بسم الله الرحمن الرحيم
أ.د. احمد محمد احمد الجلي
بدأ الدكتور مقاله بمهاجمة دعاة استمرار الحرب الذين وصفهم بالكذب، وإنهم، في رأيه ،يفترون على الناس كذبا، ويتجاهلون عمدا أن الشعب السوداني موحد ضد الحرب ويطالب بوقف القتال اليوم قبل الغد. وهذا امر يجرى على غير عادة الدكتور ، الذي عهدنا منه التحفظ في اطلاق مثل هذه الاوصاف، جزافا ورمي الناس بها بالباطل .


على كل صحيح إن الشعب يتمنى وقف الحرب والعودة الى منازله بسلام ،بل لا احد يرغب في الحرب فضلا عن السعي الى استمرارها. ،ولكن لا بد ان يدفع المتمردون الذين بدأو الحرب ، ثمن ما قاموا بارتكابه من ازهاق للارواح، وانتهاك للاعراض، ونهب للاموال ،وترويع للامنين.
ومقال الدكتور موجه في عمومه الى رافعي شعار " لا للحرب "،ويخاطب تلك المجموعات والمنظمات السودانية ،المدينية والسياسية، التي تريد وقف الحرب،ولكنها لم توفق حتى يومنا هذا في بيان الكيفية التي توقف بها الحرب،ولم يعي هؤلاء ان مجرد رفع الشعارات والنداءات،لا يقود الى كف المتقاتلين عن قتل بعضهم بعضاً.
وقد ذكر الدكتور سبعا من الكتل او المجموعات الموجه لها الخطاب ،والتي تتمثل فيما يلي:
1- " القيادات النقابية المنتخبة ديمقراطيا"، ،ولعل الدكتور يخاطب ما عرف بتجمع المهنيين، الذي يضم عددا من النقابات. ووصف تلك النقابات بأنها منتخبة ديمقراطيا، غير صحيح ،واوضح دليل على ذلك ، نقابة المحامين ،التي كونت بعد الثورة كلجنة تسييرية، وعهد لها تقوم بحصر عضويتها، وتجري انتخابات في مدة محددة ومعلومة ،ومضت تلك المدد من غير ان تقوم اللجنة التسيرية بأي من المهام التي اوكلت لها ،وظلت تسير العمل ،كلجنة تسييريه، واستمرت في وجودها الشائه ،الذي تبنت اثناءه ما عرف بالاتفاق الاطاري الذي قاد الى الحرب, وقس على ذلك بقية النقابات التي مارست العمل من اي سند قانوني او تفويض شرعي . اما ان تلك القيادات دوما محل ثقة الجمهور،كما يقول الدكتور، فهذا يحتاج الى اثبات وبرهان.كما ان القول بانهم هم الانسب لتكوين نواة تأسيسية لوحدة القوى المدنية لأجل وقف الحرب. فهذا يدحضه، وصف الدكتور لهذه الكتلة ،بانها ، تتسم بالتردد ، وربما الترفع عن الانخراط مع القوى السياسية والمدنية الأخرى في العمل المشترك ضد الحرب، الامر الذي لا يفهمه الدكتور -وفقا لقوله- ولا يجد له تفسيرا مقنعا. وقد ثبت خلال الفترة الانتقالية مصداقية ما ذهب اليه الدكتور وتبين عدم كفاءة تلك التجماعات،لقيادة العمل الجماعي، وتنفيذ المسؤليات التي تصدت لها.
