الجزيرة:
2024-12-27@01:46:18 GMT

الاقتصاد وحرب غزة.. العمّال يفرّون من الأرض المحتلة!

تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT

الاقتصاد وحرب غزة.. العمّال يفرّون من الأرض المحتلة!

يدور الاقتصاد في فلك السياسة سلبًا وإيجابًا، لذا فحرب غزة الأخيرة لها تداعياتها على الاقتصاد الإسرائيلي والاقتصاد الفلسطيني والاقتصادات المحيطة والاقتصاد الدولي.

ومن المدهش أنّ هناك شبه صمت حول ذلك، فالاقتصاد العالمي مرّ خلال السنوات الأخيرة بصدمات متتالية بدءًا بكورونا والإغلاقات ثم حرب روسيا وأوكرانيا، ثم الحرب الأخيرة، فصار الاقتصاد العالمي يعرج ولا يركض، كما هو مطلوب للعودة للتعافي، كما قال بيير أوليفيه جورينشا كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي.

إن ما يعبر عن كل ما سبق تصريح رئيس البنك الدولي أجاي بانغا في مقابلة مع رويترز عن أسفه لتوقيت الحرب، لأنه: (في الوقت الذي بدأت البنوك المركزية تشعر بمزيد من الثقة في أن هناك فرصة لهبوط سلس لأسعار الفائدة، فإن الصراع جعل الأمور أكثر صعوبة)، وفي رأيه أنها: (مأساة إنسانية وصدمة اقتصادية لا نحتاجها)، ويرى أن: (المنظمات الدولية تثق في وقف تصعيد الصراع بما يؤدّي إلى تجنب المزيد من الألم، وعدم إضافة المزيد من الأسئلة إلى مسار التعافي الاقتصادي).

كبح المكاسب

هنا يمكننا القول؛ إن التوترات الجيوسياسية هي الخطر الحقيقي على الاقتصاد الدولي وتعافيه، بدأ الإنتاج العالمي في التعافي، ولكن ببطء، حيث نما بنسبة 3% العام الحالي، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 2.9 % العام القادم طبقًا لتوقعات المحللين، كما تشير التقديرات إلى أن منطقة اليورو ستحقق نموًا قدره 0.7 % العام الحالي، لتنخفض هذه النسبة إلى 1.2 % العام المقبل.

وهي نسب أقل مما قدره صندوق النقد الدولي، كما أن هناك مخاوف من أن يكون لحرب غزة دور في كبح المكاسب التي تحققت بشق الأنفس على جبهتي النمو والتضخم. إن إحدى أدوات هذا الكبح أسعار النفط والغاز، ففي أول رد فعل على حرب غزة أمرت إسرائيل شركة شيفرون بوقف إنتاج الغاز في حقل تمار للغاز، وهو ما يكبدها شهريًا 200 مليون دولار، وهذا يلقي بتداعياته على واردات الغاز على الصعيد الدولي.

جرى التركيز على التداعيات على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تدفّقت الأرقام من إسرائيل بسرعة، في حين أنّ التداعيات كانت مدمّرة على الاقتصاد الفلسطينيّ، وهو ما يصعب حصره في ظل الدمار الشامل الذي لحق بقطاع غزة، والحصار المطبق على الضفة الغربية، لكن القلق على الصعيد الدولي أعمق من هذا أيضًا بكثير، إذ أثار الاصطفاف الغربي خلف إسرائيل قلق الدول ذات الاقتصادات الصاعدة، هذا القلق محل تساؤل: ماذا لو حدث خلاف مع الغرب في قضايا جذرية، هل سنتعرض للعقوبات والمحاصرة؟ هل يمتد الأمر إلى استخدام القوة بلا رحمة وتدمير الاقتصاد؟

وهل ستصبح عمليات تدمير المدن والمصانع – حالة روسيا في أوكرانيا، وتدمير غزة تدميرًا ساحقًا- نموذجًا لحروب المستقبل التي تدمر كل شيء بلا هوادة من أجل تحقيق انتصار؟.

قوة الهند

اللافت للنظر أن الهند لديها قوة اقتصادية كبرى، لكنها تراقب من كثب الموقف، بل ذهب عدد من المراكز البحثية المحلية إلى مزيد من الطرح حول تداعيات الخلافات المحتملة مع الغرب على الاقتصاد الهندي.

