التحسن النسبي في التوازنات الماكرو اقتصادية يوازيه تدهور الأوضاع الاجتماعية
تاريخ النشر: 21st, July 2023 GMT
بعد إصدار المندوبية السامية للتخطيط الميزانية الاستشرافية لسنة 2024، يتولى الوزير المنتدب المكلف بالميزانية المثول أمام لجنتي المالية بالبرلمان لبسط الإطار الاقتصادي الذي يتم فيه إعداد مشروع قانون المالية للسنة المقبلة. ومن هذين الحدثين اللذين يفصل بينهما أيام قليلة، نخلص إلى النتيجة التالية: إن الحالة الماكرو اقتصادية لبلادنا كما يظهر من المؤشرات الرئيسية ليست بالسواد الذي نعتقده.
ومع ذلك، يظل هذا التعافي هشًا في سياق يتسم بالعديد من أوجه اللايقين والمخاطر ، مثل: تفاقم الاضطرابات في القطاع المالي، وزيادة تكلفة القروض بعد اعتماد سياسات نقدية مقيدة، وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وتواصل التضخم بمعدلات عالية نسبيًا، واستمرار الحرب في أوكرانيا …
إن الاقتصاد المغربي ليس بمنأى عن هذه الاضطرابات. ويتحمل العديد من العواقب، لا سيما فيما يتعلق بانكماش الطلب الخارجي، والذي ينضاف للمعيقات الداخلية مثل الظروف المناخية غير المواتية، والطلب الداخلي البطيء، وانعدام الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين، خصوصا الأسر المتذمرة من هذه الوضعية.
وفي ظل هذه الاكراهات، ينبغي قراءة المعطيات التي تقدمها المندوبية السامية للتخطيط ووزارة المالية.
وهكذا من المتوقع أن يسجل الاقتصاد المغربي معدل متواضع نسبيًا يبلغ 3.4٪، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنشطة القطاع الأول (الفلاحة) والثالث (السياحة).
وتواجه الأنشطة الصناعية، باستثناء السيارات، وبدرجة أقل الصناعات الغذائية، صعوبات تعزى أساسا إلى تباطؤ الطلب الخارجي الموجه إلى المغرب واستمرار الضغوط التضخمية التي تزيد من تكاليف الإنتاج وتحد من القدرة الشرائية للمستهلكين.
علاوة على ذلك، على الرغم من تراجع التضخم، إلا أنه لا يزال عند مستويات مرتفعة نسبيًا، خاصة بالنسبة للمنتجات الغذائية الأساسية. نتوقع في الواقع، أن تنتهي السنة بمعدل تضخم يبلغ 5.6٪ ، أي أقل بنقطة واحدة من توقعات بنك المغرب التي أعلن عنها في 30 يونيو الماضي.
فيما يتعلق بالتجارة الخارجية، نسجل زيادة طفيفة في العجز التجاري (2 مليار درهم) على الرغم من التحسن الضئيل في معدل تغطية الواردات بالصادرات، حيث ارتفع من 60.9٪ سنة 2022 إلى 61.3٪ سنة 2023.
ومع ذلك، فإن تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج وعائدات السفر، والتي بلغت مستويات قياسية، تساهم معًا في تغطية 73.6٪ من العجز التجاري. ونتيجة لذلك، سينحصر عجز الحساب الجاري عند 2.5٪، ويسجل انخفاضا بنقطة واحدة مقارنة بسنة 2022.
تتوقع المندوبية السامية للتخطيط عجزًا أقل بكثير في نهاية سنة 2023: يجب ألا يتجاوز 0.8 ٪. من ناحية أخرى، تقلصت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 12٪ مقابل زيادة كبيرة في الاستثمارات المغربية بالخارج.
بشكل عام، تغطي احتياطيات البلاد من العملة الصعبة ما يقارب 6 أشهر من الواردات. ويعزز ذلك الأداء الجيد لعملتنا الوطنية مقارنة بالعملات الأجنبية المرجعية.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال قضية المديونية مصدر قلق. إذ سترتفع نسبة الدين الخارجي للخزينة إلى 18.6٪ من الناتج الداخلي الإجمالي في سنة 2023 بدلاً من 15.9٪ بين سنتي 2019 و 2022. وبالتالي، سيبلغ إجمالي دين الخزينة ما يقارب 72٪ من الناتج الداخلي الإجمالي محققا زيادة طفيفة مقارنة بسنة 2022 (71.6٪ من الناتج الداخلي الإجمالي).
