يرى الكاتب والباحث المغربي الطيب بو عزة أن إسرائيل أظهرت للجميع أنها "دولة حديثة في أدوات القتل فقط، أما على مستوى القيم السياسية فحتى ديمقراطيتها المزعومة هي نظام تمييز عنصري سافر"، مشيرا إلى أن العرب في أمس الحاجة إلى خلق مساحات التشارك والتعاون مع الشعوب الغربية، وكذا شعوب بقية دول العالم.

وقال -الأكاديمي المغربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، جامعة عبد الملك السعدي- في حواره مع الجزيرة نت إن "التاريخ لا يعيه حتى فاعلوه، إنما يعيه الذين تفصلهم عنه مسافة زمنية تسمح لهم بقراءة الواقعة التاريخية من حيث مآلاتها".

ويرى أستاذ التعليم العالي بمركز تكوين الأساتذة في طنجة من عام 2011 أن طوفان الأقصى أحدث "تعطيلا لعملية التطبيع واستعادة لروح الرفض الشعبي لإسرائيل وإيقاظا للضمير الأخلاقي من سباته".

ويعتبر بوعزة أن فكرة الاستقطاب الثقافي فكرة ساذجة جدا وقائمة على نظر ضيق لا يستوعب بنية العالم المعاصر التي هي في قيد التشكيل والتسارع، مؤكدا أنه يرفض أيضا الاستقطاب المعكوس الذي يتموقع غالبا في بؤرة المركزية الغربية.

ويذكر أن بوعزة له 13 كتابا منها 8 أجزاء في سلسلة تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، من أهمها: "مشكلة الثقافة" (1991)، و"قضايا في الفكر الإسلامي المعاصر" (2002)، و"نقد الليبرالية" (2007)، و"في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة"، (2012)، و"الفلسفة ما قبل السقراطية، الفلسفة الملطية" (2013)، فإلى الحوار:

لا تزال عملية طوفان الأقصى تفرض نفسها على الكل رغم مرور أكثر من 4 أشهر، كيف يمكن قراءة هذه العملية في مسار التقلبات المتناقضة في المنطقة العربية خاصة والعالم ككل عامة؟

بعد مرور أزيد من 4 أشهر على الحدث، تأكد بوضوح مقدار الإجرام الإسرائيلي السافر، حتى اليوم بلغ عدد الشهداء 28 ألفا و64 شهيدا. هذا بالإضافة إلى آلاف الجرحى والمصابين. بل ثمة وضع مؤلم جدا تعبر عنه الإحصاءات، ففي 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي أعلن جيمس إلدر المتحدث باسم اليونيسيف أن حوالي ألف طفل في غزة فقدوا إحدى ساقيهم أو كلتيهما. وكان قوله هذا في الـ19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي فكيف لو أحصي ما حصل من بعد.

ما يحصل اليوم هو نتاج متوقع لحكومة يمينية متطرفة، إنك إذا خلطت الليكود بشاس، ويهدوت هتوراة وعوتسماه يهوديت، أي الأحزاب المشكلة لحكومة نتنياهو الحالية، فالناتج بلا شك هو عصابة متحفزة لارتكاب جرائم فظيعة، بلا أي رادع أخلاقي إنساني. وأن يتحدث وزير في حكومة إسرائيل الحالية، أقصد عميحاي إلياهو، مقترحا إلقاء قنبلة نووية على سكان غزة كافة للدلالة على العقلية الإجرامية للسياسة الإسرائيلية.

إسرائيل تسوق نفسها أمام العالم بكونها دولة حداثية، وبأنها واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، لكن ظهر للجميع أن إسرائيل دولة حديثة في أدوات القتل فقط.

إن إسرائيل تسوق نفسها أمام العالم بكونها دولة حداثية، وبأنها واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، لكن ظهر للجميع أن إسرائيل دولة حديثة في أدوات القتل فقط، أما على مستوى القيم السياسية فحتى ديمقراطيتها المزعومة هي نظام تمييز عنصري سافر.

