تواجه البشرية برمّتها اليوم ثلاثة مستويات للتهديد المباشر الذي يؤرق أصحاب الضمائر الحرة والذين يعبرون عن أرقهم بدموع صادقة ونداءات مخلصة هنا وهناك تهدف إلى تحريك الضمائر والخطوات في وقت يسابقهم شبح الموت لاقتناص المزيد من أطفال ونساء ورجال غزة وفلسطين حيث يجثم على أرضها آخر وأبشع احتلال والأكثر حقداً ودموية من أي استعمار استيطاني عنصري عرفته البشرية عبر التاريخ.

التهديد الأول هو الذي انتهك حرمة الحياة وحرمة الموت وحرمة الطب وحرمة الإعلام وحرمة المسجد والكنيسة والجامعة والمدرسة وحرمة الشجر والحيوان، فحكم بالقتل العنصري البغيض على كل هؤلاء، ولا فرق بين رضيع وشيخ كبير، وتتبعهم بآلة الذبح والقتل من مكان إلى مكان، في حرب إبادة مخططة ومعلنة، وتلقّى الدعم والتمويل من دول الغرب التي تدّعي «الحضارة» والحرص على «حقوق الإنسان».

هذا التهديد، مع أنه أولاً وقبل كل شيء يستهدف حياة العرب عموماً والفلسطينيين حالياً، إلا أنه في واقع الأمر تهديد لحياة الملايين من البشر في كل مكان، فالنظام الذي يستطيع أن يقتل من دون رادع ولا خوف من عقاب يستطيع أن يكرر جريمة الإبادة في كل بلد، وحرب الإبادة الجماعية الجارية في غزة التي دخلت شهرها الخامس، إنما هي امتحان صعب لأخلاق الإنسان حيثما وُجد على وجه هذه الكرة الأرضية لأنه يفصل بشكل حاسم بين العنصرية والتعايش، وبين الإرهاب والحياة الإنسانية الآمنة السويّة.

التهديد الثاني والذي ساعد التهديد الأول على إيضاحه بشكل جليّ هو التهديد الذي يعتري اللغة والسردية، بحيث أصبحت اللغة الإعلامية التي يستخدمها الغرب في التغطية على جرائم الإبادة والوحشية الشريكة إما في القتل أو في تبرير قتل المظلوم، رغم انتشار هذه الحالة وندرة الحالة المعاكسة، فماذا يفعل الذي لا يمتلك سوى اللغة أداةً حين يرى قتلة يجهزون على طفلة بعمر ست سنوات (هند رجب) في سيارة، قتل الإسرائيليون كل أهليها ثمّ أجهزوا عليها؟ وكتب الإعلام الغربي كعادته عن ضحايا الإرهاب الصهيوني بعد ذلك: «طفلة وُجدت «ميتة» في سيارة، صيغة المبني للمجهول في الإعلام الغربي الداعم للإرهاب والإبادة الجماعية هي سيدة الموقف كي لا يحمّلوا القتلة الحقيقيين الواضحين للعيان، وهم الإسرائيليون، مسؤولية القتل والجريمة والإبادة اللامسبوقة في تاريخ البشر.

وسائل الإعلام الغربية سيطر عليها الصهاينة ولذلك فهي برمّتها تقف سداً في طريق كشف الحقيقة وتمنع القارئ من اقتباس ضوء لما جرى ويجري، وتدفن بشاعة ما يتم اقترافه من جرائم إبادة جماعية بحق البشر والتاريخ والإنسانية وحتى بحق حرمة الموت والأموات بين عبارات منمّقة وفواصل ونقاط وإشارات تخلق بحراً من المسافات بين ما يجري على الأرض وما يتمّ اجتزاؤه كي لا يتمّ الكشف الفاضح والواضح عن المجرمين لأنهم منهم.

