الغرب في امتحان أخلاقي
وضَع الغرب القوانين الدولية وفرضَها على العالم بالسّلاح والعقوبات وأَلْزَم البشريّة بها خاصّةً منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية وميلاد الأمم المتّحدة.
وضعتْ حربُ غزّةَ منظومات الغرب أمام امتحانٍ أخلاقي لا سابقَ له في الشّدّة والعُسر، بما في ذلك الامتحان الذي وضعتها فيه الحربُ الناشبة بين روسيا وأوكرانيا.
امتُحِن كلُّ شيء في رصيد الغرب في هذه الحرب الشّنعاء: سياساتُ دُوله، منظوماتُه الثّقافيّة والأخلاقيّة، معاييرُه، نظرتُه لنفسه ولغيره، علاقاته بمن يختلف عنه في المرجعيّات..
ينبغي أن تُلْجَمَ الغرائزُ العدوانيّة في الحروب بإخضاعها لضوابط صارمة تَحُدّ من نتائجها على مَن تقع عليهم. وكانت الضّوابط في حكم «قوانين» الحرب و«أخلاقها» التي على الجميع التزامُها.
في مجلس الأمن يمتنع الغرب عن التّصويت لصالح قرار وقف الحرب أو يترك لسيّده الأمريكيّ استخدام حقّ النّقض! فأيّ فشلٍ ذريعٍ هذا الذي تعرَّض له الغرب في هذا الامتحان الأخلاقيّ الذي جرّتْهُ إليه غزّة؟
* * *
وضعتْ حربُ غزّةَ منظومات الغرب أمام امتحانٍ أخلاقي لا سابقَ له في الشّدّة والعُسر، بما في ذلك الامتحان الذي وضعتها فيه الحربُ الناشبة بين روسيا وأوكرانيا؛ والذي كان، هو نفسُه، استثنائيّاً في ما انطوى عليه من مفارقات صارخة.
كلُّ شيء في رصيد الغرب امتُحِن في هذه الحرب الشّنعاء المستمرّة منذ أربعة أشهرٍ ونصف: سياساتُ دُوله، منظوماتُه الثّقافيّة والأخلاقيّة، معاييرُه، نظرتُه إلى نفسه وإلى غيره، علاقاته بمن يختلف عنه في المرجعيّات...إلخ.
واليوم، ما من أحدٍ في العالم - نزيهاً كان أو مفتقراً إلى النّزاهة - لا يعترف بالقدر الكبير من النّزيف المعنويّ والأخلاقيّ الذي عَرَّض الغرب صورتَه له، نتيجة ما أَقْدَم عليه وسار فيه من سياساتٍ فشلت في تسويغ شرعيّتها الأخلاقيّة، حتّى لم يتبقَّ لها ما تتوسّله من شرعيّةٍ لها سوى شرعيّة القوّة؛ وهي في ثقافة العقل وقيمها الأخلاقيّة «شرعيّة» باطلة.
نعم، في عداد المستَبْدَهات أن نقول إنّ الحربَ، في حدّ ذاتها، فعْل باطل أخلاقيّاً لأنّه من أفعال القوّة والعدوان التي لا تكون نتائجها سوى تقويض الوجود وانتهاك الأقدسِ فيه: الحقُّ في الحياة، والحقُّ في سلامة الأبدان والنّفوس، والحقُّ في السِّلم والأمن.
وهي إلى بطلانها الأخلاقيّ، فاعليّة تُطْلِق في الإنسان كلَّ ما هو حيوانيّ ووحشيٌّ افتراسيّ من الغرائز البهيميّة؛ تلك التي سعتِ التّربية والأخلاق والدّين والدّولة، عبر التّاريخ، إلى الحدّ منها ومحاصرتها بالنّواهي والزّواجر، من طريق تهذيب الإنسان أو ترويضه على تعطيلِ فعاليّةِ الحيوانيّ فيه، وأنْسَنتِه وأَخْلَقةِ أفعاله (إضفاء الطّابع الأخلاقيّ عليها).
قلنا إنّه من المستَبْدَه أن يُنْظر إلى الحرب هكذا إنْ هي قُرِئَت من زاوية فلسفة الأخلاق. ولكن لمّا كانتِ الحروب قرينةَ الصّلة بالمصالح؛ أي لمّا كانت الأخيرة هي ما يدعو إليها ويستدعيها؛ ولمّا كانت المصالح متضاربة ويحْمِل تناقُضُها على الصّراع؛ ولمّا كان من المستحيل أن نتخيّل عالماً خالياً من الحروب - لاستحالة خُلوّه من المصالح - كان لا مهْرب للبشر منها.
لكن كان ينبغي، في الوقت عينِه، أن تُلْجَمَ الغرائزُ العدوانيّة فيها من طريق إخضاعها لضوابط صارمة تَحُدّ من خطورة نتائجها على مَن تقع عليهم. ولقد كانت تلك الضّوابط في حكم «قوانين» الحرب و«أخلاقها» التي على الجميع التزامُها وعدم نقضها.
لم يكن المغلوبون من شعوب الجنوب وأُممِه ودوله مَن وضَع تلك القوانين وفرضَها على العالم بقوّة القانون الدّوليّ، وبقوّة السّلاح والعقوبات، وإنّما كان الغالب (الغرب) هو من فَعَل ذلك وأَلْزَم البشريّة به؛ خاصّةً منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية وميلاد منظومة الأمم المتّحدة.
والحقّ أنّ الغرب لم يكن نزيهاً في تطبيق الاتّفاقيّات المتعلّقة بالأسلحة المحظور استخدامها في الحروب، أو المتعلّقة بمنع استخدام وسائل القتل الأخرى من تجويعٍ وتعطيش وتدميرٍ لأسُس الحياة وحرمانٍ من الحقّ في العلاج، أو المتعلّقة، إجمالاً، بحماية المدنيّين في أوقات الحرب...إلخ.
ظلّ يمارسها بانتقائيّة وفي مرّاتٍ عدّة، بازدواجيّة صارخة؛ فكنّا نراه، مثلاً، يقيم الدّنيا ولا يُقْعدها إنْ خالفت روسيا قاعدةً صغيرة من قواعد تلك الاتّفاقات في عمليّتها الخاصّة ضدّ أوكرانيا، فيما كان يرخّص لنفسه أن ينتهكها جميعاً في حروبه في كوريا وڤيتنام والعراق والصّومال وأفغانستان من غير أن يرفّ له جفن!
مع ذلك، لم يبلُغ نقضُه لكلّ تلك «القوانين» الحدّ الأقصى الذي سيبلغه، اليوم، في هذه الحرب الإسرائيليّة المفتوحة على غزّة: التي لم يقفِ الغربُ منها موقف المتفرّج اللاّمبالي فحسب، بل موقف المشارِك في فصولها الدّمويّة: بالمشاركة والدّعم والإسناد، أو بالتّأييد، أو بالصّمت على الجرائم!
ها هو الغرب يرى، اليوم، كيف تُنْتَهك قوانينُ الحرب وجملةُ القوانين الدّوليّة الإنسانيّة في العدوان على غزّة! يرى كيف تُلْقَى حُمَم الموت من الطّائرات والبوارج والمدافع على المدن والأحياء فتمزّق أحشاء الأطفال والنّساء ويُدْفَن الآلاف منهم تحت الأنقاض من دون رحمة؛
وكيف تُدَمّر المستشفيات والمدارس والمخابز وملاجئ الأونروا ودور العبادة بمن فيها من النّازحين إليها؛ وكيف تُلاحَق قوافل النّازحين وتُقْصَف في طريقها بحثاً عن الملاذ الآمن؛ كيف تُقْصَف طواقم الإسعاف وتُمْنع، بقوّة النّار، من أداء واجبها، وكيف يُغْتَال الصّحفيّون والإعلاميّون الذين يُغطّون أحداث الحرب ويُنْتَقم من عائلاتهم؛
وكيف يُفْرض الحصار الخانق على مليونين وربعٍ من البشر في القطاع فيُقطع عنهم الماء والكهرباء والدّواء والاتّصال، وتُمْنَع شاحنات المساعدات من دخول القطاع... إلخ!