هل يشكل الحدث بكل ما فيه من آلام إيقاظا للأمل في حل المشكلة الفلسطينية؟

لقد عانى الشعب الفلسطيني منذ 1917 من مؤامرة عالمية لم يكن هو ولا أي شعب عربي آخر طرفا في المتصارعين فيها. إن مساحة فلسطين هي 27 ألف كيلومتر مربع فقط، لكن الصراع الدائر فيها يؤثر في العالمين العربي والإسلامي، بل في العالم أجمع، لذا فإيجاد حل حقيقي هو ضرورة ليس فقط لمنطقة الشرق الأوسط، بل هو ضروري للسلم العالمي.

دلالة الأحداث التاريخية لا يدركها من يعيشها، ولا يتم الإمساك بمعناها إلا بالتعالي الزمني عليها، إذ إن "التاريخ" لا يعيه حتى فاعلوه، إنما "يعيه" الذين تفصلهم عنه مسافة زمنية.

قبل طوفان الأقصى كان هناك حصار إعلامي وسيطرة لمشاريع دينية جديدة وللتطبيع وقيم غير فطرية كالشذوذ مثلا.. ما التأثيرات الطويلة المدى التي أحدثها هذا الحدث في نفسية وعقول العرب والغرب على حد سواء؟

استفهامك عن التأثيرات الطويلة المدى يتطلب قراءة المستقبل، ومهما كانت الأدوات التحليلية والاستبصارية، فإن التنبؤات تظل نسبية جدا واحتمالية. ولهذا يقال في فلسفة التاريخ إن دلالة الأحداث التاريخية لا يدركها من يعيشها، ولا يتم الإمساك بمعناها إلا بالتعالي الزمني عليها، إذ إن "التاريخ" لا يعيه حتى فاعلوه، إنما "يعيه" الذين تفصلهم عنه مسافة زمنية تسمح لهم بقراءة الواقعة التاريخية من حيث مآلاتها.

واستدلالا على ذلك يكفي أخذ أي حدث تاريخي، لنتحقق من أن شرط دلالته لا تتبين فعليا إلا بعد الخروج من حدثيته. خذ مثلا أكبر حدث ابتدأ به القرن الماضي، أي الحرب العالمية الأولى، هل كان بإمكان ذلك الفتى الصربي أن يتوقع أن قتله لأمير النمسا خلال زيارته لمدينة سراييفو عام 1914، سيكون شرارة الانطلاق لتلك الحرب الشاملة المدمرة التي حولت دفة تاريخ القرن الـ20؟

عند وقوع الحدث لم يكن الفاعل ولا حتى الصحف التي أوردت الخبر مدركة لدلالة تلك الواقعة ومآلها.

ولذا من الصعب البت في مسألة طوفان الأقصى ومآلاتها المستقبلية الآن. لكن الذي يتبين من التفاعلات التي وقعت خلال الأسابيع التي تلت الحدث أن ثمة تعطيلا لعملية التطبيع. واستعادة لروح الرفض الشعبي لإسرائيل وإيقاظا للضمير الأخلاقي من سباته.

ثمة تزايد وعي عالمي بأن كيان إسرائيل مبني على الأكاذيب والأساطير المختلقة، وأن تاريخ وحاضر أفعالها يؤكدان أنها تشكل حالة عصيان سافر على المستوى الدولي.

ما أثر الأحداث الراهنة على صورة إسرائيل عالميا؟

على المستوى الشعبي ثمة تزايد وعي عالمي بأن كيان إسرائيل مبني على الأكاذيب والأساطير المختلقة، وأن تاريخ وحاضر أفعالها يؤكدان أنها تشكل حالة عصيان سافر على المستوى الدولي، حيث لا تقيم أي وزن للمؤسسات وقرارات الهيئات الدولية.

وكثيرة هي الدول التي بمجرد عدم امتثالها لقرار واحد، يبادر إلى عقابها اقتصاديا، أو حتى عسكريا، بينما نرى إسرائيل منذ عام 1948، وهي تخرق القانون الدولي، وتعربد ضد قرارات الأمم المتحدة، دون متابعة تنفيذية من المحكمة الجنائية الدولية، بل إن حق النقض التي تمتلكه الولايات المتحدة الأميركية يبدو ملكية خاصة لإسرائيل.