التهديد الثالث، وهو مرتبط عضوياً بالتهديدين السابقين لكنه أشمل وأعمق منهما، هو التهديد الوجودي للبشرية برمّتها وعبّر عنه مئة مسؤول سياسي سابق وبعض الفائزين بجائزة نوبل ورؤساء منظمات خيرية في رسالة موجهة إلى القادة السياسيين في العالم يدعونهم فيها إلى اتخاذ مقاربات جديدة وجريئة لمواجهة التهديدات الوجودية الكارثية للبشرية جمعاء.

ومع أن هؤلاء لم يأتوا على ذكر احتلال فلسطين ولا على ذكر ما يحدث هناك من إبادة جماعية لا نظير لبشاعتها، إلا أنه من الواضح جداً أن ما يتمّ اقترافه من جرائم إبادة جماعية في فلسطين والصمت الرهيب الذي يحيط بداعمي المجرمين وشركائهم في الذبح والقتل والتهجير، يُحدث تحوّلاً هائلاً ويطرح أسئلة غير مسبوقة على كل إنسان يحيا على هذه الأرض، وأن ما يجري من ظلم ومن إبادة جماعية للبشر ومن انتهاك حرمات ومن صمت مطبق من القادرين على إيقاف هذه الإبادة المخزية، سيولّد ارتدادات لا تحمد عقباها وسيكون على الجميع وفي كل مكان دفع أثمان دعمهم للظلم أو صمتهم عنه أو المشاركة الخفية أو غير المباشرة في وقوعه.

وإذا كان شرّ البلية ما يضحك، فإن شرّ المصادفة هو أن هذه الرسالة الموجهة للقادة السياسيين في العالم قد نُشرت في اليوم الذي توجه فيه مدير مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي «إف بي آي» كريستوفر راي، إلى فلسطين والتقى عملاء من وكالته متمركزين في تل أبيب وأكد على أهمية عملهم الذي يتعلق بالمشاركة الفعلية في حرب الإبادة الجماعية لعرب غزة من خلال شيطنة حركة حماس الفلسطينية وحزب اللـه اللبناني، وأكد راي في بيانه أن «شراكة مكتب التحقيقات الفدرالي مع نظرائنا الإسرائيليين طويلة الأمد ووثيقة وقوية، وأنا واثق من أن التقارب بين وكالاتنا ساهم في التحرك بسرعة كبيرة رداً على هذه الهجمات»، أي إن قتل وجرح أكثر من مئة ألف فلسطيني من النساء والأطفال واستهداف الأطباء والإعلاميين وتدمير الجامعات والمشافي والمدارس والمساجد والكنائس والإذلال الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 75 سنة يتم بالشراكة والتنسيق بين منظمتين طبيعتهما القتل والمزيد من القتل هما: «إف بي آي» والعنصريين النازيين المجرمين الإسرائيليين في أجهزة المخابرات الصهيونية، وأنه قادم للاجتماع بوكلائه في المنطقة الذين يديرون شبكات التجسس وعصابات الاغتيال ويكمّون الأفواه ويسهمون في تدمير بلدانهم وفق خطط مسؤولي الـ«إف بي آي» وغيرها، فإلى أي قادة سياسيين وصناع قرار يتوجه القادة العالميون السابقون لتدارك الخطر الوجودي الكارثي إذا كان الحاكم الفعلي في الغرب وفي كل ما يجري لشرقنا هو الاستخبارات الدموية التي لا رادع قانونيا لجرائمها والتي تدير عملية «الديمقراطية» وتحدد من يصل إلى الكونغرس والرئاسة؟ ومن يحكم الغرب اليوم وكل ما يجري في الغرب هي هذه الشبكة الاستخباراتية التي لا تحترم أي قوانين أو حرمات أو مشاعر إنسانية أو قضايا عادلة أو تهديدات مصيرية لحياة الشعوب والبلدان.

