نماذج عُلمائية مُلهمة (3): أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT
إنه عمر الفاروق (رضي الله عنه)، عمر الإنسان، وعمر المؤمن، الصحابي الجليل؛ طاهر اليد، ونقي السريرة، وطيب السيرة، رجل لا كالرجال، عبقري ممتاز، من خاصة الخليقة، جمع جوانب العظمة من أطرافها كلها، فهو العابد الزاهد، الخاشع المتبتل المتواضع، المجاهد المقدام، الصادق الصريح، القوّال بالحق، الملهم العالم، الأديب البليغ الخطيب، المحدث الفقيه المجتهد، السياسي القائد، الفذ الفاتح العظيم، القوي الأمين، المبشر بالجنة، شهيد المحراب، أمير المؤمنين.
ولد عمر (رضي الله عنه) بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة فيكون عمره عند البعثة النبوية 27 سنة، وعاش 63 سنة كما عاش النبي ﷺ وأبي بكر (رضي الله عنه)، وأما عن اسمه ونسبه فهو عمر بن الخطَّاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رياح بن عبد الله بن قُرط بن رَزاح ابن عدي بن كعب بن لؤي، بن غالب القرشيُّ العدوي، يجتمع نسبه مع رسول الله ﷺ في كعب بن لؤي بن غالب، ويكنى أبا حفصٍ، ولقِّب بالفاروق، لأنَّه أَظْهرَ الإِسلامَ بمكَّة ففرَّق الله به بين الكفر والإِيمان.
وبعد إسلامه تميزت شخصية عمر بن الخطاب رضي الله بالعديد من الصفات الـخُلقية التي اشتهر بها، ومنها شدته في الدين فهو أشد في الله من الحجر، والصرامة في الحق، والغيرة على محارم الله عز وجل، وقبوله الحق إذا تبين له، والدفاع عنه، وكان حليماً، يحب الذكر والموعظة، ويرق قلبه، ويزيد يقينه، عندما يسمع، شديد الخشية من الله عز وجل، ورعاً زاهداً، يرغب ما عند الله، وصابراً ثابتاً كريماً، كارهاً للمدح والثناء، عادلاً، شجاعاً، متواضعاً، مرحاً.
علمه وورعه وأدبه: كان عمر (رضي الله عنه) ممن أوتي علماً كبيراً، وفقهاً عظيماً، ولا شك أن ما اتصف به عمر من صدق الإيمان بالله، واليقين التام، وخلوص العقيدة من الشرك، ومن حسن الالتزام بشعائر الدين، والتقرب إلى الله بالقربات، من أسباب سعة علمه وفقهه، ويمكن معرفة هذا الجانب في شخصية الفاروق، وعماده وعمقه، ومداه ورحابته، من شهادة رسول الله ﷺ في عمر (رضي الله عنه)، وعبقريته الفذة فيه، وذلك فيما رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ قال: بينما أنا نائم، إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه، حتى إني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال (العلم).
ويؤكد علوّ شأنه من العلم، ورسوخه فيه، شهادات الصحابة وأقوالهم، من ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود قال: (لو وضِعَ علمُ عمر في كفة ميزان، ووّضع علم الناس في كفة؛ لرَجَحَ علم عمر بعلم الناس! وإني لأحسب عمر حين مات قد ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلسٌ كنت أجلسه مع عمر أوثقُ في نفسي من عمل سنة)، وقال المسّوّر بن مَحْرّمة: (كان علم أصحاب رسول الله ﷺ كله ينتهي إلى ستة، إلى عمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت (رضي الله عنهم)).
فهو القارئ المفسر (رضي الله عنه)، فقد أخذ القرآن عن النبي ﷺ مشافهة، وقد روى زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: (كان عمر أتقانا للرب وأقرأنا لكتاب الله)، وقال قبيصة بن جابر: (صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت رجلاً أقرأ لكتاب الله، ولا أفقهه في دين الله، ولا أحسن مدارسة منه)، وقد حُفظت عن عمر (رضي الله عنه) آثار كثيرة في أسباب نزول القرآن، وتفسير آياته الكريمة، ومن ذلك: عن طارق بن شهاب قال: (جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قال: اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا) “المائدة: 3″، فقال عمر (رضي الله عنه): إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله ﷺ بعرفات في يوم الجمعة)، وكان منهج عمر (رضي الله عنه) أنه يفسر الآيات الكريمة حسبما شهده من تنزيلها، أو اعتماداً على تفسير النبي ﷺ وما جاء فيها من أحاديث، وإذا لم يجد ذلك، لجأ إلى فهمه، وحرص الصحابة على أن يقولوا فيها بما علموه، وسمعوه وفهموه، من دلائل تلك الآيات.