يلاحظ البعض أن مفاهيم الجنوب والشمال مثلا بدأت تعود للتداول في المجال العام الإعلامي، هل سيمنح التنوع الثقافي والفكري وحتى السياسي فرصا لحل القضايا الإنسانية أم سيقوضها؟ بمعنى آخر، هل على العرب والمسلمين أن يعودوا للاستقطاب الثقافي والفكري والسياسي لحل قضاياهم؟

لست مع فكرة الاستقطاب الثقافي، لأنها فكرة ساذجة جدا، وقائمة على نظر ضيق لا يستوعب بنية العالم المعاصر التي هي في قيد التشكيل والتسارع في وصل الشعوب والحضارات.

لكنني إذ أرفض الاستقطاب الثقافي لا أقصد بذلك الوقوف ضد الخصوصيات الثقافية والدعوة إلى تجريفها ومحوها من أجل تغريبها، لأن هذا هو أيضا نوع من الاستقطاب المعكوس، الذي يتموقع غالبا في بؤرة المركزية الغربية.

ولذا بدل التقسيم الهوياتي أو وضع الجنوب ضد الشمال، أدعو إلى فكرة استقطاب قيمي، وممكنات هذا الاستقطاب البديل موجودة اليوم، وتحتاج فقط إلى مزيد من التفعيل والتداول.

الاستقطاب الثقافي الذي يفصلنا عن العالم، أو يقطع الجنوب عن الشمال يفقدنا أصواتا داعمة داخل الشمال نفسه.

إن غالبية الشعوب الغربية اليوم ضد إسرائيل، فضلا عن شعوب أميركا اللاتينية وآسيا، ولذا ففكرة الاستقطاب الثقافي الذي يفصلنا عن العالم، أو يقطع الجنوب عن الشمال يفقدنا أصواتا داعمة داخل الشمال نفسه.

وبدل ذلك نحن في حاجة إلى إسناد يقظة عالمية توحد البشرية ضد الظلم والعنف.. وهو أمر ممكن إذا توفرت له أصوات داعمة من الجبهات الثقافية والإعلامية، والمنظمات غير الحكومية.

يلاحظ أيضا أن شعوبا وبلدانا غربية تخالف غالبية السياسات الحكومية للغرب، هل نعيش تشققات في المنظومة الغربية؟ وهل نحن أمام نقلة ثقافية وفكرية وإنسانية تاريخية قد تخدم القضية الفلسطينية؟

أجل، على الرغم من فداحة الخسائر البشرية بفعل العدوان الإسرائيلي، فإن الحدث استعاد القضية الفلسطينية، وأسهم في إيقاظ الوعي العالمي، وزاد من كشف أقنعة إسرائيل.

لكن هذا لا يمنع من التنبيه من جهة أخرى إلى ثغرات فادحة في واقعنا الثقافي والإعلامي.

إنني أقف حزينا أمام ما يحدث في فلسطين من أنهار الدماء والتيتم اليومي لمئات الأطفال، بشكل متزامن مع احتفاليات كرة القدم التي بدل أن تبقى رياضة تحولت إلى أفيون. للأسف إن نمط الحياة الآخذ في التجذر في عالمنا العربي ينحو نحو تجذير شعور فرداني عاجز عن أن يقف موقفا جمعيا مسؤولا.

المناداة بالتخلص من سيطرة المناهج الغربية، أو ما يصطلح عليه اليوم بـ"الديكولونيالية" يدل على انفعال أكثر مما يدل على وعي.

قبل الطوفان كان هناك احتجاج من مفكرين وباحثين عرب على انحياز البحث في الغرب للرؤية الغربية، الآن بدأت تتعالى أصوات عربية بضرورة التخلص من سيطرة المنهج العلمي الغربي وبناء منهج من تراثنا الإسلامي، بمعنى آخر هل خروجنا من التخلف العام مرهون بالتخلص من سيطرة المناهج والثقافة الغربية أم بابتكار منهج عربي إسلامي خاص بنا؟

أعود إلى ما أشرت إليه سابقا لأوضح أن المناداة بالتخلص من سيطرة المناهج الغربية، أو ما يصطلح عليه اليوم بـ"الديكولونيالية" يدل على انفعال أكثر مما يدل على وعي. إن مسألة المعرفة لا تقارب بهذا التشنج العاطفي، بل دعني أقول هناك أفكار غربية أكثر فائدة وإنسانية من بعض أفكارنا الأصيلة.