يرى الغرب ذلك كلّه ولا يحرِّك ساكناً. وحين يهرع من يهرع إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بوقف الحرب، يمتنع عن التّصويت لصالح القرار أو يترك لسيّده الأمريكيّ أن يُسقطه باستخدام حقّ النّقض! فأيّ فشلٍ ذريعٍ هذا الفشل الذي تعرَّض له الغرب في هكذا امتحان أخلاقيّ جسيم جرّتْهُ إليه غزّة؟
*د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر | الخليجالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الحصار أونروا النازحين الغرب غزة امتحان أخلاقي قوانين الحرب حرب غزة حق النقض وقف الحرب الأخلاقی ة الغرب فی
إقرأ أيضاً:
خالد الجندي: الشكر على النعم أصعب من امتحان الصبر على الابتلاء
أكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أن الإنسان يتعرض في حياته لنوعين من الامتحانات، إما بالضراء فيبتلى بالصبر، وإما بالسراء فيبتلى بالشكر، مشيرًا إلى أن الشكر أصعب من الصبر.
واستشهد عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، خلال تصريحات تلفزيونية اليوم، الأحد، بقوله تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً"، موضحًا أن البلاء لا يقتصر فقط على المصائب، بل يمتد إلى النعم التي قد تكون اختبارًا أشد صعوبة، لأن الإنسان في الشدة لا يملك إلا الصبر، أما في الرخاء فيكون أمامه اختيارات كثيرة قد تجره إلى الغرور والبعد عن الله.
خالد الجندي: غفلة الناس عن نعم الله بعد الأزمات بلاء عظيم
الفرق بين "الوَزر" و"الوٍزر" و"الحمولة" و"الفرش".. خالد الجندي يجيب
خالد الجندي: هذه الآية ليست دعوة للكفر وإنما تحدٍ إلهي
خالد الجندي: هذه الكلمة من أحب الألفاظ إلى الله
وأشار إلى أن سيدنا سليمان عليه السلام، كان من أكثر الأنبياء تعرضًا للابتلاء بالسراء، حيث مُنح ملكًا لا مثيل له، لكنه أدرك عِظَم هذا الاختبار فقال: "رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ"، معترفًا بأن شكر النعمة يحتاج إلى توفيق من الله.
وفسر الشيخ خالد الجندي معنى قوله تعالى: "ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا"، موضحًا أن "عفوا" هنا تعني أنهم تعافوا من الابتلاءات التي أصابتهم، وليس العفو بمعنى المغفرة، بل المقصود أن الله كشف عنهم العقوبة وأعاد لهم العافية.
خالد الجندي: غفلة الناس عن نعم الله بعد الأزمات بلاء عظيموأكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أن كثيرًا من الناس يقعون في غفلة كبيرة عن نعم الله، خاصة بعد تجاوز الأزمات والمحن، مشيرًا إلى أن البعض لا يدرك حجم النعمة التي أنعم الله بها عليه بعد شفائه من المرض أو نجاته من الكوارث.
وأوضح عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، خلال تصريحات تلفزيونية اليوم، الأحد، أن جائحة كورونا كانت مثالًا واضحًا على ذلك، حيث عاش العالم في حالة شلل تام، وتعطلت كل مناحي الحياة، من الطيران إلى المدارس والجامعات والمصانع، حتى ظن الناس أنهم ينتظرون الموت، ثم جاءت رحمة الله وزالت الأزمة، ورغم ذلك، عاد البعض إلى حياته وكأن شيئًا لم يكن، متناسيًا عظمة النعمة التي وهبها الله له.