استراتيجية لإصلاح التعليم في السودان تماشياً مع شعارات ثورة ديسمبر 201
بقلم
الدكتور أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري - جامعة الخرطوم
(الجزء التاسع )
المناهج الدراسية: اعداد للقرن ال21
على ضوء المقال السابق عن فلسفة التعليم في السودان، علينا ان نبني الكثير من المفاهيم الجديدة التي تضمنتها ثورة دسيمبر 2018 من شعارات.

علينا ان ننزل هذه الشعارات التي تنادي (بالحرية والسلام والعادلة والمدنية والديموقراطية ) ان تكون هي الموجهات الاساسية التي يجب ان نضمنها مناهج تعليمنا في كل المراحل حتي تكون اهداف راسخة ومسجلة في ذاكرة الشعب. وفي هذا السياق علينا ان نعيد التفكير في جدوى الخطط والرؤيا التي عاشها الشعب طيلة ال30 عاما الماضية فلم تفرز في النهاية الى الى اطلاق مارد متوحش يسكن في اعماق الانسان السوداني ويعمل الآن في تدمير واغتيال تاريخ الامة وجغرافيتها وثقافتها ولا يرده أو يوقفه الا العمل الثوري الذي كانت مظاهراته المليونية دليل الجماهير في الرغبة في التغيير. وفي الاسطر التالية سنتاول بعض هموم التعليم كروشتة علاج للخروج من هذه الازمة ان شاء الله غانمين:
- الرؤية: نحتاج إلى تصميم رؤية واضحة للتعليم تتضمن الأهداف اعلاها لترسيخ مبادئ (الحرية والسلام والعدالة والحرية والديموقراطية والمدنية) لتكون هي المصباح الذي نسيرعلى ضوئه نحو المستقبل.
- الرسالة: الرسالة هي ان تصير الاهداف اعلاه حقائق على ارض الواقع وجزء من التركيبة النفسيىة والعضوية والمعنوية للانسان السوداني الجديد المتطلع الى ان يعيش وقائع القرن ال21 مستمتعا بمنتجاته كمسهتلك وصانع لاحداثه ضمن المنظومة الانسانية التي نشاركها هموم الارض والتاريخ الحديث.
- الأهداف: نحتاج الى مصفوفة من الاهداف التربوية التي تحقق الروية التي طرحناها في تلك الشعارات وتضمن هذه الاهداف التربوية والتعليمية في مناهجنا الحديثة. هذه المصفوفة من الاهداف تصف جميع الاهداف المرجوة على جميع المستويات بطريقة علمية. مع استصحاب مفهوم الجودة وإدارة الجودة في التعليم وهي من المفاهيم الغائبة عن تعليمنا وفي العديد من جوانب حياتنا الأخرى. فنحن نحتاج إلى أهداف واضحة قابلة للتحقيق وقابلة للقياس. نحتاج إلى خطط وطنية تعليمية واضحة يكون لها تأثير مباشر وفوري على حياة المواطن السوداني بعد هذه المعاناة التي كتبت عليه بسبب هذه الحرب اللعينة.
- ينبغي أن يكون الهدف النهائي لتعليم وتدريب المواطنين هو القدرة على التفكير والعمل بمهارة وفعالية. نحتاج إلى قوة عاملة ذات عقول ناقدة وكفاءة لإنجاز المهام. فأن تكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أووثنياً هذه ليست اهداف بل هي غايات؛ ولكن في داخل هذه السياقات الدينية والفكرية علينا ان نصبح مواطنين جيدين، حريصين على تنفيذ الواجبات في المقام الأول والمطالبة بالحقوق الكاملة في المقام الثاني، بالإضافة إلى الالتزام بالحرية دون إيذاء الآخرين او التغول على حدودهم وحقوقهم. ولتحقيق هذه الخطط، يود الباحث أن يضع مقترحات كخارطة طريق تتعلق بالمنهج والمقررات الدراسية تتضمن التالية:
1. وضع الرؤية والرسالة لوزارة التربية والتعليم.
2. وصف الاهداف التربوية بوضع مصفوفة اهداف لتحسين جودة التعليم على جميع المستويات. وهذا يتم بتكوين لجان على مستوى عالي من التخصص والمهنية.
3. تطوير مناهج تعليمية تعتمد على أحدث التطورات العلمية والتكنولوجية.
4. توفير البنية التحتية اللازمة لدعم عملية التعليم والتعلم.
5. تدريب وتأهيل المعلمين والمدربين بما يتوافق مع متطلبات العصر.
6. عزيز ثقافة الابتكار والبحث العلمي بين الطلاب والمعلمين.
7. . توفير فرص التعليم المتساوية للجميع دون تمييز في ظل الدولة المدنية الحديثة والقوانين التي تكفل الحقوق والواجبات
8. . تعزيز التعليم العالي والبحث العلمي لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
9. تعزيز الشراكة والتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لتعزيز الجهود التعليمية.
• تصميم المناهج والمقررات الدراسية:
المنهج (Curriculum) هو مخطط للفلسفة العامة للتعليم في بلد معين، بينما المقررات الدراسية (Syllabus) تهتم بتفاصيل المواد التعليمية التي يتم تدريسها في الفصل الدراسي، ويتم تضمينها في الكتاب المدرسي للطالب (Textbook) مع ملحقاته من كتب النشاط والدليل المعملي وكتاب المرشد Teacher’s Book - Teacher’s Guide - Teacher’s Manual) الذي يستخدمه المدرس في تبسيط خطط الدرس وتسهيله للفهم. وهذه سنفرد لها حيزا في مقالاتنا القادمة ان شاء الله. ويحوي المنهج مواضيع مختلفة وتخصصات مختلفة تهدف إلى تحقيق المخرجات التعليمية المنشودة.
المنهج الدراسي بهذا الفهم هو جرعة تعليمية تعطى في الوقت المناسب وللعمر المناسب، لتحقيق التغيير المرغوب في الدارسين. يمكن أن تكون هذه الجرعة قاتلة في بعض الأحيان إذا تجاوزت كميتها، ومضرة ايضاً إذا كانت أقل من ذلك. فمصممو المناهج هم المهندسون المؤهلون لبرمجة الأفراد من خلال هذه الجرعات المحددة بعناية. ومما يؤسف فان معظم المناهج التي يُدرسها طلابنا في مدارسنا اليوم تدور حول تاريخ العلوم - بمعلومات قديمة لا تتماشى مع التعليم الحديث وقصور في فهم دور العلوم الاجتماعية والانسانية أيضاً في تكوين الفرد وكان ذلك بسبب الطريقة التي يتم بها تصميم وتصنيع المناهج في بلادنا.
