كتاب “العقل الرعوي”: إزالة المساحيق من الوجوه السودانية
تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT
سيف الدين عبد الحميد
كثيراً ما كتب المحللون السياسيون عن الأزمة السياسية السودانية ودبَّجوا الأسفار وأراقوا مداداً جماً على صفحات الصحف حولها بيد أن هؤلاء الكتّاب على اطلاعهم الثر ومعايشتهم اللصيقة للمشكل السوداني وسعيهم المتواصل لكشفه لخاصة السودانيين وعامتهم إلا أنهم لم يمسوا الداء المزمن الخبيث أو قل -- بعاميتنا السودانية -- لم يدخلوا الغريق مثلما فعل د.
ويورد المؤلف بهدف المقارنة بين الحقبتين النوبية والسنارية مفارقة حضارية تعكس في نهايتها سخرية لاذعة، يقول: (... لم يحفل المهاجمون بأبنية سوبا ولا كنائسها ولا بساتينها ولم يفكروا أن يرثوا إنجازاتها فيستقرون فيها ويواصلون مسيرة عمرانها الحسن، وبساتينها الخضلة، وأحوالها الرخية، التي أحسن وصفها ابن سليم الأسواني. ما جرى أنهم أخذوا كنوزها، وسووا كل ما فيها بالأرض، وذهبوا بعيداً عنها، لينشئوا عاصمتين جديدتين، لم تكونا في مبتدئهما، وربما في منتهاهما، سوى قريتين، إحداهما للفونج في سنار، والأخرى للعبدلاب في قرِّي، شمالي الخرطوم)، ص ٢٤٤ وص ٢٤٥.
بهذا يعمد المؤلف إلى تحطيم المسلمات وإزالة المساحيق التي طُليت بها الوجوه السودانية فظلت ترى في مرآتها التاريخية الخادعة وجوهاً زائفة من صنيعة العقل الرعوي ذاته، فعند المؤلف أن سلطنة سنار التي يتغنى بها السودانيون بحسبانها مملكة إسلامية عربية ما هي إلا مسخٌ أقامه التحالف الفونجي العبدلابي على ركام الحضارة النوبية الأثيلة إذ يقول المؤلف: (لم تكن دولة الفونج رغم استعرابها وإسلامها شبيهة بدول النطاق العربي المشرقي بل إن تسويقها الشكلي لنفسها كدولة عربية إسلامية كان في الأساس لأسباب سياسية محضة ومن ذلك خوفها من الغزو الذي هددها به السلطان سليم الذي احتل مصر. في تلك اللحظة أعلن الفونج أنهم عرب بل ومن بني أمية، وكتبوا إلى السلطان سليم يقولون له نحن عرب ومسلمون وأرسلوا له شجرة نسب تثبت عروبتهم...)، ص ١٧٦ وص ١٧٧. لا يرى د. النور حمد في سنار ما رآه الشاعر عمر المغربي الذي مدح سلطانها المنصور "بادي أبو دقن" في قصيدة رائية يقول في بعض أبياتها:
أيا راكباً يسري على متنِ ضامرِ
إلى صاحبِ العلياءِ والجودِ والبرِّ
رويدك إن وافيتَ سنارَ قف بها
وقوفَ مُحبٍّ وانتهز فرصةَ الدهرِ
إلى الملكِ المنصورِ بادي الذي لهُ
مدائحُ قد جلت عن العدّ والحصرِ
سليلِ ملوكِ الفونجِ والسادةِ الألى
علا متنُهم فوق السماكيْن والنسرِ
به أصبحت سنارُ في الأفقِ والصفا
وتاهت على البلدانِ حتى على مصرِ
من أهم ما جاء في هذا السِّفْر الاستثنائي إبراز المؤلف لمؤثرات العقل الرعوي المدمرة وإفرازاته السلبية على ما حل بالدولة السودانية الحديثة الموروثة من الإدارة البريطانية من علل أصابت كيان الدولة في مقتل طيلة الستة عقود ونيف الماضية، لا سيما الثلاثين عاماً الأخيرة، فقد أفرد المولف حيزاً لهذه الإفرازات المستقبحة وأورد لها نماذج في الفصل السادس من الكتاب بدءاً من بداية الفصل في صفحة ١٩٣ حتى ص ٢٣٠، ورغم إلمام الكثيرين بهذه العلل المجتمعية والسياسية والإدارية إلا أن المؤلف طرحها في شكل كوميديا سوداء مفضيةً إلى تراجيديا حالكة السواد.
يخلص المؤلف في ما يتعلق بالحالة السودانية الراهنة إلى القول: (... فما ظللنا نشهده منذ الاستقلال، ليس سوى مسلسل متصل من التراجعات، بلغ أن وضع الدولة ذاتها، التي نتقاتل، من منطلقات جهوية، على تملك مفاصلها، في مهب الريح. وبطبيعة الحال، فإن الأنظمة العسكرية تعبر عن هذا المنحنى الذي اتحدث عنه، أكثر مما تعبر عنه الأنظمة الديمقراطية. غير أن الأنظمة الديمقراطية لم تسلم من الإسهام في هذا التخريب، بل هي التي كانت تتيح، باستمرار، للعسكريين ذرائع الوصول إلى السلطة)، ص ٢٦٢.
