إن جوهر المشروع الصهيوني استيطاني ـ اجتثاثي ـ إحلالي، فالصهيونية لم تكن تتوخى، بخلاف الكولونيالية الكلاسيكية، الاستيلاء على وطن، ونهب موارده، والسيطرة على سكانه، باستغلالهم كيدٍ عاملة بسعر رخيص، بل كانت تتوخى بالأحرى خلق مجتمع جديد في مكان مجتمع أصلاني قديم.

ثمة أمر مؤكد: "إن سلوك الجيش الإسرائيلي خلال الصراع كان يندرج في إطار المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية من دون عرب".

وبذلك ظهرت إسرائيل، كـ"جمهورية من الدم والعقيدة"، أي ديمقرطية محددة على أسس طائفية وعرقية، مفتوحة أمام كل أنصار الشريعة الموسوية.

هذا ما يعتقدهُ المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، مؤلِّفُ كتاب "أكبر سجن على وجه الأرض"، والذي تُرجم حديثاً إلى العربيّة أدونيس سالم، عن دار هاشيت أنطوان ـ بيروت 2020.

الكتاب هو "تاريخ لقوى الاحتلال أكثر منه تاريخًا للشعب الخاضع للاحتلال، فهو يسعى لتفسير الآلية التي تم استحداثها لحكم ملايين الفلسطينيين، وليس لاستعادة مراحل حياتهم".

يعرض بابيه في الفصل الأول "الحرب خيار كان ممكنًا تجنّبه"، المشهد التاريخي العام، للمحطات الرئيسية 1948، و1957، و1958، و1967، باعتبارها مراحل من مشروع استعماري متواصل هدفه تهويد فلسطين وسلب هويتها العربية. في عام 1967، يؤكد المؤلف أن إسرائيل لم تكن تواجه أيّ أخطار وجودية. كما أن مناورات جمال عبد الناصرلم  تختلف أبدًا، لا في طبيعتها ولا في نطاقها، عن أيّ من خطواته تصرفاته، إلى ذلك لو اتبعت سياسة إسرائيلية أقل عدوانية واستفزازية على الحدود السورية لنجحت في تهدئة الوضع على تلك الجبهة. ويري بابيه أن الحرب "لم تكن سوى استمرار للتطهير العرقي وتجريد الفلسطينيين من كامل ممتلكاتهم".

في الفصل الثاني "ابتداع السجن الكبير"، يروي الكاتب أنه أثناء حرب 1967، "سيطرت إسرائيل على كامل أراضي فلسطين التاريخية، وفرضت حكمها على أكثر من مليون فلسطيني في الضفة الغربية، و450 ألف آخرين في قطاع غزة". وفي 8 يونيو، أعلن رئيس الحكومة، ليفي إشكول، "أن القدس الجديدة الموحدة الشطرين ستكون العاصمة الأبدية لإسرائيل. وقبيل نهاية الشهر ذاته، أي في 23 يونيو، أعلن إشكول في الكنيست عن بقاء الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية، وأكد أنه لن يُسمح مطلقًا بأيّ وجود عسكري فيهما، سواء كان فلسطينيًا أم عربيًا، ووعد أيضًا بأن تعمل إسرائيل على استعادة السكان حياتهم الطبيعية في تلك الأراضي".

توافقت الحكومة الإسرائيلية على الخطوط العريضة للسياسة الخاصة بهذا الواقع الجديد، من خلال جدل حُسم فيه مصير الأراضي المحتلة، ووضع السكان فيها، ومسألة طردهم، ومستقبل القدس. وكانت آلية العمل الفعلية للتحكم بحياة الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة. تُرك للجيش أن يتولى إدارة شؤونهم، بعد أن تحولوا فجأة إلى شعب بلا دولة، محرومين من أيّ وضع قانوني معترف به دوليًا، يكفل حماية حقوقهم المدنية والإنسانية الأساسية. ويصف بابيه هذه الإجراءات بـ"بيروقراطية الاحتلال" لإقامة سجن فلسطيني كبير.

