تاريخ الإسلام في الهند.. من الدولة الأموية إلى الإمبراطورية المغولية
تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT
ظهر الإسلام في بلاد الهند منذ القرن الأول لبزوغه، وترسخ وجوده مع قيام الحكم الإسلامي في المنطقة، واستمر على يد العديد من الشعوب المسلمة من العرب والترك والأفغان والمغول على مدى 8 قرون، وامتد في أوج سلطانه على شبه القارة الهندية بأكملها.
وقد أقام المسلمون مدنيّة باهرة، ازدهرت فيها العلوم والفنون والآداب، وانتشر معها الإسلام وعقائده وثقافته.
كان الاتصال الأول للشعوب الهندية بالإسلام بفضل التجار المسلمين، الذين قصدوا السواحل الجنوبية للهند، وبنوا فيها مساجد لإقامة شعائرهم، ومنها بدأ السكان المحليون يتعرفون على عقائد الإسلام وتعاليمه، واعتنقه بعضهم، فكانت تلك السواحل المهد الأول للإسلام في البلاد، لاسيما سواحل السند ومليبار وجزيرة سيلان التي أصبحت تعرف فيما بعد بـ"سريلانكا"، وذلك منذ النصف الأول من القرن السابع الميلادي.
وفي العهد الأموي بدأ أول الفتوحات الإسلامية باتجاه الهند، عقب الاعتداءات التي تعرضت لها سفن المسلمين من القراصنة المدعومين من قبل ملك السند، فأرسل الحجاج الثقفي والي العراق، حملتين عسكريتين إحداهما بحرية والأخرى برية، باءت كلاهما بالفشل، ثم نجحت الحملة الثالثة التي رأسها ابن أخيه الشاب محمد بن القاسم.
وقد بدأ ابن القاسم فتوحاته من الديبل (مدينة كراتشي بجنوب باكستان) عام 711م، وعلى إثرها بدأت تتهاوى مدن السند الواحدة تلو الأخرى صلحا أو عنوة، وقُتل حاكم السند وسيطر المسلمون على العاصمة أرور ومدينة الكيرج (مومباي)، وملتان في إقليم البنجاب.
عزل الخليفة سليمان بن عبد الملك القائد ابن القاسم، على خلفية العداوة التي كان يكنها لعمه الحجاج، فأثر ذلك في سير الفتوحات في الهند وتوقفت تماما في العهد الأموي، ولم تتوسع في العصر العباسي، وبقي السند (وهو إقليم باكستاني) أقصى إقليم تحكمه الدولة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي.
ومع تغلغل الضعف في كيان الدولة العباسية، انفصل إقليم السند عن مركز الخلافة، ولم يبق له إلا تبعية اسمية، وتشكلت إمارتان للمسلمين في ذلك الوقت هما:
الدولة العربية التي حكمت في الشمال بين عامي 712 و1010م، وعاصمتها ملتان. الدولة الهبارية التي قامت في الجنوب بين عامي 854 و1025م، وعاصمتها المنصورة (حيدر آباد).وبالرغم من توقف الفتوحات، فقد استمر انتشار الإسلام، بفضل الدعاة والعلاقات التجارية والدعوات التي وجهها بعض الخلفاء، واستجاب لها عدد من الأمراء والولاة الهنود فدخلوا في الإسلام، وتبعهم الكثير من رعاياهم.
الدولة الغزنويةبدأت الدولة الغزنوية ذات الأصول التركية، تنطلق من مقر حكمها في أفغانستان، وتهاجم الأطراف الشمالية من الهند منذ عهد مؤسسها سبكتكين، ولما تولى الحكم ابنه محمود الغزنوي، شدد هجماته على الهند، وتمكن من ضم البنجاب عام 1001م.
وفي عام 1010م قضى على الدولة الشيعية التي سيطرت على الحكم في ملتان (جنوب البنجاب) واستولى عليها، ثم هيمن على قنوج عام 1016م، وصالَح ملك كواليار (جنوب دلهي)، وفي عام 1025م أسقط الدولة الهبارية واستولى على المنطقة، كما توجه إلى غوجارات ومنها إلى سومنات وأخضعهما، وحرص على نشر الإسلام في المناطق المفتوحة، والقضاء على مظاهر الوثنية.
وبعد وفاة محمود الغزنوي استمر خلفاؤه في التوسع في بلاد الهند، إلا أن تنافسهم فيما بينهم أدى في نهاية المطاف إلى ضعف الدولة، ثم سقوطها عام 1171م.
قامت الدولة الغورية (إحدى الممالك الأفغانية المسلمة) على أنقاض الدولة الغزنوية، حيث مدت نفوذها إلى ملتان عام 1174م، ثم أخضعت كل البنجاب والسند، واتخذت من لاهور قاعدة لحكمها في الهند.
في عام 1192م انتصر الغوريون في معركة حاسمة على الهنادكة (الهندوسيين ويسمون أيضا البراهميين)، على إثر ذلك سيطروا على مناطق واسعة، وتمكنوا من الاستيلاء على دلهي، وجعلوها عاصمة حكمهم في الهند عام 1193م، وضموا بنارس (شرق الهند)، عقب هزيمة ساحقة لحقت بالهنادكة في معركة شاندوار.
وتوسعت فتوحات الغوريين كذلك باتجاه البنغال شرقا، فدخلوها واستولوا على عاصمتها نادية عام 1197م، وفي عام 1202م استولوا على شمال الهند بالكامل، كما سيطروا على إقليم بهار شرقي البلاد.
وعمل شهاب الدين الغوري على تثبيت الحكم الإسلامي في الهند وتوطيد دعائمه، وأرسى قواعد العدل وعمل على نشر الإسلام والعناية بالعلم. وبعد اغتياله عام 1206م، تنامت الانقسامات الداخلية بسبب التنافس على العرش، مما أدى إلى ضعف الدولة، ثم سقوطها عام 1215م.
سلطنة دلهيلم تعد بلاد الهند تابعة للدولة الغورية بعد وفاة شهاب الدين الغوري، حيث استقل بالحكم فيها قطب الدين أيبك أحد مماليك شهاب الدين، وأسس "سلطنة دلهي" التي استمرت ما يزيد على 3 قرون.
وتعاقبت على حكمها 5 سلالات ذات أصول تركية وأفغانية، بدأت بالدولة المملوكية وتبعتها الدولة الخلجية ثم الدولة التغلقية التي تلتها سلالة السادات.
وانتهت السلطنة بسقوط حكم أسرة لودي. وقد امتدت السلطنة من دلهي جنوبا إلى لاهور شمالا، ومن غوجارات غربا إلى البنغال شرقا.
الدولة المملوكيةقام قطب الدين أثناء حكمه بعديد من الإصلاحات في البلاد، وأحسن إلى الرعية، وبنى المدارس وشيّد مسجد دلهي الكبير بمنارته المشهورة "منارة قطب". ولكنه لم يلبث أن توفي عام 1210م.
وتولى ابنه آرام شاه الحكم من بعده، ولكنه لم يكن كفؤا، فنزع منه الملك حينئذ شمس الدين أيلتمش، واعتلى عرش السلطنة عام 1211م، ونجح في إدارة البلاد والقضاء على الثورات والتصدي للمغول، وكان المؤسس الحقيقي لدولة المماليك في الهند، حيث تمكن من حكم البلاد ما يقارب ربع قرن، قضاها في تنمية البلاد وتطويرها، حتى توفي عام 1235م.
وجاء بعده جماعة من السلاطين، لم يستطع أحد منهم أن يقوم بأعباء الدولة، وفي عام 1266 انتقل الملك إلى أسرة غياث الدين بلبن (إحدى أُسر المماليك)، وتولى الحكم غياث الدين، وكان حاكما قديرا استطاع أن يأخذ بزمام الحكم أكثر من 20 عاما، وبعد وفاته عام 1287م، لم تستقم الدولة، وانتهى حكم دولة المماليك في غضون 3 سنوات.
الدولة الخلجيةفي خضم الخلافات الحادة التي نشبت على الحكم بين المماليك في أواخر دولتهم، استطاع جلال الدين فيروز شاه الخلجي استخلاص الملك لنفسه عام 1290م، وبدأ بذلك حكم الدولة الخلجية الأفغانية، وقمع جلال الدين حينها الثورات وتصدى لغارات المغول.
وفي عام 1296م قتله ابن أخيه علاء الدين الخلجي، وتولى الحكم من بعده، وتمكن من الانتصار على المغول وتعقب فلولهم. واتسعت الدولة في عهده اتساعا كبيرا، فقد استطاع أن يُخضع الهند الوسطى، فاستولى على مملكة غوجارات وجيتور (جنوب الهند) ومملكة تلينكانا ومدينة هاليبيد والمهرات، وضم الدكن التي لم تسقط بيد أحد من السلاطين قبله، وخاض نحو 84 معركة انتصر فيها جميعا، حتى لُقّب "الإسكندر الثاني".
وقد حدد الأسعار في الأسواق ومنع الغلاء ووفر أسباب الرخاء لشعبه وحظر الخمر والمخدرات، وفي الوقت نفسه حد من تنامي الثروات في أيدي الناس، وأخذ نصف غلات الأراضي لبيت المال، لكنه كان قاسيا شديدا على معارضيه.
توفي جلال الدين عام 1317م، وساءت الأحوال العامة في البلاد، وعمت الفتنة، واضطر أعيان دلهي إلى الاستغاثة بحاكم لاهور غياث الدين تغلق، الذي سارع بالزحف إلى دلهي، وقوّض مُلك قطب الدين مبارك آخر الحكام الخلجيين عام 1321م.
الدولة التغلقيةأسس غياث الدين الدولة التغلقية، لكنه لم يعمر طويلا، فقد قتله ابنه محمد عام 1325م، واعتلى السلطة أكثر من 25 عاما، وكان قائدا قديرا ولكنه كان شديد القسوة كثير سفك الدماء، فبدأت الدولة تتفكك، حتى لم يبق منها إلا الربع، واستقلت كثير من الولايات، أشهرها ولاية الدكن في الجزء الجنوبي من الجزيرة الهندية التي تأسست فيها آنذاك الدولة البهنمية الإسلامية عام 1347م.
