ها أنا أعود مرة أخرى إلى قارئ صحيفة عُمان بعد انقطاع وغياب قهري فرضته ظروفي الصحية. يمكن أن أقول بعد مرور نحو سبعة أشهر من المعاناة الصحية ورغم استمرار بقايا الآلام والذكريات المؤلمة خاصة ذكريات الشعور باني بين الموت والحياة في غرفة العناية المركزة، وكيف اجتزت بحمد الله وتوفيقه واحدا من أكبر الاختبارات في حياتي، اختبار الرضا والصمود في مواجهة عملية جراحية دقيقة، شاء الله أن أجريها في الهند، بعيدًا عن وطني الأول مصر ووطني الثاني سلطنة عُمان، وذقت خلالها أنواعًا مختلفةً من الآلام لم يسبق لي أن خبرتها من قبل.
لم تكن التجربة سيئة فحسب، وإنما أيضا مرهقة على جميع المستويات بدءا من البحث عن سكن نظيف في مدينة مكتظة بالبشر والحيوانات والكلاب الضالة مثل: «تشيناي» التي تقع بها المستشفى، وانتهاء بالتعامل مع إدارة المستشفى التي تنظر للمرضي القادمين من دول أخرى نظرة مختلفة تمامًا عن المرضى الهنود، وتتعامل معهم ماديا بجشع شديد، خاصة هؤلاء الذين لا تدعمهم حكوماتهم وينفقون بأنفسهم على العلاج، ومرورًا بحالات كنت أشفق عليهم أكثر من إشفاقي على نفسي.
في هذا المستشفى الضخم الذي يحمل اسم صاحبها وجراحها الأشهر في العالم البروفيسور محمد ريلا، تجد مرضى من كل الجنسيات جاءوا من دولهم بأمل نجاح عمليات زراعة الأعضاء التي اشتهر بها المستشفى. أغلبية المرضى كانوا من دول عربية خليجية ومصر وسوريا والعراق واليمن والسودان وفلسطين، وباستثناء الخليجيين الذين تتكفل حكوماتهم بالإنفاق المباشر على علاجهم بما في ذلك تكلفة إقامة المرافقين وطعامهم، كانت معاناة المرضى غير المشمولين بالرعاية الحكومية، واضحة في الأسعار المبالغ فيها، ليس فقط للعمليات، ولكن أيضا للإقامة في المستشفى ولطلب أي خدمة ولو بسيطة تؤدى لهم.
ربما يقول قائل وما الذي يدفعك وغيرك من العرب إلى الذهاب إلى الهند والتماس العلاج هناك رغم أن المنظومة الصحية في غالبية الدول العربية تبدو أكثر هدوءًا وأكثر نظافة. ولعل الإجابة عن هذا السؤال تفتح الباب للحديث عن ضرورة البدء بشكل عاجل في مراجعة مدخلات ومخرجات تلك المنظومات الصحية في أقطارنا العربية لتكون قادرة على مواكبة التطور الكبير الذي يشهده المجال الطبي خاصة في جراحات زراعة الأعضاء الدقيقة والمكلفة ماليًا وإنسانيًا. واقع الحال أني منذ إن نصحني الأطباء المتخصصون بمستشفى جامعة السلطان قابوس بسرعة اتخاذ قرار الزراعة قمت بعملية بحث انتهت إلى استحالة إجرائها في أوروبا أو الولايات المتحدة بسبب التكلفة المالية العالية جدًا. وتم حصر البدائل المتاحة في تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية وهنا في سلطنة عُمان. وقمنا باستبعاد تركيا في فترة مبكرة بعد زيارة واحد من أهم الجراحين المتخصصين في إسطنبول، حيث بدا الأمر تجاريًا أكثر من كونه طبيًا وإنسانيًا. بعدها زرنا المعاهد المتخصصة في مصر التي تمتلك فرقًا عالميةً من أمهر الجراحين المعروفين لكن عندما شاهدنا بأنفسنا الخدمات المعاونة ومضاعفات ما بعد الجراحة وحالة الفوضى في هذه الأماكن الحساسة صحيًا، تم استبعاد مصر أيضا رغم أنها كانت الأقرب إلى القلب والجيب. أما السعودية التي تمتلك مركزًا حديثًا لهذا الغرض في الرياض، فقد تواصلنا معهم عبر سعادة سفير خادم الحرمين الشريفين السابق في مسقط، غير أننا لم نتلق ردًا منهم وتوقفت محاولاتنا معهم بعد أن علمنا أن التكلفة تمثل ضعف التكلفة في الهند.
