جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-12@19:22:24 GMT

تناقض المشاعر!

تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT

تناقض المشاعر!

 

مدرين المكتومية

دائمًا ما تُحيرنا النفس البشرية بتوجهاتها وأفكارها، فمنذ أن خلق الله الإنسان، وهذه النفس تنطلق يمينًا ويسارًا، بحثًا عن الذات، وسعيًا وراء اكتشاف المجهول الكامن في بواطن هذه النفس، لكن يبدو أن عملية البحث- وإن طالت- لن تُجدي نفعًا، ولن تصل بنا إلى الطريق المنشود، أو تُخبرنا بما نود معرفته، فما تزال أسرار هذه النفس عصية على فك شفراتها، وصعبة المنال!

أقول ذلك وأنا أُمعن التفكير في أحوال النَّاس، عندما أستمع إلى قصصٍ وحكايات الكثيرين، سواء الذين تربطني بهم معرفة مباشرة أو أولئك الذين نقرأ عنهم في الروايات والقصص، غير أن المُلاحظ أن كلاهما لا يختلفان، فالقصص الإنسانية تتشابه، وإن اختلفت الظروف والمُعطيات والمقدمات، لكن غالبًا ما تكون النتائج مُتشابهة.

والتفسير الذي أراه منطقيًا في هذه الحالة، أن النفس البشرية جُبلت على سلوك بشري لم يتغير منذ آدم وحواء، وقابيل وهابيل، وحتى عصرنا هذا، والتي ربما كُتِب عليها الحيرة والشقاء في مختلف دروب الحياة. لكن هذا الشقاء الذي قد يراه البعض ألمًا ومشقة ووجعًا، يجب أن ننظر إليه على أنه منحة إلهية من الله عز وجل، كي يختبرنا ويختبر مشاعرنا، ونكون قادرين على تجاوز التحديات، والوصول إلى الأهداف وتحقيق النجاح الذي نريده ونسعى له.

وهناك الكثير من الأسئلة التي تراود العقل البشري بين الحين والآخر، وهذه الأسئلة منها ما هو منطقي ومنها ما هو بعيد عن المنطق، لكنها تأخذ الحيز الكبير من تفكيرنا، وتُشعل مشاعرنا، خاصة إذا ما كُنا نمر بمرحلة من الارتباك والتناقض في أحيانٍ كثيرة. والسؤال الذي يشغل بال الكثير منَّا هو "لماذا أنا بالذات دون غيري؟"، وهو ليس سؤالًا اعتراضيًا على مشيئة الله أو القدر المحتوم، لكنه استفسار عن أسباب حدوث مواقف بعنيها في توقيتات محددة، مع أشخاص بعينهم!

عادة ما نطرح الأسئلة كي نحصل على إجابات، وربما يكون الحصول على هذه الإجابات بطريقة مباشرة أو أننا قد نحصل عليها مصادفةً من تجارب الآخرين التي نتعلم منها بالمجان! لكن ما الذي يجعل شخصاً يفضل شخصًا دون غيره؟ ما الذي قد يجذب إنسانًا لإنسان آخر؟ ما الذي قد يُشعل جذوة الحب والاشتياق في قلب أحدهم تجاه شخص آخر؟ هل فقط التوافق والتشابه في التفكير والميول؟ أم نرمي كل شيء على الأقدار التي لا مهرب منها؟

لذلك قد يحب أحدنا شخصًا لأنه مميز، بينما يراه الآخرون إنسانًا عاديًا لا ميزة فيه! والأمر نفسه على البلاد المنتشرة في أرض الله، لماذا ننجذب لبلد دون آخر؟ الأمر لا يعود فقط إلى كثرة المواقع السياحية أو تنوع المأكولات أو المشاريع الترفيهية، فهذه كلها موجودة في أنحاء العالم، لكن المؤكد أن هناك أسباباً خفية، أعزوها دائمًا إلى "كيمياء الروح"، هذه الكيمياء بمثابة طاقة خفية تسري في أجسادنا، تتنافر أو تتجاذب مع الشخوص والأماكن، تشعر بالقرب أو البعد من الآخرين ليس بناءً على التصرفات أو الموقع الجغرافي، ولكن اعتمادًا على المسافة الروحية والوجدانية التي تفصل بينها وبين الآخرين.

في كثير من المواقف أنصح صديقاتي وأخواتي والمقربين لي، بأن لا يُطيل التفكير في الأمور التي لا يعلم كيف تحدث في حياته، بل يترك نفسه يتفاعل ويتعايش مع ما يحدث من حوله، دون أن يترك الحبل على الغارب، ويتحول إلى إمّعة أو يمتطي جواد هواه، أو يهيم بين دروب الحياة في غفلة وتغافل وجهل، وإنما يُعمل عقله وفكره، ويختبر قلبه ومشاعره، فإذا ما استقر الرأي والمقام عند فكرة بعينها، أو بالقرب من شخص مُحدد، فليتمسّك به، ولينفذ كل ما في صالحه وصالح الآخر الذي يُشاركه الحياة بكل طيب خاطر.