وهو المحدث فقد كان عمر (رضي الله عنه) يسأل عما لا يعلم به، فيرجع إلى السنة، وكان شديد التحري والتثبيت، في نقل حديث رسول الله ﷺ وروايته، ويحمل الصحابة على الإقلال من التحديث، خشية الغلط والوهم، وليكونوا قدوة للناس، وكان يضرب لهم المثل بنفسه، فيسمع الحديث من الصحابي، وهو عدل رضا فوق الشبهات، فيطلب منه شاهداً قد سمع مثله ذلك الحديث، وكان من مذهبه في رواية الأحاديث، التثبيت والاحتياط في نشرها، وكان (رضي الله عنه) أخوف الناس في الله عز وجل، وقد روت له كتب السنة 539 حديثاً.
عمر الفقيه المجتهد: كان عمر (رضي الله عنه) من أكابر فقهاء الصحابة، وأعيان أئمة الاجتهاد، لما آتاه الله تعالى من علم غزير، وبصيرة نافذة، وعبقرية نادرة، وإلهام متفرد، وقد قال عنه ابن مسعود: إنه عندما مات ذهب بتسعة أعشار العلم. وروى سهل بن أبي حثمة، وهو من صغار الصحابة قال: (كان الذين يفتون على عهد رسول الله ﷺ ثلاثة نفر من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار: عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت).
ومن بعض اختياراته الفقهية (رضي الله عنه): اختياره كراهة الصلاة في جلود الثعالب، وأن لا يكره السواك للصائم بعد الزوال ولا يستحب، وأن وقت الجمعة إذا زالت الشمس، واختياره أن التكبير في العيد من الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وأن المشي أمام الجنازة أفضل، واختياره أنه لا تلزم الهبة إلا بالقبض، وإذا كان زوج وأبوان أعطي للزوج النصف، والأم ثلث ما بقي، وما بقي للأب، وإذا كانت زوجة وأبوان أعطيت الزوجة الربع، والأم ثلث ما بقي، وما بقي للأب، وهاتان المسألتان تسميان بالعمريتين، لأن عمر (رضي الله عنه) قضى فيهما بهذا، وتابعه عثمان وعلي وابن مسعود وزيد وغيرهم (رضي الله عنهم).
وجمال التفصيل، ونحن نرجع إلى الشعر، الذي تمثل به، فنراه في أحسن موقع، وأصدق شاهد، ونلمح من قليل أخباره في خلوته، أن الأدب كان جانباً من جوانبه، التي ترق فيها حاشيته، ويأنس فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى فطرته، ولعل من الصواب القول، أن عمر (رضي الله عنه) كان من أوائل نقاد الشعر العربي، إذ كان على جانب كبير من الفهم، لقواعده ومضامينه، كما كان قادراً على كشف غثة من سمينه، وذلك في نطاق القيم والمبادئ الإسلامية، التي أصبحت مقياساً يقوم به كلام الناس وأفعالهم، كما هي معيار للحق والباطل.
وكان يحب من الشعراء من ملأ الإيمان قلبه، ووجدان عمر يمثل المثل الرفيعة، والقيم السامية، وترجمتها شعراً، ينم عن التدين الحق، ويصور الأخلاق الفاضلة، التي حث الإسلام عليها، وما يعارض ذلك كان عمر (رضي الله عنه) يأباه، وكان (رضي الله عنه) مرهف الحس، رقيق الشعور، يروي الشعر ويتذوقه وينقده، وهو العربي البليغ المفوه، خاصة إذا كان الموقف يثير العواطف والأحاسيس، فلا استهجان أن تفيض العاطفة الجياشة على لسانه، شعراً من شعوره ووجدانه. ومن أشعاره (رضي الله عنه) ما قاله عند إسلامه:
الحمدلله ذي المن الذي وجبت له علينا أياد مالها غيرُ
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابن الخطاب ثم هدى ربي عشية قالوا: قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة والدمع من عينها عجلان يبتدر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها فكاد يسبقني من عبرة درر
فقلت: أشهد أن الله خالقنا وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة وافي الأمانة مافي عوده خور.
