واجه رواد فضاء سفينة أبولو الكثير من التحديات أثناء وجودهم على سطح القمر، لكن الحصول على ما يكفي من الطعام لم يكن من بينها. كانت أطول فترة قضاها أي من أفراد الطاقم على القمر هي الأيام الثلاثة التي سجلتها أبولو 17 في عام 1972، حتى في الوحدة القمرية الصغيرة لرواد الفضاء، كانت هناك مساحة كافية للمؤن المغلفة والمعبأة مسبقًا التي سيحتاجون إليها في هذه الرحلة القصيرة، لكن في المرة القادمة ستكون الأمور مختلفة.

كجزء من برنامج أرتميس التابع لوكالة ناسا، والذي يهدف إلى إعادة رواد الفضاء الأمريكيين إلى القمر بعد توقف دام نصف قرن، لن تأتي الطواقم للزيارة فحسب، بل للبقاء، مما يؤسس لوجود طويل الأمد في قواعد قمرية دائمة. وهذا يعني عدم حمل جميع طعام الطاقم، ولكن زراعة بعض منه على الأقل في الموقع باستخدام تربة القمر نفسها كوسيلة للنمو داخل الدفيئات «البيوت المحمية» القمرية. لكن هل تربة القمر صالحة للزراعة؟ وهل كل النباتات يمكن لها أن تنمو في هذه التربة؟ هل الظروف البيئية مناسبة لنمو النباتات؟ حيث من المؤكد أنه سيتعرض النبات للإجهاد بالعوامل البيئية المختلفة. من هذا المنطلق يأتي دور أحد فروع العلم الهام ألا وهو علم تربية النبات.

زراعة تربة القمر على النهج نفسه مثلها مثل استصلاح الأراضي الجديدة أو زراعة الصحراء أو الزراعة في الأراضي غير الصالحة للزراعة، لكن السؤال هو هل تربة القمر الجافة الحادة والزجاجية، التي يغمرها الإشعاع الكوني والرياح الشمسية على مر العصور قادرة على دعم نمو النباتات؟ قياسا هل يمكن زراعة الصحراء والأراضي الجديدة واللازمة لتغطية المطالب الغذائية وسد الفجوة الغذائية المتوقعة بحلول السنوات القادمة؟ حيث أن الزراعة في هذه الأراضي تؤثر سلبًا على إنتاجية المحاصيل بصفة عامة لما تتعرض له هذه المحاصيل من ظروف الإجهاد البيئي مثل الإجهاد بالمعادن الثقيلة أو الملوحة أو الجفاف أوالحرارة وكذلك الضغوط غير الحيوية أو البيئية الأخرى.

ويشكل الإجهاد البيئي تهديدا كبيرا للإنتاج الغذائي المحلي وأيضا العالمي. ومع تغير المناخ الذي يؤدي إلى أنماط طقس لا يمكن التنبؤ بها، ازداد تواتر وكثافة عوامل الإجهاد غير الحيوية. فعلى سبيل المثال، يؤدي الجفاف إلى ندرة المياه، مما يؤثر على نمو المحاصيل وإنتاجيتها. ويمكن للملوحة في التربة أن تعوق امتصاص المغذيات، مما يؤثر على التمثيل الغذائي. ويمكن لدرجات الحرارة الشديدة أن تعطل العمليات البيولوجية الأساسية، مما يؤدي إلى انخفاض نوعية المحاصيل والكثير من التغيرات المناخية المتباينة لذا يعد التصدي لهذه التحديات أمرا بالغ الأهمية لضمان استدامة الزراعة والأمن الغذائي.

نباتات مقاومة للإجهاد

أصبحت تربية أصناف متحملة وسيلة مهمة وفعالة للغاية لتحسين إنتاجية وجودة النباتات مع انخفاض المدخلات بما في ذلك برامج التسميد والمكافحة الكيميائية للآفات. حيث لابد لزيادة الإنتاجية الزراعية معالجة تحديات ندرة الأراضي الصالحة للزراعة وشح المياه، كذلك خفض أثر تغير المناخ والإجهاد البيئي المتوقع، والحفاظ على الموارد الطبيعية المتاحة. لذا يتطلب تحسين إنتاجية المحاصيل الزراعية في الأراضي المتاحة بما فيها الأراضي الصحراوية بذل جهود متضافرة باستخدام أوجه التقدم العلمي والتكنولوجي الحديثة في مجالات البيوتكنولوجي المتعددة وعلم تربية النبات. ركزت أساليب تربية المحاصيل التقليدية على تعزيز الإنتاجية وتحمل الإجهاد بصفة عامة ومع ذلك، فإن تزايد حدوث أنواع مختلفة من الإجهاد البيئي يتطلب تحولا مهما في متطلبات وأهداف برامج التربية. ويعد استحداث أصناف نباتية قادرة على تحمل الظروف البيئية الضارة أو المعاكسة أمرا حاسماً للحفاظ على استقرار إنتاج المحاصيل في مواجهة تغير المناخ.

