نساء من غزة يروين للجزيرة نت قصص إعدام عائلاتهن واعتقالهن
تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT
غزة- "أوقفوا أبي وأخي وأقاربي أمامنا وأمام أمي وأعدموهم.. وبعد أن قتلوهم، جمعوا كل النساء اللاتي ظللن في غرفة، وألقوا علينا قذائف من الدبابات إلى أن استشهدت اثنتان منا وأُصبنا كلنا".
هكذا تروي إسراء عنان أهوال ما تعرضت له وغيرها من نساء غزّيات على أيدي جنود جيش الاحتلال. أما روند فقد سرق جنود الاحتلال مصاغها الذهبي كله، وأفرغوا جيوب حقائبها، ونهبوا مبالغ مالية كبيرة، "حتى فراطة حصالات" أبنائها.
هي ليست أحداثا من فيلم دموي أبطاله عصابة من المافيا والمرتزقة كما يبدو للوهلة الأولى، بل إنها مشاهد حقيقية عايشتها نساء غزة مع جيش "مجرم لا يمت للأخلاق بصلة"، كما روت بعضهن.
منزل روند قبل وبعد أن حرقه جنود الاحتلال في حي الرمال وسط مدينة غزة (الجزيرة) للإجرام بقيةأمر جيش الاحتلال الموجودين في منزل روند القابع في حي الرمال وسط مدينة غزة بإخراج من فيه من النساء والأطفال، وقد كان معهم رجل كفيف وسيدتان من كبار السن العاجزين على مقاعد متحركة.
تقول روند "طلبوا منا نمشي بشارع مجرف وكلو حجارة وردم. حكينالهم مش حنقدر ندفع الكراسي، أمهلونا دقائق لنختفي من الشارع، أو سيكون مصيرنا الهلاك".
24 ساعة مكث فيها المقعدون أمام الدبابات. وعورة الطريق والبرد القارص والجوع والعطش، كانت كافية لتعذيبهم نفسيا، قبل أن تهدر حياتهم، ويعدموا بدم بارد بـ3 رصاصات.
وبينما تدور هذه الجريمة خارج البيت، ثمة جرائم أخرى مركبة يقترفها الجنود داخله، حيث روت روند للجزيرة نت الأحداث بعد خروجها من المنزل، فقد استخدم الاحتلال زوجها والرجال المتبقين دروعا بشرية، وأوقفوهم على نوافذ منزلهم الذي تحصنوا فيه، لمنع المقاومة من محاولة استهداف البيت أو إطلاق القذائف عليه.
وتكمل "بعد تعريتهم لساعات من التحقيق والتعذيب، وزعوا الرجال على طوابق العمارة، وربطوهم بالكراسي وأضرموا النار في الطابق العلوي، وأشعلوا أنابيب الغاز في كل الطوابق، لتنتقل النيران للطوابق كلها، ثم اعتقلوا بعض الرجال، وانسحبوا".
صرخ فتى لم يناهز (13 عاما) في وجه جندي يفهم العربية، وهو يجهزه لحتفه، ويثبته في الكرسي "بردان" ليجيبه بشفقة مصطنعة، وتهكم "الآن ستدفأ" وانصرف.
صارع أحد الرجال المكبلين قيده، وكانت رغبته في البقاء قد بلغت ذروتها، حيث نجح في حل العقدة، وهرول لفك الطفل والرجال جميعا.
كان هذا الوقت كافيا للنار لتتمكن من التهام طابقين من أصل 5، أحدهما كان بيت روند الذي "بنته وزوجها بشق الأنفس وتحويشة العمر، وسكنته قبل شهر واحد من بداية الحرب، ولم تكمل أقساطه بعد!"، لقد نجى الرجال من الموت حرقا بالفعل.
جثث في العراء
يبدو الجيش منسحبا، لكن دباباته لا تزال متمركزة في منطقة محاذية.. هكذا بدت الصورة من النافذة الجنوبية.
وبخفة وحذر انتقل زوج روند إلى النافذة الأخرى ليبحث عن إجابة أخرى، كان أقصى ما يتوقعه أن يجد معالم الحي قد تغيرت، أو أن تكون الإطلالة الخضراء مقابل بيته قد تبدلت بتربة رملية صفراء مجرفة، لكنه صدم بمشهد لم يفق من هوله إلى اليوم! جثث والديه ملقاة على الأرض.