أعتقد أن التحدّي الأساسي في عالم اليوم والذي تتفرّع عنه كل التحديات المختلفة التي تشكل تهديداً وجودياً للبشرية وانتهاكاً لحرية الإنسان وحرمة الحياة والموت هو العنصرية المتجذّرة في نفوس استعمارية تؤمن بتفوقها العرقي على كل بني البشر وبتابعية الجميع لمصالحها ورؤاها، فمنذ اكتشاف الولايات المتحدة وإبادة السكان الأصليين فيها وفي أستراليا ونيوزيلاندا وكندا، تبنّى الغرب عقيدة إخضاع الآخر بالقوة والسلاح لاحتلال أرضه ونهب ثرواته وإحداث التنمية في بلدان الغرب على جماجم الآخرين وحطام ثقافتهم وتاريخهم مستنداً إلى إعلام وأنثروبولوجيا واستشراق عَمِل عليه لمدة عقود لتكريس التفوق الغربي على بني البشر وإخضاع هذه الشعوب نفسياً تمهيداً لإخضاعها عسكرياً وميدانياً.

من هنا يأتي الترابط بين التهديدات الثلاثة: التهديد في فلسطين، والتهديد في اللغة والسردية الإعلامية ودورها، والتهديد الوجودي الاستعماري الكارثي الذي يهدد البشرية، ولا يمكن مواجهة واحد من دون الآخر، ولا يجب الاستهانة بالموقف الجريء والشجاع من كل ما يجري لأنه يشكل توطئة ضرورية لموقف أعمّ وأشمل ضد تهديدات العنصرية والقتل والإبادة والموقف الاستعلائي.

إن طروحات الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مصير مشترك للبشرية وتنمية عالمية وأمن عالمي واحترام متساوٍ بين الدول صغيرها وكبيرها هو البديل الحتمي لحكم الدولة العميقة المتعطشة للحروب وسفك الدماء والإبادة التي مَرَدَ الغرب على استخدامها ضد بلداننا، ولأسلوب الحروب وإثارة الفتن والتغطية عليها بلغة مداهنة مواربة تُفقد اللغة الإعلامية دورها وقدسيتها ورسالتها التي وُجدت من أجل نشرها.

ومن هنا فإن الموقف الجريء دعماً للعدالة في فلسطين هو موقف إجباري لكل الحريصين على المجتمع البشري لأن ما شاهدناه وعايشناه من جرائم إبادة وتجويع وانتهاك صارخ يدنّس قدسية حياة البشر ويهدّد مستقبلها تهديداً وجودياً وكارثياً بالفعل.

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

كلمات دلالية: إبادة جماعیة ما یجری

إقرأ أيضاً:

«الإسلام في تصورات الغرب».. عرض موضوعي لتصورات الآخر عن ديننا وحضارتنا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

من الاستشراق إلى التجديد.. معركة المفاهيم وتحديات العصر 

«الإسلام في تصورات الغرب».. عرض موضوعي لتصورات الآخر عن ديننا وحضارتنا 

محمود حمدي زقزوق يفكك خطاب الاستشراق ويكشف أهداف والتوجه الأمثل نحو التعاطي معه

60 ألف كتاب أنتجها المستشرقون.. هل قدم الغرب صورة منصفة عن الإسلام؟

أكثر من 100 معهد استشراق في الغرب ولا يوجد مركز مخصص في العالم الإسلامي

تجديد الخطاب الديني وتحسين الصورة المشوهة بالغرب.. أبرز تحديات عصر التطرف والعولمة

 

كتب - محمد غنوم

تجديد الخطاب الديني ليس مجرد قضية نظرية، بل ضرورة مجتمعية لمواجهة الأفكار المتطرفة، التي تهدد استقرار الأوطان والقيم الإنسانية، وهو ما يبرز دور العلماء؛ في تقديم الدين في ثوبه الجديد بلغة العصر التي تراعي متغيراته وتؤصل قيم التسامح، ودائمًا ما يرسم البعض في ذهنه صورة عن علماء الشريعة، أنهم بمعزل عن جوانب العلوم الأخرى من فلسفة وفكر وأدب وخلاف ذلك من الأمرور التي قد تطرأ حديثًا.