ويتضمن علم تربية النبات العديد من الإستراتيجيات الرئيسية والتي تشمل بصفة عامة طرق تقليدية بالإضافة إلي استخدام البيوتكنولوجي في التربية وما يشمله من علوم حديثة. ويمكن تقسيم هذه الاستراتيجيات إلي قسمين كما يلي:

1-انتخاب التراكيب الوراثية: وتتم عملية الانتخاب بالصورة التقليدية و التي تستغرق الوقت والجهد كما تتطلب خبرة وكفاءة عالية من مربي النبات، في حين يتيح استخدام تكنولوجيات الجينوم والبيوتكنولوجي المتقدمة للباحثين تحديد جينات محددة مرتبطة بتحمل الإجهاد البيئي. ويسهل انتخاب التركيب الوراثي تربية المحاصيل ذات الصفات المطلوبة على نحو محدد الهدف، مما يعجل بإنتاج الأصناف التي تتحمل الإجهاد. هذا ويمكن استخدام البيوتكنولوجي في التربية بمناحي متعددة: (أ) التربية المعتمدة على المعلمات الوراثية: تشمل التربية المدعومة بالمعلمات الوراثية تحديد واستخدام الجينات المرتبطة بخصائص تحمل الإجهاد. ويسمح هذا النهج بانتخاب النباتات ذات الخصائص المرغوبة بمزيد من الكفاءة، مما يقلل الوقت اللازم للتربية التقليدية. (ب) التطوير الدقيق لتحليل وعزل للجينات النباتية المرتبطة بالاستجابات للإجهاد البيئي. ويتيح التعديل الجيني إمكانية إنتاج محاصيل مع تعزيز التحمل مع عوامل إجهاد محددة. ومازال هناك العديد من المأخذ على مدى قبول المجتمع للنباتات المعدلة وراثيا. (ج) أساليب التربية التقليدية: لا يزال الجمع بين أساليب التربية التقليدية والتكنولوجيات الحديثة نهجا قيما. ويسهم في إنتاج المحاصيل القادرة على التكيف مع تغير المناخ والانتخاب من أجل تحمل الإجهاد في أنواع النباتات التي تحدث بصورة طبيعية.

2-النماذج الجينية للاستجابة للإجهاد: تعد الأساليب الدقيقة للمعالجة أو المعاملة بعامل الإجهاد المراد التربية له ضرورية لتقييم استجابة النبات لهذا العامل. وتسمح التكنولوجيات العالية الإنتاجية في مجال المعالجة بالحرارة على سبيل المثال بإجراء تقييم سريع ومفصل للخصائص النباتية المتعددة، مما يساعد على انتخاب الأصناف التي تتحمل الإجهاد الحراري، وهكذا بالنسبة لمختلف عوامل الإجهاد البيئي .

مساهمات علم تربية النبات

توحي المساهمة التاريخية لعلم تربية النباتات في الزراعة بإمكانية تجنب الآثار الضارة الناجمة عن التعرض لمثل هذه الظروف البيئية المعاكسة. على سبيل المثال، فإن القرنبيط، وهو أحد نباتات العائلة الصليبية والذي يتكيف مع المناخ المعتدل، قد نشأ في البرازيل من أجل تحمل الحرارة وحتى السبعينات كان القرنبيط يزرع في مناطق عالية الارتفاع في ولاية ريو دي جانيرو حتى استطاع مربي النباتات مارسيلو دياس تربية القرنبيط لتحمل الحرارة واليوم يزرع القرنبيط في مناطق يزيد فيها متوسط درجة الحرارة بكثير عما يتوقع أن يكون عليه خاصة مع زيادة الاحتباس الحراري، مما يدل على أن تربية النباتات تنطوي على إمكانات كبيرة للزراعة وللإنسان في التعامل مع التحديات المقبلة. ويعد الجزر مثالا جيدا للتكاثر من أجل تحمُّل الحرارة في المناطق الحارة .