وتقول روند "4 أيام متتالية يقف زوجي بمحاذاة النافذة يبكي والديه اللذين لا يتمكن من الوصول إليهما، يخبرهما بعجزه ويعتذر لعدم قدرته على إكرامهما بالدفن حتى".
وانسحبت الدبابات بشكل كامل بعد 4 أيام إلى أن تمكن ماجد من انتشال جثماني والديه ودفنهما في حديقة المنزل الخلفية، ليظل قبراهما شاهدين على الجريمة التي لم تنته بسرقة العمر فحسب، بل بسرقة ما كانت السيدات ترتدينه من حلي بعد قتلهما.
وللأمام قليلا في الحي المجاور، وعلى مقربة من هذا المشهد، مذبحة أخرى، ضحيتها عشرات المدنيين من عائلة عنان. تروي إسراء التي تلقت خبر استشهاد ابن عمها أثناء مقابلتنا لها، وكانت قد ودعت قبله والدها وشقيقيها وأعمامها الثلاثة وعمتها وأبناءهم.
وتقول إسراء "اقتحموا شقق البرج بعدما فجروا الأبواب، جردوا الرجال من ملابسهم وعزلوهم، أنزلونا للأسفل خلعوا حجاب كثيرات منا، وضربونا بأسلحتهم على ظهورنا، وانهالوا علينا بالشتائم".
وأجبر الجنود النساء على فتح هواتفهن، لمحاولة البحث عما يبرر إجرامهم، حيث قلبوا في الصور الملتقطة في السابع من أكتوبر، وهم يصرخون عليهن "فرحانين وحافظين الفيديوهات عندكم!".
نُقلت السيدات إلى الصالة المقابلة لباب المنزل الرئيس، وفتحه الجنود على مصرعيه وصفوا 20 رجلا، وبدؤوا بإعدامهم واحدا تلو الآخر، إما رصاصة في الرأس أو القلب. كل رصاصة اخترقت جسدا واحدا، لكنها كسرت قلوب نساء في الجهة المقابلة. وسكنت كل الأصوات، وبقي صوت الله المنبعث من والد إسراء يردد وهو يحتضر "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا" خفت حتى اختفى مع أنين النزاع الأخير.
لم يعط جيش الاحتلال نساء العائلة الوقت الكافي لاستيعاب ما حدث، فخلال دقائق أمرهن بالتجمع في الغرفة الغربية، ثم أطلقوا قذائف من دباباتهم بشكل مباشر عليهن. لم يتوقف قصف المنزل بالقذائف حتى الفجر الذي انسحبت معه الآليات من الحي.
ظلت النساء ينزفن حتى وقت الانسحاب، ورغم تواصلهن مع الصليب الأحمر لإجلاء المصابات، فإنه لم يستجب إليهن، معللا ذلك بأنه "لا مساحة لنا للعمل شمال وادي غزة".
كان الخروج من الشقة إلى المستشفى يحتم على النساء المرور من فوق جثامين المعدومين المكدسة، وكان العبور كما يصفنه "كانسلاخ الروح من الجسد" وعندما وقع نظر إسراء على جسدي أبيها وأخيها لم تفكر في شيء سوى "بالبحث عن أغطية تستر بها أجسادهم المكشوفة في هذا البرد القارص".
شقيق إسراء عنان الذي أُعدم ووالده أمام أعين العائلة في حي الرمال (الجزيرة)تقول إسراء بحرقة "بما أن هدفهم من البداية كان قتلنا لماذا اختاروا هذه الطريقة؟ لماذا لم يرموا علينا قنبلة من الطائرة تقتلنا جميعا بدلا من كل هذا التعذيب والتنكيل!" وتجيب بنفسها "أم يريدون أن تبقى قصصنا ويروونها لأجيالهم؟".
وتروي إسراء فصلا أخيرا من التنكيل عاشته ابنة عمها التي أخرجها الجيش بعدما كانت في أول طابق اقتحمه الجنود، حيث أجبروها على الولوج في طريق "آمن" ومن ورائها دبابة، وجنود مدججون بالسلاح على جانبيها، وبعد تقدمها أمتارا قليلة عنهم أطلقوا عليها 5 رصاصات طرحتها أرضا وطفلها الذي كان بصحبتها "من شدة الألم لم تكن قادرة على مناداة أحد، ومن شدة الخوف من الكلاب المحيطة بها فقدت الوعي هي وابنها الصغير".