زقزوق.. مسيرة عالم موسوعي

والحقيقة أن هذه الصورة خاطئة، فهناك الكثير ممن أثروا الحياة الثقافية بالعديد من المشاركات والمؤلفات العديدة، وجمع بين العلوم الشرعية وثقافات الحضارات المتنوعة، ومن أمثال هؤلاء الدكتورمحمود حمدي زقزوق، المولود في 27 ديسمبر عام 1933م، بقرية الضهرية، التابعة لمركز شربين - محافظة الدقهلية، حيث إنه كان واحدًا من أبرز العلماء الذين جمعوا بين التمكن من العلوم الشرعية والثقافة الإسلامية، والدراية الواسعة بالثقافات والحضارات المتنوعة.

شغل «زقزوق»؛ الذي توفي في الأول من أبريل عام 2020م، منصب نائب رئيس جامعة الأزهر، بعد أن تخصص في الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين، وعُيِّن وزيرًا للأوقاف 15 عامًا، كما عُين رئيسًا لمركز الحوار بالأزهر الشريف، بالإضافة لعضوية هيئة كبار العلماء، ومجلس حكماء المسلمين، والأمانة العامة لبيت العائلة المصرية.

جالس كبار المفكرين أمثال عباس العقاد وأحمد حسن الزيات

كتب رحمه الله مذكراته اليومية، وبدأ في سن السابعة عشرة ببعض المشاركات القصصية والشعرية في إحدى الصحف الأسبوعية التي تُسمي «سفينة الأخبار»، كما كَتَب في البريد الأدبي بمجلة «الرسالة»، وجالس كبار الأدباء والمفكرين أمثال؛ عباس العقاد، وأحمد حسن الزيات. كما كان شابًّا وطنيًّا، مهتمًا بشأن أمته، وما يجري حوله من أحداث، فكتب وهو طالب عن الأحداث الثورية التي شهدتها مصر في هذه الفترة، وكان ضمن كتائب الأزهر المتطوعين للدفاع عن الوطن بعد العدوان الثلاثي عام 1956م.

تكريم رئاسي

كرمه الرئيس السيسي لإسهامه في تجديد الفكر  في مؤتمر تجديد الفكر الديني؛ الذي عقده الأزهر الشريف في عام 2020م، نظرًا لإسهاماته في تجديد الفكر الإسلامي، وترجماته التي جسدت الانفتاح الواعي على الثقافات وقبول الآخر، والجمع في العلم والفكر بين الأصالة والمعاصرة «الإسلام في تصورات الغرب».

صورة الإسلام في الغرب

في كتابه «الإسلام في تصورات الغرب»، يعرض الدكتور محمود حمدي زقزوق؛ صورتين مختلفتين للإسلام فى الغرب، أولهما صورته في نظر المستشرقين من واقع نماذج من كتابات اثنين من المعاصرين، مع مناقشة الآراء التي تضمنتها هذه الكتابات، أما الصورة الثانية فهى الإسلام في تصور كاتب أوروبي اعتنق الإسلام وارتضاه لنفسه دينًا.

واختار «زقزوق» ثلاثة موضوعات: عبارة عن فصول مختارة من كتابات المستشرق الألماني «جوستاف بفانموللر»؛ وقام بترجمتها وتقديمها وعلق على ما جاء فيها من آراء، حيث رأى أن الصورة السائدة عن الإسلام اليوم فى الغرب، ليست مجرد صورة وقتية عارضة ولا هي بنت اليوم، وإنما هي صورة صاغتها قرون طويلة من الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب.

وأول الموضوعات التي يهدف الكتاب الوصول إليها، أن يكون المسلم المعاصر على بيّنة بما يجرى حوله، وعلى وعي بما يُكتب في الغرب عن دينه وحضارته وتاريخه، وعلى إدراك للأسباب البعيدة للمواقف الغربية عن الإسلام؛ حتى لا يقف طويلًا عند الظواهر السطحية العارضة، التي لا تفصح عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك.