وعندما تولى ابن عمه فيروز شاه الحكم بعد وفاته عام 1351م عمل على رفع المظالم، وحرص على نشر الإسلام، وثار حضاريا وعمرانيا، فبنى المدارس والمستشفيات والقصور، وأقام الحمامات والجسور والقناطر، وأنشأ الحدائق، وحفر الترع والآبار، وشيد مدينة فيروز آباد.
وبعد وفاة فيروز شاه عام 1374م نخرت الفتن والثورات والحركات الانفصالية بنيان الدولة، وتمكن خواجه جيهان من الاستقلال في منطقة شرق الهند، وأسس دولة عُرفت باسم دولة "ملوك الشرق" وعاصمتها جونبور، وعقب هجمات المغول وتخريب البلاد وعاصمتها دلهي، فقدت الدولة هيبتها، ما أدى إلى استقلال ولاية غوجارات ثم إمارة مَالْوا شمال غربي الهند.
قضى حكام لاهور على الدولة التغلقية، واستولوا على دلهي عام 1414م، وحكمت فيها سلالة السادات نحو 37 عاما، كانت كلها تعجّ بالثورات والفتن، وفي ذلك الوقت كانت العديد من الإمارات قد انفصلت، وأسست دولا مستقلة في الدكن وجنوبور وغوجارات ومالوا والسند والبنغال.
وفي عام 1451م استولت على الحكم أسرة لودي، واستعادت سلطنة دهلي مكانتها في زمنهم، وتوسعت الدولة، وضمت إليها ولاية جونبور من جديد، وامتدت رقعتها حتى تجاوزت حدودها بنارس، ولكن في العقد الأخير من حكمهم الذي بلغ نحو 75 عاما، أخذت الدولة تعاني من الثورات، واستقلت كثير من الولايات، وضعفت الدولة حتى سقطت عام 1526م على يد المغول.
الدولة المغوليةأسس المغول دولتهم في دهلي على يد ظهير الدين محمد بابر عام 1526م، وكانت من أكبر الإمبراطوريات الإسلامية، وأقوى دولة إسلامية قامت في الهند، وأعظمها أثرا، وقد استمر حكمها لأكثر من 3 قرون، وفي أوج قوتها امتدت على أراضي شاسعة، شملت الهند وباكستان وبنغلاديش وأفغانستان وأجزاء من ميانمار (بورما).
وكان جلال الدين أكبر من أقوى سلاطين المغول، فقد حكم 50 عاما، عمل خلالها على توسيع مملكته، التي ضمت أفغانستان والهند الشمالية والوسطى، بما فيها غوجارات والبنغال ومالوا والسند ولاهور ودلهي وكشمير وملتان وبهار وغيرها، ولم يبق من الهند خارج حدود دولته سوى الجزء الجنوبي، الذي ضم مملكتي بيجابور (بولاية كراناتاكا) وكولكنده الإسلاميتين، وقيجا يانكر الهندوسية.
ولتدعيم ملكه واستمالة أصحاب الأديان الأخرى، أنشأ جلال الدين أكبر دينا جديدا أسماه "الدين الإلهي"، وكان خليطا من عدة أديان. وفي عهده كذلك بدأت تظهر الأطماع الأوروبية في الهند، وتأسست آنذاك شركة الهند الشرقية البريطانية، التي منحها بعض الامتيازات.
وعندما تولى الحكم ابنه جهانكير عام 1605م ألغى الأفكار الدينية التي حاول والده بثها، واستقرت أحوال البلاد في عهده، ومكث في السلطة نحو 20 عاما، وشكل عهد ابنه شاه جهان عصر الرخاء المالي للدولة، والازدهار في الفن والعمارة، وبلغ القمة بالصرح الفريد "تاج محل" الذي شيده تخليدا لذكرى زوجته.
وكان أورنك زيب هو خاتم السلاطين العظام، فقد حكم ما يزيد على 50 عاما، تابع فيها الفتوحات حتى استولى على ولاية أراكان على حدود ميانمار، وضم ولاية جانكام وأخضع منطقة التبت، وسيطر على جنوب الهند متمثلا بمملكتي بيجابور وكولكنده، وقضى على الثورات، كثورة ستنامى والراجبوت والمراهتا، وثبت دعائم العقيدة والدين، وبنى المساجد والمستشفيات ودور العجزة.
وبعد وفاته عام 1707م، بدأت دولة المغول تتهاوى، بسبب الحروب الداخلية والصراعات على العرش والثورات المتعددة وحركات الانفصال، وكان هجوم ملك إيران نادر شاه ضربة قاضية للدولة، ثم أطاحت هجمات أحمد شاه الدراني الأفغاني بما بقي منها.
وفي الوقت نفسه، كان النفوذ الأوروبي قد نخر عظام الدولة، وسيطرت الشركات الأوروبية على البلاد، عبر استغلال الامتيازات التجارية التي منحت لها، ثم تكوين الجيوش التي استعمروا بها البلاد، وتحكم الإنجليز في السلاطين، الذين أصبحوا ألعوبة في أيديهم، ومع سقوط آخر حكام المغول "بهادر شاه الثاني" عام 1857م، سقطت دولة الإسلام في الهند، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.