ومع ذلك، سينخفض وزن دين الخزينة المحلي من 54.3٪ إلى 53.4٪ من الناتج الداخلي الإجمالي في سنة 2023. وبالنظر إلى وزن الدين الخارجي المضمون، والذي من المفترض أن يصل إلى 13.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ستسجل نسبة الدين العام الإجمالي انخفاضا إلى 85.8٪ من الناتج الداخلي الإجمالي مقابل 86.1٪ من الناتج الداخلي الإجمالي في سنة 2022.
من ناحية أخرى، يظهر تنفيذ قانون المالية في نهاية يونيو 2023 بوادر إيجابية مقارنة بالفترة نفسها من السنة السابقة. من حيث الإيرادات الضريبية، باستثناء ضريبة القيمة المضافة على الواردات، كان أداء المكونات الأخرى جيدًا، حتى لو كانت الأرقام تحتمل قراءة أخرى.
وفيما يتعلق بإنجاز النفقات، فقد سارت الأمور بشكل طبيعي لأن معدل إنجاز النفقات الجارية يزيد قليلاً عن 50٪. ومن الأمور المشجعة أن عجز الحساب الجاري إيجابي إلى حد كبير. أما عجز الميزانية فمن المنتظر أن يصل إلى 4.5٪ وهو تحسن طفيف مقارنة بسنة 2022.
بشكل عام، فإن الحكومة راضية عن هذه النتائج، وتعتبرها مبشرة بمستقبل جيد. ورئيس الحكومة لم يترك الفرصة تمر، دون أن يؤكد للمواطنين في إحدى خرجاته، أنهم سيتمكنوا في غضون بضعة أشهر أو بضع سنوات من جني ثمار الإجراءات الحكومية.
في الوقت الحالي، يجب على المواطنين، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى الفئات الشعبية والمتوسطة، أن يتعايشوا مع مصاعبهم اليومية. لأن المؤشرات الاجتماعية لا تعرف نفس الدينامية التي تحققها نظيرتها الاقتصادية.
علاوة على ذلك، من غير المنتظر توقع حدوث تغيير كبير وملموس في هذا الاتجاه في غياب تحول حقيقي للسياسات العمومية وطالما يتم تهميش تحليل الجوانب الاجتماعية.
من المسلم به أن التوازنات الماكرو اقتصادية مهمة، لكن يجب ألا تتحقق على حساب التوازنات الاجتماعية التي تشكل معيارًا لقياس مستوى معيشة السكان.
ومن المسلم به أيضا أنه يجب القيام بكل شيء لتشجيع الاستثمار والمقاولات، ولن يرى أحد خطأ في ذلك، ولكن يجب علينا كذلك قياس الأثر الاجتماعي لهذه الاستثمارات وتأثيرها على السكان من حيث خلق فرص عمل لائقة، والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية، والاقصاء الاجتماعي وتقوية الشعور بالانتماء للوطن.
من الواضح أنه فيما يتعلق بكل هذه القضايا، لا نفتقد فقط لأي تقدم كبير، ولكن الوضع يتدهور. فقط الانتصارات الرياضية التي تحققت خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي نفتخر بها، كانت قادرة على خلق موجة من الحماس وأيضا تخفيف القليل من آلام وأحزان أولئك الذين لا يكسبون قوت يومهم.
في نهاية المطاف، يجب إعداد قانون المالية، مثل أي إجراء من إجراءات السياسات العمومية، من خلال وضع الإشكالية بكل تعقيداتها على الطاولة عبر إثارة السؤال الاقتصادي والمسألة الاجتماعية والبيئية في نفس الوقت. أما الاهتمام بالإطار الماكرو اقتصادي فقط فهو يندرج ضمن رؤية نيوليبرالية عقيمة اقتصاديًا وخطيرة اجتماعيًا. (ترجمه للعربية عبد العزيز بودرة)
المصدر: اليوم 24
كلمات دلالية: سنة 2022 سنة 2023
إقرأ أيضاً:
كيف نتنبأ بالركود؟
تخيّل أنك تبحر بسفينة عبر ضباب كثيف وتبحث عن اليابسة. يرصد برج المراقبة على سفينتك أنواعا من الطيور التي توجد عادة في مناطق بحرية مجاورة للشواطئ. يبدو الآن أنك تقترب في الأرجح من اليابسة، ولكن من المستحيل أن تتأكد من ذلك حتى ترى الساحل. إذا كان الركود في الولايات المتحدة هو اليابسة، فإن «الطيور» تنقضّ بالفعل لتظهر في المشهد. ولكن هذه المشاهدات لا تقدم أي ضمانات لما ينتظرنا في المستقبل، بل مجرد احتمالات.