وثاني الموضوعات؛ أن يُحِفز ذلك كله المسلم المعاصر، إلى العمل لإعداد نفسه على المستوى الفكري، إعدادًا يستطيع به أن يكون قادرًا على مواجهة كل التيارات الفكرية الآتية من الشرق أو الغرب، حتى لا يتخلف عن الركب، ويدع الفرصة للآخرين لاحتوائه فيظل أسيرًا لعقدة التخلف، ومركبات النقص التي يراد ترسيخها في ذهنه.

مواجهة الحركة الاستشراقية في الغرب

فيما كان ثالث الموضوعات أن يدفع الدكتور «زقزوق» المؤسسات الإسلامية العلمية، إلى النهوض بمسئولياتها تجاه دينها؛ في مواجهة الحركة الاستشراقية في الغرب، حيث إن هناك في أوروبا وأمريكا؛ ما يَربُو على مائة معهد للإستشراق، تقوم جميعها بدراسة عقيدتنا وحضارتنا وتاريخنا كله، ويتوفر لهذا العمل كل الإمكانات المادية والفكرية.

كما يرى أنه في الوقت نفسه لا يوجد في العالم الإسلامي كله؛ معهد واحدًا أو مركزًا علميًا يخصص جهده، لدراسة الكم الهائل من المؤلفات والمجلات والدوريات والموسوعات، التي تصدرها هذه المؤسسات في الغرب عن الإسلام، ونكتفي فقط بالصياح والاستنكار والشكوى؛ من زيف ما يكتبه المستشرقون، ولكننا لا نقوم بعمل إیجابی حقیقي على المستوى العلمي لخدمة الإسلام.

وبحسب المؤلف؛ لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن المفاهيم الخاطئة الشائعة عن الإسلام في الغرب، لا تقتصر على دوائر المتخصصين هناك، بل تتردد في الكتب المدرسية وفى وسائل الإعلام المختلفة، وفي مجال اتخاذ القرارات الحيوية المتعلقة بالسياسة العالمية، وهذه المفاهيم الخاطئة لم ترد بمحض الصدفة؛ وإنما تعتمد على مراجع متخصصة كتبها إعلام المستشرقين، الذين تحظى كتاباتهم عن الإسلام بثقة واحترام عظيمين في الغرب.

آثار بعيدة للاستشراق

يؤكد المؤلف أنه ليس هناك شك في أن الاستشراق له أثر كبير في العالم الغربي، وفي العالم الإسلامي على السواء، وإن اختلفت ردود الفعل على كلا الجانبين، ففى العالم الغربي لم يعد في وسع أحد يريد أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه أو يمارس فعلًا مرتبطًا به، أن يتجاهل الثروة العلمية الهائلة التي أنتجها الاستشراق في السابق أو اللاحق.

كما أنه فى العالم العربي الإسلامي المعاصر، لا يكاد المرء يجد مجلة أو صحيفة أو كتابًا؛ إلا وفيها ذِكر أو إشارة إلى شيء عن الاستشراق، أو يمت إليه بصلة قريبة أو بعيدة، وهذا أمر ليس بمستغرب، ذلك أن الاستشراق كان ولا يزال له أكبر الأثر في صياغة التصورات الغربية عن الإسلام، وفي تشكيل مواقف الغرب ازاء الإسلام على مدى قرون عديدة.

خطاب الاستشراق بين الرفض والقبول

الدكتور «زقزوق» يشدد على أن الاستشراق قضية تتناقض حولها الآراء في العالم العربي الإسلامي، فهناك من يؤيده ويتحمس له إلى أبعد الحدود، وهناك من يرفضه جملة وتفصيلًا، وأعطى مثالًا قريبًا لهذا الفريق الأخير، والواقع أن كلا من هذين الاتجاهين كل منهما يمثل تيارًا غير علمى، وغير نقدي؛ فالاستشراق من ناحية غير معصوم من الخطأ، كما أنه من ناحية أخرى ليس كله شرًا بالنسبة للإسلام والمسلمين.

