جمود رئاسي.. هل تعيد الخماسية التلويح بعقوبات ضد المعرقلين؟!
تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT
في وقتٍ تبلغ الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان، توازيًا مع حرب غزة، ذروتها على وقع الانتهاكات اليومية والمتمادية للسيادة اللبنانية، عبر مجازر واستهدافات "عابرة" للمنطقة الحدودية الجنوبية، يبدو أنّ الاستحقاق الرئاسي عاد ليغيب عن سلّم الاهتمامات، بعدما تقدّم بضع خطوات مع الحراك الخجول الذي قام به سفراء دول المجموعة الخماسية المعنيّة بالشأن اللبناني، أي فرنسا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر.
فعلى الرغم من مرور أيام طويلة نسبيًا على حراك سفراء "الخماسية"، إلا أنّ أيّ جديد لم يطرأ، وعاد الجمود ليسيطر على الملف الرئاسيّ، في ظلّ تمسّك كل فريق بمواقفه المُعلَنة، من دون أن يدفعه الهمّ الأمني المستجدّ إلى إظهار أيّ "مرونة" قد تكون مطلوبة في هذه الظروف، وسط ترقّب متواصل للاجتماع المرتقب منذ مطلع العام الحالي لممثلي "الخماسية"، والذي تكثر التسريبات والتكهّنات بشأنه، خصوصًا في ظلّ تأخّره الملحوظ.
وبانتظار حصول هذا اللقاء، الذي قد يفتح باب "مشاورات جديدة" قد يطلقها الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إذا ما عاد إلى بيروت، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام حول مدى قدرة "الخماسية" على إحداث "خرق نوعي" يُبنى عليه في ضوء الاصطفافات السياسية المعروفة، ولكن أيضًا حول مدى استعدادها لفرض العقوبات التي لطالما لوّحت بها ضدّ المعرقلين، أو ربما إعادة التلويح بها مرّة أخرى، وبصورة أكثر جدّية.
خيارات "الخماسية"
يقول العارفون إنّ اجتماع "الخماسية" المؤجّل سيبحث في عدّة خيارات على مستوى مقاربة الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وسط حديث عن "تفاوت" في وجهات النظر بشأنها بين دول "الخماسية" نفسها، ومن بينها استكمال المبادرات والوساطات التي كانت قائمة أصلاً والتي لم تُفضِ إلى نتيجة، ومنها المبادرة الفرنسية التي تصرّ عليها باريس الباحثة عن دور في المنطقة، فضلاً عن الوساطة القطرية التي دخلت على الخط بقوة قبل حرب غزة.
من الخيارات التي ستوضع أيضًا على طاولة "الخماسية" للنقاش والحسم، فكرة الإبقاء على الحديث عن "مواصفات" الرئيس العتيد، وبينها أن يكون سياديًا وإصلاحيًا، وهي "مواصفات" أصبح واضحًا أنّها تنطبق على الكثير من المرشحين المُعلَنين منهم والمُضمَرين، إن لم يكن الجميع بشكل أو بآخر، وبالتالي أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر كثيرًا في المعادلة، ولا تساعد فعليًا على إنجاز انتخاب الرئيس، بل تفيد في صياغة بيانات "إنشائية" في أحسن الأحوال.
وفي مقابل هذه الفكرة، ثمّة من يدفع باتجاه أن تذهب "الخماسية" إلى تسمية مرشحين محدّدين، وبالتالي خوض معركتهم "الرئاسية"، وهي فكرة يعتقد كثيرون أنّها وحدها يمكن أن تفضي فعلاً إلى الانتخاب، لكنها تلقى معارضة من أطراف داخل "الخماسية"، تعتبر أنّ دور "الخماسية" ليس انتخاب الرئيس نيابةً عن اللبنانيين، ولا فرض الرئيس عليهم، وإنما تشجيعهم على إنجاز الاستحقاق، ومساعدتهم على ذلك وفق الموارد المُتاحة، وليس أكثر من ذلك.