والمثال الآخر بين العديد من الأنواع الأخرى المعروفة جيدًا هو أصناف التفاح المتحملة للحرارة التي تم تربيتها وإنتاجها حتى تكون أكثر تحملا بدرجة كبيرة مع درجات الحرارة العالية ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن هذا التقدم في الإنتاج الذي تعقبه إدارة كافية للمحاصيل سمح بزراعة هذا المحصول في أماكن متعددة من العالم.هذا وتعد التربة مصدر الحياة وبصورة غير مباشرة؛ لأنها تحتوي كل النباتات، التي تغذّي النظام الإيكولوجي، على ذلك عدم وجود أو ندرة المغذيات في التربة تؤثر سلبا على نمو وإنتاجية المحاصيل. ويحدث الإجهاد في التربة لعدة أسباب مختلفة، مثل سوء إدارة التربة، فعلى سبيل المثال، اعتمد المزارعون على نطاق واسع في العديد من البلدان على نظام الزراعة التقليدي باستخدام الممارسات الزراعية بالطرق القديمة ومنها عملية الحرث وباستخدام هذا النظام القديم تتآكل الطبقة العليا من التربة بسبب التعرية ومع هذا التآكل تفقد التربة معظم مغذياتها والمادة العضوية. وبالإضافة إلى ذلك، تتسبب التعرية في مشاكل أخرى مثل ترسب جزيئات التربة في الأنهار لذا كان استخدام الأسمدة الكيميائية، لا سيما في البلدان النامية، أحد أهم العوامل لتحقيق مكاسب كبيرة في إنتاجية الحبوب مما زاد من التلوث بالكيماويات أيضا. كما تعد الملوحة العالية للتربة مشكلة خطيرة في العديد من المناطق حول العالم. وتنتج الملوحة عمومًا عن أملاح الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، مما يسبب إجهاد حاد لمعظم المحاصيل. ووفقًا لمركز إدارة الأراضي وتغذية النباتات التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة، فإن أكثر من ٦ % من أراضي العالم تتأثر بالملوحة أو التحلل أي أن ومن المساحة الحالية البالغة 230 مليون هكتار من الأراضي التي تزرع وتروي، هناك 45 مليون هكتار متأثرة بالملوحة. وتنطوي استجابة النبات للملوحة على تعديل في العديد من العمليات الفسيولوجية والبيوكيميائية ولكن قدرة النبات على إزالة السمية بالأيونات الملحية الحرة تتطلب قدرًا كبيرًا من الطاقة، لذا تعد أفضل طريقة هي زراعة المحاصيل المتحملة للملوحة ومن هنا يأتي دور علم تربية النبات في إنتاج أصناف متحملة للملوحة.