التأثير الحضاريكان للإسلام في الهند تجربة فريدة في التعايش مع طيف واسع من الديانات واللغات المتعددة والشعوب المختلفة من الهنود والعرب والترك والأفغان، وشكل حضارة تمتعت بنسيج امتزجت فيه خصائص متباينة، أنتجها التفاعل والتبادل الحضاري بين العناصر المختلفة في المجتمع، وقد ترك الوجود الإسلامي الطويل في بلاد الهند، الذي امتد 8 قرون، أثرا بارزا في الجانب الحضاري، لاسيما النظم الإدارية والدين واللغة والعمارة والفنون والعلوم والآداب.
ويظهر ذلك جليا في انتشار الإسلام بين عدد كبير من الهنود بنسبة تصل إلى 14.2% إذ بلغ المسلمون هناك 172 مليون نسمة (وفق الإحصاءات الرسمية لعام 2011). كما أثرت العقيدة الإسلامية في تنامي الفكر التوحيدي بين الهنود، وظهور العقائد التوحيدية المحلية، ويرجع هذا التأثير إلى حد كبير إلى جهود العلماء والحركات الدينية والصوفية التي عملت على نشر الإسلام، وعلى الرغم من قيام بعض الفاتحين بإزالة مظاهر الوثنية في البلاد، فإنهم لم يجبروا الناس على اعتناق الإسلام.
وفي مجال اللغة، أفضى الحكم الإسلامي إلى إيجاد لغة جديدة هي "اللغة الأردية"، التي تأثرت إلى حد كبير باللغة العربية، وتعد لغة رسمية في الهند، ومن أكثر اللغات شيوعا فيها، ويتكلم بها المسلمون وغيرهم.
وقد خلف المسلمون كذلك، تراثا فنيا ومعماريا مذهلا، تمثل في المباني والقصور والحمامات والحصون والمساجد والمقابر بطرزها المعمارية المميزة، وزخارفها ونقوشها البديعة، التي اعتمدت على الأشكال الهندسية والخط العربي، وتبرز شواهد كثيرة على التميز العمراني الإسلامي في الهند، ويمثل ضريح "تاج محل" على سبيل المثال، أحد أبرز المآثر المعمارية في العالم.
واهتم المسلمون بالعمران فشقوا الطرق وحفروا الترع والآبار وشيدوا الجسور، وقد برع المغول في فن تنسيق الحدائق، التي احتفظت كشمير ببعض منها، وارتقى المسلمون في الهند بفن الرسم والتصوير والموسيقى، وقد اخترعوا أدوات موسيقية، واستحدثوا نوتات جديدة.
ومن أبرز إنجازاتهم أنهم نشروا العلوم والمعارف والآداب وارتقوا بها، وبنوا المدارس والمعاهد العلمية واهتموا بالمكتبات وأقاموا المراصد، وشجعوا التأليف ونشطت في زمنهم حركة الترجمة في شتى المعارف، وتجلى ذلك في التراث المعرفي والأدبي الذي خلفوه.
وطور المسلمون نظم الحكم والقوانين الإدارية، وكان الحكم في عهد المغول قائما على الوحدة الوطنية، بغض النظر عن الدين والعرق. ومن أرقى القوانين التي سنّوها، قانون ضمان الدولة للعجزة والمرضى. وأصلح المسلمون الأنظمة المالية وقوانين الضرائب ونظام القضاء، وازدهرت التجارة والصناعة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: على نشر الإسلام الحکم الإسلامی الإسلامی فی جلال الدین الإسلام فی فی البلاد فی الهند وفی عام فی عام
إقرأ أيضاً:
«ملحمة التأسيس».. تاريخ ممتد لثلاثة قرون..
خالد المرعيد*
يُعد يوم التأسيس مناسبة وطنية لاستحضار تاريخ المملكة العربية السعودية، فهو يعبر عن تاريخ مجيد وذلك لامتداده لثلاثة قرون، كما إنها ذكرى وطنية وفخر لأبناء الوطن السعودي وكما قال الشاعر: “ومن لم تكن أوطانه مفخرًا له.. فليس له في موطن المجد مفخر..”
في هذه المناسبة يستحضر من خلالها الأحفاد تضحيات الأبناء والأجداد، ويستلهمون الدروس والعبر، فبهذا اليوم تتدفق مشاعرهم الوطنية بالحب والانتماء والاعتزاز بالوطن وقادته وموروثهم العريق والفريد والممتد الذي يحفز لمزيد من البناء والتقدم والازدهار والتطور وملهم للأجيال نحو التقدم والعلو في جميع المجالات التي من شأنها رفعة هذا الوطن العظيم.
أخبار قد تهمك الدكتور محمد بن عايض القرني: احتفاء بيوم التأسيس وتعزيز الهوية الوطنية 22 فبراير 2025 - 1:22 مساءً القيادة الإماراتية تهنئ خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد بمناسبة ذكرى يوم التأسيس 22 فبراير 2025 - 12:33 مساءًفي العام 1727م -1139هـ تأسست الدولة السعودية الأولى بقيادة الأمام البطل محمد بن سعود -رحمه الله- ولاستشعار عظمة هذا اليوم التاريخي أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- في يوم 24 يناير من عام 2022م/1443هـ أمرا ملكيا بأن يكون يوم 22 فبراير من كل عام يومًا لذكرى تأسيس الدولة السعودية.