ومع حلول الظلام ونزف الجسد وقهر القلب على ابنها الأكبر الذي تركته بيد الجنود، وهم يرسمون على ظهره بالسكين تارة، ويحلقون بها شعره تارة أخرى، وجدت مريم يد العون تمتد إليها على هيئة حبل سميك سحبها فيه أحدهم مع ابنها، لتستيقظ على خبر إحراق الجيش لجثماني والد ووالدة زوجها في متجر الملابس الخاص بهما، وكانا قد نزحا إليه باعتباره في منطقة آمنة.
لا أمان
كل الطرق التي تصفها إسرائيل بـ"الآمنة "هي الأخطر على الإطلاق، وجلها يقود إلى "الموت المحقق" كما يصفها الفلسطينيون، فمن الطريق الآمن أيضا اعتقل الجنود الشابة أسيل أبو زايدة "19 عاما" أثناء نزوحها مع عائلتها من مدينة غزة لجنوب القطاع بعد تعرض بيتها للدمار، واستشهاد أخيها.
تقول أسيل للجزيرة نت "نادوا على اسمي، ووضعوني في معسكر مع مجموعة من المعتقلات، سرقوا ما بحوزتنا من أموال وخلعوا حجابنا، كبلوا أيدينا وعصبوا أعيننا إلى أن نقلونا إلى مركز توقيف "عناتوت" في مدينة القدس. لكن لم يبدأ العذاب هناك، ولم تكن محطته الأخيرة سجن "الدامون"، فالطريق بينهما كانت مكتظة بالعذابات والتنكيل.
وتصف أسيل ليلة الاعتقال الأولى التي كانت الأقسى على الإطلاق "أمرونا بالمشي حفاة على حصى قاسية وباردة، ثم أجبرونا على النوم عليها مكبلي الأيدي والأرجل ومعصوبي الأعين".
كيف يمكن لفتاة بهذا السن أن تنام بهذه الهيئة، دون أن تمنح ولو حرية التقلب على الصخر؟ أو أن تجبر على الجلوس في وضعية سيئة للغاية تدفع المعتقلات فيها على خفض ظهورهن ورقابهن لساعات طويلة في الباص الذي نقلهن إلى الزنازين، والضرب هو جزاء من تستقيم قليلا.
وتسهب أسيل في وصف الإذلال الذي تعرضت له المعتقلات قائلة "كنا نتضور جوعا، نطلب الطعام، يضعوه بعد ساعات أمام أعيننا في العراء، ثم يكشفوه ليدخل إليه ماء المطر، أو يتعفن ثم يقدموه لنا".
شهر ونصف قضتها أسيل في جنبات التحقيق أمام ضابط لم يكن يستجوبها بقدر ما كان ينوي العبث بإيمانها، مكررا عباراته "سنبيدكم، سنحرقكم، سنأخذ أرضكم ونبني فوقها وتتحسروا عليها".
هي حكايات لم تكتمل فصولها بعد، وثمة أخرى ستروى في حرب لا اعتبار فيها لجنس، ولا شفاعة فيها لنساء عشن ما يشبه القيامة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ما کان
إقرأ أيضاً:
عصفت الحرب بأسرهم وأعمالهم.. قصص من مأزق جنود الاحتياط بجيش الاحتلال
نشرت صحيفة واشنطن بوست شهادات جنود احتياط إسرائيليين تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية في قطاع غزة، أكدوا فيها أن صبرهم بدأ ينفد وأنهم يعيشون حالة من الإرهاق مع تزايد عدد القتلى في صفوف الجيش وتوسّع نطاق القتال.
وأكد الجنود الإسرائيليون أنهم لم يكونوا يتخيلون قط أن الحرب ستمتد إلى هذا الحد، وستستمر لفترة طويلة لم يكن أحد يتوقعها.
وقال آري كراوس، جندي احتياط في لواء غولاني النخبوي للجيش الإسرائيلي، إنه أمضى أيامه داخل غزة في تفجير الأنفاق تحت الأرض، وفي الليل، يتذكر أنه كان ينضم إلى عدد من الجنود "الآباء" على تلة رملية، محاولا الحصول على إشارة كافية لاستخدام الفيس تايم للحديث مع ابنته الرضيعة.
