سودانيون يكشفون للجزيرة نت أهوال رحلة تهريبهم إلى مصر
تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT
الخرطوم- رغم أنها عملية يُفترض فيها السرية والحذر الشديد، لكنها لم تعد كذلك، فالدخول إلى مصر أو ليبيا عبر التهريب بات هدفا لآلاف السودانيين الفارين من الحرب المستمرة على مدى 11 شهرا.
ودون اكتراث للمخاطر الجسيمة التي تحيط برحلة مجهولة في الصحاري ووسط الجبال، يختار آلاف السودانيين خوض غمارها كآخر الحلول بحثا عن الأمان بعد فقدان الأمل في عودة قريبة للديار التي هجروها تحت دوي المدافع والرصاص.
وتزايدت أرقام العابرين للحدود بطرق غير نظامية خاصة بعد اجتياح قوات الدعم السريع منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي لولاية الجزيرة، حيث تنشط عصابات التهريب على نطاق واسع في الشريط الحدودي الذي يربط السودان بكل من مصر وليبيا.
أعداد مرتفعةويؤكد مالك الديجاوي رئيس برنامج "الحد من الهجرة غير النظامية والعودة الطوعية للجاليات السودانية بليبيا"، للجزيرة نت، ازدياد أعداد الفارين عبر التهريب إلى ليبيا بعد الحرب.
ويقول إن أعدادا كبيرة تدخل عبر الكفرة وطبرق قادمين من مصر، كما تصل ليبيا أعداد مقدرة من اللاجئين السودانيين في تشاد وأفريقيا الوسطى، وتقدر السلطات الرسمية -وفق الديجاوي- عدد اللاجئين السودانيين بنحو 400 ألف، ويوضح أن الأرقام لا تشمل الذين يدخلون بطرق غير نظامية وأن العدد أكثر من المذكور.
ويقول أحمد العباس، الذي وصل القاهرة الأسبوع الماضي رفقة أطفاله وعدد من أفراد أسرته، إنه اضطر للاتفاق مع مهربين لنقله إلى مصر في سيارتين اشترط على سائقيها ألا تحمل آخرين سواهم وإنه دفع لأجل هذه المخاطرة كل ما تبقى له من أموال للتخلص من تهديدات وملاحقات الدعم السريع باعتباره من كوادر النظام السابق "وبالتالي بات هدفا مشروعا".
ويضيف للجزيرة نت "بدأت رحلتي خارج بيتي نازحا داخل الخرطوم من حي إلى آخر، تلاحقنا هجمات الدعم السريع فنغادر تحت دوي المدافع وأزيز الرصاص، غادرنا الخرطوم إلى ولاية الجزيرة وأقمنا بقرية نائية لكن بلغتنا هجمة الجنجويد وبعدت علينا الشقة هذه المرة".
ويتابع "خرجنا إلى ولاية نهر النيل حيث لاحقونا برسائل التهديد والوعيد ثم إلى مدينة "أبو حمد" شمالي السودان نستطلع طريق اللجوء إلى مصر، أُوصدت أمامنا المنافذ الرسمية فسلكنا دربا وعرا كنا نعلم أنه قد ينتهي بنا إلى أرض الكنانة أو إلى قبر بفلاة دويّة قاحلة".
عند أطراف سوق "أبو حمد"، يتجول رجال غامضون يعرضون خدماتهم قائلين "سنحملك على ظهر شاحنة تويوتا هايلوكس مقابل 250 ألف جنيه سوداني (250 دولارا)، وإن حجزت مقعدا داخل كابينة الشاحنة ستتضاعف قيمة التذكرة".
يوضح العباس أن المسافرين يفضلون وضع أطفالهم ونسائهم داخل الكابينة، لكن ذلك الترف ينتهي بهم بعد ساعات لدى نقطة قريبة من الحدود المصرية يسميها المهربون "التخزينة"، وفيها تستبدل الشاحنة التي أخذتك من أبو حمد بأخرى.
ويُحشر الركاب جميعا على صندوق العربة وتنطلق بسرعة 180 كيلومترا/ساعة وتلامس في بعض الأمكنة حدود 200 كيلومتر/ساعة، وكلما أحدق خطر الرصد بواسطة حرس الحدود المصري زادت السرعة.
يخبرك أحد المهربين "عليك أن تتمسك جيدا فلن نتوقف لنلتقط من يسقط في بعض النواحي"، ولا يتردد بعضهم في تثبيت الركاب بحبال على صندوق العربة، لكن العباس يعتبر نفسه محظوظا حيث لم يضطر مهربو أسرته لفعل ذلك.
على النقيض، بدت رحلة شهد وعائلتها وأطفالها كقطعة من جهنم -كما تقول للجزيرة نت- حيث انطلقت من منطقة سيدون بولاية نهر النيل وعاشت 5 أيام وسط الجبال بعد أن أبلغهم المهربون بأن الطريق ليس آمنا وعليهم البقاء في "التخزينة" حتى ابتعاد أعين حرس الحدود المصري.
تقول شهد الطيب (اسم مستعار) إنها بعد وصولها إلى مصر في حال يرثى لها -قبل 3 أسابيع- كانت تخشى على مصير أطفالها الأربعة الذين عاشوا في السودان رعب القصف والرصاص ثم اكتملت فصول مآسيهم برؤية أهوال السفر إلى مصر بهذه الطريقة الأليمة.
وتروي كيف أن اثنين من أبنائها أوشكا على الموت بسبب المياه الملوثة التي اضطروا لشربها بعد نفاد مخزون المياه لديهم، علاوة على تعرضهم للبرد القارس وقلة الطعام إثر نفاد مالهم بفعل الأسعار "الفلكية" التي فرضها متعاونون مع المهربين في "التخزينة" على الأطعمة "البائسة" التي يقدمونها للعابرين.
وتضيف أن المهرب وضعها رفقة أطفالها وشقيقتيها مع 10 آخرين على ظهر العربة المكشوفة مقابل 250 ألف جنيه سوداني للشخص الواحد، ثم أوثقهم بالحبال واشترط عليهم ترك أي أمتعة باستثناء حقائب ظهر صغيرة لكل فرد.
وتردف "لم يلتفت لصراخنا ولبكاء الأطفال بسبب السرعة العالية في طريق وعر للغاية، خشيت أن تنقلب السيارة في أي لحظة، كنا في رتل من حوالي 20 سيارة جميعها تنطلق بسرعة جنونية، رأينا أمامنا أكثر من حادث، بعض الجثث كانت ملقاة على الطريق بينهم أطفال صغار، كان المنظر قاسيا ومؤلما. لا أصدق أننا نجونا".
رحلة هروب
تستغرق الرحلة من "أبو حمد" في شمال السودان إلى داخل الحدود المصرية ما لا يقل عن 32 ساعة وقد تمتد أحيانا لأيام، حيث يتحرك المهربون بعد الظهر ولا يتوقفون إلا قبيل انتصاف الليل بقليل عند نقطة تحفها الجبال والصخور، يتم فيها استبدال السيارات الفارهة نسبيا بأخرى تناسب وعورة الطريق.
وفي جنح الليل، تعاود الانطلاق لساعات طويلة يمكن خلالها أن تتعرض الشاحنات لإطلاق رصاص ومطاردة عنيفة من قوات حرس الحدود المصري.
وقريبا من أسوان تتوقف الشاحنات في نقطة يطلق عليها "الكسارات" حيث يتم إنزال الركاب ليستقلوا "تكاتك" إلى أطراف المدينة ثم "ميني باص" إلى داخل المدينة ومنها إلى القاهرة، وفي هذه النقاط يشكو القادمون من الاستغلال الكبير لأوضاعهم.
وفي انتظار العباس وشهد وآلاف السودانيين معاناة لم يضعوها في الحسبان، كما قالوا للجزيرة نت، فدخولهم غير النظامي يحتم عليهم توثيق أوضاعهم لدى السلطات المصرية وهذا يتطلب دفع 1000 دولار للشخص.
كما عليهم التسجيل في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين لكنهم لن يستطيعوا الحصول على بطاقة المفوضية -التي تكفل لهم الحماية القانونية- قبل 4 أشهر هو الموعد الذي قالوا إن المفوضية حددته للمقابلة الأولية.