شذور أقواله في العلم وحكمه ونفائسه: عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر (رضي الله عنه): تفقهوا قبل أن تسودوا، وقال أيضاً: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا الله رزق يوم بيوم، ولا يضركم أن لا يكثر لكم، وفي موضع آخر قال: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تعلمون، وليتواضع لكم من تعلمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم وقال (رضي الله عنه): لا يتعلم العلم لثلاث: ولا يترك لثلاث، لا يتعلم ليمارى به، ولا ليباهى به، ولا ليراءى به، ولا يترك حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل منه، وإن الدين ليس بالطنطنة من آخر الليل، ولكن الدين الورع.
ومن نفائس حكمه: نستحضرها ببعض أقواله ومنها قوله: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر شيئ عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، وقوله: كرم المؤمن تقواه، ودينه، وحسبه، ومروءته وخلقه، والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء، فالجبان يفر عن أبيه وأمه، والجريء يقاتل عماً لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف، والشهيد من احتسب نفسه على الله.
وقوله أيضاً: اتزروا وارتدوا، وانتعلوا وارموا الخفاف، وألقوا السراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنغم، وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا، واخشوشنوا واخلولقوا، واقطعوا الركب، وانزوا على ظهور الخيل نزواً، وارموا الأغراض.
استشهد عمر (رضي الله عنه) يوم الأربعاء لأربعٍ أو ثلاث بقين من ذي الحجَّة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاثٍ وستِّين سنةَّ على الصَّحيح، وكانت خلافته عشر سنين، ونصفاً وأيَّاماً، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي، قال: كنت عند معاوية، فقال: توفِّي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاثٍ وستِّين، وتوفِّي أبو بكر (رضي الله عنه)، وهو ابن ثلاثٍ وستِّين، وقتل عمر (رضي الله عنه)، وهو ابن ثلاثٍ وستِّين.
المصادر والمراجع:
الأدب الإسلامي في عصر النبوة وخلافة الراشدين، نايف معروف، دار النفائس، بيروت،1990م، ص182ـ 188 التَّاريخ الإِسلامي مواقف وعبر، د. عبد العزيز عبد الله الحميدي، دار الدَّعوة، الإِسكندريَّة، دار الأندلس الخضراء، جدَّة، الطَّبعة الأولى 1418 هـ 1998 م. (19/33). تذكرة الحفاظ، الذهبي، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، دار الباز، مكة المكرمة، 2006م،م1/ صــ6. الزهد، أحمد بن حنبل، حققه، محمد شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1999م، صـ632 سلسلة أعلام المسلمين، عمر بن الخطاب، الخليفة الراشدي العظيم، عبد الستار الشيخ، دار القلم، دمشق، سوريا، ط1، 2012م، صـ139. السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط2، 1955م.م1/ص348. شهيد المحراب الفاروق عمر بن الخطاب، د. عبد السلام محسن آل عيسى، مبرة الآل والأصحاب، الكويت، ط1، 2010م، ص 21ـ 81. الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار الفكر بيروت، لبنان،2012م، م2/ ص336. عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، د. علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط10، 2011م، ص15. محض الصواب في فضائل عمر بن الخطاب، يوسف عبد الهادي، حققه عبد العزيز الفريح، دار أضواء السلف، الرياض، ط1 ،2000م.الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: عمر بن الخطاب رضی الله عنه رسول الله ﷺ عبد الله کان عمر کان من ما بقی
إقرأ أيضاً:
الخطاب الديني في سلطنة عمان.. تعزيز للتسامح والاعتدال والتقارب
يعزز الخطاب الديني في سلطنة عمان، العديد من المفاهيم ذا الصلة بالإنسانية والتسامح والاعتدال، وينمي في النفوس روح المحبة والتقارب والخير، ومحاسبة النفس والعودة إلى تقويم الذات وتصحيح الجوانب التي قد يشوبها انحراف عن المسار القويم للإنسانية السمحة والمعتدلة.
وعرف الخطاب الديني في عمان بالاعتدال والدعوة دائما إلى التسامح وقبول الآخر، ويتجلى ذلك في المفاهيم والمحاور التي يتبناها الخطاب الديني في كل مراحلة، خاصة في شهر رمضان الذي يلزم فيه الناس المساجد ومتابعة الخطب والمحاضرات الدينية.