عمق تاريخي مجيد
إنّ احتفالنا كسعوديين بيوم التأسيس هو احتفاء شعب عظيم له عمق تاريخي مجيد يعبر عن مدى تلاحمنا واتحادنا وصمودنا أمام التحديات والأزمات، وكشعب سعودي يفخر بماضيه وحاضره ويتطلع إلى مستقبل مشرق مع رؤية 2030 الذي يقودها عراب الرؤية وقائد التغيير صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وبتوجيهات من سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك الحزم والعزم -حفظه الله-.
صراع بين القوى المحلية والقبلية
كانت حالة البلاد قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى تعاني من الانقسام والتفكك والفوضى واستمر هذا التشرذم قرونا عديدة بعد الخلافة الراشدة، وكانت نجد قبل قيام الدولة المركزية السعودية في حالة حروب ونزاعات ومجاعة وجهل وفقر، ويعيش الإقليم صراع بين القوى المحلية والقبلية، ولم تعرف حكما مطلقًا حيث كانت معزولة عن الحياة السياسية بسبب صعوبة التنقل والسفر.
كانت نجد تعيش في رعب دائم وخوف منقطع النظير ولم يعرفوا الحرية والأمن والاستقرار في ذلك الزمن البائس، وكان انعدام الأمن هو السائد والقتل والسلب والنهب، وذلك في غياب سلطة دولة مركزية تقوم بأعباء الدفاع عن نفسها وتثبت الأمن بحزم وقوة، وغياب الأمن دومًا وعبر التاريخ وكما هو معروف هو العامل الرئيس في تدمير المجتمعات وانهيارها وانحطاطها، ولكن إرادة الله وحكمته قيضت لهذه الأرض وهذه البلاد من يجمع شتاتها ويوحد كلمتها تحت راية واحدة ويبسط الأمن بقوة وعدل وحزم.
حينما توحدت وتأسست هذه البلاد العظيمة على يد الإمام البطل العظيم محمد بن سعود -رحمه الله-، كان الأمن هو العنصر الحاسم في تكوين الدول واستقرارها واستمرارها وازدهارها.
المجال العسكري
نجد الفكر العسكري لدى الإمام محمد بن سعود يشمل العقيدة العسكرية وهو المذهب العسكري الذي تتخذه الدولة لبناء جيشها وتأسيس كل مجالاتها العسكرية، وهي مجموعة المبادئ والقيم التي تحكم أداء الجيش وتخدم المصالح العامة للدولة.
والعقيدة العسكرية هي مجمل المفاهيم والمبادئ والسياسات والتكتيكات والتدريبات والأساليب المتخذة لضمان كفاءة تنظيم وتدريب وتسليح وإعداد وتوظيف المؤسسة العسكرية لوحداتها التكتيكية والخدمية، كما أنها تعمل على الربط بين النظريات والتاريخ والتجارب والخبرات العملية، وهي ترتبط بالعقيدة الشاملة للدولة.
المفاهيم الحربية
والفكر العسكري (العقيدة القتالية)، وهي الإخلاص والولاء للذين آمنوا بذلك لتحقيق الوحدة الوطنية ومحاربة الصعوبات التي تكتنفها نظراً لتطلعهم مع اللائمة لتحقيق الغاية القصوى وهي إيجاد الأمن في هذه الدولة وتحقيقه على أرض الواقع للدولة السعودية الأولى وللإمام محمد بن سعود في ذلك الوقت تعتمد على مبادئ الحرب مثل، تحقيق الوحدة الوطنية في أقوى سماتها ووحدة القيادة والتعاون والتكامل.
وكانت المبادئ والمفاهيم الحربية المتبعة في ذلك الوقت خليط مابين المبادئ الحربية والأساليب التي تم اكتسابها خلال الخبرات والمعارك والحروب التي حدثت في ذلك الزمن.
الاستراتيجية السياسية العسكرية
وكانت استراتيجية الإمام محمد بن سعود واضحة المعالم في تأسيس دولة مركزية تبسط الأمن والنظام وتوحيد البلاد والعباد تحت قيادة حازمة وعادلة، وتنهي حالة التشرذم والانقسام والفوضى السائدة لفترة طويلة من الزمن.
فقد كان الإمام محمد بن سعود يشرف ويهتم بالشؤون العسكرية للدولة، نظرًا لأهميتها في تحقيق الأمن والوحدة، فحرص على إعداد جيش قوي عن طريق تدريب الجيش وتسليحه، كما كان يتولى قيادة بعض المعارك بنفسه، لما لذلك من دعم كبير لمعنويات الجيش وفي حال غيابه يخلفه ابنه عبدالعزيز بقيادة الحملات العسكرية.
وكان الإمام محمد بن سعود إضافة إلى مهاراته السياسية يتحلى بمهارات قيادية عسكرية حربية تتوافق مع أهدافه السياسية، وتظهر حسن سياسته واستراتيجيته الناجحة ودهائه بمنع اتحاد اعدائه ضده في توقيت حرج، فقد كان يفاوض أحد خصومه مقابل منع تحالفه مع الخصم الآخر، وحتى يتخلص من معركة غير متكافئة بالقوى والوقت والظروف، وهذا يدل على الاستراتيجية السياسية العسكرية الناجحة لدى الإمام محمد بن سعود ودليل على بعد نظره وتفوقه في إدارة الحروب والصراعات والسعي بنجاح إلى تحقيق أهدافه السامية.
وعندما لاتسمح له الظروف بقيادة الجيش، يختار لقيادة الحملات والمعارك الحربية التي يقوم بها خيرة القادة من تتوفر فيهم الكفاءة الحربية والقيادية والشجاعة والولاء والإخلاص، وكما هو معروف القادة الأكفاء المخلصين هم العامل الحاسم في تحقيق النصر عبر التاريخ الطويل للحروب.
وكان من أهم القادة الذين اعتمد عليهم ابنه الإمام عبدالعزيز والذي كان قائدًا مميزًا وعظيمًا، وحقق الكثير من الانتصارات في وقت والده، وبعد ذلك عندما أصبح إمامًا بعد وفاة الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-.
الأساليب العسكرية الحربية
ومن الأساليب العسكرية الحربية التي يتبعها الإمام بن سعود الحرص على تحقيق المفاجأة وهو مبدأ حربي مهم وحاسم لتحقيق النصر. ومن أساليب القتال لديه التحركات السريعة والخاطفة لمفاجأة أعدائه في وقت ومكان غير متوقع لا يكون فيها الأعداء مستعدين، وهذا من التكتيكات الحربية الناجحة والتي تطبق حتى الآن.
هذه الأساليب تستخدم في أثناء العمليات الهجومية عندما يهاجم الأعداء في عقر دارهم.
أما في العمليات الدفاعية فكان الإمام محمد بن سعود يستخدم الأساليب الدفاعية التي تمنع العدو من تحقيق المفاجأة، وذلك بإرسال عناصر من الاستطلاع (السبور) أمام مواقعه حتى يعرف نوايا وقوة العدو وطرق تحركاته، ويتبع بالدفاع تحصين البلاد وتأمينها من الهجوم الخارجي بإنشاء القلاع والحصون والقصور المحصنة.
والحصون هي استحكامات حربية تبنى في مواقع استراتيجية على سفوح الجبال وفوق التلال وفي مواقع مشرفة وعالية للتحكم بالأراضي المحيطة، وتميزت القصور في نجد في تلك الحقبة بالإضافة إلى أنها مقر للسكن بأنها قلاع حربية. وكانت محمية بالأبراج ومزودة بوسائل الدفاع من أماكن للرمي وسقاطات وغيرها، وقد بني في الدرعية عدد كبير من القلاع والقصور المنيعة ومن أهمها قصور حي الطريف وقصر سلوى وقصر غصيبة.
ومن أهم الطرق والأساليب التي كان يتبعها الإمام محمد بن سعود عندما يتخذ قرارًا حربيًا هو حصوله على المعلومات الوافية عن العدو والطرق المؤدية له بواسطة العيون التي تزوده أمام الجيش في أثناء الدفاع والهجوم، ويسمى بالمفهوم الحالي الاستطلاع حتى نمنع العدو من مفاجأتنا.
وكذلك جمع المعلومات بواسطة عناصر متخفية ما يسمى بالعيون، هذا بالمفهوم المعاصر هو الاستخبارات التي يعتمد عليها بصنع القرار الحربي لكي يصبح القرار ناجحًا ومؤديًا إلى النصر.
حروب ومواجهات
خاضت الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- والذي دام أربعين عامًا الكثير من المعارك والحملات الحربية، وكانت حياة الإمام محمد بن سعود حافلة بالتضحيات والجهود الكبيرة لتحقيق أهدافه بتأسيس الدولة والكيان السعودي وتحقيق الأمن والوحدة، فقد خاض في سبيل هذه الأهداف حروبا ومواجهات حتى تكللت جهوده الجبارة بالنصر وذلك بتوحيد أراض شاسعة من شبه الجزيرة العربية.
وقد تعرض في بداية تأسيسه لدولته الفتية للكثير من الصعوبات والمتاعب والمعارضة من قبل بعض الخصوم الذين لم يؤيدوا كيان الدولة المتحد القوي، ومن هؤلاء دهام بن دواس في الرياض والذي خاضت الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود الكثير من المعارك والوقعات معه ولفترة ليست قصيرة، ومن أشهر هذه المعارك والوقعات: وقعة الشياب ووقعة الوشام ووقعة العبيد في سنة 1746م /1159هـ، وكذلك وقعة البنية ووقعة مقرن ووقعة صياح والخريزة في سنة 1747م / 1160 هـ، ووقعة الحبونية في سنة 1749م/ 1162هـ، ووقعة البطحاء في سنة 1750 م / 1163 هـ، وأيضًا وقعة أم العصافير في سنة 1757م /1170هـ، واستمرت هذه المعارك طويلاً ضد دهام بن دواس (استمر الصراع 27 عامًا) حتى انتهت بهزيمته وهروبه بعد وقعة هدم المرقب في سنة 1773م/1187هـ.
وهنا تتجلى سمات هذا القائد العظيم الإمام محمد بن سعود والتي تميزت بقوة الشخصية، والطموح والقيادة والجرأة والمخاطرة المحسوبة والكفاءة الحربية والسياسية، والتي يتصف بها عظماء القادة العسكريين السياسيين الذين صنعوا التاريخ وتحققت على أيديهم الأحلام العظيمة الكبرى، مثل تأسيس وتكوين الدول وتوحيدها، على الرغم ما يواجهونه من صعوبات وتحديات جمة.