إلى حين ذلك الموعد، يقول العباس إن مدخراته لن تكفيه للبقاء وكفالة الأسرة وإن عليه البحث عن طريق للعودة إلى السودان بالطريق الخطر ذاته، بينما توضح شهد أنها ستحاول البحث عن عمل لتتمكن من إعاشة أطفالها وشقيقاتها حتى يحل موعد مقابلتها في المفوضية.
وتقدر السلطات الرسمية في مصر عدد السودانيين الذين وصلوا أراضيها بعد حرب أبريل/نيسان الماضي بحوالي 500 ألف، بينما يصعب إحصاء الذين دخلوا بطرق غير نظامية، في حين تقول مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في مصر إن عدد المسجلين بعد الحرب بلغ قرابة 240 ألف سوداني ولا يزال الآلاف يطلبون موعدا للتسجيل.
والشهر الماضي حذرت القنصلية العامة للسودان في أسوان رعاياها من الدخول إلى مصر بطرق غير نظامية، وقالت -في بيان- إن الأمر "يضع مرتكبه تحت طائلة المخاطر والمساءلة القانونية"، وتحدثت عن "وقوع حوادث مرورية وتعرُّض كثيرين إلى النهب والابتزاز من عصابات تهريب البشر".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: للجزیرة نت أبو حمد إلى مصر
إقرأ أيضاً:
مشير المصري للجزيرة نت: معركتنا التفاوضية تشبه مفاوضات البقرة الصفراء
غزة- بين شائعتي اغتاله جيش الاحتلال الإسرائيلي واعتقله تردد اسمه خلال العدوان على غزة مرارا، لكن القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مشير المصري أطل -عقب انتهاء الحرب التي استمرت أكثر من عام ونصف- بجسده سليما معافى دون أن يصاب أو يعتقل.
وأجرت الجزيرة نت حوارا مباشرا مع المصري -الذي أسند إشاعة الأخبار المغلوطة عنه وعن قيادات عدة في الحركة- إلى الاحتلال "الذي يسعى من وراء ذلك إلى جمع معلومات أمنية عن الشخصيات المطلوبة لإسرائيل بعد فشلها في الوصول إليهم، حيث تستفيد من التغذية الراجعة من شيوعها، كما أنها تأتي ضمن الحرب النفسية لضرب الروح المعنوية".
وعبر المراسلات المكتوبة كان يطمئن أفراد عائلته عنه ويطمئن عليهم من خلالها، وقد كان هذا الأمر يستغرق أياما في كثير من الأوقات لوصولها، مما يضاعف قلقه عليهم وقلقهم عليه، خاصة في ظل انتشار الشائعات.
ظروف استثنائيةلدى مشير المصري -المكنى بأبي بكر- 8 أبناء (6 فتيان وفتاتان)، وأصبح جَدّا في العدوان، إذ زوّج كبرى بناته وبكر أبنائه قبل بدايتها.
ودمرت الحرب بيته الجديد الذي أقامه في بيت لاهيا شمال قطاع غزة ولم تمنحه سوى 10 أشهر للعيش فيه، حيث دخله الجنود وفخخوه بعدما نشروا صورا من داخله لأسلحة جمعوها من المواقع العسكرية المحيطة ووضعوا في منتصفها رخصة قيادة خاصة بالمصري، لينسفوا بعد ذلك المنزل كله فيصبح أثرا بعد عين.
إعلانأوجد يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ارتباكا عند جل الغزيين، ولا سيما عند المطلوبين للاحتلال الذين يعيشون في كل عدوان ظروفا استثنائية يحاولون فيها اتباع خطة للطوارئ معدة مسبقا، فيضطرون خلال دقائق إلى إخلاء المنزل هم وأفراد عائلاتهم والانفصال عنهم، ليلتقي معهم بعد عام ونصف، وهي فترة جاوزت كل التوقعات، كما يقول المصري.
وأضاف "لم يكن أحد يتخيل أن تكون الحرب بهذه الوحشية والدموية أو أن يطول أمدها، وقد كانت أشد مراحلها وطأة على قلبي حين اُجتيح الشمال".
ويكشف المصري للجزيرة نت أنه لم يخرج من بلدة بيت لاهيا إلى مدينة غزة إلا في اليوم الأول لحصار محافظة شمال القطاع، حيث تسلل من بين فكي كماشة، تاركا إخوته وأبناءه الكبار فيه، ليعيش أياما بالغة الصعوبة، خاصة عقب انقطاع الاتصال بهم، ليتبين بعد انسحاب الاحتلال استشهاد 12 فردا من عائلته كان من بينهم أخواه وعائلاتهما، ليصبح له 3 من الإخوة شهداء بعد فقده الأول عام 2004.
المصري والقادةوعدّد المصري أسماء إخوته، والتي وصفها بالعسكرية قائلا "أسماء إخوتي ثورة وتحرير وفلسطين وفارس وخميس ورائد، ومشير، وقد كان والدايّ قاصدين ذلك لإذكاء روح الثورة في نفوس أبنائهما".
وجاء اجتياح شبح المجاعة للشمال في وقت كان فيه المصري ومن معه قد عكفوا على الصيام حيث قضوا نصف الحرب صياما ضمن ما وصفها بالفلسفة التعبدية التي سلكوها منذ بداية العدوان.
لكن ونظرا لظروفهم الأمنية المعقدة ومنع تحركهم فقد كانت المجاعة شديدة الصعوبة عليهم، حيث كانت وجبتهم الوحيدة على مدار اليوم هي الإفطار على شوربة العدس إن توفرت.
وتأثر المصري بشكل شديد باستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية بحكم علاقته الوطيدة به، كما أنه كان ملهمه في فترات صعوده وقدوته في علاقاته الاجتماعية المفتوحة، كما تأثر بأسلوبه الخطابي مع الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.
إعلانويذكر لقاءه الأخير مع الشهيد يحيى السنوار قبل أيام من عملية "طوفان الأقصى"، إذ أثنى على تصريحات كان قد أدلى بها المصري، معلقا على ذلك بقوله "سيحدث كل ما قلته يا أبا بكر، بل وأكثر".
أما عن القائد الشهيد محمد الضيف فقال المصري "إن قائدا ملهما بحجمه وتضحياته وعمره التاريخي العسكري ومواكبته كل المحطات التي مرت بها كتائب القسام منذ سلاح الكارلو إلى صاروخ عياش 250 لا تليق به خاتمة سوى الشهادة".
تشدد حركة حماس ضمن ترتيباتها الأمنية مؤخرا على منع تجمّع عدد كبير من القيادات في المكان ذاته، كي لا تدفع ثمنا كبيرا بخسارتهم كما حدث في معركة "سيف القدس" التي استشهد فيها ثلة من خيرة قادة القسام، بحسب المصري.
كما يوطن المستهدفون أنفسهم وعوائلهم على توقع تلقي خبر الاستشهاد في أي لحظة، وهو أقسى ما يمكن أن يدفعه الإنسان في معركة تحرره مع الاحتلال.
ونفى المصري أن تكون إطالة أمد الحرب قرارا إسرائيليا، بل برأيه، فإن القوى الدولية شكلت للاحتلال مظلة آمنة وصمام أمان للمضي فيها، خاصة مع عدم وجود قوة تحركت لردعه أو لكبح جماحه، كما يعزو ذلك إلى الانحياز الأميركي والأوروبي للاحتلال ودعمهما المفتوح له بالسلاح، وما قابل ذلك من حالة الخذلان العربي والإسلامي.
وقال إن أكبر تحدٍ يواجه حركة حماس اليوم هو المضي في اتفاق وقف إطلاق النار، وتابع" نخوض معركة تفاوضية تشبه مفاوضات البقرة الصفراء، لكننا في الوقت نفسه نديرها بكل حكمة واقتدار أمام وجود ورقة الأسرى القوية في يدنا"، مؤكدا رفض الحركة السماح للاحتلال بالمضي في سياسة المماطلة دون أن يدفع ثمن ذلك.