وكذلك الحال مع الصين التي أعدَّت عدة سيناريوهات للأزمات المحتملة وأثرها على الاقتصاد الصيني، لكن ما هو أبعد من ذلك صارت هناك تساؤلات حول الصناعات العسكرية الإسرائيلية ومدى القدرة على الاعتماد على السلاح الإسرائيلي؟

وهو ما قد يؤثر على المدى البعيد على قدرة إسرائيل على استكمال برامج تطوير الأسلحة، وتصدير السلاح المصنّع في إسرائيل، في ظل صعود صناعات منافسة في العديد من الدول ومنها تركيا وإيران، ليقودنا هذا للتساؤل: هل إسرائيل بيئة آمنة للاستثمارات في ظل الحروب المتتالية لها مع محيطها الجغرافي؟

على عكس كل الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل، حرب غزة الأخيرة تخوضها إسرائيل في وضع اقتصادي مضطرب وفي ظل سوء إدارة، وسوء توزيع للموارد حتى في ظل الحرب، حتى اضطر 300 من خبراء الاقتصاد الإسرائيليين إلى توجيه رسالة إلى بنيامين نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش عنوانها: (العودة إلى رشدكما)، مطالبين بإحداث تغيير جوهري في الأولويات الوطنية وإعادة توجيه الأموال بشكل كبير للتعامل مع أضرار الحرب ومساعدة الضحايا وإعادة تأهيل الاقتصاد.

وتوقعوا ارتفاع النفقات في زمن الحرب إلى مليارات الدولارات، وحثوا نتنياهو وسموتريتش على التعليق الفوري لتمويل أي أنشطة ليست حاسمة لجهود الحرب وإعادة تأهيل الاقتصاد، مع وقف صرف الأموال المخصصة لاتفاقيات شركاء ائتلاف نتنياهو لحكم إسرائيل من المتطرفين.

خفّض البنك المركزي الإسرائيلي توقعاته لنمو الاقتصاد خلال عام 2024، مفترضًا أن الحرب لن يطول أمدها وتأثيرها أكثر مما هي عليه الآن، كما خصّص 30 مليار دولار لدعم الشيكل العملة الإسرائيلية.

دخلت إسرائيل الحرب باحتياطيّ نقدي 200 مليار دولار، وهو معرض للنزيف الآن، انخفض الناتج المحلي لإسرائيل 15 %، وهي أعلى نسبة في تاريخ إسرائيل، إن الأزمة التي سيواجُهها الاقتصاد الإسرائيلي هي العمالة، ففي خلال حرب غزة فرّ 7 آلاف عامل تايلندي من إسرائيل، كما فقدت إسرائيل العمالة الفلسطينية القادمة من غزة بصورة أساسية، هذا ما يدمر قطاعات عديدة في الاقتصاد الإسرائيلي، مثل: الزراعة والصناعة، فضلًا عن القطاع السياحي الذي امتدت آثاره إلى الدول المجاورة.

فقدان فرص النمو

إن الحديث عن آثار الحرب الجارية على الاقتصاد الإسرائيلي دار حول الآثار المباشرة الآنية، لكن الآثار على المدى المتوسط وكذلك البعيد غير واضحة، فالاقتصاديون يرون آثارًا عميقة قد لا يتعافى منها الاقتصاد الإسرائيلي بسهولة، هذا ما يجعل تكلفة الحرب عالية، وهي ردّ فعل على طول مدة الحرب والعنف الذي مُورس خلالها، ثم فقدان الفرص التي أتاحتها سياسات تطبيع الدول العربية مع إسرائيل.

فالاقتصاد الطبيعي يقوم على الجوار والاستفادة منه إلى أقصي حد ممكن، لكن قطع العلاقات مع الجوار يفقد أي اقتصاد فرصًا طبيعية للنمو والتفاعل، لقد خسر الاقتصاد الإسرائيلي بعنفه المفرط في غزة فرصة التطبيع الاقتصادي مع الجوار؛ بسبب العداء مع شعوب المنطقة، وهي المستهلك والمنتج.

ولنا في ذلك الرفض الشعبي المصري أيَّ منتج اقتصادي إسرائيلي، كما أن الخوف من نشوب حروب متتالية في إسرائيل ومع الجوار يجعل استقرار الاقتصاد الإسرائيلي مستحيلًا.

