تصور أن تهوي بك الطائرة في فسحة يتسيدها البياض وتتدنى فيها درجات الحرار إلى ٣٥ تحت الصفر، في جبال الأنديز التي يصل ارتفاعها إلى ٣٥٠٠ متر تقريبا، تصور أن يمتد بك العمر لأن تبصر مكانا تنعدم فيه الحياة، فلا نباتات تنمو ولا حيوانات تجري ولا بشر يعبرون، بياض شاسع وغير محدود! ثمّ تعبر ذهنك هذه الفكرة: من الذي نجا حقا؟ أنا أم ركاب الطائرة الذين ماتوا مباشرة إثر الاصطدام؟ إذ ستكون آنذاك وحدك في مواجهة وحوش غير مرئية يتبدى أعظمها في فكرة الجوع! فبعد أن كنت تُحصي أوقات البهجة التي ستقتنصها من السفر، ستبدأ في إحصاء الأيام والليالي التي ستمر ببطء هائل ريثما يجدوك، ثمّ ستنمو الفاجعة عندما يأتيك الخبر في الراديو، بأنّهم أوقفوا البحث عن طائرتك المفقودة، لتتأكد وقتها أنّ بقاءك على قيد الحياة محفوف بالمشقة الجامحة!
تصور أنّ الحماية الصغيرة التي تبقت لك هي سقف الطائرة الذي لم يتهشم فتراكمت أسفله الأجساد الحية والميتة ترص بعضها إلى بعض بحثا عن الدفء.
تُراقب يوميا إخراج الجثث، فتح حقائب المسافرين رغبة في الحصول على الطعام والثياب، عداد الوقت المتثاقل والمؤونة التي تنفد، الأجساد التي تنحف، حصص الطعام التي تنعدم، والوجوه المكفهرة.. إلى أن ينبثق السؤال المتوحش فيك، الهوس الجنوني بالبقاء، السؤال الذي سيكلفك أن تُغادر كل ما تألفه عن نفسك؟
لم يكن مجرد سقوط طائرة من علوها الشاهق لتقذف بحياة ركابها إلى مصير غامض، كان اصطداما حادا بين الإنسان وقيمه تلك التي يمكن أن تتزعزع عندما يصبحُ قاب قوسين أو أدنى من حتفه!
رافقتني هذه الفكرة وأنا أشاهد الفيلم الإسباني «Society of the Snow»، المرشح للأوسكار، الفيلم الذي دفعني للالتحام بنسيج قصّته وأسئلته الجامحة، منذُ لحظة السقوط المروع -لطائرة تقل على متنها 45 راكبا، مصطدمة بجبال الأنديز المثلجة في أمريكا الجنوبية ١٩٧٢، في الرحلة المشؤومة من الأوروجواي إلى تشيلي- وحتى آخر الفيلم، متشبثة بالسؤال ذاته: كيف يتصرف العقل البشري في انعدام الخيارات؟ استقى مخرج الفيلم الإسباني خوان أنطونيو بايونا قصته من شهادات الناجين الحقيقيين ومن كتابات الصحفي الأوروجوياني بابلو فييرشي، ليُعمقُ بداخلنا الإحساس المأساوي، فقد ترك الشخصيات تتحدث باللغة الإسبانية وبالأسماء الحقيقية ليبقى التصاقنا بالحقيقة أكثر متانة.
تصاعدت وتيرة الآراء المحتدة حول تناول لحوم جثث الموتى كخيار أخير للنجاة، هنالك من كان خائفا من عقاب الله، أو من القانون، أو خائفا على أخلاقه، لكن الأجساد كانت تتهاوى كما كانت انهيارات الثلج تتبارى لتدفنهم برفقة من سبقوهم.
ذكرتني تلك الرغبة في العيش - والتي كانت تشع من مكان غامض فيهم- بعالم النفس النمساوي فرانكل الذي يقول: «المعاناة تدفعنا لصياغة معنى جديد للحياة».
هنالك من أخذ المهمة على عاتقه، فكانت قطع اللحم الصغيرة تصلهم دون أن يعرفوا لأي صديق كانت أو لأي غريب تعود! وكنتُ أدركُ آنذاك أنّ هذا الشخص كان يريد أن يجنبهم معرفة الجسد أو الوجه؛ لأنّ المعرفة ستشكل حاجزًا نفسيًا هائلًا، فالقطع الصغيرة مجهولة الهوية يمكن أن تبتلع دون مضغ، دون متعة، رغم ما سيتولد في دواخلهم من شعور عميق بالعار!