وتراث الأنوار مثلا، في فصل السلط والتنظير للعقد الاجتماعي، وفرضية حجاب الجهل في الفلسفة السياسية في القرن الـ20.. هي أكثر انسجاما مع روح الاسلام التحريرية من آراء بعض فقهاء الأحكام السلطانية.

لذا يجب أن نكون واضحين في طرح المسائل والنظر في المعالجات بطريقة تحليلية لا تعميمية. أنا ضد إحلال ثقافة الغرب محل الثقافة العربية، وضد التغريب بمدلوله كتجريف للقيم.. لكن ليس هذا مانعا من التفاعل والاستفادة من الناتج المعرفي الغربي في مجالي العلوم الإنسانية والطبيعية.

لذا فالدعوة إلى رفض سيطرة منهج معرفي من المناهج الغربية يجب أن يكون مبنيا على نقد معرفي لا نتاج رد فعل على موقف سياسي لحكومة من حكومات الغرب أو حتى لمجموعها.

المفكر الغربي ليس منفتحا على منتجات الفكر غير الغربي. إنه يحب أن يدرسنا كأساطير وفولكور، ولكنه قلما يقرأ النتاجات المعرفية لأقلام عربية.

لماذا لم يستطع المفكرون والمثقفون العرب خاصة إحداث تغيير لدى الرأي العام العربي والغربي فيما يخص القضية الفلسطينية على الأقل مثلما فعلت المقاومة الفلسطينية الآن؟

هناك استصغار للمفكر العربي في الغرب. ويكفي النظر في مقدار الكتب العربية المترجمة إلى الألسن الأوروبية، لتجدها قليلة جدا، على الرغم مما يبدو من انفتاح لدى الغربي على الثقافات الأخرى.

بالنظر إلى المحتوى سنلحظ أن المفكر الغربي ليس منفتحا على منتجات الفكر غير الغربي. أجل إنه يحب أن يدرسنا كأساطير وفولكور، ولكنه قلما يقرأ النتاجات المعرفية لأقلام عربية.

الإدراك المتزايد للمصير المشترك للبشرية، لم يتحول بعد إلى وعي وفعل مناسبين.

ما أبرز مساحات التشارك والتعاون المستقبلية مع الشعوب الغربية؟ وكيف يمكن وضع حدود التمايز مع مشاريع الهيمنة الخارجية؟

إن تزايد الإحساس اليوم بأن الأرض مسكن مشترك متقارب الأبعاد، وبلا جدران داخلية، هو وضع يقتضي تغييرا عميقا في الوعي والسياسات. لكن هذا الإدراك المتزايد للمصير المشترك للبشرية، لم يتحول بعد إلى وعي وفعل مناسبين.

إرادة البقاء مقدمة في الشعور الإنساني على كيفيات وقيم البقاء، لذا من الطبيعي أن نرى انتباها لتدمير البيئة، لكن بالنسبة لكيفية البقاء وحالات وقيم العيش، فلم يتم الانتباه إليها بشكل كاف.

وذلك لأن إرادة البقاء مقدمة في الشعور الإنساني على كيفيات وقيم البقاء، لذا من الطبيعي أن نرى انتباها لتدمير البيئة، أو ثقب الأوزون، وغيره من الظواهر التي تحمل تهديدا للحياة على الأرض، أي تهديد للبقاء، لكن بالنسبة لكيفية البقاء وحالات وقيم العيش، فلم يتم الانتباه إليها بشكل كاف.

وهنا تحتاج البشرية الى إمعان النظر في كيفيات والحالات وما يتناسب معها من أشكال الوعي والقيم. وللثقافات الإنسانية جميعها ذخيرة من القيم والفلسفات التي يمكن أن تسهم في ترقية الوعي.