ماذا عن العقوبات؟
انطلاقًا ممّا تقدّم، ثمّة خيار آخر يسعى البعض لوضعه على طاولة "الخماسية" أيضًا، وهو المرتبط بالعقوبات على معرقلي الانتخابات الرئاسية، علمًا أنّ "الخماسية" سبق أن لوّحت في اجتماعات سابقة باستخدام هذا "السلاح"، لكنّها لم تترجمه إلى خطوات فعلية وملموسة على الأرض، إذ بقي "حبرًا على ورق"، من دون أن يؤدي إلى أيّ "خروقات"، لأنّ مسار العرقلة لم يتغيّر، وبقي إنجاز الاستحقاق يصطدم بفيتو هذا الفريق أو ذاك.
وفيما لا يستبعد العارفون أن تعيد "الخماسية" التلويح باستخدام هذا السلاح، وربما تقدم على فرض عقوبات ولو "رمزية" ضدّ بعض القوى السياسية اللبنانية على خلفية الاستحقاق الرئاسي، فإنّ المشكلة في هذه المقاربة بحسب ما يقول هؤلاء، تكمن في كيفية "تشخيص" المعرقلين، فهل يكون هؤلاء من يطيّرون نصاب جلسات الانتخاب، علمًا أنّ الطرفين لوّحا باستخدام هذا "الحقّ"، أم من يرفضون التجاوب مع دعوات الحوار والتفاهم؟
وثمّة من يسأل أيضًا ما إذا كانت مثل هذه العقوبات يمكن أن تشمل رئيس مجلس النواب نبيه بري مثلاً، باعتبار أنّه لا يدعو إلى جلسات انتخابية، ولو أنّه يبرّر ذلك بأنّ عقد الجلسات بلا تفاهم مسبق ليس سوى هدر للوقت، علمًا أنّ دور الرئيس بري يفترض أن يكون "محوريًا" في تسهيل انتخاب الرئيس، وهو الذي يقدّم المبادرات الحوارية منذ ما قبل الفراغ الرئاسي، من دون أن يلقى التجاوب المطلوب من معظم الأطراف.
بمعزل عن الخيارات المطروحة على طاولة "الخماسية"، متى اجتمع ممثّلوها، ثمّة مفارقة يتوقف عندها كثيرون، تنطلق من أنّ اللبنانيين الرافضين للتفاهم فيما بينهم، لا يجدون حرَجًا في انتظار ما ستقرّره "الخماسية" بشأن استحقاق يفترض أن يكون سياديًا، بل هناك بينهم من يدعو إلى "سداسية" بدل "الخماسية" لتوسيع الأفق، في حين أنّ الأْوْلى بهؤلاء أن يمسكوا بزمام المبادرة، والتفاهم داخليًا لإنجاز الاستحقاق اليوم قبل الغد!
وسط هذه المؤشرات كان لافتا ان اجتماع سفراء دول "المجموعة الخماسية" في قصر الصنوبر بالامس انعقد بعيدا من الإعلام واصدرت السفارة الفرنسية ليلا بيانا مقتضبا عنه جاء فيه: "إجتمع سفراء اللجنة الخماسية لإعادة التأكيد على عزمهم تسهيل ودعم إنتخاب رئيس للجمهورية. واستعرضوا التطوّرات الأخيرة والإتّصالات التي جرت في لبنان والمنطقة. كما تمّت مناقشة الخطوات التالية الواجب إتّخاذها".
وفي المحصلة بات واضحا ان لا توافق بعد على الحلول والاقتراحات في انتظار جولة جديدة من الاتصالات. المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
مجزرة حماة 1982.. هل تعيد الحكومة السورية الجديدة فتح التحقيق؟
تُمثِّل مجزرة حماة عام 1982 واحدةً من أفظع الجرائم الجماعية التي شهدتها سوريا في تاريخها الحديث، حيث أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وتركت في الذاكرة الوطنية جرحًا عميقًا لم يلتئم بعد.