إلى الذين يُعانون من اضطراب المشاعر، وإلى أولئك الذين يبحثون عن السعادة في كل أركان الحياة، وإلى كل الراغبين في الاستقرار النفسي والعاطفي، صدِّقوا قلوبكم وعقولكم، لا تتركوا المجال للعقل كي يُلجم تحركاتكم أو يكبح مشاعركم، وأيضًا لا تسمحوا للقلب أن يُسقطكم في أعماق الوهم أو يدفعكم إلى بئر سحيق من التيه والغفلة.. وازِنوا بين سُلطة العقل وقوة القلب، لتنجحوا في حياتكم.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بين اللغة والتحليل النفسي

لا يتناول كثيرون في البلاد العربية مسألة علاقة اللغة بعلم النفس أو بالتحليل النفسي خصوصا، مع أن هذا الأخير لا يكاد يكون ممكنًا من غير فهم جيد للغة؛ فكيف قد يستطيع طبيب نفسي أن يشخّص أحدًا دون جملة من الأسئلة يطرحها عليه ليسبر أعماقه ويلقي نظرة فاحصة إلى مكنونه؟

وأعتقد أن قصور الاهتمام في مواضيع كهذه ليس في الحقيقة نابعا من صعوبتها في السياق الأكاديمي ولا من تعذّر آلات التحليل فيها، وإنما هو نابع برأيي من أمرين اثنين: الأول هو النظرة السطحية إلى اللغة بوصفها مجرد وعاء لأفكار الإنسان شأنها شأن الإناء الذي يُحمَل فيه الطعام، وهذه نظرة مجردة بعيدة عن الصحة في سياق اللغة؛ فرغم اختلاف باحثي وعلماء اللسانيات في هذا الشأن، إلا أن أكثر الخلاصات البحثية تثبت وجود تشابك أعمق بين اللغة وتفكير الإنسان، وتأثير أبعد مدىً للمدخلات اللغوية في سلوكيات البشر. أما السبب الثاني فهو البُعد الأسطوري في مسألة اللغة العربية تحديدا، فالخلاف قديم في مسألة نشأة اللغة، ولكن سهولة الرأي القائل بأن اللغة إنما هي وحيٌ وتوقيف ألهمها الله آدم، جعلته أوسع انتشارًا وقبولا، وأقعدت العرب عن دراسة جوهر لغتهم ومحاولة فهم تجذُّراتها في النفس البشرية. ولا يفوتني أن أضيف الثورات التقنية والصناعية التي يشهدها العالم منذ قرون كسببٍ بالغ الأثر في انصراف الناس عن غالب فروع العلوم الإنسانية، وبما أن الريادة في الصناعة والتقانة أصبحت اليوم من نصيب غير العرب فلا عجب أن تتذيّل اللغة قائمة اهتماماتنا، ونلهث في محاولة اللحاق بفتات العلوم التجريبية من هندسة وحوسبة كي لا نُوصم بالرجعية. وهكذا أُخذنا بالكون الذي هو خارجنا عن الكون الذي هو داخلنا، ولم تعد محاولة فهم الإنسان تشغلنا، «أتحدث عن الإنسان وأعلم أنني أتحدث عن أشد الأشياء تعقيدا في هذا العالم» كما قال روسو.

ولا يمكننا الحديث عن علم النفس دون ذكر (سيغموند فرويد)، الطبيب النمساوي المؤسس للتحليل النفسي ورائد علم النفس الحديث، ولكن حتى فرويد نفسه أسيئت قراءته من قبل كثير من دارسيه، الأمر الذي جعل هذه العلاقة التي لم ينفكّ فرويد يصرّح ويلمّح بها في كتبه غائبةً عن دائرة الضوء، حتى جاء المحلل النفسي الفرنسي (جاك لاكان) الذي أعاد قراءة فرويد قراءة فاحصة لم يستطع خلالها إلا الانبهار بهذا التشابك الهائل بين شؤون الكلمات وشؤون النفس في مؤلفات النمساوي فرويد، لاسيما فيما يتعلق بالجزء اللاواعي من النفس «اللاشعور منتظم بنيويًّا على هيئة لغة». وفي هذا يقول لاكان عن كتاب تفسير الأحلام لفرويد: «افتحوا أي صفحة من صفحات هذا الكتاب، فلن تجدوا فيها إلا حديثا عن شؤون الكلمات»، بل إنه يصل للقول إن مؤسس اللسانيات البنيوية (دي سوسير) لم يكن إلا «ناقلاً متحمّسًا» وليس مخترعًا لقوانين البُنية، وإنما يعود الفضل في ذلك إلى مؤسس التحليل النفسي. كما أنّ الفرنسي لاكان خلَص إلى فكرة مثيرة للاهتمام وهي أن اللغة سابقة على الذات، وأن الطفل على حد قوله لا يصبح ذاتًا إنسانية إلا بعد دخوله النسق الرمزي للثقافة وهو اللغة، وهو جواب لاكان عن سؤال: أيهما يصنع الآخر، هل الإنسان يصنع اللغة أم اللغة تصنع الإنسان؟ فاللغة عند لاكان ليست مجرد أداة يستخدمها الإنسان للتعبير، بل هي التي تشكّل ذاته وهويّته، وفي ذلك قال: «الدالّ هو ما يمثّل الذات لدالٍّ آخر» مشيرًا إلى أن هوية الإنسان وذاته تتشكل من خلال شبكة الدوال (الكلمات والرموز) التي تتفاعل فيما بينها.

ولكن ما هي مظاهر هذا التشابك بين اللغة والنفس وكيف بوسعنا أن نفيد منها؟ وجد فرويد أن اللغة تشبه القناة التي تتسرب منها مكونات اللاوعي الإنساني، وقد تجلى ذلك في عدة ظواهر لغوية، منها مثلاً زلّات اللسان، تلك الأخطاء العفوية التي اعتبرها فرويد خيانات من اللاوعي تكشف عن مخاوف أو رغبات مكبوتة. وبالحديث عن أبعاد العلاقة بين اللغة وعلم النفس تجدر الإشارة إلى دورين مهمّين تلعبهما اللغة في هذا الحقل، دور تشخيصي ودور علاجي، فبالنسبة للأول تمثل اللغة أداة تشخيصية بالغة الأهمية في التحليل النفسي، ومن أشكال ذلك: تحليل المحتوى للموضوعات التي يتحدث عنها المريض وتلك الموضوعات التي يتجنبها، ودراسة الأسلوب اللغوي الذي يكشف عن سمات الشخصية واضطراباتها، مثل الخطاب المتشظي عند مرضى الذهان، والخطاب المتماسك ظاهرياً لكنه فارغ دلالياً عند مرضى الهستيريا، والدقة المفرطة والتكرار عند الوسواس القهري. وبالنسبة للعلاج، فإن العملية العلاجية في التحليل النفسي تعد لغوية بامتياز، ومن خطواتها: تحويل المعاناة من حالة جسدية أو عاطفية غامضة إلى كلمات، ثم يأتي دور إعادة الصياغة حيث يساعد المعالج المريض على إعادة صياغة قصته الشخصية بلغة جديدة وفهم إيجابي مختلف لتجاربه، كما من المهم كسر الصمت، ومحاولة إثارة الحديث عن الصدمات التي ظلت حبيسة الكتمان طويلا. ومع تطور علم النفس اللغوي ظهرت تطبيقات عصرية في كلا الجانبين التشخيصي والعلاجي، أفادت من السجلات الكثيرة للمرضى لملاحظة أنماط تشخيصية، لتفحص لغة المريض بشكل أكثر دقة وترفد المعالج بوسائل لغوية تمثل طرقا أنجع للعلاج.

وهذا غيض من فيض يصوّر لنا أهمية اللغة ومحوريّتها في فهم النفس البشرية وحتى في صنع الشخصية وبنائها، فكم لها من تطبيقات عملية ينتبه لها البعض ويغفل عنها الكثيرون، وكم استُخدمت تطبيقات علم اللسانيات لبناء وعيٍ وهدم آخر، ونخر حضارة وإرساء أخرى، وهذا ما يجعل دول الاستعمار أكثر ريادةً في أبحاث علم اللسانيات لمعرفتها بقوة هذا السلاح، فمن لا لغة له لا ذاكرة له، ومن لا ذاكرة له لا حضارة له.

مقالات مشابهة

  • حفريات في الأدب والنفس
  • والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..
  • العبادة.. خضوع المشاعر وعمل الجوارح
  • لمن تألف الروح؟
  • ازهاق النفس البشرية محرمة بكافة الشرائع السماوية،
  • العريس الذي كان يتجهز لزفافه لكنه زُفّ إلى الجنة
  • جرائم السرقة في شهر رمضان… تناقض بين الروحانية والواقع
  • بين اللغة والتحليل النفسي
  • محمد أبو هاشم: الإمام أبو حنيفة وضع أساس الاجتهاد الفقهي الذي يسر على المسلمين
  • بطريرك الروم الأرثوذكس بسوريا: في الصوم الكبير يناجي كلٌّ منا الله