ومن ثم يسدي المؤلف نصحه للمثقفين والأكاديميين في الفقرة السديدة التالية: (إن الواجب المباشر الذي ينبغي أن يكون أكثر إلزاماً للمثقف وللأكاديمي الباحث، هو البحث عن أصول الظواهر، خاصة حين تقع البلدان، كما هو حال بلادنا، في دوامات العجز والركود، وتراجع الأخلاق، وتفشي التدين المظهري، وانهيار منظومة القيم النبيلة، واضمحلال التمدن، وتراجع العقول والفهوم، وتسارع وتيرة "بَدْوَنَة" الوجدان، والترويج للتخلف وللجلافة. كل ذلك يجري لدينا في السودان، الآن، على قدم وساق، وبوتائر بالغة السرعة)، ص ٢٦٢ وص ٢٦٣.
بالطبع وكما هو متوقع فقد اعتمد الكاتب على مصادر سودانية وأجنبية في إعداد سِفْرِه، وقد كان محايداً ومتجرداً من كل منطلقٍ آيديولوجي أو غرضٍ سياسي في تنقيبه التاريخي ذي الصبغة السوسيولوجية والآنثربولوجية والآركيولوجية تماماً كما يفعل المصور الفوتوغرافي الذي يضع لك صورتك كما هي دون رتوش إذ يشعرك المؤلف منذ البدء أنه منهمكٌ في عمل جاد يستهدف تحليل العقل الرعوي الذي يطرأ بمحمولاته على الشعوب وعلى نخبها ويعمل على تدمير الحضارة والعمران إذ يتناول الكاتب كل ذلك وفق رؤية موضوعية شاملة تستنطق الماضي البعيد والقريب وتخاطب الحاضر الماثل وتحاكمه. كما تظل أنت -- وأنت تطالع الكتاب -- في حالة استحضار مستمر لما هو كائن أمامك من تأثير العقل الرعوي على بلادنا المرزوءة بقيم البداوة.
إن المؤلف، د. النور حمد، الذي عهدناه في بداية مجرى حياته المهنية أستاذاً للفنون الجميلة بالمدارس العليا يُعمل قلمه في الكتابة مثلما يُعمل ريشته الفنية في الرسم، أي أن الحس الكتابي يتملكه تملك الحس الفني صدقاً وأمانة. لذا أحسستُ أن موثوقية هذا الكتاب وصدق حُجِّيته تشابه تماماً لوحة مباني مدرسة خور طقت الثانوية التي رسمها النور حمد على جدار مسرح المدرسة بمناسبة عيد العلم الثامن في فبراير ١٩٧٨م إذ كانت لوحة المدرسة المرسومة تمثل صورةً حية للمدرسة الحقيقية بحيث تكاد تدخل رجلك في الفصل أو العنبر أو مسجد المدرسة ثم تشعر أنك تطأ الحائط فتسحبها. ونحن لا نملك إلا نشكر د. النور حمد على جرأته البحثية في كشف المحجوب وإزالة الغشاوة التي رانت لزمنٍ طويل على أعين الجميع خواصاً وعواماً.
abunizar1959@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
بسبب خلافات عائلية.. اعتداء على أحد الاشخاص أمام مسجد النور
تعرض المدعو "م.م" مواليد 1966 مساء اليوم للاعتداء بالضرب المبرح من قبل عدد من الأشخاص، وذلك أثناء خروجه من مسجد النور في منطقة المنية قبل أن يفر المعتدون إلى جهة مجهولة،
وقد تم نقل المصاب إلى مستشفى الخير في المنية لتلقي العلاج، بعدما أصيب بجروح ورضوض متفرقة في الرأس ومختلف أنحاء جسده.
وتبين لاحقاً أن خلفية الاعتداء تعود إلى خلافات عائلية.
مواضيع ذات صلة أطلق النار عليه من مسدسٍ حربيّ بسبب خلافات عائليّة Lebanon 24 أطلق النار عليه من مسدسٍ حربيّ بسبب خلافات عائليّة 26/04/2025 23:40:34 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24 طعن زوجته بسبب خلافات عائليّة! Lebanon 24 طعن زوجته بسبب خلافات عائليّة!
26/04/2025 23:40:34 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24 طرابلس.. إطلاق نار في الهواء بسبب خلاف عائلي Lebanon 24 طرابلس.. إطلاق نار في الهواء بسبب خلاف عائلي
26/04/2025 23:40:34 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24 بسبب خلاف عائلي.. أطلق النار على نفسه! Lebanon 24 بسبب خلاف عائلي.. أطلق النار على نفسه!