يشير المؤلف في الفصل الثالث "القدس الكبرى مشروعًا تجريبيًّا" إلى إنشاء الاحتلال "مجال فلسطيني محاصر وسط عدد من المناطق التي استوطنها اليهود، نتيجة لجهود مشتركة أدّت إلى إعطاء السجن الضخم شكله النهائي". وضع بابيه قائمة طويلة باسماء المستوطنات، ومساحات الأراضي المصادرة، والمجالات المُدُنية التي استحدثت. ويصف التخطيط الدقيق والتنفيذ السريع لهذه الخطة خلال السنة الأولى بعد نهاية حرب 1967.

يعرض الكاتب في الفصل الرابع "الرؤية التي قدّمها آلون"، رؤية مستقبلية إلى حد ما، تولت تقديم تلك الرؤية شخصيّتان، هما، إيغال آلون وموشيه ديان.  ويؤكد بابيه أن آلون، "لم يكن يسعى للتوصل إلى تسوية، بل إلى التوسّع. كان أول من بحث عن أفضل طريقة لاستغلال الاستيطان اليهودي لضمان قضم المساحة السكانية من دون دمج السكان". وترجمت هطة آلون إلى استراتيجيتين كبيرتين رسمتا معالم الحياة في الأرض المحتلة لسنوات كثيرة تلت: الأولى استراتيجية جغرافية خدّدت بوضوح الأجزاء المنوي تهويدها واستيطانها؛ والثانية واقع إداري خدّد طبيعة المكافآت والعقوبات المترتّبة على قبول الحكم الإسرائيلي أو رفضه".

يسرد بابيه في الفصل الخامس "مكافآت اقتصادية وعقوبات انتقامية"، الأسس لواقع جديد في الضفة الغربية وقطاع غزة، عن طريق إرساء واقع اقتصادي جديد، يستفيد منه المستوطنون الجدد، بالهيمنة على السكان الأصليين.

تمحور النقاش الإسرائيلي، في بناء مجموعتين من المصالح للسكان الأصليين، فقد تعاملوا منذ البداية مع الحاجات الاقتصادية للسكان الأصليين بصفتها مكافأة على "حسن السلوك"، ووسيلة عقابية ردًا على "السلوك السيّئ".

يؤكد المؤلف في الفصل السادس "التطهير العرقي في يونيو 1967"، أن حزب العمل الإسرائيلي خلال العقد الأول من الاحتلال كان أكثر شؤمًا، ونفذ عمليات تطهير عرقي في المناطق التي احتلتها في عام 1967؛ من منطلق أن تقليص عدد السكان فور انتهاء الحرب هو إجراء مناسب يمكن تطبيقه قبل أن يهدأ غبار المعركة.

في الفصل السابع "إرث حزب العمل من 1968 ـ 1977"، يناقس بابيه أكذوبة "العقد المستنير"، الفترة الممتدة بين 1967 و1977، أي سنوات عشر من فرص السلام والتقدّم للفلسطينيين. لكن الحقيقة كما يرويها المؤلف هي واقع مختلف، قائمًا على ترسيخ حكم أحاديّ أبقي سكان الأراضي المحتلة محتجزين في سجن لمدى الحياة، هم وأولادهم وأحفادهم. ومنذ اليوم الأول من ذلك العقد، كانت حياتهم خاضعة لبيروقراطية رأت فيهم تهديدًا محتملًا واعتبرتهم مصدر خطر، ما لم يخضعوا كليًّا لنزواتها ومطالبها. يري بابيه أن مسؤولية تضليل العالم خلال ذلك العقد على عاتق حزب العمل، وشيمون بيريز، الذي كرم بعد وفاته في 2016، بصفته بطلًا للسلام.