وقد اكتسبت هذه المجزرة أبعادًا إضافيةً في ضوء التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها البلاد، والمتمثِّلة بسقوط نظام الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة. ففي ظل هذا التحول الجوهري، يصبح فتح ملفّ المجزرة واستجلاء حقائقها ومحاسبة المتورطين فيها شرطًا أساسيًا لبناء دولة قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
ولا يمكن فهم ضرورة إعادة فتح ملف مجزرة حماة بمعزلٍ عن مبادئ العدالة الانتقالية، تلك المنظومة التي طُوِّرت خصيصَى لمساعدة المجتمعات الخارجة من نزاعاتٍ داخلية أو أنظمةٍ حكمٍ استبدادية على تجاوز إرث الماضي القمعي، والانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
ومن منطلق هذه المبادئ، يغدو الاعتراف الرسمي بالجرائم السابقة والانتهاكات الممنهجة خطوةً مفصليةً في تحقيق المصالحة الوطنية والسِلم الأهلي.
سياق سياسيّ مختصرشكّلت تجرِبة استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا عام 1963 نقطةً مفصلية في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد، إذ أُجهِضت حينها كلُّ الآمال ببناء نظامٍ دستوريٍّ برلمانيٍّ تعددي، وجاء "انقلاب الثامن من مارس/ آذار" ليضع مقاليد الحكم بشكلٍ شبه مطلق في يد اللجنة العسكرية لحزب البعث.
إعلانوفي خضمّ التغييرات التي أعقبت تلك المرحلة، برز حافظ الأسد بوصفه أحد أبرز أعضاء هذه اللجنة، ثم انتزع السلطة لنفسه عام 1970 فيما عُرف بـ«الحركة التصحيحية»، ليحكم قبضته على المؤسسات الرئيسة، مُحكِمًا السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع.
خلال تلك الحقبة، أحكم نظام الأسد سيطرته على السلطات الثلاث: (التنفيذية والتشريعية والقضائية) عبر منظومةٍ من القوانين والإجراءات الأمنية المكثفة. فقد جرى ضرب ركائز الحياة السياسية الحقيقية بمؤسساتها وأحزابها المستقلة، ودمج النقابات والاتحادات المهنية ضمن أُطُر رسمية حزبية.
وفي ظلّ هذا المناخ الخانق، هيمن نمط "حزبٍ واحدٍ، قائدٍ واحد"، وتلاشت أيّ منافذ للمعارضة السياسية أو للتعبير الحرّ.
ومع انعدام الرقابة الدولية الفعّالة وتداعيات الحرب الباردة، وجد نظام الأسد نفسه مطلق اليد في التعامل مع من يعتبرهم خصومًا، الأمر الذي مهّد الطريق لوقوع انتهاكات كبرى على غرار مجزرة حماة عام 1982، والتي ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من العنف المنهجي، لولا استقرار نظامٍ يفتقر إلى أي التزام حقيقي بحقوق الإنسان، أو بالضوابط الدستورية والرقابية.
مجزرة حماة فبراير/ شباط 1982على وقع التوترات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، اندلعت في مدينة حماة مواجهات عنيفة بين قوات النظام السوري ومسلحين معارضين (بينهم من انضوَوا تحت جماعة الإخوان المسلمين أو تعاطفوا معها).
وقد استغلَّ النظام هذه المواجهات المحدودة ليشنَّ حملةً أمنيةً وعسكريةً واسعة النطاق على المدينة بأسرها، بدءًا من مطلع فبراير/ شباط 1982، واستمرت نحو شهرٍ كامل، مُوظِّفًا أقصى درجات العنف والتوحش.
حجم القوات المشاركة والطابع "الممنهج" للهجوموجَّه النظام السوري آنذاك تشكيلات عسكرية ضخمة نحو مدينة حماة، شملت قوى الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وبعض ألوية الدبابات، إضافةً إلى أجهزة الأمن والمخابرات.