فلسنوات عديدة؛ كانت هناك لجان (مقيمة) في بخت الرضا وغيرها من المؤسسات تتعامل مع صناعة الكتب المدرسية بطريقة (تقليدية). وربما سنتطرق الى دور بخت الرضا في هذا الموضوع في مقال لاحق -
في بلدان كثيرة يتم اختيار الكتاب المدرسي بطريقتين:
- الاولي عن طريق شراء الكتاب مباشرة من الناشر بالمكتبات المتخصصة في النشر الاكاديمي.
- الطريقة الثانية. يتم التعامل مع المناهج على أساس (عروض أو مناقصات)، حيث تعلن وزارة التربية والتعليم أو مديرية التعليم إلى الكتّاب والمؤلفين المتخصصين في تصميم المناهج وتأليف الكتب المدرسية والناشرين؛ للتنافس للتاليف في موضوع معين وفقًا لتوجيهات إدارة التعليم لتحقيق الأهداف التعليمية على المستوى المحلي.
- وباستخدام هذا الآلية، يمكننا الحصول على مئات المشاريع المنهجية المؤلفة بشكل جيد لاختيار الأفضل من بينها، ويمكننا تقديم مقترحات لجمع المشاريع المتجانسة في كتاب واحد بموافقة مؤلفين اثنين أو أكثر، برؤى مشتركة تلبي متطلبات واحتياجات الدارسين.
- ونحن نعلم ان عمل اللجان يقتل الابداع، اذ يجعل الفريق المكلف بكتابة المنهج غالبًا ما ينتج أعمال متشظية غير مترابطة في الشكل والمضمون إلى حد كبير، حيث يفكر أولئك المختصون عن العمل بطرق فردية ويسلكون اتجاهات مختلفة نظراً لاختلاف وطبيعة الإنسان ومزاجه الشخصي. وهذا يؤكد لنا أن الكثير من الطهاة دائماً يفسد الطبخة. ويحدث الاختلاف في اهمية وترتيب وكمية المادة المطلوبة حسب الرؤية الشخصية لكل عضو في اللجنة، مما يصعب معه التوازن في تحيق عمل متجانس.
- أما العمل في صناعة أو كتابة المنهج بطريقة فردية يمكّن مؤلف المنهج من الرؤية الشامة لترتيب واهمية المواضيع. ثم يأتي دور اللجان لتقوم بالفرز واقتراح بالحذف أو الدمج لكتابين لمؤلفين أو أكثر.
• عناصر ضرورية في صناعة الكتاب المدرسي
الاتجاهات الحديثة في تصميم المناهج والكتب المدرسية تعكس الاحتياجات المتطورة لأنظمة التعليم في جميع أنحاء العالم، وذلك بفعل التطورات في التكنولوجيا والتغيرات في القيم الاجتماعية، والتحولات في النهج التربوي. في هذا الحيز سنتناول بعض العناصر الضروية التي تساعد في صناعة المناهج والكتب المدرسية في جميع أنحاء العالم.
- دمج التكنولوجيا: مع انتشار الأدوات والموارد الرقمية، تقوم تصاميم المناهج والكتب المدرسية الحديثة بدمج التكنولوجيا بشكل متزايد في عملية التعلم. ويشمل ذلك استخدام عناصر الوسائط المتعددة مثل الفيديوهات والمحاكاة التفاعلية والتقييم عبر الإنترنت لتعزيز الانخراط والفهم.
- التعلم الشخصي: مع الاعتراف بأنماط وتفضيلات اساليب التعلم المتنوعة للطلاب، تهدف تصاميم المناهج الحديثة إلى استيعاب الاحتياجات الفردية من خلال مسارات التعلم الشخصية. وقد يشمل ذلك استخدام منصات التعلم التكيفي التي تُصمم المحتوى استنادًا إلى نقاط قوة وضعف الطلاب وتقدمهم.
- التعلم القائم على المشاريع: بعيدًا عن التلقين التقليدي، تؤكد العديد من تصاميم المناهج الحديثة الآن على النهج القائم على المشاريع. حيث يشارك الطلاب في مشاريع عملية ومتعددة التخصصات تعزز التفكير النقدي والتعاون ومهارات حل المشكلات بينما يتعاملون مع تحديات العالم الحقيقي.
- التعلم القائم على التجارب: من خلال تشجيع الفضول والاستكشاف، يعتبر التعلم القائم على التجربة اتجاهًا شائعًا آخر في تصاميم المناهج. حيث يقوم المعلمون بتسهيل العمل والتجارب، مما يمكّن الطلاب من طرح الأسئلة وصياغة الافتراضات واكتشاف الإجابات من خلال التطبيق.
- تعليم المواطنة العالمية: وكرد فعل على التواصل والتفاعل المتزايد في العالم، غالبًا ما تتضمن تصاميم المناهج الحديثة عناصر من تعليم المواطنة العالمية. ويتضمن ذلك تنمية وعي الطلاب بالقضايا العالمية مثل قضايا البيئة، وتعزيز الفهم الثقافي، وتعزيز التعاطف والتضامن مع المجتمعات المتنوعة في جميع أنحاء العالم.
- تعليم STEMوهواختصارل((Science Technology Engineering Math ويركز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، وتعتبر العديد من تصاميم المناهج تطوير المهارات ذات الصلة بسوق العمل في القرن الحادي والعشرين أمراً مهماً. ويتضمن ذلك دمج مفاهيم STEM عبر مواد مختلفة وتوفير فرص للتجربة العملية وحل المشكلات.
- التربية ذات الصلة بالثقافة: بالاعتراف بأهمية التدريس الذي يتضمن المؤشرات الثقافية للامة، اذ تسعى تصاميم المناهج الحديثة لدمج منظورات وتجارب متنوعة في المنهج الدراسي. ويتضمن ذلك اختيار الكتب المدرسية والمواد التعليمية التي تعكس الخلفيات الثقافية والهويات للطلاب، وتعزيز الشمولية والعدالة في التعليم.
- تعليم الاستدامة: بالتعامل مع تحديات البيئة لتعكس الاحتياجات المتطورة لأنظمة التعليم في جميع أنحاء العالم، وذلك بفعل التطورات في التكنولوجيا والتغيرات في القيم الاجتماعية، والتحولات في النهج التربوي.
وباختصارتعكس الاتجاهات الحديثة في تصاميم المناهج والكتب المدرسية تحولاّ نحو منهج يركز على المتعلم، معززبالتكنولوجيا، ويستجيب للتطورات في مجال التعليم بشكل خاص والثقافة بصورة عامة. ومن خلال اعتماد هذه الاتجاهات، يمكن للمعلمين خلق تجارب تعليم جذابة وملائمة وشاملة تسعد الطلاب وتعدهم للنجاح بثقافة القرن الحادي والعشرين.