يعرض الكاتب في الفصل الثامن "بيروقراطية الشرّ"، خطوات الخطة الإسرائيلية، فقد انتهت الاجتماعات الإسرائيلية في يونيو 1967 إلى اتخاذ قرار باستبعاد الضفة الغربية وقطاع غزة من أي مباحثات سلام، ونقل الحكم في كليهما إلى الجيش، وإباحة بعض عمليات طرد السكان بشرط عدم تحولها إلى طرد جماعي، ودمج الأراضي المحتلّة بالدولة اليهودية من دون ضمها رسميًّا، ما يعني ترك سّكان تلك الأراضي في حالة ضياع على صعيد الحقوق المدنية كما على الصعيد الشخصيّ.

يشير بابيه إلى تولى زمام أمور السجن الفلسطيني، إلى لجنة المديرين العامّين. التي تأسست في 15 يونيو، وقد جمعت محاضر اجتماعات تلك اللجنة في مجلّدين يحتويان على آلاف الصفحات.

وهكذا كان مشروعهم يتمثل في تعزيز الوجود اليهودي في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة بنسبة أقل.

في الفصل التاسع "في الطريق نحو الانتفاضة (1977- 1987)"، يعرض بابيه الإجراءات الإسرائيلية، ويصف الفترة (1977 ـ 1987) بـ"عهد المستوطنين"، فالحافز للسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة هو ذاته ما دفع القيادة الصهيونية إلى القيادة الصهيونية إلى القيام بتطهير عرقي لمعظم أرض فلسطين في 1948.

"السجن الكبير والمتوّحش الذي فكرت إسرائيل في إنشائه سنة 1963 وأنجزت بناءه سنة 1967، يبلغ عمره مع نهاية الكتاب خمسين سنة". إن "تفكيك هذا السجن الكبير في فلسطين سوف يبعث برسالة مختلفة، أكثر تفاؤلًا ـ لكل من يعيش في هذا الجزء المضطرب من العالم".يصل المؤلف في الفصل العاشر "الانتفاضة الأولى (1987- 1993)"، إلى الحديث عن الانتفاضة الأولى، التي انطلقت شرارتها في 8 ديسمبر 1987، دهست شاحنة أربعة أشخاص من سكان مخيم جباليا للاجئين في غزة، فكانت هذه الحادثة بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى. تفاعل الشعب الفلسطيني مع هذه الحادثة ديسمبر، وأطلق ردًا غير مسبوق في شدّته ونطاقه، إذ لم يحدث منذ سنة 1937 أن شهدت فلسطين مشاركة شعبية كبيرة ضدّ القمع وتجريد الناس من ممتلكاتهم. وبذلك انهار تدريجيًّا نموذج السجن المفتوح.

شكلت السنوات بين 1987 و1993 فترة تأسيسية صيغت خلالها بعض الوقائع القائمة اليوم في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة حتى سنة 2005، وكان ذلك زمنًا أظهرت فيه بيروقراطية الاحتلال سلطتها المطلقة بتحويل السياسات المؤقتة، بما فيها العقوبات إلى سياسات روتينية.

في الفصل الحادي عشر "تمثيلية أوسلو والانتفاضة الثانية"، يصف بابيه اتفاقية أوسلو بـ"التمثيلية"، في 13 سبتمبر 1993، وقعت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إعلانًا للمبادئ، عُرف باسم اتفاقية أوسلو، في حديقة البيت الأبيض برعاية الرئيس بيل كلينتون. يحلل المؤلف فشل أوسلو، بالقول: "كانت عملية السلام طرحًا فاشلًا منذ البداية، لسببين، الأول، فرض التقسيم الجغرافي أو المناطقي كأساس حصري للسلام؛ أما الثاني، فكان إنكار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وإقصائه عن طاولة المفاوضات".