2-اما الكتلة الثانية التي يخاطبها الدكتور، فهي لجان المقاومة ولجان غرف الطوارئ، والتي يصفها بانها رافعة راية المقاومة السلمية للحرب في مواجهة هوس تسليح المدنيين،وواضح ان الدكتور يريد بهوس تسليح المدنيين ( المقاومة الشعبية) .ووصف تسليح المدنيين بالهوس، يناقض ما ذهب اليه الدكتور في مقال اخر،وقوله إن المقاومة الشعبية ، سلمية أو مسلحة، حق إنساني طبيعي تكفله المواثيق والقوانين الدولية. وان دعوات الاستنفار والمقاومة الشعبية المسلحة،هي استجابة موضوعية ومتوقعة، ومن مبرراتها -كما يقول- كونها رد فعل لانتهاكات قوات الدعم السريع تجاه المواطنين، ومن مبرراتها عدم ثقة المواطنين في الجيش ، وعدم قدرته على حسم المعركة او حمايتهم ... وعليه فإن النظر الى الدعوة للمقاومة باعتبارها كلها من صنع فلول النظام البائد ليس صحيحا ويعكس قصر نظر بائناً".(انظر:دعاوى الاستنفار وحرب السودان ،الشفيع خضر، القدس العربي 28 - يناير – 2023م.)
ويعلم الدكتور جيدت، ان كثيرا من لجان المقاومة، انخرطت في "المقاومة الشعبية "،واصطفت مع الجيش في سعيه لدحر التمرد. اما قيام بعض اللجان بالعمل الانساني وتقديم المساعدات للمواطن، والسعي لاستعادة العمل في قطاع الصحة، ولإنجاح الموسم الزراعي في المناطق الآمنة، فهذا مما يحمد لتلك اللجان ، اما تعرض بعض اعضاء اللجان للاعتقال والاغتيال من أجهزة استخبارات الطرفين المتقاتلين،فهذا امر تسير به بعض وسائل التواصل الإجتماعي،ولا احسب ان احدا من السذاجة بحيث بعتبر هذا امر متعمد وظاهرة عامة،لا سيما من قبل الجيش.
3- اما الفيئة الثالثة التي خاطبها الدكتور فهي كتلة (تقدم)، وقد نصحها الكاتب بالتعاون مع القوى المدنية الأخرى، وعدم اقصاء اي حزب او مجموعة بصرف النظر عن ماضيها السياسي ، مع الالتزام بالشفافية في العمل، والبعد عن أي مؤثرات خارجية، دولية أو إقليمية. والانخرط معا في التحضير السياسي والإجرائي لمؤتمر جامع للقوى السياسية والمدنية، يعقد اليوم قبل الغد. وقد يفهم من نصائح الدكتور ل" تقدم"، ما لمسه من قصور لدى هذه الكتلة في ممارساتها خلال الفترة الانتقالية التي كانت متسيدة لها.. وقد ظل هذا ديدن تلك الفيئة منذ ان كانت تسمى الحرية والتغيير،وواضح ان ترقيها الى "تقدم"، لم يغير في مسلكها مما اضطر الدكتور الى تنبيهها الى الخلل الذي تعاني منه.
4-اما كتلة الحرية والتغيير"الكتلة الديمقراطية،" فقد تبنت-كما يقول الدكتور- مؤخراً مع قوى اخرى ،موقفا رافضاً للحرب.ومن المعلوم أن هذه الكتلة تضم مجموعات متباينة في مواقفها فبينما يقف بعضها في المعسكر الرافض للحرب ،فقد اصطفت فيئات منها مع الجيش وتحارب الان مع القوات المسلحة.
5—اما الفيئة الخامسة التي يخاطبها الدكتور فهي تنظيم العسكريين المعاشيين. و يصفه بأنه يمتلك فاعلية مؤثرة وسط القوات النظامية،ولا احسب ان هناك اثر لهذا الفيئة سوى نشاط بعض افرادها في الهجوم على الجيش من خلال اللايفات التي تبث على وسائل التواصل الاجتماعي،ولا احسب ان احدا يعير مثل النشاط اعتبارا ،فضلا عن ان يكون فاعلية مؤثرة,
