التراتبيات.. منهج أم ضرورة مرحلية؟
تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT
يدخل مفهوم الـ«تراتبية» في كثير من شؤون حياتنا اليومية يأتي في مقدمتها؛ «التراتبية الاجتماعية» ونمارسها على أوسع نطاق، وإن لم نستحضر المعنى الدلالي للمفهوم، فعلى المستوى الأسرة الواحدة، على سبيل المثال، يأتي الترتيب الهرمي كالتالي: الجد/ الجدة، الأب/ الأم، ومن ثم يتسلسل الأبناء، وفقا لتسلسل الأعمار، وفي نظام المؤسسات «التراتبية المؤسسية» يمثل الترتيب المسؤول الذي قي قمة هرم الإدارة، ومن ثم تتسلسل المستويات الإدارية الأعلى فالأدنى، وإذا نظر إلى تراتبية النظام السياسي «التراتبية السياسية» على أنه نوع من المؤسسة، ولكن في حجمها الأضخم، فإنه كذلك تتوالى المسؤوليات نزولا، وقد استحدث النظام العالمي في العصر الحديث تراتبيات مماثلة، فيما يسمى بالقرار الدولي، حيث يأخذ مجراه وفق ما اتفق بين الدول من حيث قوة الحضور السياسي للدولة، في وضع النظام الأساسي للمنظمات الدولية، وفي كل هذه التراتبيات التي تسعى إلى اتخاذ قرار عاقل ورشيد، معبّر عن قدرة المجموعة في اتخاذ القرار الصحيح، والحد من الانفراد في اتخاذ القرار الارتجالي، أو ما يُعرف بـ«الانفراد في اتخاذ القرار» خاصة، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات المصيرية لذات المجموعة، أو لخدمة مجموعات أخرى، منضمة تحت لواء المجموعة الأكبر.
وهذه الصورة في مجملها مقبولة، ومتفق عليها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، وخاصة في مراحل التأسيس أن يخلو أي نظام كان من وضع هذه التراتبيات «الهرمية» كأساس للاتفاق على إنشاء مجموعة لغرض ما.. ومن هنا تستحوذ هذه التراتبية أهمية خاصة، وينظر إليها بكثير من الاهتمام، والتفاؤل، لتحقيق نتائج إيجابية ومهمة لمختلف اشتغالات هذه المجموعة أو تلك؛ ولذلك يمكن الحكم على فشل عمل أية مجموعة من خلال تقييم تراتبية مسؤوليها، ويقال بصريح العبارة: «إذا كان لهذه المجموعة التي تدير العمل، فعلى الدنيا السلام» أو العكس صحيح، حيث توضع المجموعة موضع الإشادة، ويأتي هذا التقييم/ الحكم، بناء على من يقود المجموعة وفق التراتبيات المعلنة في النظام الأساسي لذات المجموعة.
أستدرك هنا بمثال سامي الروعة وهو يذهب إلى التراتبية الزمنية في جانب من العلاقة بين الأبناء وآبائهم، كمقاربة مفاهيمية مهمة، والمتمثل في قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات، من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم؛ ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض؛ كذلك يبين الله لكم الآيات؛ والله عليم حكيم) - الآية (58) من سورة النور.
يشكل التجانس بين تراتبية المسؤولية أمرا بالغ الأهمية؛ لأن الاختلاف، وأركّز هنا على المستوى البنيوي/ الموضوعي لذات الأشخاص وفق التراتبيات الموضوعة، سواء من حيث تقارب الأفكار، تقارب الأعمار، تقارب الثقافات، تقارب التفاهمات، تقارب المستويات الفكرية، تقارب الاهتمامات، تقارب الإيمان بالأهداف الموضوعة، تقارب الانتماءات العِرقية، والدينية، والنوع «رجل/ مرأة» تقارب في الوعي بأهمية الوطن كأولوية أولى، ربما؛ قد لا يكون الانسجام مطلقا يحمل نسبة (100%) بين الأطراف التي تدير العمليات التشغيلية، فهذا من المستحيل؛ أصلا؛ ولكن على الأقل وجود النسب المعقولة للاقتراب من الانسجام بين أفراد المجموعة، ولو الاتفاق على الأهداف التي تسعى المجموعة إلى تحقيقها، فلو قسنا المسألة على مستوى الأسرة الصغيرة؛ التي تتشكل من تراتبية معروفة؛ كما جاء أعلاه، فمن المسلمات أن لا يكون كل أفراد الأسرة على انسجام مطلق تام، لاختلافات بنيوية معروفة: السن، تجربة الحياة، المستوى التعليمي، ذكر/ أنثى، الاهتمامات الخاصة، مستويات الإشباعات الذاتية عند كل فرد على حدة، إذن؛ وما دام الأمر كذلك، فما الذي سوف يوجد نوعا من الانسجام بين هذه التباينات كلها؟ يبقى هنا هو الهدف؛ وهو العامل المشترك بين أفراد المجموعة، ومن خلاله تذوب مجمل هذه التباينات بين أفراد المجموعة، فتسعى إلى تحقيقه، بغض النظر إن كان ذلك يحقق شيئا من الأهداف الصغيرة عند كل فرد في المجموعة؛ وفق التراتبية المتشكلة في الأسرة، وبالتالي فمتى فهم الهدف، وآمن الجميع بأهمية تحقيقه، وتحققه على أرض الواقع؛ فإن يمكن النظر حينها على النجاح الكبير، وليس شرطا أن يكون مطلقا، بناء على التباينات الحاصلة بين أفراد الأسرة، وما ينطبق على هذا المثال البسيط على مستوى الأسرة، ينطبق على كل الأمثلة التي تتشكل في تنظيمها العام على تراتبيات لا بد من تشكلها ووجودها لكي تقوم بالدور المنوط عليها بين مختلف المجموعة المماثلة أو المتضادة، وهذا ما يعزز الحكم على أن التراتبيات منهج أصيل، يؤمن الجميع بأهميته، وبضرورة الأخذ به لتحقيق نجاحات مهمة في تشكيل أية مجموعة مطالبة لأن تحقق هذه النجاحات وفق الأهداف الموضوعة لها منذ النشأة الأولى، ولذلك من المهم جدا، أن يكون هناك حرص، وانتقاء، وتمحيص، واختيارات دقيقة بين أفراد أية مجموعة يراد منها أن تحقق نجاحات مهمة للأهداف الموضوعة لأية مؤسسة كيف ما كان تخصصها، أعني في أي شأن من شؤون الحياة اليومية، وقضية أن ذلك يمثل صعوبة بالغة التعقيد في تحقيق هذا الانسجام، يبقى كلام نظري، إلا في حالة واحدة، وهي حالة الأسرة، التي لا يمكن أن يضاف إلى أفرادها من خارج محيطها الأسري، فهنا يبقى القبول بما هو موجود، حيث لا خيارات متاحة، كما هو حال الوطن، عندما يمتحن في قبول أبنائه كيفما يكون حالهم، ومن هنا تأتي أهمية التأهيل والتدريب، والإعداد الجيد، والاهتمام بالمتميزين من الأبناء، في كلا المؤسستين (الأسرية/ الوطنية) حتى تتعاظم النتائج الإيجابية، ولا يشاهد نوعا من الترهل في الإنجاز.
يُفْهَمُ من «ضرورة مرحلية» تجاوز هذه التراتبيات، أي الذهاب إلى «الاستثناء» وهو ما يحدث كثيرا، وقد يقيم على أنه مضرَّةٌ أكثر منه مسرَّةٌ؛ لأن الفكر الأحادي عمره لن يخدم، مهما بلغ صاحبه ما بلغ من الحكمة والتبصر، واتساع المعرفة، فهذا الأمر هو نوع من التفويض المطلق «الشمولي» ومع سيئاته الكثيرة؛ وإدراك الناس بمضاره؛ إلا أنه معمول به، ومستأنس لنتائجه، بغض النظر عن كونه يصب في المصلحة العامة أو غير ذلك، وهو ليس هناك توافق عليه من قبل المجموعة، أو أنه عمل به بعيدا عن الأغلبية، ربما؛ قد يقول قائل: وهل على الأب مظنة في اتخاذ قرار دون أن يعود إلى مجموعة تراتبية أسرته؛ وهو الأكيد أنه القادر على تحييد مصلحة أسرته؛ أكثر من الذهاب إلى ما يخدم مصلحته الآنية؟
