إسرائيل.. والبدايات المبتورة
تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT
قبل عام 1948م.. لا وجود لدولة اسمها «إسرائيل»، منذئذٍ وهذا الكيان يبحث له عمّا يقرّ وجوده، لم يكن قرار الأمم المتحدة بقيام دولة إسرائيل، ولا اعتراف كثير من الدول بها، كافياً لتعيش دولة سوية كدول العالم، فهي تخوض معركة ترسيخ وجود، عن طريق العلاقات السياسية والمشاريع الاقتصادية وشبكات التجسس الدولية، وبإشعال الحروب واضطهاد الفلسطينيين وتهجيرهم، وارتكاب المجازر فيهم، وإقامة المستوطنات في بلادهم، وبالفصل العنصري واستراتيجية التطبيع.
العالم.. يبصر الدعم الغربي غير المحدود بمختلف الوسائل لإسرائيل في حروبها، والتصويت لصالحها في مجلس الأمن، بما في ذلك استعمال قانون النقض «الفيتو»، ولذلك؛ لا يمكن تبرئة ساسة العالم من خطيئة وجود هذا الكيان والتفرج على جرائمه. وهنا أسجل كلمة شكر لجمهورية جنوب إفريقيا على رفعها دعوى في محكمة العدل الدولية على إسرائيل لارتكابها جرائم إبادة في الفلسطينيين.
إن الوضع الذي تعيشه إسرائيل المتردد بين محاولة الاستقرار وخوف الزوال؛ تقف وراءه حالة عميقة من ادعاءات يراد لها أن تكون حقائق، ادعاءات لم تعد تنطلي على الباحثين والمهتمين بالشأن اليهودي؛ بما فيهم أحرار اليهود. وقد تفطن الصهاينة لذلك منذ وقت مبكر، فوصموا كل من يفنّد ادعاءاتهم بـ «معاداة السامية»، واستصدروا قرارات دولية بتجريم مَن «يعادي السامية». والعجيب؛ أن «معاداة السامية» رفعها بدايةً اليهود المعادون للصهيونية ضدها، وإذا بالصهاينة يقلبون ظهر المجن، ويصمون بها من يخالفهم في مشروعهم الاستيطاني.
مصطلح «معاداة السامية».. لم يكن موجوداً قبل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، و«السامية» مصطلح ظهر أول مرة عام 1770م من قِبَل أعضاء مدرسة جوتنجن للتاريخ بألمانيا، ويقصدون به الشعوب المنسوبة إلى سام بن نوح كالعرب والعبرانيين والآشوريين والفينيقيين والآراميين، ولكن لا يوجد خارج التوراة ما يثبت وجود شخص بهذا الاسم، ولذلك؛ يعد الآثاريون والأنثروبولوجيون «السامية» أسطورة. وأصبحت مصطلحاً يستعمل اعتبارياً، دون أن تقف خلفه حقيقة تأريخية.
لم تقم إسرائيل إلا على أفكار مبتورة، تفتقر إلى الحجج التاريخية، ليس فيما يتعلق بالدولة فقط، بل قبل ذلك فيما أسسه الصهاينة لمشروعهم بوجود «شعب يهودي» من حقه أن تكون له أرض يعيش عليها؛ وأشاعوا كذبة أن (فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). إن المرتكز الذي أقام عليه الصهاينة مشروعهم بإيجاد دولة لليهود؛ هو صناعة مختلقة ونصوص دينية مؤولة. فدعوى وجود «شعب يهودي واحد» غير صحيحة، فهناك شعوب مختلفة في العالم تدين باليهودية، وبحسب عبدالوهاب المسيري (ت:2008م) المتخصص في الدراسات اليهودية والحركة الصهيونية.. توجد جماعات يهودية؛ كل جماعة متأثرة بالأمة التي تعيش بين ظهرانيها، فيهود الصين ثقافتهم متأثرة بالكونفوشيوسية، وفي الهند بالهندوسية، وفي بلاد العرب تأثرت عقائدهم وثقافتهم بالمسلمين، وهكذا يهود أوروبا والأمريكتين، وقبل المشروع الصهيوني لا يكاد تتواصل هذه الجماعات فيما بينها.
أما الاتكاء على عبارة (شعب الله المختار) المستلّة من التوراة: (لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْباً خَاصّاً فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْض) [التثنية:14-2]، فالحقائق.. لا تقام على المعتقدات، وإنما على الواقع والحدث، وأحداث التوراة لا توجد خارجها، ولا يمكن أن تصدر عن وحي إلهي لأنها مشبعة بالعنصرية.
وتنبني على هذا الأصل الوهمي قضية الثقافة اليهودية، فما يزعمه الصهاينة بأن لليهود المهاجرين إلى فلسطين المحتلة ثقافة واحدة مشتركة لا يصمد أمام الواقع، فهناك جماعات عديدة قادمة من: أوروبا والأمريكتين، والبلاد العربية، والفلاشة بأثيوبيا، وبلدان الاتحاد السوفييتي المنحّل، لكل جماعة ثقافتها التي حملتها من وطنها، وهي ترى أنها ليست أقل شأناً من الثقافات الأخرى المكوِّنة للمجتمع الإسرائيلي، إن لم تكن هي الأعلى عنها شأناً، فتكوين ثقافة واحدة أمر بعيد التحقق. وحتى مع فرض الثقافة الجديدة من قِبَل السياسة الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي؛ تظل هجينة لا تمثّل أصولها، ولن تجدي محاولة صهرها في قالب غربي، فثقافة الأمم.. امتداد لأخلاقهم النفسية المتأصلة، وليس من السهولة أن تذوب، وحتى عند الاندماج فسرعان ما تظهر تناقضاتها مع وقوع خلل اجتماعي يهز هذا المكوَّن الخليط.
إن التوراة ذاتها مبتورة الأصل، فالقرآن باتفاق صادر عن النبي محمد؛ سواء أتُفِق معنا على تنزيله الإلهي أم اختُلِف، والأناجيل كتبها أناس معترف بهم لدى المسيحيين، وإن لم يُسلّم لهم بأنها وحي، أما التوراة فباتفاق المتخصصين في دراستها؛ ومنهم يهود، بأن مؤلفيها غير معروفين. وكثيرون يرون بأنها ألّفت في أوقات متباعدة، ومنهم من يرى بأنها فُقِدت ثم أعاد الأحبار كتابتها من ذاكرتهم، ويتساءل وِل ديورانت صاحب موسوعة «قصة الحضارة»: (كيف كتبت هذه الأسفار؟ ومتى كتبت؟ وأين كتبت؟ ذلك سؤال بريء لا ضير منه، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة نتركه بعدها من غير جواب!). وباختفاء معرفة أصل التوراة؛ فكل دعاوى الصهاينة تذهب هواءً، فالتوراة.. هي أم البدايات الصهيونية.
إن من أهم مكوِّنات الاجتماع البشري اللغة، وقد أدرك الصهاينة أنه لابد لدولتهم من لغة توحدهم في إطار ثقافتهم، فاعتمدوا العِبرية لغة رسمية لدولتهم ومجتمعهم الهجين، ولكنها ليست أوفر حظاً من بقية القضايا التي أسس عليها الصهاينة مشروعهم الاستيطاني، فحتى بداية القرن العشرين الميلادي لم تكن الجماعات اليهودية تتكلم هذه اللغة، بل كل جماعة تتكلم لغة المجتمع الذي تعيش فيه، واقتصر استعمال اللغة العِبرية على الناحية الدينية وبعض الأدب القديم، فهي من حيث الاستعمال اليومي لغة كادت أن تنقرض. حتى جاء الصهيوني اليعازر بن يهودا (ت:1922م) فعمل على إحيائها وربطها بضرورة وجود وطن لليهود تتوحد فيه لغتهم، ورفع شعار (لا وطن بدون لغة، ولا لغة بدون وطن). بيد أنه وجد معارضة من أحبار اليهود، ورأوا أنه بذلك يحتقر اللغة العِبرية، ويدنّس قدسيتها بلغة العامة، فوصموه بالكفر والإلحاد، ووشوا به إلى السلطات العثمانية فحُكِم عليه بالسجن، لكنه أصر على بعثها.
إن اللغة التي يعاد إحياؤها تختلف عن أصلها بمقدار فترة توقف استعمالها اجتماعياً، فلغة اليعازر التي نشأ عليها هي لغته الأم التي يفكر بها ويُحسن تصويت حروفها، وأما إعادته نشر اللغة العِبرية بعد حوالي ألفي عام من تقوقعها؛ فيجعلها أمام حقيقة أن تصويت الحروف «الفونيم» لا يمكن تعميمه من بيئة دينية ضيقة كانت عليها العِبرية، والفونيم.. في حقل اللسانيات من أهم مرتكزات اللغة، فإذا تغيّر يُنسى كثير من معانيها وتغيب حقيقة دلالاتها. كما أن اللغة العِبرية لتحجّرها في البيئة الدينية انفصمت عن التطور اللغوي الطبيعي؛ الذي يطال بالإضافة إلى التصويت القواعد والأساليب والكلمات والمفاهيم، فكيف يُزعم بأن بعث لغة ماتت اجتماعياً كل هذه الفترة الطويلة هو استئناف تام لها. إن اللغة العِبرية التي يتكلم بها اليهود الآن لا يزيد عمرها عن مائة عام، فهي أيضاً تعاني من مشكلة الانبتار.