وأكد عدد من المختصين على أن نهج الخطاب الديني في سلطنة عمان نهج التسامح والدعوة إلى التقارب ونبذ أوجه الشقاق أو الفتن، والدعوة بالهدوء واللطف وتقبل آراء الآخرين، مؤكدين على ضرورة تجديد الخطاب الديني ومواضيعه لتتناسب ومتطلبات المرحلة وتطور الوسائل.
رقي الخطاب الديني
وقال الباحث بدر بن سالم العبري: إن التّسامح والعمل الاجتماعيّ مفهومان مطلقان من حيث الزّمنيّة، ولا يمكن حصرهما في شهر ما كرمضان، ولكن في الوقت ذاته رمضان فرصة للتّذكير بهما وبأهميّتهما، فهناك فارق بين التّذكير وبين ما انغرس في العقل الجمعيّ من تصوّر أنّه يسامح في رمضان، فإذا انقضى قطع وآذى، فهناك من ينظر إلى رمضان لذاته، وكأنّ رمضان هو الّذي يثيب ويمنع، ويعفو ويعاقب، بيد أنّ الأصل في المنظور إلى مَن كتب علينا الصّيام، أي الله جلّ جلاله.
وأضاف: تأتي أهميّة الخطاب الدّينيّ في تصحيح المفاهيم، وفي مراجعة العديد من القضايا الاجتماعيّة في رمضان من خلال مفاهيم القرآن الكبرى، خاصّة وأنّ العديد من النّاس لصيقة المسجد في رمضان، ولديهم من الفراغ ما يملأونه بالاستماع إلى الخطاب الدّينيّ، فلا ينبغي أن يقتصر هذا الخطاب على المواعظ المكرّرة، والكلام الّذي يُكرّر كلّ عام، وخصوصا أنّ مثل هذه المواعظ حاضرة اليوم بشكل طبيعيّ في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ولا يكاد تخفى على أحد.
وأكد العبري على الحاجة إلى أن يكون هناك رقيّ في الخطاب الدّينيّ ذاته، يتناسب والمرحلة الّتي نعيشها، ليس على مستوى الأدوات المستخدمة في الخطاب، أو طريقة الخطاب ذاته، فنحن بحاجة إلى تجديد ورقيّ الخطاب بحيث يتناسب والمرحلة الزّمنيّة الّتي نعيشها، ويكون منفتحا على جميع الأجواء الثّقافيّة والفكريّة والمعرفيّة المعاصرة، ولا يكون محصورا في اتّجاه وخطاب تقليديّ متكرّر، فكلّما اتّسعت أجواء الخطاب؛ ساهم ذلك في رقيّ الخطاب الدّينيّ ذاته.
وأوضح العبري أن قضيّة التّعايش والتّسامح اليوم لم تعد منحصرة عند أدبيات وأخلاقيات سلوكيّة طبيعيّة في المجتمع، كقضايا حقوق الجوار وابن السّبيل، وإعادة تكرار لروايات وقصص حدثت في واقع ظرفيّ غير واقعنا، بل أصبحت قضيّة تطرح من زوايا متعدّدة، فهي قضيّة فلسفيّة في الابتداء، متعلّقة بقيم الذّات الإنسانيّة المطلقة، كالكرامة والمساواة والعدل، كما أصبحت قضيّة إجرائيّة متعلّقة بالمواطنة من حيث نظام الحكم الأساسيّ، ومصاديقه التّشريعيّة في القوانين، كما أصبحت حالة اجتماعيّة ونفسيّة متعلّقة بالاجتماع البشريّ، وفي الوقت ذاته لما يمرّ به العالم اليوم من حالات انغلاقيّة وتكفيريّة متطرّفة تؤثر في استقرار الدّول والاجتماع البشّريّ، فأصبحت مرتبطة بالجوانب السّياسيّة والأمنيّة، وعليه ينبغي على الخطاب الدّينيّ أن لا يكون منحصرا في زاوية ضيّقة في طرح الخطاب، بل ينبغي أن يتفاعل مع الاتّجاهات الأخرى، وهذا يرفع من قيمة الخطاب المسجديّ في رمضان، ويتفاعل إيجابا مع تطوّر المجتمعات البشريّة، والتّداخل المعرفيّ والثّقافيّ.