إعلانفرضت هذه القوات حصارًا خانقًا على المدينة، فقطعت عنها الماء والكهرباء وخطوط الاتصال، لتتحول حماة إلى منطقةٍ معزولةٍ عن العالم الخارجي. وفيما كان الدافعُ المعلن هو القضاء على "جيوبٍ مسلحةٍ"، فإنَّ حجم الانتشار العسكري والأساليب المتبعة أظهرا أن الهدف الحقيقي كان معاقبة المدينة وسكانها، وذلك بالنظر إلى استخدام أساليب، مثل: القصف بالمدفعية والطيران، وعمليات الإعدام الميداني، والنهب المنظَّم للأحياء السكنية.
تكشف الشهادات التي جمعها باحثون وحقوقيون (انظر تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان بمناسبة الذكرى الأربعين لمجزرة حماة في فبراير/ شباط 2022)، خلال السنوات اللاحقة – على ندرتها وصعوبة التحقق منها آنذاك بسبب التعتيم الإعلامي – عن نهجٍ ممنهجٍ في الهجوم، اتُّبع فيه نمط "التدمير الشامل" للأحياء التي عُدّت حاضنة للمعارضة المسلحة، دون تمييزٍ فعليٍّ بين مدنيين ومسلحين. وبذلك تحوَّل ما وُصف أول الأمر بـ"عملية أمنية محدودة" إلى أضخم الحملات القمعية في تاريخ سوريا الحديث.
تقديرات الضحايا وحجم الانتهاكاتيصعب الوصول إلى أرقامٍ دقيقةٍ بشأن حصيلة القتلى والمفقودين جراء التعتيم الشديد الذي فرضه النظام على المدينة. ومع ذلك، تتقاطع التقديرات الحقوقية والدراسات اللاحقة لتشير إلى مقتل ما بين 30.000 و40.000 مدني خلال تلك الحملة، علاوةً على نحو 17.000 شخصٍ يُرجَّح أنهم تعرّضوا للاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري، ولا يزال مصير معظمهم مجهولًا حتى اليوم. وانتشر في المدينة العديد من المقابر الجماعية.
الدمار الشامل ونهب الممتلكاتلم تقتصر الانتهاكات على القتل والاعتقال الواسع فحسب، بل شملت أيضًا التدمير الكبير لقطاعاتٍ واسعةٍ من أحياء المدينة، خاصة الأحياء التاريخية في مركزها وأطرافها القديمة.
وقد تصاعدت عمليات القصف المدفعي والجوي لتسوِّي مبانيَ بأكملها بالأرض، ومنها مساجد وكنائس وأسواق تقليدية تُمثِّل ذاكرةً تراثيةً طويلة للمدينة.
إعلانوبالتوازي مع ذلك، سُجِّلت حوادثُ كثيرةٌ للنهب المنهجي، حيث جُرِّد العديد من المنازل والمتاجر من محتوياتها على يد عسكريين أو عناصر ترتدي بزّاتٍ مدنية تابعة لأجهزة الأمن، ثم جرت عمليات إحراقٍ متعمدة في بعض الأسواق والمحال والمنازل.
تركت هذه الحملة العسكرية المدمرة تأثيراتٍ بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة؛ إذ نزحت عائلاتٌ بأكملها من حماة؛ هربًا من العنف، وصودرت منازل ومحال تجارية، واختُبِرت أجيالٌ عديدةٌ بمشاعر الخوف والصدمة والإحساس بالظلم.