يعرض المؤلف ما حدث في مفاوضات كامب ديفيد 2000، فقد كان العرض الإسرائيلي النهائي خلال محادثات كامب ديفيد في صيف 2000، وتضمن القبول بدولة فلسطينية صغيرة، عاصمتها أبو ديس، من دون أي تفكيك حقيقي للمستوطنات وأيّ أمل في عودة اللاجئين. رفض الفلسطينيين لهذه الصفقة، وترجم الغضب الفلسطيني الأولى إلى الانتفاضة الثانية. نجح الإسرائيليون مؤقتًا في قمع الانتفاضة الثانية، عبر عملية "الدرع الواقي" البربرية في 2002.

يري بابيه أنه "في الضفة الغربية اليوم نحو ثلاثة ملايين فلسطيني يقابلهم نحو 400 ألف مستوطن إسرائيلي. ولقد تمكنت  الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية من استعمار فلسطين بكاملها تقريبًا بغضّ النظر عن كونها أقلّية ديمغرافية. بيد أن هؤلاء المستوطنين أقوى بكثير من الصهاينة الأوائل ومن غير المرجّح أن ينجح أحد في منعهم من السيطرة على ما تبقّى من الضفة بطريقة أو بأخرى. وخلال الفترة ذاتها، أخضعت إسرائيل غزة إلى قمع أقسى بكثير وإلى النموذج الأشدّ وحشية، حتّى اليوم، للسجن المشدّد الحراسة".

يحدثنا الكاتب في الفصل الثاني عشر "نموذج السجن المشدّد الحراسة: قطاع غزة"، عن عملية  بناء مدينة عربية وهمية في صحراء النقب عام 2004، لها حجم مدينة حقيقية وفيها شوارع (أعطيت جميعها أسماء محددة) ومساجد وأبنية عامّة وسيارات، بلغت كلفة هذه المدينة الشبح 45 مليون دولار. وتحولت إلى غزة مزيّفة في شتاء 2006". كان إنشاء المدينة الوهمية "للتحضير للسينايور المتوقع حدوثه في الأحياء المكتظة لمدينة غزة".

يختم بابيه كتابه بالقول: "السجن الكبير والمتوّحش الذي فكرت إسرائيل في إنشائه سنة 1963 وأنجزت بناءه سنة 1967، يبلغ عمره مع نهاية الكتاب خمسين سنة". إن "تفكيك هذا السجن الكبير في فلسطين سوف يبعث برسالة مختلفة، أكثر تفاؤلًا ـ لكل من يعيش في هذا الجزء المضطرب من العالم".

*مؤرخ فلسطيني

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتاب الاحتلال الفلسطينيين العرض احتلال فلسطين كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الضفة الغربیة وقطاع غزة فی الضفة الغربیة فی الفصل قطاع غزة من دون

إقرأ أيضاً:

شتائم خادشة للحياء وفضائح السياسة الأمريكية في كتاب "الحرب" المثير للجدل

 

الرؤية- خاص

إذا كانت الصحف هي المسودة الأولى للتاريخ، فإن كتب الصحفي الأمريكي الشهير بوب وودورد يمكن أن تدَّعي أنها المسودة الثانية؛ إذ إن الاقتباسات من اللاعبين الرئيسيين هي ما لا يمكن لمراسلي الصحف أن يحلموا به إلّا في قصة عاجلة.

الكتاب الجديد لوودورد الذي يحمل عنوان "الحرب"، ويتناول الأعمال الداخلية للبيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، يمثل مسودة ثانية جديرة بالاهتمام، على الرغم من أن قصته ربما كان من الأفضل أن يكون عنوانها "حروب" في صيغة الجمع لا المفرد.

يقدم كتاب وودورد الأخير "الحرب" استكشافًا تفصيليًا من وراء الكواليس للصراعات الرئيسية خلال رئاسة بايدن. ويغطي الكتاب قرار بايدن بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، ويصور الخروج الفوضوي وعواقبه من هذا البلد المسلم، فضلًا عن التعامل الاستراتيجي للرئيس بايدن مع الحرب الروسية في أوكرانيا. كما يسلط وودورد الضوء على نجاح بايدن في توحيد حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستخدام الدبلوماسية للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يقول وودورد إن هذا النهج وضع بايدن كزعيم حازم، وتمكن من اكتساب ميزة تكتيكية على بوتين.