على الجانب الآخر، نرى أن الحديث عن الاقتصاد الفلسطيني لا محل له من الإعراب، فقد دُمرت كل مقومات الحياة في غزة، ولحقت أضرار بالغة بموسم حصاد الزيتون في الضفة الغربية، كما أن السياحة في أعياد الميلاد يبدو أنها أصبحت في مهب الريح سواء بالنسبة للضفة الغربية وإسرائيل على حد سواء.

اقتصاد مستقل

إن أكثر ما يعبر عن مشهد التدمير هو عودة الفلسطينيين إلى استخدام الحطب لإنضاج الخبز، أو استخدام مياه البحر المالحة في الشرب أو غير ذلك، فقد سُوي الاقتصاد الغزي بالأرض، فأصبحت غزة بلا اقتصاد، لتصبح مهمة إعمارها في مرحلة ما بعد الحرب مهمة شاقة.

لذا فإن العديد من دعوات إعادة إعمار غزة تعتمد على الدعم الخليجي، خاصة من قطر والكويت، لذا فالسؤال المطروح: هل ستكون هناك خطط شاملة لإعادة الإعمار تفكّ الاشتباك بل وتفكّ اعتماد الاقتصاد الفلسطيني في غزة والضفة أيضًا على إسرائيل في كل شيء من الكهرباء إلى المياه إلى المواد الغذائية.. إلخ.

إن ما كشفته الحرب الأخيرة هو تحول هام في الشخصية الفلسطينية في كل الأجيال، حيث بات التمسك بالأرض أهم من كل مقومات الحياة، فهناك 2 مليون فلسطيني يعيشون تحت ظروف قاسية في حصار مطبق هدف إلى التهجير والإبادة، بل حين رفض بعضهم مغادرة منازلهم وفضلوا الموت بها، صارت قيمة الحياة توازي قيمة التمسك بالأرض، هذا الذي صدم الإسرائيليين والأميركيين والأوروبيين، فحسابات الصمود ليس لها علاقة بالحسابات الاقتصادية المادية الصرفة.

وبالتالي فإن العودة لبناء اقتصاد فلسطيني مستقل معتمد على ذاته هو الدرس الذي تعلمه الفلسطينيون، وهو ذات الدرس الذي استوعبوه من تجارب التاريخ المريرة بأن الاعتماد على الدول العربية في المناصرة والمساندة سيكون هادمًا للمقاومة وحرب التحرير.

كانت الحرب مفاجأة للجميع وتحمل الفلسطينيون ثمنها ومسؤوليتها، قاد الحصار على غزة منذ العام 2007 إلى ابتكارات وحلول لا حدود لها، الحصار ولد عقولًا فذة مبتكرة في كل المجالات، حتى صارت الحياة ممكنة تحت الضغوط الإسرائيلية، فأنت حين تنزع كل شيء من الإنسان تدفعه إلى اليأس والانتحار، أو يخرج عليك بروح جديدة خارج تصورك، هذا ما حدث.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الاقتصاد الإسرائیلی على الاقتصاد

إقرأ أيضاً:

السلام على الأرض ومحبة تتجاوز الحدود .. الكنائس تحتفل بذكرى ميلاد السيد المسيح.. صلوات وقداسات في فلسطين وسوريا لوقف نزيف الحرب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في ظل ما تمر به منطقة الشرق الأوسط من نزاعات وحروب مدمرة، تأتي ذكرى ميلاد السيد المسيح هذا العام كرمزٍ للأمل والسلام وسط الظلام الذي يكتنف العديد من البلدان.. فبينما تعيش المنطقة تحديات جسيمة من حرب وصراع، تظل رسالة الميلاد التي حملها المسيح، منذ أكثر من ألفي عام، دعوة للتسامح والمحبة والإيمان بقوة النور في أحلك الظروف.

تحتفل الكنائس في مختلف دول الشرق الأوسط، من فلسطين إلى سوريا، لبنان، العراق، واليمن وغيرها من المناطق التي تمزقها النزاعات، بميلاد المسيح في الوقت الذي يعاني فيه العديد من أبناء هذه البلدان من الألم والدمار. ورغم كل ما يحيط بالمنطقة من مآس، تظل رسالة الميلاد ماثلة في قلوب المؤمنين: "السلام على الأرض" و"المحبة التي تتجاوز الحدود".