وأكد العبري على انه ينبغي أن لا يكون الخطاب الدّينيّ كلاسيكيّا لا يتعدّى إعادة ما ذكر في ظرفيّات لها ما يناسبها من خطاب، وإن كانت قيمته باقيّة في مطلقيّة البر والإحسان والتّعاون المجتمعيّ، ولكن ينبغي أن تكون مصاديقه وفق زمننا، لهذا حضور الجانب الاقتصاديّ والقانونيّ وتوعية النّاس بهما أصبح ضرورة اليوم، كما ينبغي أن يكون استثمار أعمال البر بما يتناسب في تدوير المال تدويرا استثماريّا، عن طريق الوقف، أو المساهمة في خلق وظائف تساهم في استمراريّة استقرار الأسر المحتاجة، وتتحول بذاتها إلى أسر منتجة، كذلك إحياء الإنسان اليوم بالمساهمة في تعليمه ورقيّه ثقافيّا وصحيّا أولى من إسراف الإنفاق في بناء المساجد وتزيينها، وهذا يحتاج إلى خلق وعي عن طريق الخطاب الدّينيّ، الّذي ينفتح على واقع العصر، ويتماشى معه.
تأثير القيم
من جانبها أكدت الدكتورة صابرة بنت سيف بن أحمد الحراصية متخصصة في علم النفس التربوي على أن شهر رمضان بروحانيته الخاصة، فتُقبل النفوس على العبادة، وتُضاعف الأعمال الصالحة، ويجد الخطاب الديني تأثيرًا أعمق في قلوب الناس. ومع دخول هذا الشهر المبارك، نلاحظ كثافة في حلق الذكر والمناشط الدينية والمسابقات القرآنية التي تُنظمها المؤسسات الدينية والجماعات المسجدية والتربويون والمجتمع بمختلف فئاته، إلى جانب الجهود التي يبذلها الدعاة والأئمة لتعزيز الوعي الديني واستثمار الأجواء الرمضانية في توجيه الناس نحو الخير. كما يبرز رمضان كفترة تزدهر فيها الأنشطة المجتمعية التي تُعزز قيم العطاء والتعاون، مثل المبادرات التطوعية لخدمة المحتاجين، وبرامج دعم الأسر المتعففة، والمشاريع الشبابية التي تهدف إلى نشر الوعي بالقيم الإسلامية بأساليب إبداعية، مما يعكس تزايد الإقبال على التفاعل المباشر مع الخطاب الديني والمجتمعي خلال هذه الفترة.
وأشارت الحراصية إلى انه في المقابل، يلاحظ أن الإقبال على حضور المحاضرات والدروس الدينية خارج رمضان يكون أقل مقارنةً بهذا الشهر الفضيل، وهو أمر طبيعي نظرًا لما يميز رمضان من أجواء إيمانية خاصة، حيث تتضاعف فيه الأجور، ويكون الناس أكثر حرصًا على استثمار وقتهم في العبادات والطاعات. ومع ذلك، فإن التغيرات التي طرأت على وسائل تلقي المعرفة، وتنوع أساليب الخطاب الديني، ساهمت أيضًا في تراجع الحضور في غير رمضان، مع بحث البعض عن بدائل تلائم إيقاع حياتهم المتسارع. فقد أتاح انتشار البرامج التلفزيونية، ومقاطع الفيديو القصيرة، والمدونات الصوتية (البودكاست)، ومنصات التواصل الاجتماعي للناس فرصة الوصول إلى المحتوى الديني في أي وقت ومن أي مكان، مما جعل البعض يفضلون هذه الوسائل المرنة على الحضور الفعلي للمحاضرات في المساجد. إلى جانب ذلك، فإن التجديد في أساليب الطرح الديني، ولجوء بعض الدعاة إلى استخدام لغة تحليلية أو فلسفية قد لا تكون قريبة من الجمهور العام، ساهم في إحداث فجوة بين بعض الأفراد والخطاب الديني التقليدي. وفي المقابل، هناك من يطرح القضايا الدينية بأسلوب بسيط جدًا لا يتناسب مع احتياجات المجتمع المتغيرة، أو يعيد تناول موضوعات قد لا تلامس الواقع الحالي ولا تعالج التحديات التي يواجهها الأفراد، مما يجعل بعض الفئات، خاصة الشباب، يشعرون بعدم ارتباط هذا الخطاب بقضاياهم اليومية. هذا التنوع في الأساليب، رغم أنه يعكس اجتهاد الدعاة في توصيل الرسالة الدينية، إلا أنه يؤكد الحاجة إلى خطاب ديني متوازن يجمع بين العمق والوضوح، وبين الأصالة ومواكبة العصر، بحيث يكون قريبًا من هموم الناس، ويعالج قضاياهم بأسلوب يجذبهم ولا ينفرهم.