6- قوى التغيير الجذري ،وهذا مصطلح يقصد به الشيوعيون ومن يقف معهم.ومعلوم موقف الشيوعيين السلبي خلال الفترة الانتقالية، ومشاكساتهم مع قوى الحرية والتغيير ،وصراعهم مع قحت ،ومناداتهم بالتحول الجذري الذي لا يقبل اية تسويات او تفاوض لا سيما مع اللجنة الامنية العسكرية،وقد ظل شرازم الشيوعيين توجه سهام نقدها للمؤسسة العسكرية.وتحاول احتواء بعض لجان المقاومة واستغلالها لهذا الهدف.
7- المجموعات والمنظمات المدنية الأخرى.
وفي مقالته يعلق دكتور الشفيع، على تلك الكتل فيقول بأن هنالك حواجز تمنع توحدها أو التنسيق الفعال فيما بينها، علما بأن هذا التوحد، أو التنسيق، هو المفتاح الوحيد للعب دور فعال ضد الحرب، وبدونه ستظل أنشطة الكتل المتناثرة مجرد ثرثرة إعلامية، وعدم مبادرة أي من هذه الكتل السبع لهدم الحواجز التي تمنع انتظامها أو التنسيق بينها في جبهة مدنية موحدة ضد الحرب، لا نستطيع أن نفسره إلا بالأنانية السياسية وعدم المسؤولية. ومعلوم ان معظم تلك الكتل هي التي تسيدت العمل السياسي خلال الفترة الانتقالية ،وكان جل نشاطها يدور حول الصراع على الكراسي ،والاستيئثار بالسلطنفقوا جهدهم في محاربة الكيزان ومطاردة الفلول دون جدوى،ولم يكن لهم اي انجاز في المهام التي نادت بها الثورة ورفعت شعاراتها من حرية وسلام وعدالة .فاداروا الفترة الانتقالىة بروح انتقامية اعمتهم عن اي عمل ايجابي ،ومن ثم ب باءت تجربة حكومتيها بالفشل. للعلل التي اشرنا اليها وذكرها الدكتور في مقاله .
وفي ختام المقال يقرر الدكتور بإن المناداة بوقف الحرب ،لا تعني طعن الجيش السوداني في ظهره أو السماح بهزيمته وتحطيمه، مثلما لا تعني دعم قوات الدعم السريع ونصرتها في هذه الحرب، بل تعني، بكل بساطة، رفض قتل السوداني لأخيه السوداني . ونحب ان نذكر الدكتور،بما يعلمه ، بأن القتال الذي يدور الان ليس بين السودانيين فحسب، بل هناك طرف ثالث مشارك في هذه الحرب، وهم المرتزقة الذين استجلبهم الدعم السريع او وكلاؤه من تشاد ،والنيجر،وليبيا وموريتانيا ،واليمن وغيرها من دول الشتات ، ومن ثم فإن شعار "لا للحرب" غير المقيد وغير المنضبط في وسائله ،قد يعطي فرصة لهؤلاء ،للافلات من العقاب على ما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات ,ويتيح لهم الفرصة لتدمير الوطن.
أما رفض الحرب ، ورفض أن يكون الاقتتال بديلا للحوار والتفاوض لحل الخلافات والأزمات السياسية والاجتماعية، فمما لا خلاف عليه ،ونأمل ان تستجيب الجهات التي خاطبها دكتور الشفيع بالعودة الى رشدها وقبول الاخر وترك التعالي والانانية السياسية، التي حملها عنوان المقال والاستجابة لدعوته ،والاستماع لها.