يتعمق وودورد أيضًا في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، موضحًا العلاقة المعقدة بين بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. يصف الكتاب إحباط بايدن إزاء إحجام نتنياهو عن السماح بدخول المساعدات إلى غزة أو الموافقة على وقف إطلاق النار، ويبرز التوازن المعقد والمتوتر غالبًا بين أهداف السياسة الخارجية الأمريكية والسياسة الداخلية لإسرائيل.

من خلال قيامه بالعديد من المقابلات وحصوله على الكثير من الروايات الداخلية داخل الإدارة الأمريكية، يقدم وودورد تصويرًا حيويًا للمناقشات الدبلوماسية ومعضلات السياسة وردود أفعال بايدن الصريحة، وخاصة في تعاملاته مع القادة الدوليين مثل نتنياهو.

كتاب "الحرب" الذي صدر في 15 أكتوبر المنصرم- ككتب الصحفي الأمريكي الاستقصائي، بوب وودورد الأخرى- أحدث ضجة واسعة وأطلق عليه البعض "كتاب الفضائح". فمن خلال مئات الساعات من المحادثات السرية التي أجراها وودورد مع عدد كبير من المسؤولين في البيت الأبيض، يكشف كتابه عن اتهامات لمسؤولين عرب فيما يتعلق بدعم الاحتلال الإسرائيلي بالحرب الدائرة على غزة.

كما يروي وودورد طريقة بايدن وكبار مستشاريه في اتخاذ القرارات المتعلقة بعدوان إسرائيل على قطاع غزة، وكذلك الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وصولًا إلى الصراع على الرئاسة الأمريكية.

في المقابل، يُصوَّر الكتاب الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب كشخصية مزعجة؛ حيث يكشف أنه يتواصل بشكل متكرر مع بوتين حتى بعد الرئاسة، وهو ما يصفه وودورد بأنه أمر مزعج ويعكس نفوذ ترامب المستمر ووجوده المثير للانقسام في السياسة الخارجية الأمريكية.

أسلوب وودورد معروف ويمكن القول إنه فريد من نوعه، كما يوضح هو نفسه قائلًا: "أُجريت جميع المقابلات لهذا الكتاب وفقًا لقاعدة الصحفي الأساسية ’الخلفية العميقة‘، وهذا يعني أنه يمكن استخدام جميع المعلومات، لكنني لن أقول من قدمها". يُترَك القارئ ليتأمل لماذا قالت المصادر ما أخبرته به وودورد. وأيضًا، لماذا صدق وودورد ما قيل له؟ بعد كل شيء، هناك قاعدة أساسية أخرى للصحفي وهي عدم السماح لنفسه بأن تتلاعب به مصادره.

وتحيزات وودورد واضحة، بالنسبة لترامب، فهو "ليس فقط الرجل الخطأ للرئاسة؛ بل إنه غير لائق لإدارة البلاد". وبالنسبة لبوتين، يقتبس تعريف وكالة الاستخبارات المركزية  له بأنه "الذي يتميز بانعدام الأمن الشديد والطموح الإمبراطوري".

ويقع الكتاب في 370 صفحة من القطع المتوسط، إضافة إلى ملاحظات المصادر والفهرس، مقسم إلى ما لا يقل عن 77 فصلًا، بعضها قصير لا يتجاوز الصفحة. إنه نوع الكتاب الذي قد ينتهي الأمر بالعديد من القراء إلى وضع علامات على الصفحات بطريقة أو بأخرى.

يقدم الكتاب فحصًا دقيقًا لنهج إدارة بايدن في السياسة الخارجية وسردًا للآثار الأوسع لهذه الصراعات العالمية على دور أمريكا في العالم.

