موقع النيلين:
2024-12-23@11:18:36 GMT

قراءة جغرافية للحرب الروسية الأوكرانية

تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT


«بعد سنوات صعبة من انهيار الاتحاد السوفيتى، أصدر المؤرخ الروسى سيربريانكوف في عام 1998 كتابه المهم (حروب روسيا). ومن بين أشهر عبارات الكتاب أن روسيا (وُلدت لتحارب). يتبع المؤلف الحروب التي خاضتها روسيا عبر ألف سنة، فينتهى عبر التحليل الإحصائى إلى أن روسيا- بعد فرنسا- هي أكثر دول العالم خوضًا للحرب. من دون شك تُعد الحرب مكونًا أساسيًّا في الحياة الروسية، بل هي ركن من أركان عقيدة الدولة ونظام الحكم فيها».

الاقتباس السابق من كتاب «روسيا وأوكرانيا- حرب عالمية غير معلنة»، من تأليف الدكتور عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، والصادر حديثًا عن دار الشروق. وقد يكون هذا الكتاب هو الأهم باللغة العربية في موضوعه. وتنبع قوته في تتبعه لأصول تلك الحرب وجذورها في التكوين الجغرافى والسكانى والتاريخى النادر لهذه المنطقة من العالم. وكما يظهر من الاقتباس، فإن الكتاب يُحرض قارئه على النظر إلى هذه المنطقة في إطار خصوصيتها الفريدة، ويعتبر- عن حق- أن الجغرافيا والتاريخ صانعان أساسيان لأحداثها، ومحركان لحاضرها ومستقبلها.

لماذا «وُلدت روسيا لتُحارب»، كما يقول هذا المؤرخ الروسى؟. الفصل الأول يشرح لنا نشأة الدولة الروسية الحديثة قبل خمسمائة عام من رحم تجمعات القبائل السلافية الفرنجية، وبعد غزوة مغولية استمرت مائتى عام. يقول المؤلف: «وكما أن موسكو استلهمت من بيزنطة رسالة الممالك الأرثوذكسية على البحر المتوسط، استلهمت من المغول حضارة البر الآسيوى، وأصبحت بذلك مؤهلة لمواجهة حاسمة مع دول أوروبا، ومشحونة بطاقة هائلة للتوسع والتوغل».

هي إمبراطورية أوراسية كبرى إذن شهدت أكبر عمليات توسعها في القرن السادس عشر، ثم صاغت منذ بطرس الأكبر في مطلع القرن السابع عشر مفهومًا عجيبًا لترسيخ هذا التوسع المستمر تحت مُسمى «النطاقات الجغرافية العازلة». في 1809 ضمت فنلندا لتصنع منها حاجزًا أمام السويد، وتحمى مدينتها الأهم على البلطيق «سان بطرسبرج»، ثم استولت على القوقاز بين 1800 و1840 لتخلق منطقة عازلة بينها وبين تركيا وإيران، وضمت منطقة أواسط آسيا في منتصف القرن التاسع عشر لتقوم عازلًا بينها وبين بريطانيا في الهند!.

الامتداد الجغرافى الهائل، من فيلاديفوستوك على المحيط الهادى وحتى شرق أوروبا، صاغ «شخصية الدولة». مساحة تفوق 17 مليون كيلومتر مربع، تطوى 11 منطقة زمنية، وثقافات وهويات شتى. روسيا القيصرية خاضت الحروب دفاعًا عن هذا الكيان العملاق، جغرافيًّا وسُكانيًّا. ظل الجيش الروسى هو الأكبر في أوروبا، ورمانة الميزان في توازن القوى في القارة. ربما كانت الشيوعية «مظلة جديدة»، أو طريقًا آخر، للسيطرة على هذا الامتداد الجغرافى المهول والتنوع القومى الفريد.

