيق دربه عمر البرغوثي (أبو عاصف)، ومنعته إسرائيل من وداعه، كما سبق أن حرمته من وداع والديه.
وتعرض البرغوثي، حسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين (حكومية)، “لعمليات تنكيل وعزل وسلب وتعذيب واعتداءات غير مسبوقة بكثافتها”.
دخل البرغوثي موسوعة غينيس للأرقام القياسية لكونه أقدم أسير سياسي في العالم، إذ قضى أطول فترة أسر عرفها التاريخ داخل سجون إسرائيل.
وتقدر تل أبيب وجود 59 أسيرا إسرائيليا بقطاع غزة، بينما يقبع في سجونها أكثر من 10 آلاف فلسطيني، ويعانون تعذيبا وتجويعا وإهمالا طبيا، أودى بحياة العديد منهم، حسب تقارير حقوقية وإعلامية فلسطينية وإسرائيلية.
** رسائل من خلف القضبان
على مدار سنوات أسره، وجّه البرغوثي رسائل عديدة منها: “محاولات الاحتلال قتل إنسانيتنا لن تزيدنا إلا إنسانية”، و”لو كان هناك عالم حرّ كما يدّعون لما بقيت في الأسر حتى اليوم”.
والخميس أفرجت إسرائيل عن مئات الأسرى الفلسطينيين، بينهم 50 محكوما بالمؤبد و60 من الأحكام العالية و 47 أسيرا من أسرى “وفاء الأحرار” المعاد اعتقالهم، و445 أسيرا من غزة جرى اعتقالهم خلال حرب الإبادة الإسرائيلية.
وبدا الأسرى المحررين في وضع صحي متدهور للغاية، مع آثار تعذيب وكسور في أماكن متفرقة من الجسد، فضلا عن معاناتهم من إهمال طبي.
وأبعدت إسرائيل البرغوثي، ضمن أسرى آخرين إلى مصر، ومنعت زوجته من السفر لاستقباله، تماما كما فعلت مع عائلات أسرى آخرين.
وبوساطة مصر وقطر ودعم الولايات المتحدة، بدأ في 19 يناير/كانون الثاني الماضي سريان اتفاق لوقف إطلاق النار بغزة وتبادل أسرى بين “حماس” وإسرائيل.
ويتضمن الاتفاق 3 مراحل تستمر كل منها 42 يوما، مع اشتراط التفاوض على المرحلة التالية خلال المرحلة الحالية، وتنتهي المرحلة الأولى السبت المقبل، وكان مفترضا بدء مفاوضات الثانية في 3 فبراير/ شباط الجاري.
ويعرقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدء مفاوضات المرحلة الثانية، ويفضل تمديد الأولى لأسباب بينها أن المرحلة الثانية تنص على إنهاء حرب الإبادة وانسحاب الجيش الإسرائيلي بشكل كامل من غزة.
وبدعم أمريكي ارتكبت إسرائيل، بين 7 أكتوبر 2023 و19 يناير 2025، إبادة جماعية بغزة، خلّفت أكثر من 160 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.
وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهمتي ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة.
ومنذ عقود تحتل إسرائيل أراضي في فلسطين وسوريا ولبنان، وترفض الانسحاب منها وقيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود ما قبل حرب 1967.
???? المقاومة تُحرر أقدم أسير في العالم.. نائل البرغوثي "أبو النور"
– تلف الحديد ، لكن معنويّاتنا لم تتلَف ‼️#صفقة_طوفان_الأقصى_7 #غزة_مش_للبيع#FreeDrHussamAbuSafiya pic.twitter.com/lKqLCYicOA