يتحدث الصحفي المخضرم عن غضب بايدن من نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأسلوب كامالا هاريس الدبلوماسي العلني في مقابل نهجها السري الخاص.

عندما بدأ المؤلف كتابة كتابه، كانت حرب أوكرانيا هي القضية المهيمنة، لكن هجوم حركة حماس، طوفان الأقصى، على كيان الاحتلال الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023 استحوذ على المزيد من العناوين الرئيسية منذ ذلك الحين.

يوم 12 أكتوبر 2023، هبطت طائرة بلينكن في فلسطين المحتلة وذهب مباشرة للقاء نتنياهو في مجلس الحرب، قال نتنياهو: "نحن بحاجة إلى ثلاثة أشياء: الذخيرة، والذخيرة، والذخيرة"، فرد بلينكن: "نحن نقف معكم، نحن نقف معكم، نحن نقف معكم". ثم سأل بلينكن نتنياهو عن وضع المدنيين في غزة؟ كان رد نتنياهو سريعًا: "سنطردهم جميعًا إلى خارج غزة نحو مصر"، تفاجأ بلينكن ولم يعلق.

مثل نظرائهم الإسرائيليين، فوجئ مسؤولو الاستخبارات الأمريكية بالهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر 2023. وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان: "إن هجوم حماس في 7 أكتوبر كان أكبر فشل استخباراتي في تاريخ إسرائيل"، في حين قالت مديرة الاستخبارات الوطنية أفريل هاينز: "لا شك أن هجوم 7 أكتوبر كان مفاجأة". بعد ساعات من هجوم طوفان الأقصى، ينقل وودورد قلق نتنياهو بشكل خاص من أن يشن حزب الله هجومًا على إسرائيل من الشمال إذ اتصل بجاك سوليفان وأخبره بمعلومات كاذبة عن هجوم واسع يقوم به حزب الله، ثم قال له: "جاك، نحتاج منك الآن أن تهدد حزب الله".

بعد أن حصل سوليفان على موافقة بايدن، اتصل بمستشارة السياسة الخارجية ورئيسة هيئة الأركان، كيلي ماجسامين، وأمرها بأن تحرك حاملة الطائرات في البحر الأبيض المتوسط التي كانت تساعد أوكرانيا إلى شواطئ لبنان. لكن القيادة الوسطى الأمريكية اكتشفت أن المعلومات الإسرائيلية عن هجوم حزب الله كاذبة.

إحباط بايدن من كذب نتنياهو

يكشف وودورد عن مدى الإحباط الذي أصاب بايدن تجاه نتنياهو ويصف العلاقة المتقلبة بين الرجلين في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023 ، فبينما أعرب بايدن علنًا عن دعمه القوي لإسرائيل. ففي الخفاء كان مستاءً من نتنياهو وشتمه في كثير من الأحيان بألفاظ خادشة.

وبعد أن اغتالت إسرائيل أحد كبار قادة حزب الله فؤاد شكر، والقيادي البارز في حماس إسماعيل هنية، في أواخر يوليو الماضي، صاح بايدن في وجه نتنياهو عبر الهاتف قائلًا: "أنت تعلم أن صورة إسرائيل اهتزت في جميع أنحاء العالم"، رد نتنياهو: "هذا هنية أحد الإرهابيين، لقد رأيناها فرصة واغتنمناها، وكلما زادت قوة الضربة، زادت فرص نجاحنا في المفاوضات".

لكن إحباط بايدن من نتنياهو ازداد مع استمرار الحرب؛ إذ اشتكى لأحد أقرب مساعديه في البيت الأبيض من كذب نتنياهو باستمرار، قائلًا: "نتنياهو ابن عاهرة، وكذاب لعين وشخص دنيء للغاية"؛ بل ذهب بايدن إلى أبعد من ذلك وقال: "إن 18 من أصل 19 شخصًا يعملون مع نتنياهو كاذبون".