تأخذ هذه الذكرى طابعًا خاصًا في هذا السياق، حيث تجد الكنائس نفسها في دورٍ عميقٍ من التأثير الروحي، من خلال دعوتها للسلام، وترسيخ الأمل في النفوس، وتأكيد أن الميلاد ليس فقط حدثًا تاريخيًا، بل هو تذكير دائم بأن المحبة والرحمة هما السلاح الأقوى في مواجهة التحديات.

قال البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ورئيس مجلس كنائس الشرق الأوسط عن العائلة الأرثوذكسيّة، "الشعوب اكتتبوا بأمر قيصر وأما نحن المؤمنين فقد كُتبنا باسم لاهوتك"، بهذه الكلمات وبلسان ناظمة التسابيح كاسياني تدعونا الكنيسة المقدسة إلى تأمل ميلاد المسيح. تدعونا للتأمل في تلك الأيام التي جرى فيها اكتتاب أو إحصاء المسكونة. تضع ذلك أمام أعيننا وتدعونا أن نكتتب قلباً وقالباً لاسم المسيح. تدعونا أن نكون له وحده، شهوداً لمحبته، شهوداً لعظم تنازله، شهوداً لإنجيله، و التي ما أنفت أن تتنازل لتخاطب جبلةً أحبت وبشريةً تهاوت في كبريائها فهوت من مجدها فوافاها مخلصاً يعيدها إلى المجد الأول.

وتابع البطريرك يوحنا العاشر: في بيت لحم الهاجعة على أنغام الرعاة جاءنا الساهر على الدنى من علياء مجده. جاءنا من أمٍّ عذراء التحفت الخفر والوداعة. جاءنا وديعاً يناجي الإنسانية الهاجعة في مغاور قلوبها والمتطلعة إلى نور قيامة وفيض رجاء.

واستطرد “العاشر”، من مغارةٍ في باطن الأرض أطل على البشرية الملتحفة بضعفها دثاراً وبكبريائها برقعاً. جاءها طفلاً يناجي أطفالها. جاءها متوسداً في حشا العذراء حشا كل ذهن بشري. أراد أن يلاقيها ببشارة الخلاص وهي التائهة في براري العتو والصلف. جاءها متواضعاً وهي التي شمخت بزيف كبريائها. دخلها مقتدراً كاسراً الأسوار وهي التي تدرعت بأسوار تجبرها وزيف قدرتها.

وفي كل عام تتذكر البشرية ميلاد ذاك الطفل وسط قعقعة حروبها ووسط حروبها التي لا تنتهي. وهي تذكره اليوم وهي تغلي بالحروب ونار الصراعات. تذكره اليوم وفي الذكرى مناجاة لرب السلام. تذكره بعيون كل طفل يتوق إلى سلامه. تذكره في الأرض التي ولد فيها ومن الشرق الذي حضن تلاميذه وأطلق إنجيله إلى كل العالم. تذكره وهي تفتقد حضوره في نشيد الملائكة مجداً لله في علاه وسلاماً على الأرض ومسرةً لبني الأنام. تذكره اليوم وفي الذكرى تلتمع تلك الحروب الآثمة التي تحصد الأرواح وتخطف بهجة الناس. تذكره وهي تتخبط في أوحال السياسة وفي وهاد المصالح التي تدوس كرامة الإنسان وتسلّعها في سوق كبار هذا الدهر.

ورغم كل هذا يبقى لنا الرجاء النابع من عيون ذاك الطفل الإلهي، من عيون طفل المغارة الذي نسأله اليوم الرأفة بعالمه كما ونسأله أيضاً من أجل هذه البشرية التي تترنح من مرارة حروبها وتتوق إلى رحيق سلامه. نسأله أن يطفئ نار الحروب بعذوبة سلامه وأن يضع في النفوس شيئاً من رويّته.

كن معنا يا يسوع ولامس قلبنا بعذوبة قلبك. كن معنا، كما أنت دوماً، وأنعم على بلادنا بروح سلامك. تعهد هذا الشرق الذي ولدت فيه واحفظه بفيض رأفتك. كن، كما أنت دوماً، مع إنسانك المعذب الذي يقاسي ويلات الحرب قتلاً وترهيباً وجوعاً ودماراً وتهجيراً وخطفاً. سكن يا رب هياج هذا العالم وأخمده بجبروت صمتك. أرح نفوس من سبقونا إلى لقيا وجهك القدوس.