فقد كان الإمام محمد بن سعود من فرسان الدرعية وقادتها الشجعان حيث شارك في الدفاع عنها وعن حملاتها العسكرية، وقد خرج مع زيد بن مرخان نحو العيينة في حملة عسكرية كانت الغلبة فيها لجيش الدرعية، ليتسنى له بعد ذلك العودة للدرعية ليتولى الحكم ويؤسس الدولة السعودية الأولى.
فقد تمكن بفكره الثاقب واستراتيجيته الصائبة أن يؤثر ويقنع أطياف المجتمع المختلفة بفكرة الوحدة مما دفعهم للمشاركة والتكاتف في سبيل تحقيقها، فكان الإمام محمد بن سعود يرسل من الدرعية الدعوة للبلدان والقبائل التابعة له للمشاركة في عمليات التوحيد، فيقومون بدورهم بإرسال مجموعة من الفرسان والجند إلى مكان المعركة في التوقيت المتفق عليه.
الأسلوب الحربي للإمام المؤسس
وأسلوب الإمام محمد بن سعود الحربي في حشد قواته كان يعتمد على اتباعه بصفتهم قواته الحربية، ويتم تجميعهم من مكان إقامتهم بطريقة إلزامية أو تطوعية عندما يريد الإمام القيام بغزو إحدى المناطق أو الإغارة على بعض القبائل وتسمى هذه الطريقة بالنفير.
وتتلخص كيفية إعداد هذا الجيش بأن يصدر الإمام بصفته القائد العام للغزو أوامره إلى الأقاليم بأن يُعد كل منهم عددًا محددًا من الجنود مزودين بالسلاح والعتاد والطعام للخروج معه، كما يرسل رجالاً من الدرعية إلى جميع البوادي حتى يجمعوا رجال القبائل من اتباعه إلى الغزو، وكان الإمام يحدد للجميع ميعادًا محددًا عند مورد مياه معروف يجتمعون عنده للخروج إلى وجهتهم.
كان هذه الأسلوب في التجنيد يؤمن له أعدادًا كبيرة دون أن تتكلف الدولة ميزانية ضخمة لجمعهم وتجهيزهم. وعلى ذلك نجد أن الدولة السعودية الأولى لم يكن لديها جيش نظامي على الرغم من اتساعها، وكانت جيوشها مؤقتة بحيث يعود المقاتلون إلى بلدانهم بعد انتهاء مهمتهم بأستثناء بعض الحاميات العسكرية المرابطة في الحصون لحماية بعض المناطق وحفظ الأمن فيها، إضافة إلى بعض الحرس الخاص والدائم للحاكم في الدرعية على أنه قد وجدت مجموعات مقاتلة يتم تنقيتها واختيارها من قبلة أئمة الدولة السعودية الأولى ويطلق عليهم “المنقية” وهم عبارة عن ثلاث مئة رجل مدججين بسلاحهم ولديهم الخبرة الكافية والكفاءة القتالية لأي مهمة تؤكل إليهم حتى أن الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود قام بوضع أماكن إقامة لهم في الدرعية ويدربون بعض المجموعات القتالية لذلك وقد أسكنهم الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود في الدرعية وتوفير الحاجات اللازمة لهم كما يذكر ذلك “بوركهارت” في كتابه عن الدولة السعودية.
ولم يكن على الدولة أن توفر للمقاتلين السلاح أو الزاد، بل أن كل مقاتل يجهز نفسه بأسلحته ودابته وزاده، ولا يتقاضون رواتب مقابل خدمتهم العسكرية، بل كانوا ينالون أربعة أخماس الغنائم التي يحصلون عليها كما في الشرع الإسلامي.
ولم يكن ثمن تحقيق رؤية ومشروع الإمام محمد بن سعود العظيم سهلاً أو بسيطًا وكان طريقه غير معبد بالورود وكما قال الشاعر أحمد شوقي:
” وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا،
وما استعصى على قوم منال منال.. إذا الأقدام كان لهم ركابا..”
فقد واجه في مرحلة التأسيس الكثير من الصعوبات والتحديات كأي مشروع عظيم، مثل تأسيس وتكوين دولة ذات كيان موحد، نظرًا لأن البعض لديهم مصالحهم الفردية ضد مشروع الوحدة والوطن الكبير فقد كان في معارك دائمة لضبط الأمن، وبذل الكثير من التضحيات ومنهم أبناء الإمام محمد بن سعود (فيصل وسعود) فقد استشهدوا -رحمهم الله- أثناء المعارك ولكن ذلك لم يثن من عزم الإمام على الوصول إلى أهدافه بتحقيق الوحدة والنهوض بالمنطقة.
وقد سار الإمام محمد بن سعود ومن بعده من أئمة الدولة السعودية على تطبيق أحكام الشريعة المطهرة وتنفيذها بعد أن كانت قبل قيام الدولة يكتنفها صعوبات في تطبيق ذلك.