يُعتبر منحنى العائد المقلوب عادة، عندما ينخفض سعر الفائدة الطويل الأجل إلى سعر الفائدة القصير الأجل أو ما دونه، مؤشرا على الركود. وقد انخفض بالفعل سعر الفائدة على السندات لأجل عشر سنوات إلى ما دون سعر الفائدة على سندات الخزانة لأجل ثلاثة أشهر في شهر مارس، برغم أن الاثنين الآن عند ذات المستوى تقريبا. على أية حال، لا ينبئنا منحنى العائد في حقيقة الأمر بالكثير.
فهو يعكس ببساطة توقعات الأسواق المالية بأن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قد يخفض أسعار الفائدة القصيرة الأجل في المستقبل، وهذا بدوره يعكس التوقعات بأن النشاط الاقتصادي قد يتعثر. تُعد ثقة المستهلك مؤشرا أكثر مباشرة ــ لا سيما للتنبؤ بطلب الأسر. وقد أظهر مقياسان راسخان لثقة المستهلك، أدارتهما جامعة ميشيجان ومؤشر كونفرنس بورد، انخفاضات حادة في شهر مارس، عندما بدأت تتحقق تهديدات الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية.
وسجل مؤشر مسح ميشيجان لثقة المستهلك، الذي كان في انخفاض منذ بداية العام، هبوطا حادا بلغ 11% أخرى في الحادي عشر من أبريل ــ وهذا أقل كثيرا من المتوسط في فترات الركود السابقة وثاني أدنى مستوى منذ بدء السجلات في عام 1952. بالمثل، يفيد استطلاع توقعات المستهلكين الذي يجريه بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن توقعات الأسر بشأن أوضاعها المالية على مدار العام تدهورت في مارس. وعلى نحو مماثل، في الرابع من إبريل، «انهارت» ثقة الشركات ــ التي توجه قرارات التوظيف والاستثمار في الشركات ــ ليس فقط في الولايات المتحدة، بل على مستوى العالم، بسبب انعدام اليقين بشأن تعريفات ترامب «المتبادلة».
في سعينا إلى تحديد ما إذا كان الركود الاقتصادي وشيكا، ربما ننظر أيضا إلى توقعات مهنية، يُـجـمَع نحو خمسين منها بواسطة توقعات Blue Chip Financial Forecasts. وثمة مصدران آخران يجمعان التوقعات هما مسح المتنبئين المحترفين (SPF) وصحيفة وال ستريت جورنال (WSJ). في السابع عشر من أبريل، أظهر هذا الأخير متوسط توقعات بنسبة 0.44% على أساس سنوي للربع الأول، واحتمالات ركود أعلى كثيرا مما كانت عليه في بداية العام. لكن استطلاعات وال ستريت جورنال ومسح المتنبئين المحترفين لا تُنشر إلا مرة واحدة كل ربع سنة ومن الممكن أن تصبح قديمة بسرعة. على أية حال، قد يكون ما يقوله الناس أقل أهمية من تصرفاتهم الحقيقية في أموالهم.
ضاعفت أسواق التنبؤات الاحتمالات التي وضعتها على الركود بعد الثالث من مارس إلى ثلاثة أمثالها، عندما فرض ترامب تعريفات جمركية بنسبة 25% ضد كندا والمكسيك، والثاني من أبريل، عندما أعلن ما يسمى «التعريفات المتبادلة». واعتبارا من التاسع عشر من أبريل، يُظهر مؤشر بولي ماركت (Polymarket) احتمالات بنسبة 57% بحدوث ركود في العام المقبل، ويأتي مؤشر كالشي (Kalshi) عند مستوى 59% ــ أي حوالي أربعة أضعاف المستوى في أي عام عادي (15%). إذا كان عليّ أن أنظر إلى نوع واحد فقط من التقديرات، فسوف يكون في الأرجح أسواق التنبؤات.