البطريرك يوحنا العاشر

أما المطران الدكتور سني إبراهيم عازر؛ مطران الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة قال: المولود هنا في بيت لحم، فلسطين، ليجلب النور لجميع البشر لاسيما في عالم تسوده النزاعات والاضطرابات.

ويأتي علينا عيد الميلاد المجيد مرة أخرى ونحن في حالة حداد وحزن على أهلنا في قطاع غزة الذين يواجهون الحرب والقتل والدمار حيث قُتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وسجن آلاف آخرين ظلمًا، إضافة إلى الأعداد التي لا حصر لها من الجرحى والمفقودين تحت الأنقاض أو في أماكن مجهولة، وملايين المشردين والنازحين الذين يتعرضون للمجاعة والأوبئة والامراض، ويعانون برد شتاء قارس آخر بينما لا تلقى النداءات لوقف إطلاق النار أي استجابة، ولا نعلم كم من الأرواح ستُزهق قبل أن تنتهي هذا الحرب.

والحال في الضفة الغربية والقدس الشرقية ليس بالأفضل.. فنحن نعاني من فرض قيود مشددة على حرية الحركة، والعديد من عائلاتنا وأصدقائنا وجيراننا يعانون من الوضع الاقتصادي المتردي نتيجة تدهور القطاع السياحي حيث لا تزال العديد من الفنادق والمطاعم مغلقة ويبقى شعبنا محروم من فرص العمل والتعليم، ومحروم من حقهم في الوصول لأماكنهم المقدسة في القدس. ومع زيادة وتيرة وحدة المداهمات وهجمات المستوطنين، لا أحد منا يعلم ما ستؤول له الأمور.

وهنا في بيت لحم، سنحتفل مرة أخرى بميلاد مخلّصنا بدون الاحتفالات التقليدية، بدون إضاءة الأشجار، وبدون بهجة الاستعراضات الكشفية، وبدون الحجاج الذين يأتون بحثًا عن طفل المذود. ورغم أننا نحتفل بمجيء النور إلى عالمنا المتجسد بميلاد المسيح، إلا أننا نمر بأيام عصيبة ومظلمة. ولكننا نستمد الأمل في كلمات بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 13 والآية 8:

"يسوع المسيح هو أمسًا واليوم وإلى الأبد."

وهنا تكمن رسالة كنيستنا منذ أكثر من 170 عامًا. وكجزء متأصل من مكونات المجتمع الفلسطيني، واجهت الكنيسة على مر العقود تحديات جمة مثلها مثل باقي اطياف الشعب الفلسطيني الذي عانى من الحروب والنزوح واللجوء وغياب الحريات الأساسية. من خلال كل هذا، نتمسك برسالة أن يسوع يبقى كما هو في كل الأوقات والمصاعب. لا يمكن لمصائب هذا العالم أن تغير محبة المسيح لنا، والأمل الذي يجلبه إلى العالم. هذا هو ما يجعلنا ثابتين وراسخين في أرضنا وفي إيماننا. ومن خلال خدمتنا الكنسية وبرامجنا المجتمعية، نسعى إلى نشر هذه الرسالة في مجتمعنا. شكل ميلاد يسوع المسيح ثورة. فقد غيّر العالم جاء يسوع إلى العالم في وقت كان شعبه في أمس الحاجة إليه. وهو يأتي إلينا في وقت حاجتنا وعوزنا أيضًا. على مدار خدمته، سواء عندما كان يدعو التلاميذ، أو يصنع المعجزات، أو يعلّم الجموع، لم ينتظر يسوع الناس ليأتوا إليه. بل ذهب إليهم.

مهمتنا ورسالتنا في هذه الأرض هي الاستمرار في هذا العمل الثوري، والذهاب إلى الناس حيثما تواجدوا. كل يوم نحاول أن نعيش ونختبر هذه الرسالة، على الرغم من العقبات الجمة التي تواجهنا. فمن خلال مدارسنا ورسالتنا التربوية، نجلب أمل التعليم لأطفالنا ونخلق جيلا متنورا ومثقفا، ومن خلال كنائسنا، نشارك وعد الإنجيل مع بعضنا البعض ومحبة الله لنا، ومن خلال مركز التعليم البيئي، نعزز صلتنا بأرضنا وبخليقة الله ونسعى لحماية البيئة التي أوكلها الله لنا، من خلال مركز الخدمة الاجتماعية، نقدم الطعام والمأوى والرعاية الطبية والدعم النفسي لمجتمعاتنا. ومن خلال مكتب العدالة بين الجنسين، نعمل معًا من أجل مستقبل أكثر عدالة ومساواة للجميع. لا نسعى من خلال خدمتنا الكنسية أن نكون يدَي المسيح وقدميه في عالمنا فحسب، بل نرى صورة المسيح في أولئك الذين نخدمهم ونتبارك بخدمتهم.