وبغض النظر عن الإجابة المتوقعة؛ نفيا أو إيجابا؛ يبقى القول إن من يؤمن بالتراتبيات كمنهج، لا يمكنه أن يسقطها في ضروريات مرحلية، ولو كانت ملحة، أما من يحتكم من خلالها على منهج، فيقينا؛ لن يتنازل عن هذا المنهج، لأنه يدرك أن الضرورة المرحلية تظل حالة مؤقتة، ولا يمكن التفريط بشيء أُسِّس على منهج، مقابل حالات طارئة مؤقتة، ومع ذلك يحدث الكثير من هذه الخروقات، ليس فقط على مستوى الأسرة الصغيرة، وإنما على مستويات أكبر من ذلك بكثير، ويذهب ضحية ذلك، ليست مصالح مادية فقط؛ يمكن تعويضها، وإنما يذهب مقابل ذلك أن تباد الآلاف المؤلفة من البشرية، دون مقابل، وتقف البقية الباقية من البشرية التي لم تُبَد، مكتوفة الأيدي، مشلولة الفكر والمنطق، وهذا ما يحدث اليوم في الشعب الفلسطيني الأعزل، ومن قبله شعوب أخرى راحت ضحية تحت مفهوم «ضرورة مرحلية» قدرتها القوى الاستعمارية المتكبرة، المتعالية بقوتها، وبأوهامها، وبنرجسيتها، واستعلائها، حيث يتسلط -تحت نظر العالم وبصره- قطب واحد فقط، فيقرر الضرورة بنفسه، والمرحلة بنفسه، دون أي اعتبار لكل الدول التي تتسلسل أرقامها بتراتبيات مختلفة في كل المنظمات الدولية بدءا من الأمم المتحدة، فمجلس الأمن، فمحكمة العدل الدولية، فمجلس حقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات التي أنشئت بموافقة كل الدول، ووضعت لها أنظمة أساسية، وقواعد؛ يفترض؛ أنها ماكنة؛ بغية الوصول بالمجتمع الدولي إلى حالة من الأمن والاستقرار، والعيش الكريم، فإذا بكل ذلك يرمى في عرض البحر، وتبقى السيادة من كل هذه الأرقام المتسلسلة في النظام الدولي لرقم واحد فقط، هو من يقرر كما قال الشاعر نزال قباني: «أنا أقرر من سيدخل جنتي؛ وأنا أقرر من سيدخل ناري» وبذلك تواصل البشرية إخفاقاتها حتى في الأشياء التي تضعها بنفسها لتسيير كثير من شؤونها اليومية، وترى فيها الملاذ الآمن من هلاك متحقق.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بین أفراد فی اتخاذ لا یمکن
إقرأ أيضاً:
«تضامن الأقصر» تنظم ندوات توعوية للأطفال والسيدات
أعلن محمد حسين بغدادي وكيل وزارة التضامن الاجتماعي بالأقصر، أن إدارة الأسرة والطفولة بمديرية التضامن الاجتماعي بالأقصر، نظمت ندوة توعوية للأطفال عن التحلي بالأخلاق الحميدة بجمعية نور الإسلام وذلك في إطار المبادرة الرئاسية بداية جديدة لبناء الإنسان، وتحت رعاية الدكتورة مايا مرسي وزيرة التضامن الاجتماعي، والمهندس عبد المطلب عمارة محافظ الأقصر.
حاضر خلال الندوة منال حليم واصف، مدير إدارة الأسرة والطفولة، حيث تناولت الندوة التحلي بالسلوك القويم والمبادئ الاخلاقية الحميدة وكيفيه التعامل مع الأصدقاء دون تنمر او تكبر ونشر المحبه ومساعده الآخرين وذلك من خلال مسرح العرائس والأغاني التي تهدف إلى التعليم، كما تم بعد انتهاء اليوم توزيع الهدايا على الأبناء الذين غمرتهم الفرحة باللقاء والهدايا.
كما قامت إدارة الأسرة والطفولة بالمديرية بعمل ندوة خاصة للسيدات بمقر جمعية نور الإسلام عن الوعي الأسري ومناقشة كيفية الحفاظ على سلامة الأسرة من التفكك وتجنب ظاهرة الطلاق، كما تطرقت الندوة إلى مناقشة التفاهم بين الزوجين من خلال التعبير عن مشاعر الغضب بطريقة صحية وتجنب الاحتفاظ بها حتى لاتؤدى الي النتائج السلبية.
وفي سياق آخر شهد اللواء دكتور علي الشرابي رئيس مدينة الأقصر، افتتاح فعاليات الدورة النظرية لقائدي المركبات السياحية رقم (١٥) بمدينة الأقصر، والتي أقيمت بقاعة مركز المؤتمرات الدولي لعدد (٤٠٠) سائق سياحه بمعرفة عدد ٧ مدربين متخصصين تحت رعاية محافظ الأقصر وغرفة شركات السياحة بالأقصر بالاشتراك مع غرفتي شركات السياحة بالبحر الأحمر وأسوان.
وأوضح الشرابى، أن تلك الدورات التدريبية تساهم بنتائج إيجابية تخدم قطاع السياحة، وتساهم في تنمية مهارات وقدرات قائدي المركبات السياحية الذين يتعاملون بشكل مباشر مع السائحين، مشيراً إلى أن أي إساءة للسائح تعود بالضرر على المنظومة السياحية بأكملها.