تجاهل المجزرة دوليًا ومحليًارغم ضخامة الجرائم التي ارتُكِبَت في حماة عام 1982، لم تشهد تلك الفترة أي تحرّك رسمي أو دولي يمكن وصفه بالفاعل؛ إذ غاب تمامًا عن المشهد أي تحقيق أممي مستقل لتقصي الحقائق، بل حتى في المنظمات الحقوقية الدولية كان التناول شبه معدومٍ. ففي ذروة المجزرة، كانت سوريا تخضع لتوازناتٍ إقليمية ودولية متشابكة: إذ انقسم العالم بين معسكرين أثناء الحرب الباردة، ما جعل كثيرًا من الانتهاكات الحقوقية في الشرق الأوسط تمرّ دون مساءلة حقيقية.
وعلى الصعيد المحلي، فرض النظام السوري تكتيمًا إعلاميًا مُحكَمًا؛ أغلقت الصحف المستقلة في وقت مبكر من عهد البعث، وسيطر الخطاب الرسمي على المنافذ الإعلامية القليلة المتبقية.
ومع استمرار قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1963، ضاقت إلى الحدّ الأقصى مساحة أي حراك سياسي مستقلّ يمكنه أن يُطالب بالتحقيق أو المحاسبة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحوّل الحديث عن مجزرة حماة إلى "تابو" يُعرِّض مَن يتجاوزه للملاحقة والاعتقال. وهكذا تعذّر على الناجين أو أهالي الضحايا إيصال معاناتهم، وفقد الكثيرون الثقة بإمكانية تحصيل العدالة في ظل هيمنة السلطة المطلقة على القضاء والبرلمان والإعلام.
أسهم هذا التجاهل، محليًا ودوليًا، في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب على مدى العقود اللاحقة. فقد وجّه النظام رسالة مفادها أنه قادر على ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين دون خشية من أي عقابٍ داخلي أو دولي. وخلَق هذا الوضع فراغًا استمرت تبعاته مع تفاقم انتهاكاتٍ مشابهة، حيث افتقد السوريون – ولا سيما أبناء حماة – إلى أي فرصة للمساءلة أو جبر الضرر.
إعلانلقد أدّى هذا التجاهل إلى تشجيع نظام الأسد على ارتكاب مزيدٍ من الانتهاكات في السنوات والعقود اللاحقة، مستندًا إلى التجربة السابقة في الإفلات من العقاب.
فحين يغيب الردع الخارجي تزداد الجرأة لدى السلطة الحاكمة على توظيف الوسائل العنيفة كلما ارتأت في ذلك صيانةً لبقائها. ولم يكن لقضية حماة أن تظلّ عالقةً في الذاكرة السورية كجرحٍ مفتوحٍ فقط، بل تحوّلت أيضًا إلى نموذجٍ يذكرُ من خلاله المواطنون والمعارضون على حدٍّ سواء، كيف يمكن للنظام أن يستخدم قوته المطلقة في غياب المحاسبة الدولية.
أهمية استعادة هذا الملف اليومعندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية عام 2011، عادت ذاكرة حماة لتطفو على السطح، سواء على مستوى المجتمع الذي استحضر ماضي المجزرة كرمزٍ للبطش السلطوي، أو على مستوى السلطة الأمنية التي لجأت مجددًا لمنهج القمع العنيف.
وبهذا المعنى، يمكن القول إن أحداث 2011 لم تكن سوى استمرارٍ لتاريخٍ قمعيٍّ ظلَّ بلا رادع، نتيجة التقصير الدولي، وغياب المساءلة عن الجرائم الكبرى لنظام الأسد، بدءًا من حماة وصولًا إلى الانتهاكات الموثّقة حديثًا.
في ظل التحولات السياسية الراهنة وسقوط نظام الأسد، تصبح إعادة فتح ملف مجزرة حماة خطوةً ضروريةً لأجل إنصاف الضحايا، ولضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات مستقبلًا.
وعلى المستوى الدولي، يتطلَّب هذا التصحيح تحرّكًا فعليًا من قِبَل المنظومة الأممية ومنظمات حقوق الإنسان، سواء عبر تشكيل لجان تحقيق دولية مختصة قادرة على الوصول إلى الحقائق، أو من خلال دعم الحكومة السورية الجديدة في إرساء أسسٍ قانونيةٍ وإداريةٍ للتعامل مع إرث المجزرة.