فقد كان من صفات الأئمة الذكاء وأيضاً الرأي السديد ويستعينون بالمستشارين والأعيان وطلاب العلم كلاً في تخصصه.
وقد سار نظام هذه الدولة المباركة على أحكام الشريعة الإسلامية المطهرة التي كان من الصعوبة تطبيقها قبل الحكم السعودي.
التأسيس والنواحي الحضارية
ولم تعتمد مرحلة التأسيس في عهد الإمام محمد بن سعود على الحملات العسكرية فقط، بل كان العمل على النواحي الحضارية مواكبًا لما لها من أهمية في بناء الدولة، وقد سن الأنظمة والقوانين التي تنظم الشؤون العامة والخاصة، استنادًا على الشريعة الإسلامية والأخلاق العربية النبيلة.
ونظرًا للتغير الكبير الذي حدث في الأوضاع الأمنية في عهد الإمام محمد بن سعود، فقد طبق النظام بصرامة وعدالة ليكون رادعًا لأفراد المجتمع عن ارتكاب الجرائم والمخالفات، وكانت الدولة تكافئ من يمنع وقوع السلب والنهب والاعتداء على البلدان والقبائل، وتعاقب من لديه القدرة على ردع ذلك ولم يفعل.
مثل هذه الأنظمة والإجراءات الأمنية في ذلك الزمن يدل على الفكر الأمني المتقدم، وقد سبق الإمام محمد بن سعود عصره في هذا المجال، فعندما تطبق الدولة الأنظمة بصرامة وعدل على الجميع وتعاقب المخالفين وتكافئ من يساعد على تحقيق النظام والأمن، فإن ذلك يضفي شعورًا بالطمأنينة لدى الجميع، والاقتناع بفكرة الدولة وتأييدها مما يحفز أفراد المجتمع للدفاع عن الدولة مما يضمن لهم الاستقرار والأمن حتى يعيش الناس حياة آمنة مستقرة مزدهرة وهذا شجع الكثير للانضمام إلى تأييد الإمام محمد بن سعود في بناء دولته الفتية.
أيقونة الإنجاز والتقدم
من خلال تحليل هذه الشخصية الوطنية العظيمة وإنجازاتها المدهشة غير المسبوقة، التي أسست دولة وكيانا سياسيا قويا مترامي الأطراف بإمكانيات محدودة، وفي ظل ظروف بالغة القسوة ومعارضات لمشروعه الحيوي، يتضح مدى عمق الفكر العسكري والاستراتيجي الذي يتكامل مع الفكر السياسي الذي يتحلى به الإمام العظيم محمد بن سعود -رحمه الله-، ويتضح أن هذا الفكر سابقًا عصره ويستحق مزيدًا من الدراسة والتحليل.
فقد وضع استراتيجية واضحة المعالم وقادرة على الصمود في وجه المصاعب والأزمات والتحديات ومقنعة بشدة لاتباعه ومؤيديه، معتمدة على مرتكزات هامة وصلبة، فكره العسكري واستراتيجيته اعتمدت على توفير الأمن الذي هو حجر الأساس في تكوين وازدهار واستقرار الدول، وتوحيد البلاد والعباد تحت قيادة واحدة ودولة مركزية لها سلطة وهيبة، وكذلك على عقيدة إسلامية صافية مطبقة للعدل والنظام وحفظ الحقوق للجميع، مما سمح للأبناء المنطقة ممارسة حياتهم الطبيعية الآمنة، وازدهرت التجارة والعلم وأصبحوا تحت كيان ووطن واحد متحابين ومتعاونين لما فيه خيرهم جميعا.
وقد نهض الإمام محمد بن سعود بهذه المنطقة المنسية البائسة، والتي كانت خارج التاريخ لردح طويل من الزمن بنهضة عملاقة، نقلها من التخلف والانحطاط إلى الرفعة والعز والمجد وأسس وطنا شاسعا عظيما قابلا للبقاء والاستمرارية، ويعد مفخرة للأجيال المتعاقبة.
كل هذا بفضل الله ثم بفضل جهود الإمام محمد بن سعود العظيمة التي تستند على فكر عسكري ورؤية استراتيجية أثبتت نجاحها وتفوقها بدليل تحقيق مشروع الدولة السعودية العظيمة، في وقت وظروف كان تحقيق مثل هذا الحلم أشبه بالمستحيل.
رحم الله الإمام محمد بن سعود ورحم الله أجدادنا اللذين قدموا التضحيات لتبقى لنا مصدرًا للفخر والاعتزاز والالهام ببذل كل ما أوتينا من قوة وجهد للحفاظ على تلاحمنا مع قيادتنا وحفاظنا على مكتسباتنا الوطنية، وبذل المزيد من الجهد للرفع من شأن هذا الوطن العظيم بكل المجالات، وخاصة أننا نعيش أفضل الأيام في بلادنا حاليًا، بما نشهده من نهضة وتقدم وهيبة وسيادة وقوة وتطور وازدهار، حتى أصبحت المملكة العربية السعودية مثالا يحتذى به بكل المجالات وقد أدهشت الإنجازات السعودية الهائلة الكثير من دول العالم وأصبحت قدوة وأيقونة للإنجاز والتقدم والسيادة.
*كاتب مختص بالشؤون العسكرية والسياسية.