فمنذ الأديان التوحيدية ثمة تنبيه إلى فكرة مهمة هي وحدة الجنس البشري. ومنذ الفلسفة الرواقية (القرن الثالث قبل الميلاد) ثمة تنظير لفكرة "المواطنة العالمية"، التي سيتم الانتباه إليها فعليا في القرن الـ20 مع ذوبان المسافات الجغرافية ونفي أثر فيزياء المكان وتضاريسه في التباعد بين الشعوب.

ومنذ (الفيلسوف الألماني) إيمانويل كانط (1724-1804) ثمة توكيد صريح على فكرة السلم العالمي، الذي سيتحول إلى هدف مركزي في عام 1945 مع إنشاء منظمة الأمم المتحدة، التي للأسف ولدت معاقة بفعل امتياز حق الفيتو، وازدواجية تطبيق المعايير.

لكن هذه المؤسسات الدولية، وأمثالها هي على الرغم من نقائصها واختلالاتها الكثيرة، أدوات مهمة وصيغ تنظيمية يمكن أن تسهم من أجل الارتقاء إلى ضبط العلاقات الدولية وترقيتها نحو قيم العدل.

نحن العرب في أمس الحاجة إلى ما جاء في سؤالك، أي خلق مساحات التشارك والتعاون مع الشعوب الغربية، وكذا شعوب بقية دول العالم أيضا.

ونحن العرب في أمس الحاجة إلى ما جاء في سؤالك، أي خلق مساحات التشارك والتعاون مع الشعوب الغربية، وكذا شعوب بقية دول العالم أيضا. إننا في حاجة إلى وعي عالمي يتشارك في بنائه المفكرون والحكماء، دون وصايات سياسية معرقلة.

والوضع الدولي اليوم يحتاج أيضا إلى هيئات عالمية لحكماء ومفكرين وفلاسفة، أي بدل الاقتصار على هيئات تجمع السياسيين أو الاقتصاديين، تحتاج البشرية أيضا إلى هيئات تجمع أهل الفكر لإسماع صوت الحكمة، وخاصة في زمن كهذا الذي صار التأثير فيه بيد الأغبياء والمعاتيه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: طوفان الأقصى فی الغرب من سیطرة یدل على

إقرأ أيضاً:

مصانع العقول: الجامعات التي تغير العالم (الحلقة 5)

فبراير 20, 2025آخر تحديث: فبراير 20, 2025

محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار علمي، جامعة دبلن

في قلب ولاية كاليفورنيا المشمسة، حيث تتراقص اضواء التكنولوجيا وتتلاقى عقول المبتكرين، تقبع جامعة ستانفورد، شامخة كمنارة للعلم والمعرفة. ليست مجرد جامعة، بل هي قصة نجاح ملهمة، بدات بحلم، وتحولت الى صرح عظيم، يضيء دروب الاجيال.

منذ سنوات خلت، تشكلت لدي قناعة راسخة بجودة جامعة ستانفورد، وذلك من خلال علاقات علمية بحثية مشتركة في مجال زراعة الخلايا. فقد لمست عن كثب تفاني علماء الجامعة وتميزهم، وشهدت انجازات علمية عظيمة تحققت بفضل هذا التعاون المثمر.

ولعل ما يزيد اعجابي بهذه الجامعة هو شعار قسم الهندسة الحيوية (الرابط المشترك بيننا) والذي يجسد رؤيتها الطموحة: “بينما نستخدم الهندسة كفرشاة، وعلم الاحياء كقماش رسم، تسعى الهندسة الحيوية في جامعة ستانفورد ليس فقط الى الفهم بل ايضا الى الابداع”. انه شعار ينم عن شغف اعضاء القسم بالابتكار وتطوير المعرفة، ويؤكد التزامهم بتجاوز حدود المالوف.

البداية: قصة حب ملهمة

تعود جذور هذه الجامعة العريقة الى قصة حب حزينة، ولكنها ملهمة. ففي عام 1885، فقد حاكم ولاية كاليفورنيا، ليلاند ستانفورد، وزوجته جين ابنهما الوحيد، ليلاند جونيور. وبدلا من الاستسلام للحزن، قررا تحويل محنتهما الى منحة، وانشا جامعة تحمل اسم ابنهما، لتكون منارة للعلم والمعرفة، ومصنعا للقادة والمبتكرين.

