الكتاب: الشأن الديني والشأن السياسي في المجتمعات الإسلامية
الكاتب: كتاب جماعي الإشراف والتنسيق أ.د. عبد اللطيف الحناشي أ.د. ابراهيم جدلة
النّاشر: الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى، تونس 2023.
عدد الصفحات: 476 صفحة

ـ 1 ـ


يحافظ الشأن الديني على حضوره الدائم والقوي في مختلف مظاهر الحياة اليومية للمجتمعات الإسلامية على اختلاف عصورها.

ولكن ذلك لم يخل من صدام مع الشأن السياسي. فرهان إخضاع أحدهما إلى الآخر "لأحقيته في قيادة المجتمع" كان يلازم دائما هذا الحضور القوي. ولهذا المحور الكبير المتعلّق برسم الحدود بين مجال الدين ومجال السياسة في المجتمعات الإسلامية  إشكاليات مختلفة متفرعة عن هذا الأصل. فاختار منها مؤلفو كتاب "الشأن الديني والشأن السياسي في المجتمعات الإسلامية"، وهو مؤلف جماعي أشرف على إنجازه كل من د. عبد اللطيف الحناشي ود. إبراهيم جدلة، الأستاذين الباحثين بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، علاقة الفقهاء (أصحاب القلم) بأصحاب السلطة (أصحاب السيف)، ودورهم بين النقد والمعارضة والإسناد، ودور مؤسسات الدولة الإسلامية المختلفة بين مهامها الدينية والدنيوية.

ـ 2 ـ

يدرس د إبراهيم جدلة المصطلح السياسي في عهد النبوة، فيقوم بجرد ما تعلّق منه بالسلطة ومؤسسات الحكم في النصّ القرآني شأن العرش والمُلك والخليفة والوزير والملأ وما تعلّق منه بالحكم (الأمر) والمواثيق المنظمة له شأن ميثاق وصحف والأمر والإمارة. ثم يبحث في هذا المصطلح في فترة النبوّة من خلال الممارسة السياسية ومن خلال مخاطبات الرسول مع القبائل وعلاقته بها شأن المواعدة وأخذ الأمان والمحالفة والتحالف والعهد أو العقد والصلح. ثم يتبسط في عرض دلالاتها.

وينهي بحثه المسهب والدقيق في الآن نفسه إلى أنّ الإسلام مثل حالة خاصة بين الديانات السماوية. فنشأته الفريدة من نوعها تفسر لنا هذا الترابط الذي لم ينقطع قط إلى اليوم بين الشأنين الديني والسياسي. ونتيجة لهذا التلازم بين السياسي والديني عامة ظل السيف هو المحدد في تسيير المجتمع والدولة وتنظيم أمورهما. ويجد في خطبة زياد بن أبيه، حين خطب في أهل البصرة، فقال: "أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان ـ الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما وُلّينا"، اختزالا للعقد الاجتماعي في دولة الإسلام بين الراعي والرعيّة، وهو عقد ظلّ ساري المفعول إلى اليوم. وقوامه "السمع والطاعة من جانب الرعيّة، والعدل إن أمكن من جانب الراعي".

أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان ـ الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما وُلّيناويجد في هذا العقد امتدادا لتصوّر الإسلام المبكّر لتدبير الشأن العام. فقد ارتبط الإسلام منذ ظهوره، وفق تصوّر الباحث، بالتنظيم الاجتماعي وبالتدبير السياسي. فتشابكت الدعوة التبشيرية مع البناء السياسي منذ الاستقرار في المدينة، بحيث لم تكن الخطابات اليومية ولا النصوص الدينية خالية من المصطلحات السياسية البحت، التي لا علاقة لها بالدين. ويعتقد إبراهيم جدلة أنّ أغلبها جاء استجابة لمتطلبات المرحلة وبناء كيان سياسي ولكنّه سيكون لقرون عديدة رافدا للدين الجديد وحاميا له.

ـ 3 ـ

أمّا نجاة الجويني العبيدي فتتطرّق للعلاقة بين الديني والسياسي من زاوية خاصّة هي "نظام الحسبة في القاهرة المملوكية بين التنظير والممارسة" بداية من أواسط القرن السابع الهجري. فتدرسها بما هي نظام لتسيير أمور الدولة وتسهيل المعاملات والعلاقات بين مختلف الفئات الاجتماعية من جهة وتنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع من جهة ثانية. فتعرّفها انطلاقا من كتابات الفقهاء التعريفات المختلفة وتتناولها من الوجوه المتعدّدة. فهي "علم باحث عن الأمور الخارجية بين أهل البلد من معاملاتهم التي لا يتم التمدن بدونها" أو "هي  قانون جواد الأوضاع ومضمون مواد الإجماع، تجمع إلى الشريعة الشريفة سياسة يرهب جدها، ويرهف حدها" أو هي "من الوظائف الدينية بالمجلس السامي إلى جانب القضاء والقضاء العسكري، والإفتاء بدار العدل".

وتدرس ممارستها واقعا، فتنتهي إلى أنّ نظام الحسبة نظام مدني فرضه الواقع في دولة المماليك العسكرية  لتسهيل العلاقات بين السلطة المجتمع من ناحية وبين العامة وأصحاب السوق من ناحية أخرى. ولكن الواقع التاريخي والممارسة أديا إلى الحياد عن الأصل المحدّد لهوية المحتسب من جهة شروطه ومهامه. ومن هنا تسرّب البون بين المثالي المنشود و الموجود في  الممارسة والتطبيق الذي اقتضى الاجتهاد واللجوء إلى العرف غالبا.وفي الآن نفسه تخلص إلى أنّ دراسة نظام الحسبة في القاهرة المملوكية بين لنا عدة جوانب من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة المملوكية مثل أنواع الحرف والأعمال والأسعار والعملة والنقد واللباس وأنواع الطعام الذي يباع في الأسواق، ومنه بعض أنواع الطعام الذي لا يزال متواصلا إلى الآن في عدة دول إسلامية. وتجد هذه المدونة للدراسة من منطلق الأنتربولوجيا التاريخية.

ـ 4 ـ

ويطرق إمحمد سعيد، في مبحث أوّل مسألة "الفقيه والسلطان من جهة الاتصال والانقباض آراء في ممالك العهد الوسيط في مؤلفات الآداب السلطانية بصنفيها التدبيري والواعظ" من مداخل مختلفة أهمها حاجة السلطان للفقيه وللعالم، فيعرض نماذج مختلفة لفقهاء تردّدوا على بلاطات الحكّام. ويبرز اصطناع السلطان لهم في وظائف كالتدريس والإمامة والتأليف والعمل بالدّواوين واستعانته بهم في التوجيه في تدبير الملك والاستجابة للحاجات السلطانية. ولكنه يقدّر أنّ بعض الحكّام كانوا يتزيّنون بالعلم والعلماء واستغلال مواهبهم لا أكثر. فكانوا يستدعونهم لمجالس علمية تعقد بالقصور ويحدث أن يزوروا هم بأنفسهم مجالسهم حتى يظهروا بمظهر الحكّام العلماء والملمين بالآداب والمعارف.

ويعرض المواقف المختلفة من "غشيان باب السلطان" فيعود عندئذ إلى كتب الآداب السلطانية لتفصيل مواقف العلماء والأدباء من السلطان العادل والسلطان الجائر والسلطان الكافر أو المرتدّ والسلطان الفاسق والسلطان صاحب الشوكة. ويسلّم بكوننا لا نستطيع الخروج من هذه المتاهة بتصنيف واضح يوجه سلوك العالم تجاه السلطان وفق قاعدة مذهبية فقهية أو كلامية. فالأمر يظلّ خاضعا للظرفي والذاتي. ومع ذلك يلاحظ نزعة عامة تميل إلى "هيمنة الفكر المساند أو المهادن في أكثر الحالات والداعي مع ذلك إلى الأمر بالمعروف وإلى النهي عن المنكر، وخاصة النهي عن الجور، مقابل دعوة الرعية إلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره".

ويحاول أن يفهم سبب هذه النزعة بالعودة إلى العوامل الموضوعية. فيقدّر أنّ  المدرسة النظامية التي انتشرت في العهد السلطاني بداية من الفترة السلجوقية كانت من بين أهم أسباب انتشار فكر المساندة والمهادنة من طرف الفقيه الذي تحول في غالب الأحيان إلى تابع للسلطان. ويجد نظيرا لهذه التجربة في المؤسسة المدرسية الرسولية في اليمن. فلعملية انتقاء الطلبة المدرجين بهذه المدارس دور حاسم. فقد كانوا يختارون من ضمن الأيتام، فتتولى هذه المدارس الإنفاق عليهم. أمّا  الفقهاء الذين يبرزون في المشهد العام، فكانوا ينتقون من ضمن المساندين، ويتحصلون على رواتب عينية ونقدية من أوقاف المدرسة السلطانية، أو نوعية الكتب المدرسة بهذه المؤسسات وهي في أغلب المدارس اليمنية شافعية أشعرية تكفل التبعية للحاكم.

ـ 5 ـ

وفي مبحث ثان  يدرس محمد سعيد هذه العلاقة القلّب بين الفقيه والأمير في العصر الوسيط الأول في إفريقية.. تحديدا، بعد أن مال بحثه الأول إلى دراستها في الشرق أكثر. فيتساءل من يستخدم الآخر، مقدّرا أنّ الصلة بين الأمير والفقيه تقوم على توافق هش قابل للتفكك في كل حين. وانطلاقا من مسألة الطاعة يجد أنّ الدور المراد للفقهاء يكاد يختزل في ضبط الفئات الرافضة والخارجة وفي إلزامها بالولاء إلى السلطة وفي التنظير للسلطان وتشريع سلطته وفي الحث على الانخراط في العمل المسلّح دفاعا عن الشرعية فيذكر نماذج مثل أبي محمد بن خالد بن أبي عمران التّجيبي أو أبي كريب القاضي أو يعرض عهودا بعينها عهد إبراهيم بن الأغلب وفي عهد زيادة الله.

مأتى سلطة الفقيه مما يحققه من مبادئ الدين ويحاجج لضمان بقائها وانتشارها والركون إليها. وهذا ما يجعل الحاكم ينظر إليه بعين الريبة فيرى فيه منافسا ويعمل على الحد من جموحه ورغباته. ولذلك كثيرا ما يصطدم به في حال لم يشرّع له ما يريده في شكل فتاوى وآراء ومواقف دينية تدعّم سلطانه.يعود الباحث إلى بعثة الفقهاء العشرة الذين أرسلهم الخليفة عمر بن عبد العزيز لنشر الإسلام بإفريقية ليقاربها من زاوية مغايرة. فيذكر أنّ من أهدافها التصدي إلى الحملة التي كان الخوارج يشنونها ضدّ النظام الأموي في الأطراف بعيدا عن نفوذ السلطة في المركز. وعامة حاول الباحث تتبع العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الرمزية سلطة الفقيه ـ العالم ـ القاضي. فيجد أنها لا تختلف عما كان سائدا في نطاق المجال الإسلامي، مشرقا ومغربا، فالعلاقة بينهما تراوحت بين التكامل حينا والتناقض حينا آخر لقد كانت النخبة السياسية تحتاج المشروعية التي تؤطرها الشريعة في ظل منظومة حكم تستند إلى فلسفة الحق الإلهي، كما هو شأن كل مجتمعات العصر الوسيط والحديث قبل انتشار القيم التي تقوم على حقوق الإنسان، ومنها برزت نظرية الحق الطبيعي في الحكم.

بخصوص الوضع في إفريقية". فالحاكم كان يحتاج إلى الفقيه لتسيير أجهزة الدولة وملحقاتها. ومن ثَمّ  بدت له الاستقلالية مخادعة، خاصة في خطة القضاء. فالأمر يبقى دائما بيد السلطة التنفيذية، فهي التي تعين وتعزل، وهي التي تجازي وتعاقب وتصادر، وتقتل إن لزم الأمر. وعلى خلاف أغلب مؤلفي هذا الأثر، يميل محمد سعيد إلى تبخيس دور الفقيه والعالم. فقد كان الأمير يحتاج إليه.  فيستجيب عبر الانخراط في السلطة وموافقتها بحثا عن الاستفادة من المغانم. فإن لم يستجب أجبر على ذلك. وقد يبرز للعيان أن الفقيه العالم في وضع متفوق الأمير، وهي الصورة التي تحاول إيصالها لنا المصادر المالكية خاصة، لكن الوقائع تؤكد خلاف ذلك، "فالعلاقة تحددها الظرفية التاريخية. فحتى ما يبدو من تنازل السلطة السياسية لصالح العلماء فإن ذلك يكون مؤقتا، وسرعان ما تتدارك الموقف وتستعيد زمام الأمور بكل الوسائل". ويكون ذلك بالعزل وتعيين منافسيه كما حصل مع الإمام سحنون. ومن أساليب التخلّص من الفقهاء المشاكسين إرسالهم إلى الجهاد، كما حصل مع أسد بن الفرات.

ـ 6 ـ

يبحث د. العيد غزالة في "الفقيه والوساطة بين المجتمع والسلطان" في العهد الحفصي تحديدا. وعلى خلاف محمد سعيد، يجد في هذه العلاقة تفاعلا بين رهانين، رهان السلطة السياسي الذي يمثله الأمير ومصلحة الأهالي (القبيلة أو المدينة) التي يمثلها غالبا هذا الفقيه. وهذا ما يفتح على مجالات للتداخل بين الدّيني والسياسي في الحياة العامة.

ويفصّل القول في دور الوساطة التي يتولاّها الفقيه بين الحاكم والرعية، من وجهة نظره. فيتطرّق إلى إشكالية الرّاعي والرّعية من منظور فقهي ينزّلها عامة في قول الغزالي ضمن أثره"التبر المسبوك في نصيحة الملوك"باختيار الله لـطائفتين"وهم الأنبياء ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل" و"الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض".

وينتهي إلى أنّ العلاقة بين الفقيه والسلطان علاقة جدلية. فمأتى سلطة الفقيه مما يحققه من مبادئ الدين ويحاجج لضمان بقائها وانتشارها والركون إليها. وهذا ما يجعل الحاكم ينظر إليه بعين الريبة فيرى فيه منافسا ويعمل على الحد من جموحه ورغباته. ولذلك كثيرا ما يصطدم به في حال لم يشرّع له ما يريده في شكل فتاوى وآراء ومواقف دينية تدعّم سلطانه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الديني السياسة عرض العلاقات علاقات كتاب سياسة دين عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی المجتمعات الإسلامیة السمع والطاعة العلاقة بین السیاسی فی الله الذی محمد سعید من جهة إلى أن

إقرأ أيضاً:

العقل الجمعي وإدارة القطيع

18 مارس، 2025

بغداد/المسلة: إنتصار الماهود

العقل الجمعي وإدارة القطيع
(هل أنت من القطيع ؟!)

تعرف سياسة العقل الجمعي في المجتمعات العربية بأنها تبنّي الأفراد للأفكار والمواقف الجماعية دون تفكير نقدي أو تحليل فردي عميق، وهو يؤدي لتعزيز الامتثال والتماهي مع الآراء السائدة بدلاً من تبنّي وجهات نظر مستقلة.

تتحدد ملامح سياسة العقل الجمعي في المجتمعات العربية بما يلي:

1. التقليد والتبعية الفكرية: يميل الأفراد إلى تبني الآراء الشائعة خوفًا من العزلة أو الرفض الاجتماعي.

2. سلطة الجماعة على الفرد: يُنظر إلى الخروج عن المألوف كتهديد للهوية الجماعية، مما يدفع الأفراد للالتزام بالمعتقدات السائدة حتى لو كانت غير منطقية.

3. دور المؤسسات الاجتماعية: تلعب العائلة، المدرسة، والدين دورًا في تكريس الأفكار الجماعية وتعزيز قيم الطاعة والامتثال.

4. الخوف من النقد والاختلاف: يُواجه النقد أو الرأي المختلف بنوع من الإقصاء أو التهميش، مما يقلل من فرص التجديد الفكري.

5. التأثير الإعلامي والدعائي: تقوم وسائل الإعلام بتوجيه الرأي العام، مما يعزز انتشار الأفكار المسيطرة ويقلل من التنوع الفكري.

ابرز النتائج المترتبة على هذه السياسة هي

ضعف التفكير النقدي والإبداعي

تعزيز ثقافة القطيع والخضوع للسلطة

إعاقة التغيير الاجتماعي والإصلاحات السياسية

انتشار الشائعات والمعلومات غير الدقيقة دون تمحيص

أما كيف يمكن مواجهة سياسة العقل الجمعي فهي تكون :

تعزيز التفكير النقدي في المؤسسات التعليمية.

تشجيع حرية التعبير وقبول التعددية الفكرية.

دعم الإعلام المستقل الذي يعزز النقاش المفتوح والتحليل الموضوعي.

تعزيز ثقافة الاستفسار والتشكيك بدلًا من القبول الأعمى للمعلومات.

***هناك عدة نظريات تشرح مفهوم العقل الجمعي وكيف يؤثر على اتخاذ القرارات، خاصة في المجتمعات العربية التي تتسم بالتماسك الاجتماعي والامتثال الثقافي. إليك أبرز النظريات:

1. نظرية “سيكولوجية الجماهير”
لغوستاف لوبون، عالم الاجتماع الفرنسي، يرى أن الأفراد عندما يكونوا في جماعة، يفقدوا قدرتهم على التفكير العقلاني ويندمجون في سلوك القطيع. تصبح الجماهير عاطفية، مندفعة، وسهلة التأثر بالشعارات والقادة الكاريزميين.

أما التأثير على المجتمعات العربية:
فسهولة التأثير على الرأي العام من خلال الخطاب العاطفي والدعاية الإعلامية.

أما انتشار الشائعات والتضليل بسرعة فهو بسبب غياب التفكير النقدي الفردي.

كذلك الميل إلى اتخاذ قرارات جماعية متسرعة ربما لا تكون عقلانية

2. نظرية التوافق الجماعي لإرفين جانيس الذي طورها لشرح كيف أن المجموعات المتماسكة تميل إلى إسكات الأصوات المعارضة واتخاذ قرارات غير عقلانية بسبب الضغط للامتثال.

أما التأثير على المجتمعات العربية:

ففي السياسة، تميل النخب الحاكمة إلى اتخاذ قرارات بناءً على رأي موحّد دون النظر إلى البدائل.

أما في الأسرة والمجتمع، يُعتبر الاختلاف في الرأي خروجًا عن القيم السائدة، مما يقيد الإبداع والتجديد.

بالنسبة للشركات والمؤسسات، يُفضل الأفراد عدم معارضة القادة خوفًا من العواقب، مما يؤدي إلى قرارات ضعيفة أو غير فعالة.

3. نظرية النفوذ الاجتماعي لسولومون آش يُظهر بحثه أن الأفراد يميلون للتوافق مع رأي الجماعة حتى لو كانوا يعتقدون أنه خاطئ، وذلك بسبب الضغط الاجتماعي أو الرغبة في القبول.

أما التأثير على المجتمعات العربية:

فهو يعزز ثقافة التبعية بدلًا من الاستقلال الفكري.

وهو يجعل الأفراد يترددون في مواجهة التقاليد والعادات القديمة حتى لو كانت غير منطقية.

كما أنه يؤثر على سلوك الناخبين، حيث يتبع البعض رأي العائلة أو القبيلة دون أي تحليل نقدي.

4. نظرية التأطير الإعلامي لإرفينغ غوفمان فهو يعتبر وسائل الإعلام تؤثر على كيفية فهم الجمهور للقضايا من خلال اختيار الزاوية والطريقة التي تُعرض بها المعلومات.

بالنسبة للتأثير على المجتمعات العربية:

الإعلام مثلا يوجّه العقل الجمعي نحو دعم أو رفض قضايا معينة.

كما يتم استخدام الرموز الثقافية والدينية لإضفاء الشرعية على سياسات أو قرارات.

وايضا تُستخدم الحملات الإعلامية لصنع رأي عام متماسك يدعم توجهات معينة دون نقد

** كيف تؤثر هذه النظريات على اتخاذ القرار في المجتمعات العربية يمكن تلخيصها بما يأتي :

1. غياب التفكير النقدي: يميل الأفراد إلى اتباع القادة أو الشخصيات المؤثرة بدلًا من تحليل المعلومات بأنفسهم.