دور الحكومة السورية الجديدةتواجه الحكومة السورية الجديدة مسؤولية تاريخية في إرساء أسس العدالة الانتقالية، والتي تبدأ بإلغاء القوانين التي كرّست ثقافة الإفلات من العقاب، لا سيما تلك التي منحت عناصر الأجهزة الأمنية حصانة قانونية ضد الملاحقة القضائية.
إعلانفالمراسيم التشريعية، مثل المرسوم رقْم 14 لعام 1969، منعت أيضًا تحريك أي دعوى ضدهم دون إذنٍ رسميٍّ من القيادة العليا، مما أدى إلى ترسيخ شعورٍ بالحصانة المطلقة لدى الجهات الأمنية والعسكرية.
وقد انعكست هذه القوانين سلبًا على بنية النظام القانوني، حيث أصبح من شبه المستحيل فتح أي تحقيق جادّ في الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال العقود الماضية. وعليه، فإن أحد أهم الأدوار التي يجب أن تضطلع بها الحكومة الجديدة، هو إصدار تشريعات صريحة تُبطل مفعول هذه القوانين وتعيد للقضاء استقلاليته، بحيث يصبح من الممكن محاكمة المتورطين في الجرائم الكبرى، وفق معايير المحاكمة العادلة.
إلى جانب الإصلاحات التشريعية، يبرز دور التوثيق وجمع الشهادات كركيزة أساسية للوصول إلى الحقيقة. فالانتهاكات الجسيمة، مثل مجزرة حماة، لا يمكن التعامل معها بفاعلية دون جمع الأدلة وإجراء تحقيقات شفّافة ومستقلة.
في هذا السياق، يصبح تشكيل لجنة وطنية للتحقيق أمرًا بالغ الأهمية، على أن تضم قضاة وخبراء قانونيين مستقلين وممثلين عن أهالي الضحايا، مع منحها صلاحيات واسعة للوصول إلى الوثائق الأمنية، واستدعاء الشهود، وتحليل الأدلة.
إنّ التحديات التي تواجه عمليات التوثيق، مثل: التقادم الزمني، وندرة الوثائق الرسمية، تجعل شهادات الناجين وعائلات الضحايا والمطلعين على الأحداث مصدرًا لا غنى عنه لإعادة بناء الحقيقة.
لذا، فإن الحكومة الجديدة مطالبة بتوفير بيئة آمنة لحماية الشهود، إضافةً إلى دعم إنشاء أرشيف وطني يحفظ شهادات الضحايا والأدلة المتوفرة لتوثيق ما حدث ومنع طمس الحقائق أو تحريفها مستقبلًا.
إلى جانب التحقيقات القضائية والتوثيق، يعد الكشف عن الحقيقة الكاملة لمصير آلاف المفقودين أثناء مجزرة حماة عاملًا حاسمًا في تحقيق العدالة وردّ الاعتبار لعائلات الضحايا.
إعلانفخلال الحملة العسكرية، اختفى ما يقارب 17.000 شخص، ولا تزال عائلاتهم تجهل مصيرهم حتى اليوم، مما يجعل البحث عنهم واستعادة رفاتهم مطلبًا ملحًّا. يتطلب ذلك تشكيل فرق مختصة في البحث والتحرّي، تضم خبراء في الطب الشرعي والتعرف على الحَمض النووي، بهدف تحديد مواقع المقابر الجماعية، وتحليل الرفات لتحديد هوية الضحايا.
إن تسليم رفات الضحايا لعائلاتهم هو خطوة أساسية في مسار الاعتراف الرسمي بالجرائم المرتكبة، ويساهم في التخفيف من معاناة العائلات التي ظلت لعقود تعيش في حالة من الألم والانتظار.