وقد تحققت في العقدين الماضيين، وبالرغم كون العملية معقدة، هناك تطورات كبيرة في التربية لتحمل الإجهاد الملحي لأنواع المحاصيل المهمة منها الشعير، والأرز، والقمح، والذرة، والعديد من أنواع الأعشاب. على سبيل المثال، فإن الشعير أكثر تحملا للملوحة من الأرز، والبقول شديد الحساسية مقارنة بالحبوب، كما أن هناك تحملا كافيا للملوحة في البرسيم. وأكثر الآثار الضارة التي يفرضها إجهاد الملوحة هي السمية الأيونية. وأثبتت الدراسات السابقة أن آليات التحمل مثل الاستبعاد الأيوني للصوديوم الموجود في الشعير البري والذي يسبب تراكما أقل بكثير وبالتالي نسبة أفضل للصوديوم والبوتاسيوم مقارنة بالشعير المزروع، مما يؤدي إلى ارتفاع معدل التحمل دون 300 ملليمتر لمدة 4 أسابيع لذا كانت أحد الاتجاهات المهمة في علم تربية النبات هي إدخال النباتات البرية كأباء في برامج التربية لما تحمله تلك الآباء من صفات تحمل ومقاومة لكثير من ظروف الإجهاد. وعندما قورنت نوعان من أنواع الأعشاب التي تعرضت لإجهاد ملحي، أظهرت هذه الأنواع محتوى مخففا من السكر ووجود نسب مختلفة من الإنوسيتول، والكلاكتيتول، والمانيتول، والأرابيتول، وكسيليتول، والإيريثريتول، مما يشير إلى أدوارها في ظل الإجهاد الملحي. وفي دراسة أخرى، تبين أن الإيسوسيتول والسكروز تراكما بدرجة عالية في الأوراق. وعلاوة على ذلك، زاد تركيز الترهالوز بدرجة كبيرة في الجذور عند كل من 400 و600 ملليمتر، وفي الوقت نفسه انخفض مستوى الكربوهيدرات مثل: الفروكتوز، والسكروز، والجلوكوز تحت الإجهاد الملحي. وعندما تكون التربة حمضية، وهي منخفضة الهيدروجين، يتحلل الألومنيوم في محلول التربة ويصبح سامًا لمعظم النباتات. وتحد سمية الألومنيوم من نمو وتطور وإنتاجية المحاصيل في ما يصل إلى نصف الأراضي الصالحة للزراعة في العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. وتؤثر سمية الألومنيوم على النمو الجذري، مما يقلل من قدرة النبات على استغلال مياه التربة ومغذياتها لذا قد تم تربية العديد من الأصناف في محاصيل متعددة لمواجهة الإجهاد الناجم عن التربة.هذا ويدرس العديد من مربي النبات التربية لتحمل ظروف الإجهاد البيئي المتعددة والمتراكمة والمعقدة، وتعد تربية النباتات من أجل تحمل الإجهاد البيئي جانبًا حاسمًا من جوانب البحوث الزراعية الحديثة. وقد أجريت العديد من الدراسات في الانتخاب والتربية من أجل تحسين تحمل ظروف الإجهاد في المحاصيل، ومع التقدم المحرز في مجال الوراثة، وتقنيات التقييم، والبرمجيات،والمعلوماتية الحيوية والمعلمات الوراثية، وتعديل الجينوم ورسم الخرائط الجينية، فإن ذلك كله يحسن من فهم ميكانيكية التحمل. ومن خلال استخدام التكنولوجيات المتقدمة واستراتيجيات الإكثار المبتكرة، يسعى العلماء إلى تطوير محاصيل يمكن أن تنتج في ظل ظروف بيئية معاكسة. وهذه الجهود لا تعزز الأمن الغذائي العالمي فحسب، بل تسهم أيضًا في الممارسات الزراعية المستدامة، والتخفيف من أثر تغير المناخ على إنتاج المحاصيل. وتقدم هذه الدراسات الحديثة خطوات مهمة في تربية وتطوير محاصيل متحملة، خاصة وتُظهر غالبية العمليات التي تقوم بها النباتات التي تتعرض للإجهاد تنوعا مستمرا، وتتأثر أيضًا بالعوامل المختلفة لذلك ومن الضروري مواصلة البحوث والتعاون داخل الأوساط العلمية من أجل التصدي للتحديات التي يشكلها الإجهاد البيئي وتأمين مستقبل مرن للزراعة.

ومن المهم أن ندرك، في سيناريو زراعة سطح القمر وزراعة الصحراء أو الأراضي التي تعاني من مشاكل الملوحة أو الجفاف أو سمية المعادن الثقيلة وغيرها من العوامل التي تمثل تحديا واضحا للزراعة وزيادة الإنتاجية، أن تربية النباتات يمكن أن توفر أداة مهمة للتغلب على هذه التحديات من خلال تربية وإنتاج أصناف يمكن لها أن تتكيف مع ظروف الإجهاد هذه مما يوفر البدائل لدعم واستدامة الزراعة اليوم وفي المستقبل سواء على سطح الأرض أو سطح القمر.

أ.د. هيثم زكي أستاذ مشارك بقسم التقنية الحيوية التطبيقية ورئيس قسم البحوث والاستشارات-جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بصور-عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إنتاجیة المحاصیل على سبیل المثال تغیر المناخ سطح القمر العدید من من أجل

إقرأ أيضاً:

أمانة مجلس الوزراء تحرم تربية كركوك من درجات وظيفية

أمانة مجلس الوزراء تحرم تربية كركوك من درجات وظيفية

مقالات مشابهة

  • شَوَاهدُ التنوّع الأحْيائِي في الاسماءِ وفي شِعرِ الباِديَة السودانِيّة
  • من فضلات الأبقار.. علماء يبتكرون موادًا "بوليمرية" لمكافحة جفاف التربة
  • علماء روس وصينيون يبتكرون مواد جديدة لمكافحة جفاف التربة
  • علماء يكتشفون سبب انفجار حفر غامضة في التربة الصقيعية في سيبيريا
  • البحوث الزراعية يستعرض تقريرا حول أنشطة أمراض النباتات خلال شهر أكتوبر
  • البحوث الزراعية يعقد ورشة حول دور المعلوماتية الحيوية في تحسين إنتاجية المحاصيل
  • مصدر بـالكهرباء: المشترك يتحمل تكلفة تركيب واستبدال العداد في هذه الحالة
  • أمانة مجلس الوزراء تحرم تربية كركوك من درجات وظيفية
  • أخنوش في قمة المناخ كوب29 : المغرب يتحمل مسؤولياته كاملة لتحقيق الحياد الكربوني
  • تتحمل وزن إنسان وعمرها 3 آلاف عام.. ما هي نبتة الـ«ياريتا»؟