وبينت الدكتورة الحراصية انه وسط هذه التحديات، يظل رمضان فرصة لإعادة التفاعل المباشر مع الخطاب الديني، حيث يكون الناس أكثر إقبالًا على التوجيه والاستماع إلى المواعظ، وأكثر انفتاحًا على القيم الإسلامية التي تتجلى بوضوح في هذا الشهر.
ولا تقتصر أجواء رمضان الروحانية على المسلمين فحسب، بل تمتد لتشمل غيرهم ممن يعيشون في المجتمعات الإسلامية، حيث يتفاعلون مع قيم الشهر الفضيل، ويشاركون في مظاهره الروحانية والاجتماعية، مثل موائد الإفطار الجماعية، وحضور الفعاليات الرمضانية، والتجمعات التي تعكس روح الشهر وقيمه. ومن خلال هذه التجربة المباشرة، يجد البعض فرصة للتعرف على الإسلام عن قرب، وهو ما يعزز فهمه الصحيح بعيدًا عن الصور النمطية، وقد يكون منطلقًا لطرح التساؤلات حوله بل واعتناقه لدى بعضهم.
وأكدت أن تأثير القيم يزداد حين يكون التسامح والتعايش جزءًا أصيلًا من الهُوية المجتمعية، كما هو الحال في سلطنة عمان، التي تُعد نموذجًا متفردًا في ترسيخ مبادئ الاحترام المتبادل والانفتاح الواعي على مختلف الثقافات والمذاهب. فعلى الرغم من أن التسامح والانفتاح نهج ثابت في السلطنة، إلا أن مظاهره تبرز بشكل أوضح خلال رمضان، حيث تتجلى روح التآخي في تعاملات الناس، ويتشارك الجميع أجواء الشهر الفضيل، مما يمنح غير المسلمين فرصة فريدة لمعايشة قيم الإسلام في صورتها الحقيقية. وتنعكس هذه القيم أيضًا في الخطاب الديني العماني، الذي يتميز بالوسطية والمرونة، بعيدًا عن الغلو أو التشدد، مما أسهم في تعزيز ثقافة الحوار ونشر روح الألفة بين أفراد المجتمع. ويظهر ذلك جليًا في المساجد والمجالس الدينية، حيث يتم تناول القضايا بأسلوب يعزز الأخلاق الفاضلة، ويحث على الرحمة والتعاون.
وأوضحت الحراصية أن الخطاب الديني له دور في تقويم السلوك إلى جانب دوره في تعزيز التكافل، خاصة في ظل التحديات التي يفرضها العصر الحديث وانتشار المغريات المتنوعة. فمع التطور التكنولوجي الهائل والانفتاح الثقافي عبر الإنترنت، أصبح الشباب معرضين لمؤثرات عديدة، قد تؤثر على أنماط تفكيرهم وسلوكياتهم. هنا يظهر أثر الخطاب الديني في ترسيخ القيم وضبط السلوكيات، حيث يساعد في توعية الأفراد بخطورة الانسياق وراء المؤثرات السلبية، ويوجههم إلى كيفية التفاعل الواعي مع مستجدات العصر دون التفريط في المبادئ الإسلامية. وتشير الدراسات في علم النفس والسلوك إلى أن الخطاب الديني الذي يعتمد على أسلوب الإقناع والحوار بدلاً من الخطاب الوعظي التقليدي، يكون أكثر فاعلية في التأثير على الأفراد وتحفيزهم نحو التغيير الإيجابي. فعندما يقدم الدين كمنهج حياة شامل، وليس مجرد قائمة أوامر ونواهٍ، يصبح أكثر جاذبية، خاصة لدى الشباب الذين يحتاجون إلى فهم أعمق لكيفية الموازنة بين التقدم الحضاري والثوابت الدينية.
وقالت إن كل هذه الجهود تؤكد أن الخطاب الديني المتزن، حين يُقدَّم بروح المحبة والرحمة، يكون أكثر تأثيرًا في القلوب، وأقدر على بناء مجتمع أكثر ترابطًا وانسجامًا، حيث تتجسد القيم الإسلامية في أفعال ملموسة تعود بالنفع على الجميع.