ستانفورد اليوم: صرح شامخ للابداع

تقف جامعة ستانفورد اليوم شامخة كواحدة من اعرق الجامعات العالمية، ومنارة ساطعة للابداع والابتكار. فهي تحتضن بين جدرانها نخبة من الاساتذة والباحثين المتميزين الذين يساهمون بشكل فعال في اثراء المعرفة الانسانية ودفع عجلة التقدم الى الامام. ولا يقتصر دور ستانفورد على تخريج العلماء والمهندسين المهرة، بل تسعى جاهدة ايضا الى تنمية مهارات ريادة الاعمال لدى طلابها، لتخريج قادة قادرين على احداث تغيير ايجابي في العالم.

ويعود الفضل في هذا التميز لعدة عوامل، لعل من ابرزها تبنيها لمفهوم الحريات الاكاديمية. وكما اجاب رئيس الجامعة على سؤال لماذا اصبحت ستانفورد جامعة من الطراز العالمي في غضون فترة قصيرة نسبيا من وجودها اجاب لان: “ستانفورد تكتنز الحرية الاكاديمية وتعتبرها روح الجامعة”. هذه الحرية الاكاديمية التي تمنح للاساتذة والباحثين والطلاب، هي التي تشجع على البحث العلمي والتفكير النقدي والتعبير عن الاراء بحرية، مما يخلق بيئة محفزة للابداع والابتكار.

من بين افذاذ ستانفورد، نذكر:

ويليام شوكلي: الفيزيائي العبقري الذي اخترع الترانزستور، تلك القطعة الصغيرة التي احدثت ثورة في عالم الالكترونيات، وجعلت الاجهزة الذكية التي نستخدمها اليوم ممكنة.

جون فون نيومان: عالم الرياضيات الفذ الذي قدم اسهامات جليلة في علوم الحاسوب، والفيزياء، والاقتصاد. لقد وضع الاسس النظرية للحوسبة الحديثة، وكان له دور كبير في تطوير القنبلة الذرية.

سالي رايد: لم تكن ستانفورد مجرد جامعة للرجال، بل كانت حاضنة للمواهب النسائية ايضا. من بين خريجاتها المتميزات، سالي رايد، اول امراة امريكية تصعد الى الفضاء، لتثبت للعالم ان المراة قادرة على تحقيق المستحيل.

سيرجي برين ولاري بيج: هذان الشابان الطموحان، التقيا في ستانفورد، ليؤسسا معا شركة كوكل، التي اصبحت محرك البحث الاكثر استخداما في العالم، وغيرت الطريقة التي نجمع بها المعلومات ونتفاعل مع العالم.

هؤلاء وغيرهم الكثير، هم نتاج عقول تفتحت في رحاب ستانفورد، وتشربت من علمها ومعرفتها، ليصبحوا قادة ومبتكرين، غيروا وجه العالم. انهم شهادة حية على ان ستانفورد ليست مجرد جامعة، بل هي منارة للعلم والمعرفة، ومصنع للاحلام.

وادي السيلكون: قصة نجاح مشتركة

تعتبر ستانفورد شريكا اساسيا في نجاح وادي السيلكون، الذي اصبح مركزا عالميا للتكنولوجيا والابتكار. فقد ساهمت الجامعة في تخريج العديد من رواد الاعمال الذين اسسوا شركات تكنولوجية عملاقة، غيرت وجه العالم. كما انشات ستانفورد حاضنات اعمال ومراكز ابحاث، لدعم الطلاب والباحثين وتحويل افكارهم الى واقع ملموس.

ولكن، كيف اصبحت ستانفورد شريكا اساسيا في هذا النجاح؟

الامر لا يتعلق فقط بتخريج رواد الاعمال، بل يتعدى ذلك الى عوامل اخرى، منها:

تشجيع الابتكار وريادة الاعمال: لم تكتف ستانفورد بتدريس العلوم والتكنولوجيا، بل عملت ايضا على غرس ثقافة الابتكار وريادة الاعمال في نفوس طلابها. وشجعتهم على تحويل افكارهم الى مشاريع واقعية، وقدمت لهم الدعم والتوجيه اللازمين لتحقيق ذلك.