في سلطنة عمان توجهنا إلى المستشفى السلطاني الذي يستضيف فريقًا طبيًا سعوديًا لإجراء هذه الجراحات مرة أو مرتين في الشهر، إلا أن هذا الفريق بعد عرض التقارير الطبية عليه وجد أنه لن يستطيع إجراءها، ونصحني الجراحون العمانيون بعدم إضاعة الوقت والتوجه إلى مستشفى ريلا في الهند، وهو ما كان.
لا أدري لماذا تأخرنا كل هذا الوقت في الاهتمام بهذا النوع من الجراحات إلى الحد الذي جعلها تقتصر على بعض الدول، ويحرم منها غالبية المرضى العرب. صحيح أن المستشفى السلطاني أصبح لديه فريق رائع من الجراحين الشباب الواعدين وأصحاب المهارة الذين يتابعون حالتي حتى الآن، بتوصية من الدكتور ريلا الذي تدربوا وعملوا معه، وصحيح أن مستشفى جامعة السلطان قابوس يمتلك فريقا متكاملا من الاستشاريين والأخصائيين البارعين في التعامل مع الحالات الصعبة قبل وبعد الزراعة، إلا أن الأمر يتطلب المزيد خاصة على مستوى المنشآت المتخصصة، وتكوين الفرق الطبية الوطنية من الجراحين والأخصائيين والممرضين والممرضات القادرة على إجراء تلك العمليات المكلفة وتقليل الاعتماد على الفرق الأجنبية والعلاج بالخارج. وما يقال هنا يمكن سحبه على كل الدول العربية التي يتزاحم أبناؤها على أبواب مستشفيات الهند، والتي فاتها أن التنمية يجب أن تكون للبشر قبل الحجر.
بعد أربعة أشهر قضيتها في المستشفى بعد الجراحة، كنت خلالها محط اهتمام، ليس فقط الأطباء والجراحين، وصاحب المستشفى الذي كان يتصل بي في حالة سفره للخارج للاطمئنان عليَّ، ولكن أيضا الممرضين والعمال الذين لم يدخروا جهدا في تخفيف الآلام وضبط حالتي الجديدة. ومع ذلك ما زلت على يقين إنني ربما سأكون أكثر سعادة لو تمت الجراحة في مصر أو في عُمان. ولعل هذا ما يجعلني أناشد معالي الدكتور هلال بن علي بن هلال السبتي وزير الصحة -وقد انتفت المصلحة الشخصية- بأن يضع إنشاء مستشفى لزراعة الأعضاء ضمن أولويات وزارته، خاصة وإننا عهدناه مبادرا ومتابعا واستشاريا معروفا في جراحة القلب والصدر. وأذكر لمعاليه أنه رد على مكالمتي الهاتفية له قبل إجراء الجراحة دون سابق معرفة، وكان نعم الناصح والمعين.
إن النهضة التي عاشتها وتعيشها سلطنة عُمان، تفرض علينا ونحن نشهد نجاح سياسات صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في تحقيق التوازن المالي، وتعزيز الحماية الاجتماعية، استكمال ما لم ينجز بعد، خاصة ما يتصل بمستشفيات ووحدات زراعة الأعضاء. إذ يعمل معالي الوزير منذ توليه مسؤولية وزارة الصحة على إكمال المنظومة الصحية من مراكز صحية ومستشفيات مرجعية، ويضع ضمن أولوياته لتحقيق رؤية عُمان 2040 في المجال الصحي «إنشاء المراكز الصحية، ورفع كفاءة المراكز الصحية إلى مستشفيات، وإنشاء مستشفيات جديدة، وتوسعة المستشفيات وإنشاء وتكوين كوادر وقدرات وطنية مؤهلة، وأنظمة وخدمات طبية تقنية ورعاية صحية وقائية وعلاجية ذات جودة عالية بجميع مستوياتها». وفي تقديري أن عُمان ربما تكون مؤهلة أكثر من غيرها لتكون مركزا جاذبا للخدمات الصحية الكبيرة المطلوبة عالميا، وذلك للسلاسة التي تتميز بها تشريعاتها في هذا الجانب والنظافة والأمان والاستقرار الذي تتمتع به.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سلطنة ع
إقرأ أيضاً: