جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-17@15:21:47 GMT

إعادة الحياة لكُتب الأخلاق

تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT

إعادة الحياة لكُتب الأخلاق

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

تزخر مكتبتنا الإسلامية بعدد وافر من كتب الأخلاق، والكثير منها كتبها علماء سابقون رحمهم الله وأجزل لهم الثواب، وتعد هذه الكتب تراثاً ثرياً بحق، فهي تحوي من المفاهيم والقيم الأخلاقية الشيء الكثير، لكن هذه الكتب لم تعد كتب تستعين بها أجيال اليوم لتستقي منها معارفها وقيمها الأخلاقية؛ بل كثيرًا ما ينظر لها على أنها كتب تراثية لم تعد صالحة لهذا الزمن، ولا بُد من اعادة صياغتها لتلائم لغة العصر.

هذا الكلام ينطوي على قدرٍ من الصواب، وهو ما يتعلق باللغة المستخدمة في هذه الكتب. لكن في المقابل، من غير الصحيح النظر اليها على أنها لم تعد صالحة لهذا الزمن؛ بل إن فيها من الكنوز والقيم الأخلاقية ما لا يوجد في غيرها وعلى أبنائنا الاطلاع عليها وقراءتها.

لكنني أظن أن تجديد هذه الكتب لا يمكن أن يقتصر على اللغة؛ بل لا بُد من إضافة الدراسات التجريبية في مجال السلوك البشري لها؛ فالاستعانة بالدراسة التجريبية لتفسير السلوك البشري سيضيف بُعدًا آخرَ مُهمًا لكتب الأخلاق، وستخرج هذه الدراسات التجريبية مع المفاهيم المنطقية والدينية التي تزخر بها هذه الكتب، برؤية أكثر تكاملية وواقعية، كما إن إضافة الدراسات التجريبية لهذه الكتب سيسهم في سد الفجوة بينها وبين أجيال اليوم؛ فأجيال اليوم تتجه الى الدراسات والنماذج الواقعية والتجريبية أكثر من اعتمادها على التنظير والتحليل المنطقي، ولعل ذلك سيساعدنا في نفض الغبار عن بعض تراثنا الثري.

سأسوق مثالًا ما زالت تحتفظ به ذاكرتي من خلال قراءاتي لبعض الدراسات في مجال السلوك البشري، ففي حادثة وقعت بأحد الأحياء في مدينة نيويورك عام 1964، قام أحد المارّة بطعن فتاة تبلغ من العمر 28 عامًا وتُدعى كيتي جينوفر، دون أن يدافع عنها أحد، على الرغم من استغاثتها، وعلى الرغم من أن 38 فردًا-على أقل تقدير- من سكان ذلك الحي سمعوا صراخها واستغاثتها، لكن لم يقم أحدٌ منهم بالمساعدة أو حتى طلب الشرطة. وقد هزت هذه الحادثة المجتمع الأمريكي آنذاك، وتحدثت عنها الصحف والمجلات، واتهمت هذه الصحف المجتمع بأنه بدأ يفقد قيمه الأخلاقية، لكنَّ عددًا من علماء النفس والمختصين بالسلوك الإنساني، لم يعتمدوا فقط على هذا السبب المُتبادر الى الذهن؛ بل حاولوا اللجوء إلى التجارب العلمية في الكشف عن سبب هذا السلوك غير المفهوم لعلهم، يكشفون عن بعض أسرار هذه النفس البشرية.

وبعد دراسات مُستفيضة وتجارب كثيرة ومكررة، اتضح أن الأمر لا علاقة له بتدني القيم الأخلاقية للمجتمع الأمريكي؛ بل كشفت الدراسة عن سلوك بشري عام في ذلك المجتمع، وربما في بقية المجتمعات أيضًا، وهو ما يعرف اليوم باسم "لا مبالاة المُتفرِّج"؛ إذ توصّلت الدراسة إلى أن السبب يعود الى ما يعرف بتأثير توزُّع المسؤولية على الأفراد، ومفاد هذه الظاهرة أن الفرد عندما يكون ضمن مجموعة كبيرة، فإنه يتهرب من تحمل المسؤولية ويُقنع نفسه أن المسؤولية تقع على عاتق فرد آخر في المجموعة ولا تقع عليه، وأن ذلك الآخر سيتصرف بعد قليل أو قد يقنع نفسه بأن ذلك الفرد قد تصرف بالفعل! ويظهر هذا التبرير بقوة في الحالات التي تكون المسؤولية فيها غير مُحددة بوضوح، وهذا ما حدث في الجريمة المروعة والتي قُتلت فيها كيتي جينوفر.

لذا يوصي بعض علماء السلوك البشري أن أحدنا إذا احتاج الى مساعدة طارئة في سكة مكتظة بالمارّة، عليه أن يتجه الى أحدهم بشكل خاص ويطلب منه المساعدة، بدلًا من أن يصرخ ويستغيث طالبًا المساعدة من الجميع، والسبب في ذلك، أن الانسان الذي ستطلب منه المساعدة سيشعر بالمسؤولية أكثر من غيره؛ لأنك بسؤاله إياه ألقيت المسؤولية عليه في طلب المساعدة، وتأثير "لا مبالاة المتفرج" انخفض عنده بشكل كبير، فاحتمال استجابته وتقديمه للمساعدة ترتفع بشكل ملحوظ.

السؤال هنا: ألا تشير هذه الدراسة الى أحد الأساليب الخفية التي تلجأ لها النفس البشرية في محاولتها للتهرب من تحمل المسؤولية؟ أليست هذه الدراسة وأشباهها أكثر تأثيرًا من التحذير المجرد من خداع النفس وأساليبها الملتوية؟ ألا يفيد هذا النوع من الدراسات في تنبيه الانسان من أن من مسؤوليته أيضًا التحقق من أنَّ أحدًا مدَّ يد العون وقام بتقديم المساعدة، فإذا لم يجد أحدًا، فعليه أن يُبادر بالقيام بتحمل تلك المسؤولية، وإلّا سيُحاسب الجميع على تهربهم، وسيحاسبون على ذلك في يوم الجزاء.

هكذا نلاحظ أن هذه الدراسة التجريبية كشفت أمرًا مُختلفًا تمامًا عمّا قفز في أذهاننا في بداية الأمر؛ بل ربما لم يكن بالإمكان الوصول الى النتيجة التي توصلت لها الدراسة دون الاستعانة بالتجارب العملية.

وأخيرًا.. لا بُد من الإشارة الى أهمية العمل الجماعي في مجال الكتابة في مواضيع مرتبطة بالسلوك البشري والأخلاق، فبدلَ أن يقدم على كتابة الكتاب الأخلاقي فرد واحد، عليه أن يستعين بآخرين من تخصصات أخرى، كأن يكون أحدهم مُختصًا بالجوانب الدينية، وآخر مختص بدراسات السلوك البشري، وثالث متخصص في الكتابة الموجهة للجمهور، وبذلك ربما نُحيي تراثًا ثريًا تفتقده أجيال اليوم ونعيده للحياة.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

المال كل شيء في الحياة.. «بكم تبيع كبدك» ؟!

دار هذا الحوار بين شاب وحكيم: -

ادع لي شيخي أن يرزقني الله المال الوفير لأصبح غنيا ومن الأثرياء.

- أبشر يا بني. ولكن لما كل هذا الإلحاح على الغنى والمال؟

أريد أن أعيش في عز ورفاهية أريد أن أحيا سعيدا

- ولكن لما تربط بين المال والسعادة؟ فهل ترى كل الأغنياء سعداء؟

نعم يا شيخي أرى ذلك كما أرى سَوءات الفقر وتعاسة الفقراء فقد تذوقت طعم الفقر وجلب لي التعاسة والشقاء.

- إذن أنت ضامن سعادتك إذا حصلت على المال؟

نعم.. أعطني المال وسترى كم سأكون سعيدا، بالمال سأشتري كل شيء كل ما أحبه وتصبو إليه نفسي، سأملك الدنيا والكل سوف يكون في خدمتي وتحت إمرتي، حتما سأكون سعيدا.

- أخطأت يا بني فالسعادة قد لا يجلبها المال كما أنك لا تستطيع شراء كل شيء بالمال.

عفوا يا شيخي، هذا مجرد كلام يقوله الفقراء لإرضاء النفس وتعزيتها، أما الواقع فالمال هو كل شيء في الحياة به نشتري كل شيء فنحقق سعادتنا في الدنيا وحتى في الآخرة لمن أراد، أليس الغني أقدر على الإنفاق في سبيل الله من الفقير؟

- جانبك الصواب يا بني فالمال على أهميته العظيمة في الحياة إلا أنه ليس كل شيء وفي الغالب المال ليس ضامنا للسعادة حتى ولو كان قادرا على شراء كل متع الحياة. أما في الآخرة فالوضع مختلف تماما فيكفي أن تتأمل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قائلا اللهم احشرني في زمرة المساكين لتعرف قدر الفقراء الصالحين في الدار الآخرة. ومن ناحية أخرى قد تجد الفقراء سعداء أيضا في حياتهم الدنيا بصورة أو بأخرى فالغني والفقير له نصيبه من السعادة والشقاء ولتتأمل قول الشاعر حين قال:

أخي لا تمل بوجهك عني

ما أنا فحمةٌ ولا أنت فرقد

أنت في البردة الموشاةِ مثلي

في كسائي الرديم تشقى وتسعد

نعم يا شيخي ولكن هل تستوي سعادة الغني مع سعادة الفقير. أنظر إلى الغني وهو سعيد كم سيحصل من المتع؟ كم سينفق على حفلته وضيوفه؟ كم سيكلف ليلة عُرس ابنه؟ ماذا سيأكل؟ ماذا سيشرب؟ ماذا سيرتدي؟ أما الفقير فقد يسعد نعم ولكن بلا حول ولا قوة فماذا تظنه فاعلا وليس بيده مال يضاعف به سعادته؟

- السعادة شيء نسبي يا بني وليست بالكمية والعدد بل هي قيمة وإحساس وشعور فقد تتضاعف سعادة الفقير بشيء قليل وتزيد عن سعادة الغني بالشيء الكثير وكثير من شواهد الحياة تدل على ذلك.

كل الشواهد يا شيخي تؤيد رأيي بأن السعادة أساسها الغنى ووفرة المال والكل يرى ذلك غنيا كان أو فقيرا فليس هناك غني يتمنى أن يكون فقيرا في حين أن كل الفقراء يتمنون أن يصحبوا من الأثرياء.

- نصف كلامك حق يا بني فالكل يتمنى الثراء ويسعى إليه ويكره الفقر وهذه طبيعة الأمور وهذا مطلوب لإعمار الدنيا ولكن ليس كل الشواهد تقول بأن الأغنياء هم الأكثر سعادة فلو طالعنا مثلا إحصائيات المنتحرين في العالم لوجدنا أن أغلبهم من الأغنياء بل من شديدي الثراء. وسأضرب لك مثلا بشاب ربيب أسرة من أثرى الأثرياء توفت أمه حين ولادته وكان أبوه غليظ القلب خشن المعاملة لم يتودد إليه كما يتودد الأب إلى ابنه ولو لمرة واحدة فنشأ الولد في بيئة يملأها المال والثراء ولكنها تخلو من أي نوع من الحب أو الحنان فكره الولد أباه وكل من حوله وانتهى به المطاف نزيلا في عنبر الخطرين في إحدى مستشفيات الطب النفسي. هنا حضر المال وضاع الحب فضاعت الحياة كلها.

تحدثني شيخي وكأن حياة الفقراء يملأها السرور وأنهم يتجرعون السعادة كؤوسا ولا يكتئبون من ضيق ذات اليد وانغلاق كل الأبواب أمامهم. كلا يا شيخي فأنت تعرف أن الفقر يترك ندبات وجروحا في النفس لا شفاء منها وغالبا ما يحرمهم من كل شيء حتى الابتسامة.

- ما رأيك إذن في رجل سعى إلى المال بكل الوسائل والحيل وكان في مقتبل حياته يقول ليتني أصبح مليونيرا مثل فلان فيقولون له ولكن فلان هذا مصاب بداء عضال في الكبد فأجابهم قائلا ليتني أصبح مليونيرا مثله حتى ولو أُصبت بنفس مرضه ومن عجائب القدر أن تُقبل الدنيا على هذا الرجل فيصبح من أغنى الأغنياء ولكن أصيب أيضا بنفس الداء في كبده وقد ندم أشد الندم على تلك الكلمات التي تفوه بها وأضحى يتمنى أن يجد من يأخذ كل ماله ويعطيه كبدًا سليما معافى.

نعم شيخي إن الصحة لا تقدر بثمن ولكن هذه حالة وليست بقاعدة فهل كل الأغنياء مرضى؟

وهل كل الفقراء أصحاء؟ بالطبع لا ونحن دائما ما نقارن بين الغني المريض والفقير السليم وهي مقارنة متحيزة جدا ولكن الأصح ومن باب الإنصاف الفكري أن نقارن بين الغني المريض والفقير المريض أيضا فالأول سوف يذهب إلى أمهر الأطباء وسيشتري أفضل الأدوية وسيكون احتمال شفائه أكبر من شفاء الفقير الذي ربما قد يفقد حياته لأنه لا يجد ثمن الدواء أو تكلفة عملية جراحية لازمة له.

- صدقت يا بني ولكن أين التأكد من ذلك فقد يشفى الفقير بأرخص الأدوية ولا يحظى الغني بالشفاء مهما أنفق على علاجه والشواهد من الحياة كثيرة تؤكد ذلك.

إذن شيخي أنت ترى أن السعادة ليست مرتبطة بالمال ولكن بالصحة والحب وراحة البال؟

- لا يا بني فكل هؤلاء ليسوا شرطا كافيا لتتحقق السعادة الحقيقية.

حيرتني شيخي! إذن أين هي السعادة؟

- تأمل معي يا بني حال التابعي العابد الصالح إبراهيم بن أدهم حين قال (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف) وكذلك قول الإمام علي كرم الله وجهه (كل يوم لا يعصى الله فيه لنا فيه عيد) وكذلك قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (عجبا لأمر المؤمن: إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو تأملنا كل ذلك سنُدرك هنا وهنا فقط معنى السعادة وشروط تحققها.

مقالات مشابهة

  • المال كل شيء في الحياة.. «بكم تبيع كبدك» ؟!
  • وزير الإتصال: الأسرة الإعلامية ستكون على قدر المسؤولية للدفاع عن البلاد وصورتها
  • الإعلان عن المفاضلة الموحدة لخريجي كليات الطب البشري وطب الأسنان ‏والصيدلة ومفاضلة الدراسات العليا لكليات التمريض والاختصاصات ‏الهندسية ‏
  • تفاصيل احتفالات دار الكتب بـ"أديب نوبل" نجيب محفوظ.. صور
  • سرّ جديد لتحسين الحياة الجنسية لدى النساء
  • الدرقاش: الرئيس الشرع يتمتع بصفات قيادية ويغلب عليه السلوك الهادىء المتزن
  • كتاب: اغتصاب العقل البشري
  • كينيا تتهم شابين بلجيكيين بقرصنة الحياة البرية بعد ضبط 5,000 نملة بحوزتهما
  • شايب: وزير الداخلية الفرنسي يتحمل المسؤولية في هذا الوضع بين الجزائر وفرنسا
  • البشري يتفقد سير الأنشطة والدورات الصيفية في مديرية الزهرة