والاتجاه الأول؛ مبهور بالحضارة الغربية والتقدم العلمي والتكنولوجي هناك؛ وبالتالى فإن كل ما يأتى من الغرب لا بد أن يكون من وجهة نظر هذا الاتجاه؛ «سليمًا وعلميًا وموضوعيًا»، أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه رافض للحضارة الغربية؛ وإن كان يأخذ بأسباب التقدم العلمي، ورفضه للاستشراق مبنى على أسباب عديدة، من بينها الظروف التي أدت الى نشأته وارتباط أهدافه في مراحل معينة بالتبشير، ومواقفه العدائية ضد الإسلام منذ العصر الوسيط.

وكذلك ظروف الصدامات العسكرية؛ التي حدثت بين الغرب والشرق على مدى قرون عديدة، وأخيرًا في العصر الحديث؛ ما كان من ظروف الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، وإذلاله لشعوبها وتحقيره لدينها وحضارتها، وما صحب ذلك من نظرة الاستعلاء الغربية في علاقة الغرب بتلك الشعوب المغلوبة على أمرها، وقد لعب بعض المستشرقين أدوارًا هامة ساعدت الاستعمار الغربي، وساعدت على ترسيخ نظرة الاستعلاء الغربية إزاء الإسلام والمسلمين.

ويوضح «زقزوق»؛ أن هؤلاء قد سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحته؛ وهذا واقع مؤلم يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة، وهكذا يستطيع المرء أن يفهم الأسباب التي أدت إلى وجود تيار قوي في العالم العربي الإسلامي؛ يرفض الاستشراق رفضًا تامًا، ولعله من الأمور المسلم بها الآن، أن صورة الإسلام في الغرب كانت بالفعل صورة قاتمة ومطبوعة بطابع سلبي، منذ العصر الوسيط، وأنها كانت أبعد ما تكون عن أن تكون صورة موضوعية للإسلام.

الاتجاه الإسلامي الحقيقي نحو الاستشراق

وذكر «زقزوق» أن البحوث الاستشراقية بدأت منذ فترة في محاولة التخلص من قيود هذه الصورة التي خلفها العصر الوسيط، ولا نستطيع من وجهة نظر إسلامية أن نقول أن الاستشراق قد تخلص نهائيًا في دراسته للإسلام على وجه الخصوص من كل هذه القيود، وإن كانت المحاولات مستمرة.

التيار النقدي للمستشرقين

وحيث إن كلا الاتجاهين المشار إليهما؛ المتحمس للاستشراق والرافض له «غير منصف فيما ذهب إليه»، فإنه كان لا بد من ظهور تيار ثالث؛ يحاول أن يكون لنفسه رؤية موضوعية عن الاستشراق وأهدافه وأعماله ومنشوراته العلمية، ويحاول جاهدًا أن ينقد ما يراه سلبيًا من وجهة النظر الإسلامية، ولا ينسى في الوقت نفسه؛ أن يذكر الإيجابيات التي تُذكر للاستشراق في المجالات العلمية، المتعلقة بالدراسات العربية والإسلامية.

وهذا الاتجاه الثالث؛ هو فى حقيقة الأمر الاتجاه الذي يمكن أن نسميه اتجاهًا إسلاميًا حقيقيا، لأنه هو الذى يتفق مع ما يطلبه الإسلام في مثل هذه الأحوال؛ انطلاقًا من قول القرآن الكريم «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى».

الدكتور «زقزوق»، يرى في هذا الإطار من وجهة نظر إسلامية أن ينظر إلى الاستشراق في محاولة لبيان وجهة النظر؛ هذه التي لا ينبغى أن يتجاهلها الاستشراق أو يمر عليها من الكرام، بل ينبغي أن تكون دافعًا لحوار بناء بين المستشرقين المعتدلين من جانب، وأصحاب هذا الاتجاه النقدي من جانب آخر.

فعن هذا الطريق فقط؛ يمكن أن يكون هناك سبيل إلى الفهم المتبادل والتعاون العلمي المشترك، في عالم اليوم الذي تتشابك فيه المصالح، وتتعدد فيه مجالات الاهتمامات المشتركة، بهدف الوصول إلى ما فيه خير الجانبين المغربي والإسلامي، ولكى يتم ذلك فإنه لا بد من تحقيق شرط ضروري، وهو التحرر التام من كل الأحكام المسبقة والعقد القديمة.

مستشرقون موضوعيون

ونظر المؤلف؛ إلى الاستشراق نظرة مختلفة عن ما نراها الآن، فرأى من الناحية الموضوعية، أنه لابد أن نعترف أن هناك مستشرقين موضوعيين يتسمون بالنزاهة في الحكم والحيدة في البحث، ومستشرقين آخرين لا تتسم أعمالهم بأی شكل من أشكال الموضوعية والحياد العلمي، بل تصطبغ بأهداف أخرى غير علمية.

ويقدر هذا الاتجاه أيضًا للمستشرقين بصفة عامة ما يبذلونه من جهود مضنية، وصبر عجيب في البحث والدرس، وإخلاص تام لخدمة أهدافهم واطلاع واسع وإحاطة بالعديد من اللغات القديمة والحديثة، وقد أشار إلى شيء من ذلك أيضًا الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي كان شيخًا للأزهر فى نهاية النصف الأول من القرن الحالي إيجابيات المستشرقين.

إيجابيات الاستشراق

ويذكر هذا الاتجاه الإسلامى بالتقدير؛ الجهود التي بذلها المستشرقون في العناية بالمخطوطات العربية؛ التي جلبت إلى أوروبا وفهرستها فهرسة علمية نافعة، وكذلك ما قدمه الاستشراق من دراسات حول الكثير من هذه المخطوطات، ونشره للعديد من أمهات كتب التراث العربي الإسلامي؛ بعد تحقيق مخطوطاتها تحقيقًا علميًا، مما أتاح للباحثين فرصة كبيرة، وأدى للبحث العلمي خدمة جليلة.

ولم يقتصر المستشرقون؛ على مجال التحقيق والنشر، بل قاموا بترجمات شتى بلغات مختلفة للعديد من الكتب العربية الإسلامية، وقاموا أيضًا بإصدار ترجمات للقرآن الكريم، وإن كانت للمسلمين بعض التحفظات، على ما جاء في مقدمات الكثير من هذه الترجمات والتعليقات التي صحبت هذه الترجمات.

وقد أضاف المستشرقون؛ لذلك كله ما قدموه من دراسات عديدة في جميع مجالات العلوم العربية والإسلامية، وقدموا إنتاجًا غزيرًا؛ بلغ حسب بعض الإحصائيات «ستين ألف كتاب»؛ منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.

مقالات مشابهة

  • لا بد من محاسبة المسؤولين عن إبادة غزة الجماعية من القادة وحلفائهم
  • سيناتور أمريكي: قرار ترامب يعكس إدراكه للتهديد الذي يمثله الحوثيون على أمن واستقرار المنطقة
  • «الإسلام في تصورات الغرب».. عرض موضوعي لتصورات الآخر عن ديننا وحضارتنا
  • ضحايا لقمة العيش.. مصرع شاب وإصابة ثلاثة آخرين إثر انقلاب ترويسكل بالشرقية
  • مي الغيطي تتصدر تريند جوجل بعد تعرضها للتهديد من فرد أمن طلب الزواج منها
  • هنو يكشف تفاصيل تطوير قصور الثقافة.. ويؤكد: الفراغ هو التهديد الأول للعمل الثقافي والتربوي
  • وزير الثقافة: الفراغ هو التهديد الأول للعمل الثقافي والتربوي..ودافع تلقي الأفكار غير السوية
  • الإعلامية بثينة توكل توجه نصيحة مهمة للزوجات بعد الخيانة فى برنامجها "أهلا بالستات"
  • تقرير إسرائيلي يحذر الاحتلال من إيران.. تمثل التهديد الأمني الأكبر
  • مفتي القدس يحذر من عدوان مبيت ومخططات إبادة وتهجير بحق الشعب الفلسطيني