أ.د. احمد محمد احمد الجلي

ahmedm.algali@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المقاومة الشعبیة هذه الکتل ضد الحرب

إقرأ أيضاً:

“تأملات في طمأنينة لا تُشبه الخرائط… عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين”

توطئة:
كتبتُ هذا النص لا من باب التوثيق، ولا لارتداء هوية ليست هويتي، بل لأنني اقتربت من العراق من خلال أهله، وفتحت بيتي لهم كما فتحوا بيوتهم لي. وكنت، وأنا أستمع لهم، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي.
هذا ليس مقالًا، ولا سيرة. إنه قطعة من ذاكرة مشتركة، كُتبت على مهل، في أحد مساءات الغربة.

في المقهى العراقي الذي يديرُه رجلٌ من الكرادة ويحفظ أشعار الجواهري، سمعت للمرة الأولى كيف يمكن للحرب أن تُروى كشأن منزلي، كما تُروى وصفة الشاي أو طريقة طبخ الدولمة. لم يكن سردًا بطوليًا بل اعترافًا، صادقًا، هشًا، يليق بالبشر حين تتساقط عنهم أقنعة التاريخ. رجلٌ لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يُخفضه، يتكلم كما يُسكب الشاي: متوازنًا، دافئًا، مسكونًا بما يكفي من الحكمة لئلا يغرق في الرثاء، وما يكفي من السخرية لئلا يستسلم.
على الجدار خلفه صورة للجواهري، لا تشبه الصورة المألوفة في الكتب، بل صورة يبتسم فيها الشاعر، كما لو كان يبارك لهذا المقهى المتواضع قدرته على أن يُبقي الشعر حيًا، وسط فناجين الشاي وقطرات المطر. وكان المقهى كله، رغم صغره، يبدو كأنه بقعة من الرصافة سقطت سهواً في هذا المنفى البعيد.

“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” قالها المتنبي ذات نشوة، لكنّي شهدت هناك كيف يطأ الشعرُ الطينَ، وكيف يتوهج في نبرة امرأة تبكي ابنها ولا تجد ما تكتبه سوى صمتها. لم تكن القصائد تُكتب بالحبر بل بالدخان المتصاعد من غليون يتيم، أو بمرارة ضحكةٍ عراقية وهي تُخبرك أن بغداد مدينة لا تُحكى، بل تُشمّ.
شمّ المدن لا يحتاج إلى خرائط، بل إلى أنف القلب، إلى خيال يتدرب على التقاط ما لا يُرى.
بغداد، كما قالتها تلك المرأة، ليست مدينة تشرحها النشرات، بل رائحة قهوة محروقة قليلًا في بيت قديم، عِبارة تُقال على استحياء، حنجرة تتهدج عند سماع أم كلثوم، ثم تصمت. الشعر هناك لا يُدرّس، ولا يُلقى في المنابر، بل يتجلى في هيئة أمهات يرتّبن شَعر الغياب ويُطعمنه من فتات الذاكرة.

لا شيء يُعيد للإنسان قدره كالخسارة. ربما لذلك كان الاشتراكيون في العالم أكثر شعورًا بالعدل، لأنهم فقدوا كل شيء. يقول أنطونيو غرامشي: “إن تشاؤم العقل لا يُنافي تفاؤل الإرادة”. وأظن أن العراقي حين يُحسن القَصّ، لا يفعل ذلك لأنه متفائل، بل لأنه تعب من الهروب، فصار يروّي ما لا يمكن النجاة منه. هذه الإرادة التي تُشبه الجلد العراقي – لا تتشقق إلا لتُبرهن أنها لا تموت. فهي ليست مقاومة ضجيج، بل صبرُ جمال، وليست تحديًا أجوف، بل تأملٌ نَبيل في المعنى.
أحيانًا كنت أشعر أن القصة عندهم ليست وسيلة تواصل، بل طقسٌ للنجاة، أو محاولة مستترة لترميم الزمن. كأنهم يقولون للغد: نحن لم ننكسر، نحن فقط تعلمنا أن نُطيل الحكاية كي لا ننتهي بسرعة. والعراق في حكاياتهم ليس دولة بحدود، بل مزيج من الشِعر والماء، من الطين والزيتون، من الأغنية التي تُغنّى حتى لو لم يبقَ من الوطن سوى اسم يُوشك أن يُنسى.

وفي مساءات المنفى، حين نُطفئ أنوار الغربة، لا نعود نحن فقط، بل يعود معنا ذلك الحنين المُجهض، حنين لا يُكتب، لأنه لا يشبه شيئًا سوى النشيد الأخير في عرس تأخّر كثيرًا.
أحدهم قال لي إن قصيدة بدر شاكر السياب: “أنشودة المطر”، كُتبت لتُقرأ في المنافي فقط. وأنا أصدق ذلك. فـ”عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر” لا تُقال لعاشقة، بل لوطنٍ يسكن امرأةً تحمل في ملامحها أعمارنا المُنْهَكة. امرأة لا تقول الكثير، ولكنها حين تسند رأسها إلى حافة الليل، تُصغي لنداء لا يسمعه سواها.
قصائد السياب هناك ليست ذخيرة ثقافية، بل جزء من الدورة الدموية اليومية. مثل الملح، مثل الحبّ الصامت، مثل العتاب الذي لا يُقال.

حين تتحدث العراقيات في الغربة، لا تتكلم نساء فقط، بل تتحدث مدن مهدّمة، ومكتبات محروقة، وبيوت تُبنى بالذاكرة. يقُلن لك ما لا يقوله الرجال: أن النصر كذبة صغيرة إذا لم يشبه دفء البيت. في كلامهن فسحةُ ظل لا توفّرها السياسة، ووضوحٌ لا تُجيده المؤتمرات. يحملن العراق كما تُحمل القوارير في البحر، لا ليطفو فقط، بل لئلا ينكسر. ليس فيهن استجداء، ولا ثقل الماضي المجلجل، بل خفة من يعرف أن المعنى الحقيقي لا يُقال، بل يُمنح، في طريقة تقديم الشاي، في لُقمة خُبز مشروحة بحنو، في عِبارة تُقال على الماشي: “تفضل، البيت بيتك”.

وأنا أراقب أحد أصدقائي العراقيين، وهو يشرح لابنه الصغير، باللهجة الجنوبية: “يمه، العراق مو خراب، العراق أحلى من الخيال، بس الكَلبان لعبوا بيه”. أدركت أن اللغة، حتى حين تنكسر، تظل تحاول الإنقاذ. أدركت أن ما نحمله من لهجات، ليس زينة لهوياتنا، بل أدوات بقاء. في جملته تلك، كان يُعيد تشكيل وطنٍ كامل، لا على هيئة علمٍ أو شعار، بل على هيئة حكاية تُروى للطفل كي لا ينسى. لأنهم يعرفون، بذكاءٍ بسيطٍ ومُرهف، أن ما لا يُحكى، يُمحى. وقد رأيتُ في نظراته أن العراق ما زال قائمًا، لا كمؤسسة، بل كنبض حيّ في ذاكرة عائلة تُصرّ على أن تنقل خريطتها الخاصة للأجيال القادمة.

أنا سوداني، وأعرف أن الكتابة عن العراق لا تُمنح لمن يتفرّج، بل تُمنح لمن يدخل البيوت ويُؤتمن على الحكاية. ولذلك أكتب الآن، لا من خارج الدائرة، بل من داخل حميميتها، كمن سُمح له أن يجلس في زاوية المجلس ويُصغي.

الغربة تصنعك كما تصنع النار المعدن. تُنقّي دواخلك من الزيف، تدفعك لأن تُعيد التفكير في كلمة الانتماء، تلك الكلمة التي كانت تبدو قدريّة، فإذا بها تُخاض. وأنا أخوضها معهم. أصدقاء لا يشبهون الصور، بل يشبهون الكتب المفتوحة التي لا تُغلق، يروُون لك “المنفى” كما يروون “العراق”، ويُشبهونك وأنت تحاول أن تتذكّر لماذا خرجت من وطنك ولماذا لم تعد. ليسوا شخوصًا عابرة، بل مرايا نادرة ترى فيها وجهك المُفترض، الوجه الذي نسيت أنك كنت تحمله، وكنت تسعى إليه.

وفي هذا التمرين الدائم على الانتماء، يبدو لي أن الغربة ليست فقدًا، بل اختراعًا لمعنى جديد، أكثر صدقًا، للوجود معًا. ليست جسرًا بين ضفتين بل هي الضفة الثالثة، تلك التي لا يراها العابرون ولا تقيسها الخرائط. ضفة لا تُسجَّل في العقارات، بل في دفاتر القلب، في الأمكنة التي نختلقها مع من نحب، حين نُقرّر أن نصير وطنًا لبعضنا البعض، دون أن نُعلن ذلك، ودون أن نطلب أوراقًا ثبوتية.

قال المفكر الاشتراكي بول نيزان قبل أن يقتل في الحرب: “لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من الحب إلا عندما فقدته”. وأنا أعرف أنني لم أكن أعرف العراق، إلا حين عرفت العراقيين عن قرب. عن قُربٍ لا تصنعه الأوطان بل تصنعه القلوب التي حين تهزمها الحروب، تتحوّل إلى أوطانٍ تمشي، تنام، وتفتح لك باب البيت. بيت لا يحتاج إلى سقف، بل إلى كلمة، إلى إيماءة، إلى ثقة بسيطة تنمو على نارٍ هادئة، كما تنمو جذور النعناع.