وبهذا؛ نجد أن المشروع الصهيوني المسمى إسرائيل يعاني من أزمة وجودية، هي مشكلة البدايات التي لا جذور لها، ولا يجديها التأويل الذي يضخه مفكرو الصهيونية في تأريخ جماعاتهم ونصوصهم الدينية، فالتأويل.. سريع التغيّر بسبب التحولات التي تصيب الاجتماع البشري، ما يعني أن هذا المشروع معرض للانهيار عندما تعصف بدولته رياح التحدي الوجودي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صوت الأزهر تخصص عددها الجديد عن تورط الصهاينة في سرقة مساعدات غزة
كتب - محمود مصطفى أبوطالب:
خصصت صحيفة "صوت الأزهر" الصادرة عن الأزهر الشريف، عددها الجديد للحديث عن تورط الكيان الصهيوني في سرقة المساعدات المخصصة لأهالي غزة.
محتويات عدد "صوت الأزهر"وتصدر مانشيت "سرقة المساعدات في غزة برعاية صهيونية" العدد الأسبوعي الجديد لصوت الأزهر، الذي تناول وفاة الحاجة سميحة الشقيقة الكبرى لفضيلة الإمام الأكبر، وكذلك المؤتمر الذي عقدته كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة حول "الدعوة الإسلامية والتواصل الحضاري".
يرأس تحرير الصحيفة، الكاتب الصحفي أحمد الصاوي.
اقرأ أيضًا:
الأمور سارت في اتجاه إيجابي.. مدبولي: بعثة صندوق النقد تفهمت المطالب المصرية
استخراج قرار علاج على نفقة الدولة.. إجراءات وأوراق مطلوبة
الحكومة تغلظ عقوبة سرقة الكهرباء.. حبس سنة وغرامة تصل لمليون جنيه
تسجيل جامع بيبرس بالدرب الأحمر في عداد الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية
صحيفة صوت الأزهر سرقة مساعدات غزة تورط الصهاينة في سرقة مساعدات غزة سرقة المساعدات في غزة برعاية صهيونية وفاة الحاجة سميحة وفاة شقيقة شيخ الأزهر مؤتمر الدعوة الإسلامية والتواصل الحضاري
تابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقة شيخ الأزهر يشكر رئيس مجلس النواب على تعزيته في وفاة شقيقته أخبار الرئيس السيسي يعزي شيخ الأزهر في وفاة شقيقته أخبار عميد المعاهد الأزهرية بفلسطين يُعزي شيخ الأزهر في وفاة شقيقته أخبار "قومي حقوق الإنسان" ينعى شقيقة شيخ الأزهر الشريف أخبار أخبار مصر محافظ الجيزة يجري جولة مسائية مفاجئة بعدد من الأحياء.. ماذا حدث؟ منذ 26 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر مافيش هزار.. تامر أمين: "الحكومة سنت سنانها على سارقي الكهرباء" منذ 33 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر يتم فصلهم عن النظاميين.. ضوابط الحج السياحي للهيئات 2025 منذ 40 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر لن تُزال المبانى القديمة.. آخر مستجدات "التصالح بمخالفات البناء" منذ 1 ساعة قراءة المزيد أخبار مصر العمليات المصرفية بالبنك المركزي: عملاء إنستاباي وصلوا لـ 11.5 مليون منذ 1 ساعة قراءة المزيد أخبار مصر مواصفات سكن الحج السياحي 2025.. اعرف موقعك من الحرم منذ 1 ساعة قراءة المزيدإعلان
إعلان
أخبار"صوت الأزهر" تخصص عددها الجديد عن تورط الصهاينة في سرقة مساعدات غزة
أخبار رياضة لايف ستايل فنون وثقافة سيارات إسلاميات© 2021 جميع الحقوق محفوظة لدى
إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك * إزاي تعرف نتيجة قرعة الحج من موقع وزارة الداخلية بالرقم القومي؟ الحكومة تغلظ عقوبة سرقة الكهرباء.. حبس سنة وغرامة تصل لمليون جنيه 28القاهرة - مصر
28 19 الرطوبة: 37% الرياح: شمال المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار bbc وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك