لجريدة عمان:
2024-11-25@11:43:00 GMT

التحالف بين الوجداني والتحليلي

تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT

التحالف بين الوجداني والتحليلي

منذ أيام الإغريق (على الأقل)، عرفنا هذا «الخلاف» القديم بين الشعر والفلسفة؛ إذ تسبر كلّ من هاتين «الشقيقتين الفكريتين» (*) الأولى قديمة والأخرى مشهورة بأنها أكثر رصانة أغوار افتراضيات اللغة على أمل استهداف الواقع والغوص فيه. من هنا، ليس من المستغرب أن يكون الانتقال من لغة إلى أخرى عبر الترجمة محفوفا بالمخاطر، ما يشكل أصل المواجهة والتنافس على الحدود المشتركة بينهما.

وتزداد الأمور تعقيدا عندما نتعامل، كما هو الحال عند نيتشه وفاليري، مع فلاسفة شعراء، حيث يتحقق فيما بينهم، بحسب تعبير الأخير، «التحالف الحميم بين الوجداني والتحليلي».

أعود إلى هذا الكلام، وأنا أقرأ كتاب الشاعر الفرنسي بول فاليري «حول نيتشه» (الصادر مؤخرا عن منشورات «لاكوبراتيف»، باريس، 93 صفحة)، الذي يعيد تذكيرنا بأن فاليري، كان مفكرا أيضا، ولم يقتصر عمله الإبداعي على الشعر فقط، بل تخطاه إلى أنواع أخرى من الكتابة، ولا سيّما الفلسفة. فمثله مثل كلّ المثقفين من أبناء جيله، اكتشف بول فاليري نيتشه حوالي عام 1900، وذلك بفضل الترجمات التي بدأت تظهر في مجلة «ميركور دو فرانس».

الكتاب الذي عمل على إعداده وترتيبه ميشيل جاريتي، (سبق له أن كتب سيرة الشاعر الفرنسي)، يبدو أشبه بملف خاص بنيتشه بقلم فاليري، من هنا، ثمة عناصر غير متجانسة، بعضها معروف جزئيًا؛ لكن، على الرغم من إيجازه، يقدم رؤية كاملة لقراءة فاليري لنيتشه التي تعد من القراءات المهمة في تاريخ الفكر الفرنسي. إذ لم تكن قراءته مجرد خطوة مهمة في انتشار نيتشه النقدي السريع في فرنسا (بدأ ذلك مع ترجمة كتاب «قضية فاجنر» عام 1893) ولكنها أيضًا بداية حوار بين الشاعرين المفكرين اللذين اشتركا في العديد من الموضوعات.

من الطبيعي، في هذه المواجهة، أن تكون الترجمة قضية حاسمة وشرطا أساسيا. إذ إن ملف «نيتشه» هذا يأخذ شكل تكريم لأعمال الترجمة (المتنازع عليها أحيانًا) التي قام بها هنري ألبير (أول من ترجم الفيلسوف الألماني إلى الفرنسية) الذي التقاه فاليري في أحد الصالونات الأدبية الباريسية؛ كان ألبير كاتبا متعاونا في مجلة «ميركور دو فرانس» ومؤسس مجلة «لو سنتور» (لم تدم طويلا) التي نشر فيها فاليري نصه الفكري الشهير «مدخل إلى أسلوب ليوناردو دا فينشي». وفي عام 1927 نشر فاليري في «دفاتر لا كانزان» أربع رسائل إلى هنري ألبير كان أرسلها بين الأعوام 1901-1907، مسبوقة بــ «إشعار». وقد كشفت هذه الرسائل، على الرغم من إيجازها، قراءة ثاقبة لمؤلف كتاب «هكذا تكلم زرادشت» كذلك أشادت بأننا «في عصر، أفضل ما يُطبع فيه هي الترجمة»، وكان يشير بذلك إلى «عمل ألبير الرائع الجدير بالتقدير».

خلال شتاء 1908-1909، وبناءً على طلب أندريه جيد، الذي كان منتبهًا لأعمال نيتشه منذ فترة طويلة (الرسالة إلى أنجيل التي أهداها له يعود تاريخها إلى عام 1899) الذي كان يستعد لإطلاق «المجلة الفرنسية الجديدة»، قام بول فاليري بتدوين ملاحظات (غير مدرجة في «الدفاتر») عن نيتشه (كان فاليري قد جمع في نهاية حياته مقالاته في عدة كتب أسماها «دفاتر»). ولم يكتب الشاعر المقال الذي وعد به جيد، لأي سبب؟ لا نعرف، لكن من الواضح أن قراءة نيتشه هذه، ذات تناقض كبير.

هذه «الملاحظات حول نيتشه»، التي تعد تحضيرًا لمقال ولد ميتًا، تعطي صوتًا لـ «خطاب متصلب إلى حد ما» حول الفيلسوف، الذي يُحكم عليه للوهلة الأولى بأنه «متغطرس، وعميق، وساذج، وغير كاف، ورائع». هكذا يسخر فاليري من «هذا الشيء الرائع»، «البطل الخارق»؛ كذلك يعيد إلى نيتشه اتهامات الأخير لفاغنر «الدجال»، «الفخور»، ويضيف اتهامات أخرى مثل «السلافي المجنون»، «المتناقض»، «البربري» لا يريد أن يرى في العمل سوى «إيديولوجية تتغذى من الموسيقى»، خاضعة جدًا (رغم كل شيء) لفاجنر. في المجمل، سيكون «من السخافة أن تفكر مثل بورجيا وتعيش مثل ليتري». الخلاصة مفاجئة: «إن نيتشه ليس غذاء للروح، بل هو منبّه».

تشكل هذه الملاحظات غير المنشورة، التي لا نجدها في «الدفاتر»، العنصر الرئيسي للملف الذي جمعه جاريتي. ولإكمالها وتنويرها، تسبق هذه المجموعة سلسلة من الرسائل (إلى أندريه جيد، وإلى جي دي بورتاليس، وإلى هنري ألبير).

وتبقى الحقيقة أن نيتشه مارس إغواءً حقيقيًا على فاليري: «لقد جذبني بالدوار الفكري للوعي الزائد «...» بمقاطع معينة عند الحد الأقصى، وبوجود إرادة عليا تتدخل لإيجاد العقبات والمطالب التي من دونها الفكر لا يمكن إلا أن يهرب». حتى الشغف الفاجنري يجد صداه عند فاليري. قبل كل شيء، من الناحية الفلسفية، أثار نيتشه إعجاب فاليري، على وجه الخصوص، كما يشير جاريتي، بسبب انتقادهما المشترك للغة «كل كلمة هي تحيز» وبالتالي، استجوابهما المشترك لـ «أنا»، التي تشكل وهم القواعد النحوية. إن نهج المفكرين حديث بشكل ملحوظ، على غرار فيتجنشتاين: «إذا تم طرح المشكلات بوضوح، فإنها ستبدد الصعوبات التي تتعلق بنظام اللغة»؛ «إن أي مشروع فلسفي حقيقي كما يلخص جاريتي يجب أن يقوم أولا على الوعي الواضح بهذا اللعب بين الفكر والكلمة، ومقاومته ومحاولة الحدّ من قوته».

الرسالة التي يشكر بها فاليري، غي دي بورتاليس على التفاني الطويل الذي أولاه الأخير لنيتشه في إيطاليا، تؤكد على عدم ثقة الشاعر الفرنسي تجاه فلسفة الألماني و«عالمه الخلفي» القائم على التجريدات التي لا يمكن التحقق منها مثل «إرادة القوة»، يحتوي على هذا الاعتراف: «انتهى بي الأمر إلى حبّ نيتشه»، لأنه «حل بشكل رائع المشكلة الصعبة التي يطرحها وجود الموسيقى العظيمة «...» لجميع الكتاب الذين يفكرون».

ولا يُستبعد على وجه الخصوص أن يكون شاعر الفكر الخالص مضطربا ومهتزًا ومتحديًا من قبل الفيلسوف الديونيسي الذي يعاني المرض: «يريد نيتشه كما يكتب فاليري بشكل أساسي العودة إلى التقليد، وإعادة الاتصال بالبربري»...

في مواجهة فكرية قوية كانت تعكس فكرته في عدة نقاط، يعبر فاليري في هذه الصفحات عن تردده، ويمارس قدرته النقدية بحدته المعتادة، ويقدم لنا هنا أكثر من أي وقت مضى مثال هذا «القارئ المتطلب» الذي دعا لعمله الخاص.

هامش

(*) استعملهما هنا بصيغة المؤنث، لأن الشعر والفلسفة كلمتان مؤنثتان باللغة الفرنسية، وفق ما يقتضي الكتاب الذي أنا بطور الحديث عنه.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قيادي حوثي: صنعاء والرياض قطعتا شوطا مهما على طريق السلام

أكد قيادي بارز في جماعة الحوثي، أن الجماعة قطعت شوطا مهما على طريق السلام في اليمن، متهما أطرافا داخل التحالف بعرقلة جهود عملية السلام.

 

وقال القيادي حسين العزي المعين من قبل المليشيا نائبا لوزير خارجية الحوثيين غير المعترف بها دوليا، في منشور له على منصة إكس: "قطعت صنعاء والرياض شوطاً مهماً على طريق السلام، وتظهران تصميماً تضامنياً مشتركاً على إنجاز هذه الغاية النبيلة.

 

 

وأوضح أن صنعاء والرياض لن تسمحا لأي طرف فرعي داخل التحالف بمواصلة عرقلة هذا المسار، واعتقد من المهم أيضا أن تتخلى امريكا عن موقفها المعيق للسلام.

 

ومنذ أشهر يواصل المبعوث الأممي إلى اليمن إحياء عملية السلام المتعثرة في اليمن، بعد أن تأثرت بحرب غزة التي ألقت بتبعاتها على جهود السلام في اليمن، حيث أعلن المبعوث الأممي في ديسمبر الماضي خارطة الطريق الأممية بعد جهود سعودية عمانية مشتركة مع جماعة الحوثي بمعزل عن المجلس الرئاسي اليمني.


مقالات مشابهة

  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • ناجي الشهابي: التحالف الوطني الذراع الشعبي لتخفيف الأعباء عن المواطنين
  • قيادي حوثي: صنعاء والرياض قطعتا شوطا مهما على طريق السلام
  • عضو التحالف الوطني توزع وجبات مجانية ضمن حملة إيد واحدة
  • اختتام أعمال المنتدى الخامس للسلام والأمن في دهوك
  • تيسير مطر: تحالف الأحزاب جاهز للمنافسة ونؤيد القائمة المغلقة
  • قوافل طبية ومحطات مياه.. جهود التحالف الوطني في المحافظات «حياة جديدة»
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • الاعرجي: التحالف الدولي له فضل كبير في مساعدة العراق بهزيمة داعش
  • «عبدالقوي»: التحالف الوطني قدم مساعدات غذائية لـ20 مليون مواطن