26/04/2025 23:40:34 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24 قد يعجبك أيضاً
بالفيديو.. محاولة سرقة فاشلة في بلدة لبنانية
Lebanon 24 بالفيديو.. محاولة سرقة فاشلة في بلدة لبنانية
16:27 | 2025-04-26 26/04/2025 04:27:42 Lebanon 24 Lebanon 24 5 أشخاص في قبضة الجيش.. هذه التّهم موجّهة إليهم
Lebanon 24 5 أشخاص في قبضة الجيش.. هذه التّهم موجّهة إليهم
16:00 | 2025-04-26 26/04/2025 04:00:16 Lebanon 24 Lebanon 24 هذا ما ينتظر أقساط المدارس الخاصة
Lebanon 24 هذا ما ينتظر أقساط المدارس الخاصة
16:00 | 2025-04-26 26/04/2025 04:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 وزير الداخلية زار مقر السفارة البابوية معزيا
Lebanon 24 وزير الداخلية زار مقر السفارة البابوية معزيا
15:49 | 2025-04-26 26/04/2025 03:49:01 Lebanon 24 Lebanon 24 مقاطعة إعلامية لباسيل؟
Lebanon 24 مقاطعة إعلامية لباسيل؟
15:25 | 2025-04-26 26/04/2025 03:25:54 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة
"لابسة شريط كاسيت".. إليسا تُثير الجدل بإطلالتها خلال حفلها في باريس شاهدوا ماذا ارتدت (فيديو)
Lebanon 24 "لابسة شريط كاسيت".. إليسا تُثير الجدل بإطلالتها خلال حفلها في باريس شاهدوا ماذا ارتدت (فيديو)
01:05 | 2025-04-26 26/04/2025 01:05:35 Lebanon 24 Lebanon 24 أحمد العوضي يلمّح لارتباطه رسمياً… وزفافه من زميلته الحسناء حديث السوشيال ميديا! (صور)
Lebanon 24 أحمد العوضي يلمّح لارتباطه رسمياً… وزفافه من زميلته الحسناء حديث السوشيال ميديا! (صور)
03:09 | 2025-04-26 26/04/2025 03:09:03 Lebanon 24 Lebanon 24 تحسينات على الأجور الاثنين
Lebanon 24 تحسينات على الأجور الاثنين
22:15 | 2025-04-25 25/04/2025 10:15:00 Lebanon 24 Lebanon 24 آخر خبر عن الرواتب في لبنان.. بيانٌ من وزير العمل
Lebanon 24 آخر خبر عن الرواتب في لبنان.. بيانٌ من وزير العمل
05:42 | 2025-04-26 26/04/2025 05:42:18 Lebanon 24 Lebanon 24 تصغره بـ29 عاماً.. نجم شهير يستعد للزواج للمرة الثالثة (صور)
Lebanon 24 تصغره بـ29 عاماً.. نجم شهير يستعد للزواج للمرة الثالثة (صور)
02:18 | 2025-04-26 26/04/2025 02:18:51 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان
16:27 | 2025-04-26 بالفيديو.. محاولة سرقة فاشلة في بلدة لبنانية 16:00 | 2025-04-26 5 أشخاص في قبضة الجيش.. هذه التّهم موجّهة إليهم 16:00 | 2025-04-26 هذا ما ينتظر أقساط المدارس الخاصة 15:49 | 2025-04-26 وزير الداخلية زار مقر السفارة البابوية معزيا 15:25 | 2025-04-26 مقاطعة إعلامية لباسيل؟ 15:12 | 2025-04-26 إطلاق "تجمع الدستور أولا" ولائحة "الأمل والعمل" للانتخابات البلدية فيديو أصرت على الوقوف بجانب النعش.. راهبة تخرق البروتوكول لتلقي نظرة على جثمان البابا المسجى (فيديو)
Lebanon 24 أصرت على الوقوف بجانب النعش.. راهبة تخرق البروتوكول لتلقي نظرة على جثمان البابا المسجى (فيديو)
23:56 | 2025-04-23 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24 بالفيديو.. رحلة البابا فرنسيس من الطفولة وحتى انتخابه حبرًا أعظم
Lebanon 24 بالفيديو.. رحلة البابا فرنسيس من الطفولة وحتى انتخابه حبرًا أعظم
09:23 | 2025-04-21 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24 ميقاتي: الحل للوضع في الجنوب بتشكيل لجنة أمنية قانونية لتثبيت اتفاق الهدنة ونقاط الحدود
Lebanon 24 ميقاتي: الحل للوضع في الجنوب بتشكيل لجنة أمنية قانونية لتثبيت اتفاق الهدنة ونقاط الحدود
01:00 | 2025-04-15 26/04/2025 23:40:34 Lebanon 24 Lebanon 24
Download our application
مباشر الأبرز لبنان خاص إقتصاد عربي-دولي بلديات 2025 متفرقات أخبار عاجلة
Download our application
Follow Us
Download our application
بريد إلكتروني غير صالح Softimpact
Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24