مع ذلك، رفض بايدن وقف إمداد إسرائيل بالأسلحة، واستمر في تقديم مليارات الدولارات من المساعدات، وفشل في منع وقوع كارثة إنسانية في غزة، أو الضغط على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار.

نفاق هاريس

يكشف وودورد أنه حين كانت نائبة الرئيس كامالا هاريس تظهر تعاطفها مع معاناة الفلسطينيين في وسائل الإعلام، غضب نتنياهو منها لأنها تناقضت علنًا مع نهجها الأكثر ودية في اللقاءات الخاصة التي دارت بينهما. يقتبس وودورد من السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل هيرتزوغ قوله عن هاريس: "إنها تريد أن تكون صارمة في الأماكن العامة، لكنها لم تكن أبدًا كذلك في الغرف الخاصة". لكن، لم يحصل مرة واحدة أن اختلفت هاريس جوهريًا مع دعم بايدن المستمر لإسرائيل، يؤكد وودورد.

محادثات ترامب مع بوتين

أحد أكثر الجوانب التي أثارت ضجة الرأي العام الأمريكي حول كتاب وودورد، فهي كشفه عن محادثات خاصة بين بوتين وترامب بعد أن غادر الأخير البيت الأبيض، ينقل الكاتب عن مساعد لترامب أن ترامب اتصل ببوتين سبع مرات منذ أن ترك البيت الأبيض، وبعث إليه سرًا أجهزة فحص فيروس كورونا خلال تفشي الوباء عام 2020 في وقت كانت الولايات المتحدة تواجه نقصًا في الأجهزة.

صحة بايدن

ولعل أبرز ما يكشفه الكتاب عن تدهور صحة بايدن حينما يقول: "تسببت المناظرة الرئاسية في يونيو 2024 مع ترامب في سحب بايدن ترشيحه، ولكن إلى متى كانت صحته العقلية موضع شك؟".

يروي وودورد تفاصيل 3 حملات جمع تبرعات مختلفة قبل عام، في يونيو 2023، عندما أخبره المشاركون لاحقًا أن الرئيس "مثل جدك الخرف البالغ من العمر 87 عامًا" و"لم يكمل جملة واحدة". في مايو 2024، في حملة لجمع التبرعات في وادي السيليكون لحوالي 30 شخصًا، اعتقد الضيوف أنه استخدم جهاز التلقين.

وفي جزء آخر من الكتاب، يروي المؤلف أن وزير الخارجية توني بلينكن كان في زيارة إلى المملكة العربية السعودية كجزء من رحلة إلى الشرق الأوسط مباشرة بعد هجمات 7 أكتوبر على إسرائيل على أمل مقابلة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وقد قيل له أن يكون مستعدًا للاجتماع إما في وقت لاحق من تلك الليلة أو في وقت مبكر من صباح اليوم التالي. وكانت النتيجة أن أبقاهم محمد بن سلمان منتظرين حتى الساعة السابعة صباحًا.

تحدث وودوورد عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وقال إنه "على الرغم من أكثر من 50 اجتماع تخطيط، فإن انسحاب إدارة بايدن (في 2021) من أفغانستان تحول إلى فوضى مدمرة. لقد فشلوا في توقع حالات الطوارئ والتخطيط لأسوأ السيناريوهات. وعندما خططوا، كان الأوان قد فات".

وتضمن الكتاب "أكثر المصادر ثرثرة": على الرغم من عدم الكشف عن هوياتهم، يبدو أن الكثير من الكتاب عبارة عن ذكريات وزير الخارجية الأمريكي توني بلينكين، ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، ومستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، ومنسق مجلس الأمن القومي الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك.