يتحدث عن حياته السابقة، حيث كان يعمل -وفق قوله- في مجال التكنولوجيا الفائقة، وكان عليه تحقيق التوازن الدقيق بين عمله المهني وحياته العائلية، والآن عليه أن يضيف إلى تلك المعادلة حقيقة أنه يختفي لأسابيع أو لأشهر بشكل مستمر، بعد أن أمضى 4 أشهر يقاتل في غزة، ويستعد للعودة الشهر المقبل.
معضلة كراوس -أو نسخة منها- يتقاسمها معه حوالي 80 ألفا من جنود الاحتياط الإسرائيليين يخططون للمغادرة، أو أنهم قد تركوا بالفعل عائلاتهم وأعمالهم ودراساتهم للخدمة في الخطوط الأمامية لحروب إسرائيل الطويلة في غزة ولبنان.
وبشكل متزايد، يختار البعض عدم الالتحاق بالخدمة، مما يزيد الضغط على جيش مثقل بالأعباء في ظل حرب إقليمية متسعة النطاق.
ويكشف أحد جنود الاحتياط في القوات الخاصة الذي خدم لمدة 300 يوم تقريبا خلال العام الماضي، وتحدث بشرط عدم الكشف عن هويته امتثالا للبروتوكول العسكري، أن وحدته المكونة من 12 رجلا انخفض عددها إلى 5 بعد أن رفض السبعة الباقون الحضور، مؤكدا "لم نتخيل أبدا أنها ستكون حربا عميقة جدا وتستمر لفترة طويلة".
تراجع أعداد المتطوعين
وقال نداف شوشاني، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، في إيجاز صحفي الأسبوع الماضي، إن أعداد المتطوعين للخدمة تراجعت حوالي 15% خلال فترة ما بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما التحق مئات الآلاف من الإسرائيليين بالقتال، وكثيرون منهم دون أن يتم استدعاؤهم، حسب قوله.
تقول الصحيفة إن إسرائيل احتفظت عبر تاريخها -على نحو دائم- بجيش قليل العدد، يعتمد على جنود الاحتياط لسد احتياجاته خلال سلسلة الحروب القصيرة التي يشنها من حين لآخر، ولكن الهجوم الذي قادته حماس في غلاف غزة، وقُتل فيه حوالي 1200 شخص وأسر حوالي 250 آخرين، دفع إسرائيل إلى أطول صراع في تاريخها، وفي الأشهر الأولى من الحرب، تم استدعاء حوالي 350 ألف إسرائيلي، وهو رقم مذهل في بلد يقل عدد سكانه عن 10 ملايين.
وتعلّق المحللة السياسية في الجامعة العبرية جاييل تالشير على الوضع الحالي بقولها "أينما نظرت -الأزمة الاقتصادية، والثمن الذي يدفعه جنود الاحتياط وعائلاتهم، وبالطبع القتلى والجرحى- فإن المجتمع الإسرائيلي بالتأكيد على حافة قدرته على التحمل".
كلمات الوداع وكوابيس الحرب
تقول الصحيفة إن جنود الاحتياط -وهم يواجهون مأزق الحرب الطويلة- يكتبون رسائل الوداع في حالة عدم تمكنهم من الخروج من ذلك المأزق، وعادة ما تتضمن تلك الرسائل مقاطع فيديو للأطفال، وكلمات مرور لحساباتهم البنكية.
وتنقل الصحيفة مشاعر سيدة قُتل زوجها في خان يونس بعد شهرين من هجوم السابع من أكتوبر، حيث تتحدث عن حالة الخوف الشديد التي تتلبسها، وعن أنها بالكاد كانت تأكل أو تنام عندما كان زوجها يقاتل في غزة.
وضمن التداعيات الاجتماعية للحرب والتجنيد الإجباري، يتبادل الجنود العاملون في الميدان قصصا عن الشركاء الذين يهددون بالطلاق، وعن الرؤساء الذين ينفد صبرهم، في حين تكافح العديد من النساء كـ"أمهات عازبات"، ويقلصن ساعات عملهن لتلبية احتياجات رعاية الأطفال، مع انخفاض الإنتاجية في جميع المجالات.