إضافةً إلى ذلك، فإن اعتراف الحكومة الجديدة بمجزرة حماة ودمجها في السجل التاريخي الرسمي من خلال المناهج التعليمية والمناسبات الوطنية يمثل بُعدًا هوياتيًا ضروريًا، يمنع طمس الحقائق أو تحريفها في المستقبل، ويضمن أن تكون هذه الأحداث درسًا للأجيال القادمة.
علاوة على كشف الحقيقة، يتعين على الحكومة الجديدة اتخاذ تدابير ملموسة لجبر الضرر الواقع على الضحايا وعائلاتهم، سواء على المستوى المادي أو المعنوي. فالخسائر التي تسببت بها المجزرة لم تقتصر على فقدان الأرواح، بل امتدت إلى تدمير الممتلكات ونهب المنازل وتشريد الأسر، مما يستوجب وضع برامج تعويض تعيد بعض الحقوق المسلوبة.
ويشمل ذلك تقديم تعويضات مالية عادلة لعائلات الضحايا والناجين، إضافةً إلى إعادة الممتلكات المصادرة أو تعويض أصحابها وفق قيمتها السوقية. كما ينبغي أن تشمل عمليات جبر الضرر تقديم اعتذار رسمي من الدولة، وإقامة نصب تذكاري تخليدًا لذكرى الضحايا، وضمان تقديم دعم نفسي واجتماعي للناجين وأسر المفقودين، الذين لا يزالون يعانون من آثار الصدمة.
أما على مستوى الضمانات المستقبلية لمنع تكرار مثل هذه الجرائم، فإن الإصلاح المؤسسي يمثل أحد المحاور الأساسية التي يجب أن تركز عليها الحكومة الجديدة. فمن دون إصلاح جذري للأجهزة الأمنية والقضائية، سيظل خطر إعادة إنتاج الاستبداد قائمًا.
إعلانيتطلب ذلك إنشاء آليات رقابية مستقلة للإشراف على أداء الأجهزة الأمنية، واستبعاد المسؤولين المتورطين في الانتهاكات الجسيمة من مواقع السلطة، وتعزيز استقلال القضاء ليتمكن من محاسبة أي تجاوزات مستقبلية. كما ينبغي إدماج مبادئ حقوق الإنسان في المناهج التعليمية، لضمان نشوء جيل جديد أكثر وعيًا بقيم العدالة والمساءلة.
إضافةً إلى ذلك، يتعين وضع إطار تشريعي يجرّم بشكل واضح الجرائم ضد الإنسانية، بما يشمل التعذيب، الإخفاء القسري، والاستهداف الجماعي للمدنيين، مع توفير آليات قانونية تتيح ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم بغض النظر عن مناصبهم. وإلى جانب هذه الإصلاحات الداخلية، ينبغي تعزيز التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لضمان حيادية التحقيقات، والاستفادة من الخبرات العالمية.
خاتمةيمثّل ملف مجزرة حماة 1982 اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية الحكومة السورية الجديدة في النهوض بمسؤولياتها حيال الماضي وطيِّ صفحته على أساسٍ عادل. فمن دون الشروع في تحقيقٍ شفافٍ وتفعيل آليات محددة لمساءلة المسؤولين وتعويض المتضررين، سيظل الإرث القمعي لنظام الأسد والموالين له حاضرًا، وستتعذر أيّ مصالحةٍ وطنيةٍ.
وفي هذا الإطار، لا بدّ من مدّ جسور التعاون بين الجهات الرسمية السورية الجديدة والهيئات والمنظمات الدولية، بحيث تزوّد الأخيرةُ تلك الجهات بالدعم الفني والقانوني اللازم، وتضفي شرعيةً دوليةً على أي خطواتٍ تُتَّخذ على المستوى الوطني.
وتظلّ هذه الإجراءات مجتمعة السبيل الأمثل لردم الفجوة التاريخية الناجمة عن "التقصير الأممي" في الثمانينيات، والدليل العملي على أن سوريا تختار اليوم مواجهة ماضيها بشكلٍ مختلف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline