الكتاب: الشأن الديني والشأن السياسي في المجتمعات الإسلامية
الكاتب: كتاب جماعي الإشراف والتنسيق أ.د. عبد اللطيف الحناشي أ.د. ابراهيم جدلة
النّاشر: الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى، تونس 2023.
عدد الصفحات: 476 صفحة

ـ 1 ـ


يحافظ الشأن الديني على حضوره الدائم والقوي في مختلف مظاهر الحياة اليومية للمجتمعات الإسلامية على اختلاف عصورها.

ولكن ذلك لم يخل من صدام مع الشأن السياسي. فرهان إخضاع أحدهما إلى الآخر "لأحقيته في قيادة المجتمع" كان يلازم دائما هذا الحضور القوي. ولهذا المحور الكبير المتعلّق برسم الحدود بين مجال الدين ومجال السياسة في المجتمعات الإسلامية  إشكاليات مختلفة متفرعة عن هذا الأصل. فاختار منها مؤلفو كتاب "الشأن الديني والشأن السياسي في المجتمعات الإسلامية"، وهو مؤلف جماعي أشرف على إنجازه كل من د. عبد اللطيف الحناشي ود. إبراهيم جدلة، الأستاذين الباحثين بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، علاقة الفقهاء (أصحاب القلم) بأصحاب السلطة (أصحاب السيف)، ودورهم بين النقد والمعارضة والإسناد، ودور مؤسسات الدولة الإسلامية المختلفة بين مهامها الدينية والدنيوية.

ـ 2 ـ

يدرس د إبراهيم جدلة المصطلح السياسي في عهد النبوة، فيقوم بجرد ما تعلّق منه بالسلطة ومؤسسات الحكم في النصّ القرآني شأن العرش والمُلك والخليفة والوزير والملأ وما تعلّق منه بالحكم (الأمر) والمواثيق المنظمة له شأن ميثاق وصحف والأمر والإمارة. ثم يبحث في هذا المصطلح في فترة النبوّة من خلال الممارسة السياسية ومن خلال مخاطبات الرسول مع القبائل وعلاقته بها شأن المواعدة وأخذ الأمان والمحالفة والتحالف والعهد أو العقد والصلح. ثم يتبسط في عرض دلالاتها.

وينهي بحثه المسهب والدقيق في الآن نفسه إلى أنّ الإسلام مثل حالة خاصة بين الديانات السماوية. فنشأته الفريدة من نوعها تفسر لنا هذا الترابط الذي لم ينقطع قط إلى اليوم بين الشأنين الديني والسياسي. ونتيجة لهذا التلازم بين السياسي والديني عامة ظل السيف هو المحدد في تسيير المجتمع والدولة وتنظيم أمورهما. ويجد في خطبة زياد بن أبيه، حين خطب في أهل البصرة، فقال: "أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان ـ الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما وُلّينا"، اختزالا للعقد الاجتماعي في دولة الإسلام بين الراعي والرعيّة، وهو عقد ظلّ ساري المفعول إلى اليوم. وقوامه "السمع والطاعة من جانب الرعيّة، والعدل إن أمكن من جانب الراعي".

أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان ـ الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما وُلّيناويجد في هذا العقد امتدادا لتصوّر الإسلام المبكّر لتدبير الشأن العام. فقد ارتبط الإسلام منذ ظهوره، وفق تصوّر الباحث، بالتنظيم الاجتماعي وبالتدبير السياسي. فتشابكت الدعوة التبشيرية مع البناء السياسي منذ الاستقرار في المدينة، بحيث لم تكن الخطابات اليومية ولا النصوص الدينية خالية من المصطلحات السياسية البحت، التي لا علاقة لها بالدين. ويعتقد إبراهيم جدلة أنّ أغلبها جاء استجابة لمتطلبات المرحلة وبناء كيان سياسي ولكنّه سيكون لقرون عديدة رافدا للدين الجديد وحاميا له.

ـ 3 ـ

أمّا نجاة الجويني العبيدي فتتطرّق للعلاقة بين الديني والسياسي من زاوية خاصّة هي "نظام الحسبة في القاهرة المملوكية بين التنظير والممارسة" بداية من أواسط القرن السابع الهجري. فتدرسها بما هي نظام لتسيير أمور الدولة وتسهيل المعاملات والعلاقات بين مختلف الفئات الاجتماعية من جهة وتنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع من جهة ثانية. فتعرّفها انطلاقا من كتابات الفقهاء التعريفات المختلفة وتتناولها من الوجوه المتعدّدة. فهي "علم باحث عن الأمور الخارجية بين أهل البلد من معاملاتهم التي لا يتم التمدن بدونها" أو "هي  قانون جواد الأوضاع ومضمون مواد الإجماع، تجمع إلى الشريعة الشريفة سياسة يرهب جدها، ويرهف حدها" أو هي "من الوظائف الدينية بالمجلس السامي إلى جانب القضاء والقضاء العسكري، والإفتاء بدار العدل".

وتدرس ممارستها واقعا، فتنتهي إلى أنّ نظام الحسبة نظام مدني فرضه الواقع في دولة المماليك العسكرية  لتسهيل العلاقات بين السلطة المجتمع من ناحية وبين العامة وأصحاب السوق من ناحية أخرى. ولكن الواقع التاريخي والممارسة أديا إلى الحياد عن الأصل المحدّد لهوية المحتسب من جهة شروطه ومهامه. ومن هنا تسرّب البون بين المثالي المنشود و الموجود في  الممارسة والتطبيق الذي اقتضى الاجتهاد واللجوء إلى العرف غالبا.وفي الآن نفسه تخلص إلى أنّ دراسة نظام الحسبة في القاهرة المملوكية بين لنا عدة جوانب من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة المملوكية مثل أنواع الحرف والأعمال والأسعار والعملة والنقد واللباس وأنواع الطعام الذي يباع في الأسواق، ومنه بعض أنواع الطعام الذي لا يزال متواصلا إلى الآن في عدة دول إسلامية. وتجد هذه المدونة للدراسة من منطلق الأنتربولوجيا التاريخية.

ـ 4 ـ

ويطرق إمحمد سعيد، في مبحث أوّل مسألة "الفقيه والسلطان من جهة الاتصال والانقباض آراء في ممالك العهد الوسيط في مؤلفات الآداب السلطانية بصنفيها التدبيري والواعظ" من مداخل مختلفة أهمها حاجة السلطان للفقيه وللعالم، فيعرض نماذج مختلفة لفقهاء تردّدوا على بلاطات الحكّام. ويبرز اصطناع السلطان لهم في وظائف كالتدريس والإمامة والتأليف والعمل بالدّواوين واستعانته بهم في التوجيه في تدبير الملك والاستجابة للحاجات السلطانية. ولكنه يقدّر أنّ بعض الحكّام كانوا يتزيّنون بالعلم والعلماء واستغلال مواهبهم لا أكثر. فكانوا يستدعونهم لمجالس علمية تعقد بالقصور ويحدث أن يزوروا هم بأنفسهم مجالسهم حتى يظهروا بمظهر الحكّام العلماء والملمين بالآداب والمعارف.

ويعرض المواقف المختلفة من "غشيان باب السلطان" فيعود عندئذ إلى كتب الآداب السلطانية لتفصيل مواقف العلماء والأدباء من السلطان العادل والسلطان الجائر والسلطان الكافر أو المرتدّ والسلطان الفاسق والسلطان صاحب الشوكة. ويسلّم بكوننا لا نستطيع الخروج من هذه المتاهة بتصنيف واضح يوجه سلوك العالم تجاه السلطان وفق قاعدة مذهبية فقهية أو كلامية. فالأمر يظلّ خاضعا للظرفي والذاتي. ومع ذلك يلاحظ نزعة عامة تميل إلى "هيمنة الفكر المساند أو المهادن في أكثر الحالات والداعي مع ذلك إلى الأمر بالمعروف وإلى النهي عن المنكر، وخاصة النهي عن الجور، مقابل دعوة الرعية إلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره".

ويحاول أن يفهم سبب هذه النزعة بالعودة إلى العوامل الموضوعية. فيقدّر أنّ  المدرسة النظامية التي انتشرت في العهد السلطاني بداية من الفترة السلجوقية كانت من بين أهم أسباب انتشار فكر المساندة والمهادنة من طرف الفقيه الذي تحول في غالب الأحيان إلى تابع للسلطان. ويجد نظيرا لهذه التجربة في المؤسسة المدرسية الرسولية في اليمن. فلعملية انتقاء الطلبة المدرجين بهذه المدارس دور حاسم. فقد كانوا يختارون من ضمن الأيتام، فتتولى هذه المدارس الإنفاق عليهم. أمّا  الفقهاء الذين يبرزون في المشهد العام، فكانوا ينتقون من ضمن المساندين، ويتحصلون على رواتب عينية ونقدية من أوقاف المدرسة السلطانية، أو نوعية الكتب المدرسة بهذه المؤسسات وهي في أغلب المدارس اليمنية شافعية أشعرية تكفل التبعية للحاكم.

ـ 5 ـ

وفي مبحث ثان  يدرس محمد سعيد هذه العلاقة القلّب بين الفقيه والأمير في العصر الوسيط الأول في إفريقية.. تحديدا، بعد أن مال بحثه الأول إلى دراستها في الشرق أكثر. فيتساءل من يستخدم الآخر، مقدّرا أنّ الصلة بين الأمير والفقيه تقوم على توافق هش قابل للتفكك في كل حين. وانطلاقا من مسألة الطاعة يجد أنّ الدور المراد للفقهاء يكاد يختزل في ضبط الفئات الرافضة والخارجة وفي إلزامها بالولاء إلى السلطة وفي التنظير للسلطان وتشريع سلطته وفي الحث على الانخراط في العمل المسلّح دفاعا عن الشرعية فيذكر نماذج مثل أبي محمد بن خالد بن أبي عمران التّجيبي أو أبي كريب القاضي أو يعرض عهودا بعينها عهد إبراهيم بن الأغلب وفي عهد زيادة الله.

مأتى سلطة الفقيه مما يحققه من مبادئ الدين ويحاجج لضمان بقائها وانتشارها والركون إليها. وهذا ما يجعل الحاكم ينظر إليه بعين الريبة فيرى فيه منافسا ويعمل على الحد من جموحه ورغباته. ولذلك كثيرا ما يصطدم به في حال لم يشرّع له ما يريده في شكل فتاوى وآراء ومواقف دينية تدعّم سلطانه.يعود الباحث إلى بعثة الفقهاء العشرة الذين أرسلهم الخليفة عمر بن عبد العزيز لنشر الإسلام بإفريقية ليقاربها من زاوية مغايرة. فيذكر أنّ من أهدافها التصدي إلى الحملة التي كان الخوارج يشنونها ضدّ النظام الأموي في الأطراف بعيدا عن نفوذ السلطة في المركز. وعامة حاول الباحث تتبع العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الرمزية سلطة الفقيه ـ العالم ـ القاضي. فيجد أنها لا تختلف عما كان سائدا في نطاق المجال الإسلامي، مشرقا ومغربا، فالعلاقة بينهما تراوحت بين التكامل حينا والتناقض حينا آخر لقد كانت النخبة السياسية تحتاج المشروعية التي تؤطرها الشريعة في ظل منظومة حكم تستند إلى فلسفة الحق الإلهي، كما هو شأن كل مجتمعات العصر الوسيط والحديث قبل انتشار القيم التي تقوم على حقوق الإنسان، ومنها برزت نظرية الحق الطبيعي في الحكم.

بخصوص الوضع في إفريقية". فالحاكم كان يحتاج إلى الفقيه لتسيير أجهزة الدولة وملحقاتها. ومن ثَمّ  بدت له الاستقلالية مخادعة، خاصة في خطة القضاء. فالأمر يبقى دائما بيد السلطة التنفيذية، فهي التي تعين وتعزل، وهي التي تجازي وتعاقب وتصادر، وتقتل إن لزم الأمر. وعلى خلاف أغلب مؤلفي هذا الأثر، يميل محمد سعيد إلى تبخيس دور الفقيه والعالم. فقد كان الأمير يحتاج إليه.  فيستجيب عبر الانخراط في السلطة وموافقتها بحثا عن الاستفادة من المغانم. فإن لم يستجب أجبر على ذلك. وقد يبرز للعيان أن الفقيه العالم في وضع متفوق الأمير، وهي الصورة التي تحاول إيصالها لنا المصادر المالكية خاصة، لكن الوقائع تؤكد خلاف ذلك، "فالعلاقة تحددها الظرفية التاريخية. فحتى ما يبدو من تنازل السلطة السياسية لصالح العلماء فإن ذلك يكون مؤقتا، وسرعان ما تتدارك الموقف وتستعيد زمام الأمور بكل الوسائل". ويكون ذلك بالعزل وتعيين منافسيه كما حصل مع الإمام سحنون. ومن أساليب التخلّص من الفقهاء المشاكسين إرسالهم إلى الجهاد، كما حصل مع أسد بن الفرات.

ـ 6 ـ

يبحث د. العيد غزالة في "الفقيه والوساطة بين المجتمع والسلطان" في العهد الحفصي تحديدا. وعلى خلاف محمد سعيد، يجد في هذه العلاقة تفاعلا بين رهانين، رهان السلطة السياسي الذي يمثله الأمير ومصلحة الأهالي (القبيلة أو المدينة) التي يمثلها غالبا هذا الفقيه. وهذا ما يفتح على مجالات للتداخل بين الدّيني والسياسي في الحياة العامة.

ويفصّل القول في دور الوساطة التي يتولاّها الفقيه بين الحاكم والرعية، من وجهة نظره. فيتطرّق إلى إشكالية الرّاعي والرّعية من منظور فقهي ينزّلها عامة في قول الغزالي ضمن أثره"التبر المسبوك في نصيحة الملوك"باختيار الله لـطائفتين"وهم الأنبياء ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل" و"الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض".

وينتهي إلى أنّ العلاقة بين الفقيه والسلطان علاقة جدلية. فمأتى سلطة الفقيه مما يحققه من مبادئ الدين ويحاجج لضمان بقائها وانتشارها والركون إليها. وهذا ما يجعل الحاكم ينظر إليه بعين الريبة فيرى فيه منافسا ويعمل على الحد من جموحه ورغباته. ولذلك كثيرا ما يصطدم به في حال لم يشرّع له ما يريده في شكل فتاوى وآراء ومواقف دينية تدعّم سلطانه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الديني السياسة عرض العلاقات علاقات كتاب سياسة دين عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی المجتمعات الإسلامیة السمع والطاعة العلاقة بین السیاسی فی الله الذی محمد سعید من جهة إلى أن

إقرأ أيضاً:

حكم قول بلى بعد قراءة أليس الله بأحكم الحاكمين.. الإفتاء ترد

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم قول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾؟حيث إنَّ هناك بعض الناس بعد الانتهاء من قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه يقولون: (بلى)، سواء ذلك في الصلاة أو خارجها، فما حكم هذا القول؟". 

لترد دار الإفتاء موضحة: أنه يستحب أن يقول الإنسان: (بلى) عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، سواء كان خارج الصلاة أم داخلها، إمامًا كان المصلي أو مأمومًا، والمعنى حينئذٍ أن هذا النفي باطل، وأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين.

ما يفعل القارئ إذا مر بآية فيها عذاب أو رحمة أو تنزيه

التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن الكريم من الأمور المستحبة شرعًا، ومن دلائل هذا التدبر أن القارئ إذا مرَّ بآيةٍ فيها عذاب استعاذ بالله وسأل العافية، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية تنزيه نزه، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، وهذا ما فهمه العلماء من دلالة هاتين الآيتين.

قال الإمام القرطبي في " تفسيره" (15/ 192، ط. دار الكتب المصرية): [وفي هذا دليلٌ على وجوبِ معرفةِ معاني القرآن... ومن دلائل التدبر في الآيات أنه إذا مر بآية فيها عذاب استعاذ بالله وسأل العافية، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية تنزيه نزه] اهـ.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.." أخرجه الإمام مسلم.

قال الإمام النووي في" التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 91، ط. ابن حزم): [ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول: اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه، أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جلت عظمة ربنا] اهـ.

بيان حكم قول القاريء أو المستمع "بلى" عند تلاوة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
ما جاء في السؤال من حكم قول: (بلى) عند قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه، فإن (بلَى) حرفُ جوابٍ يختصُّ بالنَّفْي لإِفادة إِبْطَالِه، ففيه ردٌّ للنفي، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي، بخلاف (نعم) فتقال في الاستفهام المجرّد.

قال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 146، ط. دار القلم): [بَلَى: ردٌّ للنفي؛ نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: 80-81] ، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي نحو: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]. و(نعم) يقال في الاستفهام المجرّد نحو: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ﴾ [الأعراف: 44] ، ولا يقال هاهنا: بلى، فإذا قيل: ما عندي شيء، فقلت: بلى، فهو ردّ لكلامه، وإذا قلت: نعم، فإقرار منك] اهـ.

وعلى ذلك، فقول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ يُفيد إبطال النفي فيه وإثبات أنه تعالى هو أحكم الحاكمين جلَّ جلاله.

أما حكم قول: (بلى) عند قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه، فيختلف باختلاف حال القائل؛ وذلك أنه إما أن يكون خارج الصلاة أو داخلها، ومن هو في الصلاة إما أن يكون إمامًا أو مُقتديًا أو منفردًا.

فإذا كان خارج الصلاة فمن السُّنَّة أن يقول ذلك؛ فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْتَهَى إِلَى ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ، فَبَلَغَ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50]، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ" رواه أبو داود في "سننه".

فأفاد هذا الحديث أن قول (بلى) عند المرور بهذه الآية من المندوبات.

قال الإمام ابن رسلان الرملي في "شرح سنن أبي داود" (5/ 23، ط. دار الفلاح): [فيه أنه يستحب لكل من قرأ في الصلاة أو في غيرها أن يقول ذلك] اهـ.

وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (5/ 156، ط. المكتبة التجارية): [(وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ قال: بلى)؛ لأنه قول بمنزلة السؤال فيحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كهيئة الغافل أو كمن لا يسمع إلا دعاء ونداء من الناعق به... فهذه هبة سنية، ومن ثم ندبوا لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو عذاب أن يتعوذ من النار أو بذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو النار أن يستعيذ به منها] اهـ.

وأمَّا إذا كان في الصلاة، فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فقد ذهب الحنفية إلى أنه إذا كانت الصلاة جماعة فالإمام لا يقول شيئًا من ذلك سواء كانت صلاته فرضًا أم نفلًا، وكذا المقتدي فإنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء، وإذا كان المصلي منفردًا فيباح له ذلك إذا كانت صلاته تطوعًا، وتكره في الفرض.

قال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (2/ 321، ط. دار الكتب العلمية): وهو يتكلم عن حكم قول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ وأمثالها: [أما حكم المقتدي فهو الذي ذكره، وهو أنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء. م: (لأن الإنصات والاستماع فرض بالنص).. وأما حكم الإمام فإنه لا يفعل ذلك في التطوع ولا في الفرض؛ لأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وإنه مكروه] اهـ.

وقال العلامة ابن مازه في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (1/ 378، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن؛ لحديث حذيفة قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر»، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده، فكان محدثًا، وشر الأمور محدثاتها] اهـ.

وأما المالكية فنصوا على أنَّ قول: بلى عند سماع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وما أشبه ذلك مما لا حرج فيه، ولا يؤثر على صحة الصلاة، إمامًا كان أو مأمومًا.

قال الإمام الحطَّاب في "مواهب الجليل" (1/ 544، ط. دار الفكر) [قال في المسائل الملقوطة: إذا مر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة الإمام فلا بأس للمأموم أن يصلي عليه، وكذلك إذا مر ذكر الجنة والنار فلا بأس أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ويكون ذلك المرة بعد المرة، وكذلك قول المأموم عند قول الإمام: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] بلى إنه على كل شيء قدير وما أشبه ذلك، وسئل مالك فيمن سمع الإمام يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] إلى آخرها فقال المأموم: كذلك الله، هل هذا كلام ينافي الصلاة؟ فقال: هذا ليس كلاما ينافي الصلاة أو ما هذا معناه من "مختصر الواضحة". انتهى] اﻫـ.

وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 267، ط.دار الفكر): [لا يكره قول الإمام عند قراءته ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]: بلى إنه على كل شيء قدير، وما أشبه ذلك. وقول المأموم عند قراءة الإمام ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾: الله كذلك، انتهى عبق. هذا يفيد أنه يستثنى من قوله وأثناء سورة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وسؤال الجنة والاستعاذة من النار عند ذكرهما، ونحو ذلك، وأن قول المأموم: بلى إنه أحكم أو قادر عند قراءة الإمام: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، أو الآية المتقدمة لا يبطل، انتهى] اهـ.

وأما الشافعية فقالوا: يستحب لكل من الإمام والمأموم قول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين عند سماع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وما أشبه ذلك.

قال الإمام الرملي في" نهاية المحتاج" (1/ 547-548، ط. دار الفكر): [ويسن للقارئ مصليا أم غيره أن يسأل الله الرحمة إذا مر بآية رحمة، ويستعيذ من العذاب إذا مر بآية عذاب، فإن مر بآية تسبيح سبح، أو بآية مثل تفكر، وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] سن له أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50] يقول: آمنت بالله، وإذا قرأ: ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30] يقول: الله رب العالمين] اهـ.

وأما الحنابلة فإنهم يرون أنَّ المصلي لا يقول: بلى عند سماع هذه الآية بخصوصها؛ لأنَّ الخبر الوارد فيها عندهم فيه نظر.

قال العلامة المرداوي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (2/ 110، ط. دار إحياء التراث): [وقال أحمد: إذا قرأ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] في صلاة وغيرها قال: "سبحانك فبلى" في فرض ونفل، وقال ابن عقيل: لا يقوله فيها، وقال أيضا: لا يجيب المؤذن في نفل قال: وكذا إن قرأ في نفل ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] فقال: (بلى) لا يفعل] اهـ.

وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 211، ط. عالم الكتب): [(و) لمصل (قول: سبحانك، فبلى إذا قرأ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] نصا، فرضا كانت أو نفلا؛ للخبر. وأما ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] ففي الخبر فيها نظر، ذكره في "الفروع"] اهـ.

فالحاصل أن قول: بلى عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] خارج الصلاة سنة، والمختار للفتوى استحبابه داخل الصلاة أيضًا؛ لما فيه من دلائل التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن الكريم، ولأنه من جملة الثناء على الله تعالى، وهو مشروع داخل الصلاة وخارجها.

الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنَّ (بلَى) حرفُ جوابٍ يختصُّ بالنَّفْي لإِفادة إِبْطَالِه، ففيه ردٌّ للنفي، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي، بخلاف (نعم) فتقال في الاستفهام المجرّد، ويستحب أن يقول الإنسان: (بلى) عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، سواء كان خارج الصلاة أم داخلها، إمامًا كان المصلي أو مأمومًا، والمعنى حينئذٍ أن هذا النفي باطل، وأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين.

مقالات مشابهة

  • قراءة في كتاب عصر مابعد الحداثة والتغير الجزري للوعي العالمي
  • تحليل كتاب د. عبد الله الفكي البشير عن محمود محمد طه وربطه بالسياق الفكري والسياسي الحالي
  • حكم قول بلى بعد قراءة أليس الله بأحكم الحاكمين.. الإفتاء ترد
  • قراءة نقدية لرواية “طحلب أزرق”لروائي منصور الصويم
  • السيرة النبوية ودور الإملاءات السياسية والمذهبية.. قراءة في كتاب
  • سعود بن صقر: الثقافة من أهم ركائز التنمية في المجتمعات الإنسانية
  • الإسلام والعصر الحديث مراجعة نقدية شاملة للموروث الديني.. كتاب جديد
  • الإسلام و العصر الحديث مراجعة نقدية شاملة للموروث الديني.. كتاب جديد
  • نائب رئيس المجتمعات العمرانية يتفقد المشروعات الجارية بمنطقة الحزام الأخضر بـ 6 أكتوبر
  • «الإسكان»: مهلة 6 أشهر للشركات المخصص لها أراض بالمدن الجديدة لاستكمال التنفيذ