كما اشتمل على "أكثر لغة سيئة"؛ حيث يبدو أن بايدن هو الفائز الواضح بهذه الجائزة المشكوك فيها. يقول بايدن: "بيبي (نتياهو)، ماذا بحق الجحيم (what the f***)؟"، هكذا صرخ بايدن في الهاتف على نتنياهو، وهو مثال ملائم على اللغة البذيئة التي يستخدمها. ومع ذلك، يتساءل المرء لماذا يخبر "صديق" للرئيس الأمريكي وودورد أن بايدن قال له: "لقد أمضيت خمس ساعات ذهابًا وإيابًا، ذهابًا وإيابًا على الهاتف مع اثنين من أكبر الحمقى في العالم - بيبي نتنياهو ومحمود عباس (الزعيم الفلسطيني)".

الحكم العام لوودورد على رئاسة بايدن أنه كانت هناك إخفاقات وأخطاء، "لكن الرئيس بايدن وفريقه سيتم دراستهم إلى حد كبير في التاريخ كمثال للقيادة الثابتة والهادفة".

يُشار إلى أن بوب وودورد صحفي أمريكي ولد في في 26 مارس 1943، وهو الآن في عمر 81. ويعد وورورد من أهم صحفيي التحقيقات الأمريكيين، ومرجعًا في صحفة الاستقصاء في العالم، عرف بأنه مفجر فضيحة "ووترغيت" التي دفعت الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة عام 1974، وظل منذ ذلك الحين يكتب تباعًا عن جميع الرؤساء الأمريكيين، حتى لُقِّب "بحامل مفاتيح البيت الأبيض".


 

"ووترغيت" من أشهر الفضائح الأمريكية، وقعت بعد قيام نيكسون بالتجسس عام 1972 على مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى ووترغيت، مما أدى بعد كشف الواقعة إلى إعلان استقالته في أغسطس 1974 ومحاكمته قبل أن يصدر الرئيس جيرالد فورد لاحقًا عفوًا عنه.

وتمكن وودورد من تأليف نحو 40 كتابًا طوال مسيرته المهنية، صنفت 16 منها بأنها أكثر مبيعًا في الولايات المتحدة، وقد تناول في بعضها أسرار وخفايا عدة حروب تورطت فيها أمريكا في العالمين العربي والإسلامي.

ومن أشهر كتبه، كتابان نشرهما بالتعاون مع الصحفي كارل برنشتاين حول فضيحة ووترغيت، وهما: "رجال الرئيس" عام 1974، و"الأيام الأخيرة" عام 1976. وله مؤلفات أخرى أبرزها:  "القناع" عام 1990، و"القادة " عام 1991، و"أسرار ما قبل وما بعد حرب الخليج"، و"حروب بوش" عام 2002، و"خطة الهجوم" عام 2004، و"الرجل السري" عام 2005 و"حروب أوباما"، وكتاب "الخوف: ترامب في البيت الأبيض" عام 2018، وأخيرًا كتاب "الحرب".

مقالات مشابهة

  • الاحتلال الإسرائيلي يعتقل 15 فلسطينيا من الضفة الغربية
  • «القاهرة الإخبارية»: قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم طولكرم مجددا في الضفة الغربية
  • أمريكا تنتقد عنف المستوطنين في الضفة الغربية: العقوبات ممكنة
  • ماذا يخسر المجتمع والديمقراطية إذا لم يعد الدين يلعب دورًا فيه؟ قراءة في كتاب
  • «شؤون الأسرى»: قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتقلت 12 مواطنا في الضفة الغربية
  • قوات الاحتلال تعتقل 10 فلسطينيين في الضفة الغربية
  • شتائم خادشة للحياء وفضائح السياسة الأمريكية في كتاب "الحرب" المثير للجدل
  • شؤون الأسرى: قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 16 فلسطينيا في الضفة الغربية
  • قوات الاحتلال تعتقل 10 مواطنين من الضفة الغربية
  • لعشاق «المحشي».. فرحة حصاد «الكرنب» تملأ حقول الغربية بلدي ومِورّق