هل الغربة عدالة؟ لا. لكنها في حالات نادرة، تمنحك امتياز أن تُعيد ترتيب نفسك. أن تُجرّب الأخوّة مع من لا يشبهك تمامًا، ومع ذلك يصبح أقرب إليك من الدم. تمنحك فرصة أن تقول لنفسك، بلا خجل، إن الحياة لا تُقاس بالمكان، بل بنوعية البشر الذين مرّوا بك، ومررت بهم، وقرّرتم معًا أن تجعلوا من اللايقين حكايةً يمكن تصديقها، بلغةٍ لا تُنسى، وصمتٍ يشبه المعنى أكثر من أي كلام.

الغربة، بهذا الشكل، ليست جرحًا، بل خيطًا دقيقًا من الضوء يتسرّب من تحت الأبواب المغلقة. خيط لا ينير الطريق كله، لكنه يكفي لتعرف أنك لست وحدك. وأن دفء الآخر، حين يكون صادقًا، يضاهي دفء الوطن، وربما يتجاوزه. ليس لأن الوطن ناقص، بل لأن القلوب حين تُمنح من غير مصلحة، تكتسب طهارة نادرة.

العراقيون الذين عرفتهم في المنفى لم يكونوا ينتظرون شيئًا من أحد، لم يكونوا ضحايا، ولا دعاة، بل ناسًا يعيشون بكامل أناقتهم في قلب اليوم، يصنعون من الوقت خبزًا ومن القصيدة بابًا ومن المزاح صلاة يومية للنجاة من فجاجة العالم.

منهم تعلّمتُ أن الطمأنينة ليست هدية، بل مهارة. وأن الانتماء ليس وثيقة، بل فعل يومي من الحب. وأن البلاد لا تعني شيئًا إن لم تجد من تشاركهم طريقتها في الغياب.

وأنا الآن، أكتب هذا النص، لا لكي أُحصي ما فُقد، ولا لأرثي ما لا رجعة فيه، بل لأقول ببساطة: بعض الغرباء، حين يدخلون حياتك، يُعيدون ترتيب جغرافيتك كلها. يجعلونك تُفكر في المعنى لا في الحدود. في الجلوس مطوّلًا مع من تُحب، لا في العبور السريع إلى المجهول.

ربما لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من القرب، إلا عندما التقيت بهم. وربما، ذات يوم، حين تُغلق كل الأبواب، سيبقى باب صغير مفتوح في الذاكرة، كأنك تسمع من بعيد صوتًا يقول لك: “تفضل، البيت بيتك”

zoolsaay@yahoo.com

   

مقالات مشابهة

  • اللجنة الوطنية تقيم ورشتها الأولى لفريق القوة الناعمة بعنوان “أثر القوة الناعمة في مكافحة التطرف العنيف”
  • الجامعة الإسلامية تنظّم ورشة عمل بعنوان “تطوير خدمات الحج والعمرة من خلال دراسات الرضا والتطلعات”
  • “نزع سلاح المقاومة”
  • غرفة المدينة تنظم لقاء بعنوان “قطاع السياحة والترفيه مع الجهات الداعمة”
  • ندوة لمركز الهدهد للدراسات والمتحف الحربي بعنوان “التراث اليمني.. عشر سنوات من الصمود”
  • تعقيب علي مقال د.الوليد ادم مادبو: عن الخديعة الكبرى وذاكرة العنصريين الصغرى
  • مراسل سانا: وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور مروان الحلبي يفتتح معرض “إحياء وإعادة تأهيل المباني والمواقع التاريخية” في كلية الهندسة المعمارية بجامعة دمشق الذي يهدف إلى عرض مشاريع الطلبة من السنوات كافة، وطلاب الماجستير في قسم نظريات
  • يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
  • خالد سلك: “أنتم جبناء، سنعود إلى السودان، ولن نجدكم!”
  • “تأملات في طمأنينة لا تُشبه الخرائط… عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين”