التحالف بين الوجداني والتحليلي
تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT
منذ أيام الإغريق (على الأقل)، عرفنا هذا «الخلاف» القديم بين الشعر والفلسفة؛ إذ تسبر كلّ من هاتين «الشقيقتين الفكريتين» (*) الأولى قديمة والأخرى مشهورة بأنها أكثر رصانة أغوار افتراضيات اللغة على أمل استهداف الواقع والغوص فيه. من هنا، ليس من المستغرب أن يكون الانتقال من لغة إلى أخرى عبر الترجمة محفوفا بالمخاطر، ما يشكل أصل المواجهة والتنافس على الحدود المشتركة بينهما.
أعود إلى هذا الكلام، وأنا أقرأ كتاب الشاعر الفرنسي بول فاليري «حول نيتشه» (الصادر مؤخرا عن منشورات «لاكوبراتيف»، باريس، 93 صفحة)، الذي يعيد تذكيرنا بأن فاليري، كان مفكرا أيضا، ولم يقتصر عمله الإبداعي على الشعر فقط، بل تخطاه إلى أنواع أخرى من الكتابة، ولا سيّما الفلسفة. فمثله مثل كلّ المثقفين من أبناء جيله، اكتشف بول فاليري نيتشه حوالي عام 1900، وذلك بفضل الترجمات التي بدأت تظهر في مجلة «ميركور دو فرانس».
الكتاب الذي عمل على إعداده وترتيبه ميشيل جاريتي، (سبق له أن كتب سيرة الشاعر الفرنسي)، يبدو أشبه بملف خاص بنيتشه بقلم فاليري، من هنا، ثمة عناصر غير متجانسة، بعضها معروف جزئيًا؛ لكن، على الرغم من إيجازه، يقدم رؤية كاملة لقراءة فاليري لنيتشه التي تعد من القراءات المهمة في تاريخ الفكر الفرنسي. إذ لم تكن قراءته مجرد خطوة مهمة في انتشار نيتشه النقدي السريع في فرنسا (بدأ ذلك مع ترجمة كتاب «قضية فاجنر» عام 1893) ولكنها أيضًا بداية حوار بين الشاعرين المفكرين اللذين اشتركا في العديد من الموضوعات.
من الطبيعي، في هذه المواجهة، أن تكون الترجمة قضية حاسمة وشرطا أساسيا. إذ إن ملف «نيتشه» هذا يأخذ شكل تكريم لأعمال الترجمة (المتنازع عليها أحيانًا) التي قام بها هنري ألبير (أول من ترجم الفيلسوف الألماني إلى الفرنسية) الذي التقاه فاليري في أحد الصالونات الأدبية الباريسية؛ كان ألبير كاتبا متعاونا في مجلة «ميركور دو فرانس» ومؤسس مجلة «لو سنتور» (لم تدم طويلا) التي نشر فيها فاليري نصه الفكري الشهير «مدخل إلى أسلوب ليوناردو دا فينشي». وفي عام 1927 نشر فاليري في «دفاتر لا كانزان» أربع رسائل إلى هنري ألبير كان أرسلها بين الأعوام 1901-1907، مسبوقة بــ «إشعار». وقد كشفت هذه الرسائل، على الرغم من إيجازها، قراءة ثاقبة لمؤلف كتاب «هكذا تكلم زرادشت» كذلك أشادت بأننا «في عصر، أفضل ما يُطبع فيه هي الترجمة»، وكان يشير بذلك إلى «عمل ألبير الرائع الجدير بالتقدير».
خلال شتاء 1908-1909، وبناءً على طلب أندريه جيد، الذي كان منتبهًا لأعمال نيتشه منذ فترة طويلة (الرسالة إلى أنجيل التي أهداها له يعود تاريخها إلى عام 1899) الذي كان يستعد لإطلاق «المجلة الفرنسية الجديدة»، قام بول فاليري بتدوين ملاحظات (غير مدرجة في «الدفاتر») عن نيتشه (كان فاليري قد جمع في نهاية حياته مقالاته في عدة كتب أسماها «دفاتر»). ولم يكتب الشاعر المقال الذي وعد به جيد، لأي سبب؟ لا نعرف، لكن من الواضح أن قراءة نيتشه هذه، ذات تناقض كبير.
هذه «الملاحظات حول نيتشه»، التي تعد تحضيرًا لمقال ولد ميتًا، تعطي صوتًا لـ «خطاب متصلب إلى حد ما» حول الفيلسوف، الذي يُحكم عليه للوهلة الأولى بأنه «متغطرس، وعميق، وساذج، وغير كاف، ورائع». هكذا يسخر فاليري من «هذا الشيء الرائع»، «البطل الخارق»؛ كذلك يعيد إلى نيتشه اتهامات الأخير لفاغنر «الدجال»، «الفخور»، ويضيف اتهامات أخرى مثل «السلافي المجنون»، «المتناقض»، «البربري» لا يريد أن يرى في العمل سوى «إيديولوجية تتغذى من الموسيقى»، خاضعة جدًا (رغم كل شيء) لفاجنر. في المجمل، سيكون «من السخافة أن تفكر مثل بورجيا وتعيش مثل ليتري». الخلاصة مفاجئة: «إن نيتشه ليس غذاء للروح، بل هو منبّه».
تشكل هذه الملاحظات غير المنشورة، التي لا نجدها في «الدفاتر»، العنصر الرئيسي للملف الذي جمعه جاريتي. ولإكمالها وتنويرها، تسبق هذه المجموعة سلسلة من الرسائل (إلى أندريه جيد، وإلى جي دي بورتاليس، وإلى هنري ألبير).
وتبقى الحقيقة أن نيتشه مارس إغواءً حقيقيًا على فاليري: «لقد جذبني بالدوار الفكري للوعي الزائد «...» بمقاطع معينة عند الحد الأقصى، وبوجود إرادة عليا تتدخل لإيجاد العقبات والمطالب التي من دونها الفكر لا يمكن إلا أن يهرب». حتى الشغف الفاجنري يجد صداه عند فاليري. قبل كل شيء، من الناحية الفلسفية، أثار نيتشه إعجاب فاليري، على وجه الخصوص، كما يشير جاريتي، بسبب انتقادهما المشترك للغة «كل كلمة هي تحيز» وبالتالي، استجوابهما المشترك لـ «أنا»، التي تشكل وهم القواعد النحوية. إن نهج المفكرين حديث بشكل ملحوظ، على غرار فيتجنشتاين: «إذا تم طرح المشكلات بوضوح، فإنها ستبدد الصعوبات التي تتعلق بنظام اللغة»؛ «إن أي مشروع فلسفي حقيقي كما يلخص جاريتي يجب أن يقوم أولا على الوعي الواضح بهذا اللعب بين الفكر والكلمة، ومقاومته ومحاولة الحدّ من قوته».
الرسالة التي يشكر بها فاليري، غي دي بورتاليس على التفاني الطويل الذي أولاه الأخير لنيتشه في إيطاليا، تؤكد على عدم ثقة الشاعر الفرنسي تجاه فلسفة الألماني و«عالمه الخلفي» القائم على التجريدات التي لا يمكن التحقق منها مثل «إرادة القوة»، يحتوي على هذا الاعتراف: «انتهى بي الأمر إلى حبّ نيتشه»، لأنه «حل بشكل رائع المشكلة الصعبة التي يطرحها وجود الموسيقى العظيمة «...» لجميع الكتاب الذين يفكرون».
ولا يُستبعد على وجه الخصوص أن يكون شاعر الفكر الخالص مضطربا ومهتزًا ومتحديًا من قبل الفيلسوف الديونيسي الذي يعاني المرض: «يريد نيتشه كما يكتب فاليري بشكل أساسي العودة إلى التقليد، وإعادة الاتصال بالبربري»...
في مواجهة فكرية قوية كانت تعكس فكرته في عدة نقاط، يعبر فاليري في هذه الصفحات عن تردده، ويمارس قدرته النقدية بحدته المعتادة، ويقدم لنا هنا أكثر من أي وقت مضى مثال هذا «القارئ المتطلب» الذي دعا لعمله الخاص.
هامش
(*) استعملهما هنا بصيغة المؤنث، لأن الشعر والفلسفة كلمتان مؤنثتان باللغة الفرنسية، وفق ما يقتضي الكتاب الذي أنا بطور الحديث عنه.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صاروخ روسي وراء تحطم الطائرة الأذربيجانية.. ما الذي حدث؟
الخطوط الجوية الأذربيجانية (مواقع)
شهد يوم الأربعاء الماضي حادثًا مأساويًا تحطمت فيه طائرة ركاب تابعة لشركة أذربيجان إيرلاينز بالقرب من مدينة أكتاو في كازاخستان. وفي تطور صادم للأحداث، كشفت مصادر حكومية أذربيجانية، وفقًا لقناة يورونيوز، عن أن الصاروخ الروسي هو السبب وراء هذه الكارثة الجوية.
اقرأ أيضاً الانتقالي يكشف الأسباب الحقيقية وراء انسحاب الزبيدي من "الرئاسي" 26 ديسمبر، 2024 تعالج الكوليسترول وتحمي القلب.. مكملات غذائية تزيد في العمر أكثر من 4 سنوات 26 ديسمبر، 2024
تفاصيل الحادث:
تشير المعلومات الأولية إلى أن الطائرة، وهي من طراز إمبراير 190، كانت في رحلة من باكو إلى غروزني عندما تعرضت لإطلاق صاروخ أرض-جو روسي من طراز بانتسير-إس. وقد حدث هذا الحادث أثناء نشاط مكثف لطائرات بدون طيار فوق غروزني، حيث كانت القوات الروسية تحاول إسقاط طائرات بدون طيار أوكرانية.
تفيد التقارير بأن الشظايا الناتجة عن انفجار الصارو بالقرب من الطائرة تسببت في أضرار جسيمة بها، مما أدى إلى فقدانها للتحكم وسقوطها. وعلى الرغم من طلبات الطيارين للهبوط اضطرارياً في مطارات روسية، إلا أنه تم رفض طلباتهم وأُمرت الطائرة بالتحليق فوق بحر قزوين باتجاه أكتاو.
التشويش على أنظمة الملاحة:
يزداد غموض الحادث مع ورود معلومات حول تشويش أنظمة الملاحة GPS للطائرة طوال مسار الرحلة فوق البحر. هذا التشويش قد يكون مقصودًا أو نتيجة للظروف التشغيلية المعقدة في المنطقة.
التساؤلات المطروحة:
يثير هذا الحادث العديد من التساؤلات حول المسؤولية عن هذه الكارثة:
خطأ بشري أم عمد؟ هل كان إطلاق الصاروخ خطأ بشريًا أم كان هناك نية متعمدة لاستهداف الطائرة؟
فشل في تحديد الأهداف؟ كيف تم الخلط بين طائرة ركاب مدنية وطائرة بدون طيار؟
مسؤولية السلطات الروسية: هل تتحمل السلطات الروسية مسؤولية هذا الحادث؟ وما هي الإجراءات التي ستتخذها لمعاقبة المتسببين؟
الآثار المترتبة: ما هي الآثار المترتبة على هذا الحادث على العلاقات بين روسيا وأذربيجان؟ وكيف ستؤثر هذه الحادثة على ثقة المسافرين بالطيران المدني؟.
التحقيقات الجارية:
من المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة مزيدًا من التطورات في هذا الملف، حيث ستجري تحقيقات شاملة لكشف ملابسات الحادث وتحديد المسؤولين. كما ستعمل السلطات المعنية على تقديم تعويضات لعائلات الضحايا.
أهمية الحقيقة:
يعتبر كشف الحقيقة حول هذا الحادث أمرًا بالغ الأهمية، ليس فقط لتقديم العدالة للضحايا وعائلاتهم، بل أيضًا لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل. يجب على المجتمع الدولي الضغط من أجل إجراء تحقيق شفاف ومحايد في هذا الحادث.
ختامًا:
تحطم طائرة أذربيجان إيرلاينز يمثل مأساة إنسانية كبيرة، ويطرح تساؤلات جدية حول أسباب الحادث والمسؤولية عنه. من الضروري أن يتم إجراء تحقيق شامل وشفاف في هذا الحادث، وأن يتم محاسبة المسؤولين عن أي إهمال أو خطأ.