تضاعفت سوداوية الأيام وكآبتها فتعاهدوا وسمحوا لبعضهم باتفاق ضمني أن الذي سيموت يمنح الموافقة للآخرين أن يتغذوا عليه. تلك الفكرة بأن تُحول جسدك لمادة تهب الآخرين الحياة المؤقتة، بدت لي في غاية الغرابة والتأثير. في مقال للكاتبة كريستين حبيب تشير إلى أنّ المخرج تحدث مع أحد الناجين حول قرار تناول لحم الموتى فقال: «في اليوم الأول كان الأمر مروّعًا، شعرنا بالتعاسة، أمّا في اليوم الثاني فوقفنا في الصف، منتظرين حصّتنا من الطعام»!
في انعدام الجدوى اندفع اثنان منهم بجسدين منهكين لتسلق الجبال، فأحدهما كان يؤمن بأنّ «تشيلي» تقع خلف الجبل مباشرة، حملا لحوم أصدقائهم على ظهورهم ليأكلوا منها متى جاعوا، وهكذا أنقذوا ١٦ راكبًا.
في تلك الليلة فكرت: ماذا لو لم تؤكل تلك اللحوم؟ ماذا لو ماتوا جميعا؟ لو ماتت قصتهم؟ وتساءلتُ أكثر: عندما نوضع في اختبارات شديدة القسوة، هل سنرى حقا نسخة أخرى من ذواتنا؟
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
يوم فرحنا الأكبر
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تعود الجنينة المكلومة إلى حضن الوطن ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما نرى نيالا (البحير) تختال في زينتها و قد فارقها الحزن و سال واديها سلسالاً عذبا ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تخرج فاشر السلطان (أدَّاب المليشيا) و تكسر الطوق حتى يسير الراكب منها إلى نيالا و إلى شرق و غرب الجبل لا يخشى إلا الله و الذئب على غنمه و ماشيته ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تعود زالنجي و أخواتها في وسط دارفور و سفح الجبل إلى سيرتها الأولى تعايشاً و سلماً و أمنا ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تسترد الضعين عافيتها و تُشفى من السرطان الذي أنهكها و أضناها ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تتطهر كتم و مليط و كبكابية و غيرها من مدن و أرياف دارفور من دنس و رجس المليشيا المتمردة المجرمة ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تعود الحياة لطريق الصادرات و تسير عليه الشاحنات ناقلة منتجات غربنا الحبيب إلى موانئ التصدير في البحر الأحمر ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تخرج الفولة (الحميرة شبيهة الخرطوم) من حدادها و يرتجز فيها (الهدَّاي) و تشدو (الحكامة) و يعلو صوت النقارة إيذاناً ببدء مواسم الفرح ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تتخلص المجلد (دينقا أم الديار) من أسرها و تُسرِج خيول العز و المجد بعد أن باعها قادة إدارتها الأهلية بثمن بخس دراهم معدودة و كانوا فيها من الزاهدين ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون بعد أن يتردد صدى نحاس الناظر في كافة أرجاء دار حمر و تُنحر النوق في نواحيها فرحاً بعودة الأمن و تتدلى فيها (كعاكيل) الهشاب الذهبية تزين جيدها و ترعى فيها القطعان و هي مرحى دون خوف من اللصوص و الشفشافة !!
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما تعود عروس الرمال (أب قبة فحل الديوم) مركر (الهجانة ام ريش) عروساً كما كانت ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون عندما يصبح الطريق سالكاً إلى الدبيبات بمحلية القوز و منها إلى الدلنج (عروس الجبال) ثم إلى كادقلي (الجهاد و الصمود) التي أرهقها الحصار المزدوج و المنسق بين المليشيا و حركة الحلو ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون بعد أن تضع بحر أبيض أوزار و أثقال المليشيا التي علقت بثوبها الأبيض ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون بعد أن تعود الخرطوم (العاصمة) زاهية مزدانة تعج بالحياة و الحركة و تعود إليها منتدياتها و منابرها و ملتقى الأزرق بالأبيض و يجري نيلها الخالد مردداً لحن الحياة ..
* يوم فرحنا الأكبر سيكون بعد القضاء على آخر جندي في صفوف التمرد أو إستسلامه ..
بعد تحرير ولاية الجزيرة و أجزاء واسعة ولاية الخرطوم و تقدم القوات بثبات نحو أمروابة و ما بعد أمروابة و ما بعد ما بعد أمروابة بات يوم الفرح الأكبر قريباً و قريباً جداً ..
و غداً يعود الوطن كله آمناً مطمئناً بعد القضاء على أكبر مؤامرة ضد دولة في العصر الحديث ..
#كتابات_حاج_ماجد_سوار
15 يناير 2024