توفير بيئة محفزة: لم تقتصر ستانفورد على توفير المعرفة النظرية، بل انشات ايضا بيئة محفزة للابتكار وريادة الاعمال. وشجعت على التواصل والتفاعل بين الطلاب والباحثين واعضاء هيئة التدريس، وتبادل الافكار والخبرات.

انشاء حاضنات الاعمال ومراكز الابحاث: لم تكتف ستانفورد بتخريج رواد الاعمال، بل انشات ايضا حاضنات اعمال ومراكز ابحاث، لتوفير الدعم المادي والمعنوي للطلاب والباحثين، ومساعدتهم على تحويل افكارهم الى شركات ناشئة ناجحة.

جذب الاستثمارات: لم تكتف ستانفورد بتوفير الدعم للطلاب والباحثين، بل عملت ايضا على جذب الاستثمارات الى وادي السيليكون، من خلال بناء علاقات قوية مع الشركات والمستثمرين، وعرض الافكار والمشاريع المبتكرة عليهم.

وبفضل هذه العوامل وغيرها، اصبحت ستانفورد شريكا اساسيا في نجاح وادي السيليكون، وساهمت في تحويله الى مركز عالمي للتكنولوجيا والابتكار.

ومن الامثلة على ذلك:

شركة غوغل: التي تاسست على يد اثنين من طلاب ستانفورد، وهما سيرجي برين ولاري بيج.

شركة ياهو: التي تاسست ايضا على يد اثنين من طلاب ستانفورد، وهما ديفيد فيلو وجيري يانغ.

شركة هيوليت-باكارد: التي تاسست على يد اثنين من خريجي ستانفورد، وهما ويليام هيوليت وديفيد باكارد.

هذه الشركات وغيرها الكثير، هي دليل على الدور الكبير الذي لعبته ستانفورد في نجاح وادي السيليكون، وتحويله الى مركز عالمي للتكنولوجيا والابتكار.

ستانفورد: اكثر من مجرد جامعة

ستانفورد ليست مجرد جامعة، بل هي مجتمع حيوي، يجمع بين الطلاب من جميع انحاء العالم، ليتبادلوا الافكار والخبرات، ويبنوا مستقبلا مشرقا لانفسهم ولوطنهم. كما انها مركز للبحث العلمي، حيث تجرى ابحاث رائدة في مختلف المجالات، تساهم في حل المشكلات العالمية، وتحسين حياة الناس.

الخلاصة: ستانفورد، قصة نجاح مستمرة

باختصار، جامعة ستانفورد هي قصة نجاح ملهمة، بدات بحلم، وتحولت الى واقع ملموس. انها صرح شامخ للعلم والمعرفة، ومصنع للقادة والمبتكرين، ومركز للابداع والابتكار. وستظل ستانفورد تلهم الاجيال القادمة، وتساهم في بناء مستقبل مشرق للانسانية جمعاء.

 

مقالات مشابهة

  • كيف تعتزم إسرائيل ضم الضفة الغربية؟
  • الوداد المغربي يعسكر في إسبانيا استعدادًا لكأس العالم للأندية
  • شاهندة المغربي تدير مباراة أوغندا وكينيا في تصفيات كأس العالم للناشئات
  • مصانع العقول: الجامعات التي تغير العالم (الحلقة 5)
  • جامعة سوهاج تستضيف فعاليات اليوم الثقافي الهندي
  • إسرائيل تؤكد هوية أحد الجثامين التي استلمتها من حماس
  • جامعة سوهاج تستضيف فعاليات اليوم الثقافي الهندي لأول مرة على أرضها
  • إسرائيل تواصل عملياتها العسكرية في مخيمات شمالي الضفة الغربية
  • الكشف عن عدد الجثامين التي تحتجزها إسرائيل
  • العميد خالد حمادة: النقاط التي تحتفظ بها إسرائيل في جنوب لبنان ذات أهمية إستراتيجية