2. القرارات العاطفية: تؤثر العواطف والديناميكيات الجماعية على الحكم، مما قد يؤدي إلى قرارات غير مدروسة.

3. التأثير الإعلامي: تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في توجيه الرأي العام وتضخيم بعض القضايا على حساب أخرى.

4. الخوف من العزلة: كثير من الأفراد يفضلون الامتثال بدلاً من المجازفة بالاختلاف، مما يعزز استمرارية العقل الجمعي.

كيف يمكن أن نقلل من تأثير العقل الجمعي؟

**تعزيز التعليم النقدي في المدارس والجامعات.

**تشجيع حرية التعبير واحترام التعددية الفكرية.

**دعم إعلام مستقل يعرض مختلف الآراء.

**نشر ثقافة التحليل العلمي واتخاذ القرارات بناءً على الأدلة.

هذه النظريات توضح كيف يتشكل العقل الجمعي وكيف يمكن أن يؤثر على قرارات الأفراد والمجتمعات، خاصة في البيئات التي تركز على التوافق الاجتماعي والالتزام بالقيم الجماعية.

كيف فسرت هذه النظريات الوضع في العراق وسوريا الدولتان اللتان تعرضتا لدخول داعش وكان نتيجة تفاعل معقد بين العوامل السياسية، الاجتماعية، والطائفية، لكن يمكن تفسير نجاح التنظيم في استقطاب الأفراد والتأثير على الجماهير من خلال بعض النظريات التي تفسر العقل الجمعي

1. “سيكولوجية الجماهير” – غوستاف لوبون

كيف طبقتها داعش؟

**التلاعب بالمشاعر الجماعية: استخدمت داعش الخطاب الديني المتطرف لإثارة مشاعر الغضب، الظلم، والرغبة في الانتقام لدى بعض الفئات المهمشة في العراق وسوريا.

**الإيحاء النفسي والجماعي: عندما يرى الأفراد أن الجماعة بأكملها تتبنى أيديولوجيا معينة، يصبح من الأسهل عليهم الانضمام، حتى دون اقتناع شخصي.

**خلق هوية موحدة: داعش عززت فكرة “نحن ضدهم”، حيث صورت نفسها كحامية للإسلام ضد “الطغاة”، مما جذب آلاف المقاتلين الذين شعروا بالحاجة إلى الانتماء لجماعة قوية.

***الأثر على العراق وسوريا:

ساعدت هذه العوامل في تجنيد آلاف الشباب عبر العالم، مما أدى إلى تضخم التنظيم بسرعة.

جعلت المجتمعات التي سقطت تحت سيطرتها تخضع لقواعدها خوفًا من العواقب أو بسبب التأثر بالدعاية.

2. “التوافق الجماعي إرفين جانيس

كيف استغلته داعش؟

**إلغاء التفكير النقدي داخل الجماعة: في ظل سيطرة داعش، أي شخص يعترض على قرارات الجماعة كان يُعتبر مرتدًا أو خائنًا، مما دفع الناس إلى التزام الصمت والخضوع.

**اتخاذ قرارات متطرفة دون نقاش: بسبب سيادة الفكر الجمعي، لم يكن هناك مجال للنقاش حول شرعية أو عقلانية الفظائع التي ارتكبها التنظيم، مثل الإعدامات الجماعية والعبودية.

***الأثر على العراق وسوريا:

**خلق بيئة من الخوف والطاعة العمياء، مما أدى إلى قبول الناس لأوامر داعش حتى لو كانت ضد مصلحتهم.

**منع المعارضة الداخلية للتنظيم، مما عزز استمراريته حتى مع وجود مقاومة خارجية.

3. “النفوذ الاجتماعي” سولومون آش

**كيف استغلته داعش؟

** خلق ضغط اجتماعي هائل للانضمام: الأفراد الذين عاشوا في مناطق سيطرة داعش واجهوا ضغوطًا قوية للامتثال، فحتى لو لم يكونوا مقتنعين، كانوا يخشون العزلة أو العقاب.

**استغلال الجماعات القبلية والطائفية: التنظيم استفاد من بعض الفئات المستاءة (مثل بعض القبائل السنية في العراق التي شعرت بالتهميش من الحكومة الشيعية) وجعلهم يرون الانضمام إليه كخيار منطقي.

***الأثر على العراق وسوريا:

**ساعد التنظيم في كسب تأييد بعض الفئات في البداية، خاصة في العراق، حيث رأى بعض السنة داعش كبديل للحكومة التي اعتبروها منحازة.

أدى ذلك إلى توسع سريع لداعش في 2014، حيث استولت بسهولة على الموصل ومناطق أخرى.

4. “التأطير الإعلامي” إرفينغ غوفمان

**كيف استغلته داعش؟

**إدارة وسائل الإعلام بشكل احترافي: داعش لم تعتمد فقط على القوة العسكرية، بل ركزت على الدعاية المكثفة عبر وسائل الإعلام، مما جعلها تبدو أقوى مما هي عليه.

** تصوير نفسها كدولة حقيقية: عبر إنتاج مقاطع فيديو احترافية وإعلانات عن “الخدمات الحكومية” في مناطق سيطرتها، خلقت داعش إطارًا إعلاميًا يوهم بالاستقرار والشرعية.

**تجنيد عبر الإنترنت: استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي لاستقطاب المقاتلين من مختلف أنحاء العالم عبر تقديم سردية ملهمة عن “الخلافة الإسلامية”.

***الأثر على العراق وسوريا:

** شجعت آلاف المقاتلين الأجانب على السفر إلى سوريا والعراق، مما ساعد في استمرار التنظيم لفترة طويلة.

** خلقت مناخًا من الرعب والهيمنة النفسية، حيث كان الخوف من همجية داعش يمنع المجتمعات من المقاومة الفعالة.

 

***اذا السؤال المطروح كيف أدى العقل الجمعي إلى كارثة؟

لقد ساعدت هذه الآليات على إقناع الأفراد بالانضمام لداعش أو على الأقل عدم مقاومتها، مما مهد الطريق لسقوط مناطق واسعة تحت سيطرتها.

لقد أدى التفكير الجمعي والضغط الاجتماعي إلى تحييد الأصوات المعتدلة، حيث أصبح الناس إما مع داعش أو ضدها دون مجال للحياد.

ولم يقتصر التأثير على سكان المناطق المحتلة، بل وصل إلى العالم، حيث سافر آلاف المقاتلين الأجانب إلى العراق وسوريا نتيجة التأطير الإعلامي والدعاية النفسية.

** اذا كيف تم تفكيك هذا العقل الجمعي؟

١ .مع مرور الوقت، أصبحت وحشية داعش واضحة حتى لأتباعها، مما أدى إلى انشقاقات داخلية.

٢. الإعلام المضاد بدأ يكشف أكاذيب التنظيم، مما قلل من قدرته على التجنيد.

٣. الهزائم العسكرية المتتالية كسرت هالة القوة التي بناها التنظيم، مما دفع السكان إلى التمرد والمساعدة في الإطاحة به.

في الختام
لقد اعتمد داعش على آليات العقل الجمعي لجذب المؤيدين والسيطرة على السكان، ولكن مع مرور الزمن، بدأ الناس يدركون الحقيقة خلف الدعاية، مما أدى في النهاية إلى انهيار التنظيم.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • الشابي لـعربي21: دخلنا مرحلة عدم الاستقرار السياسي.. وتشققات في هيكل السلطة
  • رؤى في تعدد مداخل تقاطع مع الديني والسياسي.. مشاتل التغيير (10)
  • الحديدة.. ندوة في مديرية بيت الفقيه  بذكرى غزوة بدر الكبرى
  • الحديدة.. أمسية رمضانية بمنطقة الحسينية في بيت الفقيه بذكرى غزوة بدر الكبرى
  • العقل الجمعي وإدارة القطيع
  • قراءة في كتاب: “الطريق التجاري من حَجر اليمامة إلى البصرة”
  • الحزن يخيم على مصر.. وفاة الفقيه والمحدث أبو إسحاق الحويني
  • المفتي: الشريعة الإسلامية تُطبق في الواقع وليست غائبة عن المجتمعات |فيديو
  • المعارضة الشعبية الرقمية.. موضوع ندوة لمؤسسة الفقيه التطواني
  • الإعلان الدستوري.. قراءة تحليلية لفلسفة السلطة في سوريا الجديدة (1)