أساليب الخطاب
من جانبه قال حمد بن هلال الخصيبي: إن شهر رمضان يعد فرصة ذهبية لتعزيز قيم التسامح والتعاون بين أفراد المجتمع، حيث يكتسب الخطاب الديني أهمية خاصة في توجيه الناس نحو معاني الرحمة والإحسان والتكافل، فالخطب والمواعظ الدينية التي تُلقى في المساجد أو تُبث عبر وسائل الإعلام تسهم بشكل مباشر في ترسيخ القيم الإسلامية السمحة، وتعزيز روح المحبة والتعاون بين الناس.
وأكد الخصيبي أن الخطب الدينية خلال الشهر الفضيل ترسيخ مفهوم التسامح، وهو أحد المبادئ الأساسية في الإسلام، من خلال الدعوة إلى العفو والتجاوز عن الأخطاء، ونبذ الخلافات، وتقوية أواصر الأخوة بين الأفراد، كما يشجع الخطاب الديني على التعاون بين أفراد المجتمع، سواء من خلال العمل الخيري، أو تقديم العون للمحتاجين، أو حتى في أبسط صور التعاون داخل الأسرة والمحيط الاجتماعي.
وأشار إلى أن التكافل الاجتماعي من أبرز القيم التي يعززها الخطاب الديني في رمضان، حيث يُحث المسلمين على إخراج الزكاة والصدقات، والمشاركة في إفطار الصائمين، ودعم الأسر المحتاجة. وتعتبر هذه الأعمال تطبيقًا عمليًا لمبادئ التعاون والمساعدة، مما يسهم في تقوية التماسك المجتمعي وتقليل الفجوة بين الفئات المختلفة.
وأوضح الخصيبي أنه ينبغي تطوير الخطاب الديني ليكون أكثر قربًا من واقع الناس، من خلال استخدام أسلوب بسيط وسهل للفهم، والاستشهاد بقصص واقعية تُلهم الأفراد وتحثهم على التحلي بالقيم الإيجابية. كما يمكن توظيف وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر الرسائل الدينية الداعية إلى التسامح والتعاون، مما يساعد في الوصول إلى شريحة أوسع من المجتمع.
تعزيز المحتوى
وقال سعيد بن عبدالله العزري متخصص في الإعلام والاتصال: إن الخطاب الديني في شهر رمضان يضفي روحانيّة تنسجم مع قدسيّة الشهر؛ حيث تتجلى فيه أسمى قيم الإيمان والتقوى، إلى جانب كونه فرصة لتعزيز أواصر التسامح والتعاون بين أفراد المجتمع، وتهذيب النفس من العادات السلبيّة، ليساهم الخطاب كأداة فاعلة في حث الهمم نحو ذلك؛ فتأثير الخطاب على الجمهور كبير وواضح على مداه الطويل بأي منصة اتصاليّة كانت (رقميّة أو تقليديّة) بما يحقق تأثيرًا في اتجاهات الجمهور إزاء قضايا محددة.
وأكد العزري أن ما تبثه وسائل الإعلام في سلطنة عُمان خلال شهر رمضان المبارك من خطاب ديني يساهم في تعزيز القيم نحو التكاتف بين أفراد المجتمع والتعاون، وهو أمرٌ محمود ويظهر من خلال ما تعرضه المنصات الإعلاميّة مسموعة أو مرئيّة أو مكتوبة للمبادرات القائمة في خدمة المجتمع وتعزيز روح التآلف بينهم، يقابله تفنيد موضوعيّ وشرعيّ لأحكام يواجهها المسلم والصائم على حد سواء، والجيد في خطابنا الديني أنه مواكب ومساير للتغيرات الفكريّة التي لا ينأى مجتمعنا العُماني عنها بنفسه في هذا العالم متعدد الثقافات.
موضحا أن ما يقدمه الإعلام العُماني من خطاب متزن ومتنوع خلال شهر رمضان له محلُّ الرضا، يقابله تطلعٌ بتكثيف المحتوى بأفكار مبدعة تقدم الرسائل والقيم الإيجابية بقالب يلامس مختلف شرائح الجمهور لتحقق تأثيرها الفاعل، لتستنبط تجارب وممارسات قدّمت على مستوى الوطن العربي في الإعلام وحقق نجاحُها تأثيرًا طويل الأمد.