إن الناظر إلى هذه المنطقة يعجب من حجم التشابكات الجغرافية والسياسية، المُورَّثة من أزمنة قديمة وحديثة ومُعاصرة. المُعضلة الكبرى تتمثل في علاقة روسيا بمحيطها المباشر، هل هي إمبراطورية تُسيطر على الهوامش؟، وأين تنتهى هذه الهوامش؟. مثلًا: خرجت فنلندا حينًا من فلك الهيمنة الروسية بعد الحرب الأولى، ثم ما لبث أن عاد ستالين، وحاربها، واقتطع منها إقليم «كاريلينيا». فُرض على هذه الدولة، بموجب معادلة وُقعت في 1948، أن تكون منطقة عازلة بين روسيا والغرب. اليوم، وكنتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، انضمت فنلندا إلى الناتو، وهى على مرمى حجر من المدينة الروسية الأهم على البلطيق «سان بطرسبرج». إنها بيئة أمنية متوترة. مملوءة بالشكوك والمخاوف المتبادلة، ومعبأة باحتمالات لانفجار الصراع في المستقبل.

قل مثل ذلك عن علاقة روسيا بدول البلطيق الثلاث وبمولدوفا (ذات الموقع الاستراتيجى المهم، والتى تقتطع روسيا منها كذلك إقليمًا انفصاليًّا لم يعترف به أحد!). في هذه الدول تسود الروسوفوبيا، (أى رُهاب روسيا). رئيسة لاتفيا لخصت الأمر حين كانت بلادها تسعى لعضوية الناتو بقولها: «إن هذه العضوية ستحقق لنا أن نأوى إلى فراشنا آمنين دون أن يكون هاجسنا في الليل قدوم أحدهم يطرق بابنا بعنف، ويُلقى بنا عنوة في قطاع ذاهب إلى سيبريا»!.

من المزايا المهمة للكتاب الذي بين أيدينا أنه يدفعنا إلى رؤية الصورة من أكثر من زاوية. الزاوية الروسية مهمة، مهما حاول الغرب تسطيحها أو اختزالها في الرغبة في الغزو والهيمنة، أو النزعة السلطوية في الحكم. رؤية روسيا لذاتها وتاريخها مُحرك رئيسى للأحداث، مهما كان حكمنا عليها. المؤلف لا يقع أسيرًا لهذه النظرة، ولكنه ينجح في عرضها في حياد كامل. ساعده في ذلك بطبيعة الحال تمكنه من اللغة الروسية بحكم حصوله على الدكتوراه من جامعة سان بطرسبرج، ثم عمله مستشارًا ثقافيًّا في السفارة المصرية بموسكو.

ما رؤية موسكو؟. هي رؤية ضدية في الأساس، أي أنها مبنية على مواجهة الغرب. الخطاب الروسى، في عهد بوتين، يقوم على أن الغرب ليس كتلة صلبة ولكن قابلة للتفكك. أحد دوافع «بوتين» في تسخين خطاب القومية في أوروبا عبر مساندة قادة اليمين، مثل «مارى لوبان» في فرنسا، هو ما تُمثله القومية- خاصة في نسختها المتطرفة- من تهديد للمشروع الأوروبى المُتمثل في الاتحاد العابر للقوميات.

لا تعتبر روسيا البوتينية أن الديمقراطية أكمل النظم السياسية كما يُبشر الغرب بزعامة الولايات المتحدة، بل ترى أن الديمقراطية هي أن يختار كل شعب النظام الحضارى والاجتماعى والسياسى الذي يناسبه. وهى ترى العولمة مؤامرة نتيجتها استئثار «المليار الذهبى» بالثورة والنفوذ، رغم أن هذا المليار لا يمثل أكثر من 13% من سكان العالم. ويرى بوتين روسيا حضارة مستقلة، قائمة بذاتها ومكتفية بنفسها، تجمع في داخلها أعراقًا وهوياتٍ دينية مختلفة.

على أساس من هذه الرؤية، تسعى روسيا لتكوين حلف مناهض للغرب ومتحدٍّ لهيمنته. الكاتب لا يفوته ما ينطوى عليه هذا الحلف المُفترض من تناقضات. يلفت النظر، مثلًا، إلى العلاقة المرتبكة بين روسيا والصين: «بينما تتقن روسيا سياسة الترهيب أكثر من الترغيب، ولا تصدر للعالم سوى النفط والسلاح، تحتاج الصين إلى الحفاظ على علاقتها القوية بأغلب دول العالم لإكمال مشروعها ببناء إمبراطوريتها التجارية». وفى موضع آخر، وفى إطار الحديث عن انكشاف روسيا الديموغرافى، يضع الكاتب خطًّا تحت معلومة مهمة: «فى وقت يتناقص فيه عدد السكان الروس، فإن أعدادًا متزايدة من المهاجرين من الصين تتدفق من مناطق الحدود عند الشرق الأقصى إلى روسيا بسبب الخلل الديموغرافى. ويمكن فهم هذا الخلل حين نعرف أنه في الشطر الروسى من شرق سيبريا يعيش أقل من 10 ملايين نسمة في مساحة تزيد على 6 ملايين كم2، في حين يعيش على الجانب الصينى نحو 150 مليون نسمة يعانون البطالة والفقر في مساحة لا تصل إلى مليونى كم2»

والحق أن الكتاب يزخر بمعلومات متنوعة حول التشابكات الجغرافية والسكانية المحيطة بروسيا، في القوقاز وآسيا الوسطى. كما يُخصص فصلًا كاملًا لشرح مسألة الطاقة (النفط والغاز) وتأثيرها في هذه التشابكات. وبعد الفراغ من قراءة الكتاب نفهم، مثلًا، لماذا يحظى الاحتفاظ بمنطقة القرم بإجماع روسى لا علاقة له ببوتين، وكيف أسهمت «الهوية المشطورة» في أوكرانيا، وفشل مسار الثورة البرتقالية، في تهيئة المسرح للحرب الحالية؟.

أما الخلاصة، كما يراها المؤلف، فهى أنه لا انتصارًا كاسحًا لأى طرف في أوكرانيا. ثمة ما يشبه الخط الأحمر الذي رسمته القوى الغربية لروسيا، وبحيث لا تتجاوز نهر الدنيبر أو تهدد أوديسا (منفذ صادرات أوكرانيا على البحر الأسود). عندما تجاوزت موسكو الخط تم إغراق المدمرة «موسكوفا» في إبريل 2022 في رسالة واضحة لبوتين. وبالتالى، فقد تنتهى الحرب إلى «صراع مجمد». صحيح أن موسكو سيطرت على ربع مساحة أوكرانيا بطاقتها الصناعية الكبيرة، ولكنها خسرت حياد فنلندا والسويد، وصار الناتو أقرب من حدودها، فيما أمريكا تستنزفها من بعيد بدماء أوكرانية.

إنه كتابٌ محكم التنظيم والعرض، يعكس جهدًا واضحًا ودراية كبيرة بالموضوع وأبعاده. يستحق القراءة لكل المهتمين بالشؤون الروسية، وبالسياسة العالمية بوجهٍ عام.

جمال أبوالحسن – المصري اليوم

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

رمطان لعمامرة يقول إن زيارته للسودان تهدف إلى الوصول لحل سلمي للحرب

عقب لقائه وزير الخارجية السوداني علي يوسف.. المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للسودان رمطان لعمامرة يقول إن زيارته للسودان التي سبقتها جولات إقليمية تهدف إلى الوصول لحل سلمي للحرب الدائرة في السودان.الجزيرة – السودان إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • آخر تطورات الحرب الروسية الأوكرانية.. 1200 قتيل وجريح في صفوف الجيش الكوري الشمالي
  • القوات الجوية الأوكرانية: إسقاط 47 طائرة بدون طيار أطلقتها روسيا خلال الليل
  • محلل سياسي: لا صحة لوجود مقاتلين كوريين شماليين على الجبهة الروسية الأوكرانية
  • سفارة روسيا في لشبونة: الأضرار التي لحقت بالسفارة البرتغالية في كييف كانت بسبب قوات الدفاع الجوي الأوكرانية
  • السكك الحديدية الأوكرانية تزيل اللغة الروسية من تذاكر القطارات
  • «جغرافية سفر التكوين» في دورة تدريبية بدير «المحرق»
  • روسيا: السفارة البرتغالية في كييف تضررت بسبب الدفاعات الجوية الأوكرانية
  • رمطان لعمامرة يقول إن زيارته للسودان تهدف إلى الوصول لحل سلمي للحرب
  • العالم يتغير بعد الحرب الأوكرانية: أوروبا قد تخسر أمريكا.. والصين تربح روسيا
  • روسيا: القوات الأوكرانية تواصل هجومها على مدينة ريلسك في كورسك الروسية