التنبؤ بركود محتمل شيء؛ أما تحديد متى بدأ الركود بالفعل فهو شيء آخر. فبدلا من التنبؤ بحدوث ركود قبل حدوثه، يقول مؤشر الركود وفقا لقاعدة سهم إن الاقتصاد يصبح في حالة ركود إذا ارتفع المتوسط المتحرك لمعدل البطالة لثلاثة أشهر بما لا يقل عن 0.5 من النقطة المئوية، نسبة إلى أدنى نقطة بلغها طوال الأشهر الإثني عشر السابقة. في الوقت الحالي، لا يشير المؤشر إلى وجود ركود: لا تزال البطالة منخفضة بالمعايير التاريخية. لكن الشركات تؤجل في بعض الأحيان قرار تسريح العمال استجابة لانخفاض الطلب، وخاصة في أوقات ارتفاع حالة انعدام اليقين مثل الآن، إلى ما بعد تكديس بعض المخزون غير المرغوب فيه، و/أو خفض إنتاجها وساعات العمل الأسبوعية.
من الممكن أن نستعين بعدد من المقاييس المبكرة الأخرى للنشاط الاقتصادي الفعلي في تحديد الركود. على سبيل المثال، تستطلع مؤشرات مديري المشتريات شركات القطاع الخاص لمعرفة ما إذا كانت شهدت ارتفاعا أو انخفاضا في الطلبيات الجديدة خلال الشهر السابق. انخفض مؤشر مديري المشتريات التصنيعي في الولايات المتحدة التابع لمعهد إدارة التوريدات إلى 49 في مارس، حيث تشير القراءات التي تقل عن 50 إلى الانكماش. كما أن بيانات مبيعات التجزئة الصادرة عن مكتب الإحصاء ــ وهي أولى البيانات المتاحة حول استهلاك الأسر ــ تكشف عن كثير، حيث يمثل الاستهلاك الخاص ما يقرب من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. أشار تقرير شهر مارس إلى استمرار النمو، وإن كان مدفوعا إلى حد كبير بارتفاع مبيعات السيارات للمستهلكين الذين كانوا يحاولون استباق التعريفات الوشيكة.
بطبيعة الحال، المعيار الأقرب إلى تعريف الركود هو فترة من نمو الناتج المحلي الإجمالي السلبي (في معظم البلدان، تستمر لربعين متتاليين). لكن الناتج المحلي الإجمالي يُـبـلَـغ عنه كل ثلاثة أشهر، مع تأخر كبير، (وهو يُـراجَع في وقت لاحق غالبا). لذا، ظهرت «التوقعات الآنية» لتوفير تقديرات لحظية للناتج المحلي الإجمالي، استنادا إلى أحدث المؤشرات، مثل مؤشر مديري المشتريات، والإنتاج الصناعي، ومبيعات التجزئة. انخفضت تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول وفقا لأبرز التوقعات الآنية في الولايات المتحدة، وهي توقعات الناتج المحلي الإجمالي الآن الصادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا، من أعلى من +2% إلى أقل من -2%. حتى بعد التعديل بما يتناسب مع الزيادة غير المعتادة في واردات الذهب، يُظهر الناتج المحلي الإجمالي الآن انخفاضا في النمو إلى ما دون الصفر بقليل في أبريل.
في حين لا تقدم الطيور التي تنبئ بالركود أي ضمانات، فإن مؤشرات التوقعات الآنية من الممكن أن تشير إلى أننا ربما نكون وصلنا إلى هناك بالفعل. وبالتالي يمكن اعتبارها بمثابة مجموعات من الصخور أو المياه الضحلة. ولكن حتى في ذلك الحين، قد تكون أو لا تكون مرتبطة بكتلة أكبر من اليابسة.
في الواقع، حتى مع استمرار الركود، فإننا لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كان هذا هو ما نشهده الآن. الحكم الرسمي للركود في الولايات المتحدة هو لجنة تأريخ دورة الأعمال التابعة للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، والتي تنظر في متغيرات مثل الناتج المحلي الإجمالي، والدخل الشخصي الحقيقي (باستثناء التحويلات الاجتماعية)، والتوظيف في الوظائف غير الزراعية، ونفقات الاستهلاك الشخصي الحقيقي، ومبيعات التصنيع والتجارة (المعدلة حسب تغيرات الأسعار)، والإنتاج الصناعي. وعندما تتوفر جميع البيانات ــ عادة بعد مرور عام أو نحو ذلك ــ تعلن اللجنة عن نقطة تحول. هذا لا يساعد البحّار الذي يبحر عبر الضباب. استنادا إلى المعلومات الحالية، أضع احتمالات حدوث ركود اقتصادي أمريكي عند مستوى 60% للعام القادم ــ بما يتماشى مع أسواق التنبؤات ــ بل وحتى أعلى من ذلك للسنوات الأربع التالية. وفي حين لا يمكننا أن نجزم بأي شيء، فلا ينبغي لنا أن نتفاجأ إذا ما جنحت بنا السفينة.