وطالما نحن باقون على هذه الأرض، يبقى يسوع معنا أيضًا. وُلد قبل 2000 عام في بيت لحم، ويولد من جديد في حياتنا اليوم وسيبقى معنا إلى الأبد. ورغم أننا نعرف جيدًا اليوم حقيقة قصة الميلاد: قصة نزوح وخوف والعيش تحت سطوة الإمبراطورية، فإننا نعلم أيضًا أنه اختار أن يأتي إلى العالم من خلال هذه  القصة وبما أنه اختار أن يُولد في مغارة متواضعة لشعب يرضخ تحت سلطة الإمبراطورية فإننا على يقين بأنه لن يتركنا. هو الذي أرسل الأخبار السارة للرعاة يرسل الأخبار السارة لنا اليوم ويظهر لنا أنه حتى في أحلك الليالي، هناك نجمة تضيء طريقنا إلى المذود.

متّكلين على هذه الرسالة والأمل الذي تجلبه، نرفع قلوبنا إلى يسوع المسيح الذي هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. نصلي أن يغير ميلاده العالم مرة أخرى ويجلب عدله المقدس وسلامه الدائم لشعبنا الفلسطيني ولشعوب الأرض كافة.

المطران الدكتور سني إبراهيم عازر 

وقال الأنبا إبراهيم إسحق؛ يتميّز عيد الميلاد بمظاهر وعلامات خارجيّة عديدة، مثل المغارة وشجرة الميلاد وغيرها. هي لطيفة طالما أنّها لا تشتّت انتباهنا، بل تساعدنا على أن نعيش المعنى الحقيقيّ والمقدّس لعيد ميلاد يسوع، بحيث لا يكون فرحنا سطحيّا بل عميقًا. 

عيد الميلاد

يأتي عيد ميلاد رب المجد يسوع المسيح، ليجـدّد الـيقين بـأنّ الله حـقّا حـاضـر لنا، يأتي كي يلتقي بنا: «ولد لكم اليوم مخلّص». لـم يـكتف ِ الخالق بـأن يُظهـر لنا آيـات رائـعة أو أن يكلّمنا ليـرشـدنا، بل شـاركـنا حدود إنـسانـيّتنا ووهـبنا آفاق محبته الإلـهيّة.

« أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له » كما نردّد في مدائح شهر كيهك. هذا هو سرّ التجسد الذي میّز وما زال يميّز تاريخ الإنسان «لأَنه هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.. .(يو ٣: ١٦-١٧)

اختار عمانوئيل (الله معنا) أن يحضر في تاريخنا البشريّ بحدوده ومآسيه، في عالم يعاني من شر الانقسامات والحروب، ليعلن، بطريقة لا مثيل لها، عن قلب رحيم ومحبٍ للبشر.

 

الميلاد هو لقاء

الميلاد قبل كلّ شيء هو لقاء. اللقاء بشخص عمانوئيل، الله معنا، مع كلّ واحد منّا. هو النور الحقيقيّ الذي يهزم الظلمة التي تحاول غمر حياتنا وحياة الإنسانيّة كلّها. «النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه» (يو ١، ٥).

من هنا تأتي هدية الميلاد متى قبلنا مولود بيت لحم بقلبنا وحياتنا وسمحنا له أن يدخل ويبارك حياتنا.  فبالميلاد الثاني الفوقاني تعود الحياة ويتعافى الـقلب ويتجـدّد الـرجـاء. ويصير عيد المـيلاد فرصة للاحـتفال بـالـثقة التي تغلب اليأس، والرجاء الذي يهب المعنى، فالله معنا ومازال يثق بنا.

وفي الميلاد، نلتقي حنان ومحبّة الله الذي ينحني فوق محدوديّتنا وضعفنا وخطايانا.

 

الميلاد دعوة ورجاء

وقف الله مرّةً وإلى الأبد إلى جانب الإنسان ليخلّصه وينفض عنه غبار بؤسه  ويمحو خطاياه.

ليلة الميلاد يولد رجاء للإنسانيّة بشكل عام وللكنسية بشكل خاصّ. فميلاد الرب يسوع هو مبادرة تجدّد فينا قدرة  التغلّب عــلى القلق الــذي راح يــسيطر عــلى نفوس الكثيرين.  

فإننا نشعر أن جزءاً منّا، وهو الأكرم، مهدور. وبالرغم من تعدّد وتقدّم تقنيات التواصل، صار كثيرون يميلون الي الـبقاء فـي عـزلـة أضعفت قدرتهم عـلى الـتواصـل! فظهرت معاناة فقدان التوازن واختلال الهوية.

في ليلة الميلاد تبيت البشرية، العطشى الي الله، خارج مغارة بيت لحم - مثل الـرعـاة البسطاء- الذين سيقودهـم الـروح الـقدس إلـى مـغارة بـيت لحم، ليلتقوا بمريم ويوسف والطفل تمامًا كما قيل لهم.وبـــعد أن رأى الـــرعـــاة "الله الظاهر في الجسد" أخـــبروا عـــنه بـــما قـــيل لـــهم

فـــصاروا شـــهودًا ومـــعلنين للبشـــرى الـسارّة.

"أَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر". (كول 3: 12)

لنبتهج فـي الـرب يـا أحـبائـي، ولـنفتح قـلوبـنا عـلى احـتياجـات مـن يـنقصهم الـفرح. "فقد أَرادَ الله أَن يُظهِرَ لِلأَجْيالِ الآِتيَة نِعمَتَه الفائِقةَ السَّعة بِلُطفِه لَنا في المسيحِ يسوع" ( اف 2: 7).

لـتساعـدنـا نـعمة مـيلاد رب المجد على الانفتاح والخروج مـن ذواتـنا، لـنكون شـهودًا عـلى مـثال الـرعـاة، الذين لــم يحتفظوا لأنفسهم بفرحه اللقاء بالمخلّص، بل شاركوا آخرين بما اختبروا.

لـيــكن احــتفالــنا وتــبادلــنا الــتهانــي فــي هــذا الــيوم تــعبيرًا عــن فرحة إيماننا أنّ الله مــعنا ويريد أن يرافقنا طريق حياتنا.

 

محبة واتحاد 

نرفع صلاتنا متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس وأصحاب الغبطة بطاركة الشرق.

نــصلّي مــعا مــن أجــل الــبلاد التي تــعانــي ويــلات الحــرب والــدمــار والأزمــات خاصةً: ســوريــا، والسودان وأوكرانيا وفلسطين.

نـــصلّي مـــن أجـــل وطـــننا الـــغالـــي مـــصر، ومـــن أجـــل ســـيادة رئـــيس الجـــمهوريّـــة عـــبد الـــفتاح الـسيسي وكـل ّ معاونيه، سائلين الرب ان يلـهمهم الـحكمة والتدبير الحسن لمواجهة التحديات المحلية والأزمات الدوليّة.

يا ربنا محب البشر، هبنا أن نتعلم ألا نغلق قلوبنا، لنرى في كل شخص صورة لك

وأن نبني جسور المحبة والتفاهم بين جميع الناس

هبنا أن نرحّب بهدية سلامك  ونشاركةُ القريبين

الأنبا إبراهيم اسحق 

مقالات مشابهة

  • الشاوش ينتقد تقرير صندوق النقد الدولي ويطالب بالتحول إلى الدعم النقدي للمحروقات
  • البنك الدولي يرفع توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني عن 2024 و2025
  • الحلقة الثامنة من كتاب عدسات على الطريق ..
  • السلام على الأرض ومحبة تتجاوز الحدود .. الكنائس تحتفل بذكرى ميلاد السيد المسيح.. صلوات وقداسات في فلسطين وسوريا لوقف نزيف الحرب
  • مدبولي: نركز على تمكين القطاع الخاص.. والدولة تكون منظمة للسوق
  • الحوثيون يعلنون مسئوليتهم عن استهداف إسرائيل بمسيّرتين
  • كيف يخنق الاحتلال الإسرائيلي الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة؟
  • جنرال إسرائيلي: اليمنيون “لن يخسروا الحرب مع إسرائيل” 
  • مصر وصندوق النقد الدولي.. اتفاق جديد يمهد لصرف 1.2 مليار دولار
  • إسرائيل تعلن اعتراض صاروخ أطلق من اليمن