aahmedgumaa@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی جمیع أنحاء العالم القائم على التعلیم فی نحتاج إلى علینا ان من خلال من ذلک

إقرأ أيضاً:

عبد اللطيف البوني: شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟) من اللعوتة الي نيويورك

بسم الله الرحمن الرحيم
شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟)
من اللعوتة الي نيويورك
(الدخلت فينا ما بتمرق تاني … فأنا الآن غيري(
عبد اللطيف البوني
(١(
إلى روح رفيق الدرب منذ الطفولة إلى الكهولة وزميل الدراسة من كنبة الأولية الى قاعة المحاضرات وتوأم الروح الأبدي الدكتور الصديق محمدأحمد مضوي (الاسم الصحفي: صديق مضوي) كنت دائما أقول: إن (ربنا بريدك) لأنك كنت محبا لكل الناس بما فيهم المختلفين معك في كل شي وليس أدل على محبة الله لك من أنك رحلت عن الدنيا بسودانها قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣.. بعد هذا التاريخ انفتحت علينا صفحة مختلفة كان لابد أن يكون أول سطورها إهداء لك وتوسلا بك.. وهذا لأمر قدره الله كما سنرى في آخر المقال .
(٢(
حرب السودان الجارية الآن ليست حربا تقليدية بين قوتين مسلحتين إنما في شقها الاكبر عدوان من قوة مسلحة على مواطن أعزل لا يعرف حتى (صرف العكاز) ولكن العلاقة بين الاثنين الحرب والعدوان متداخلة بصورة ديالكتيكية Dialectical) ) أي أن كل مكون يؤثر على الآخر بصورة لا يمكن الفصل بينهما.. فمثلا لو أخذنا مسألة (التغنيم) التي أسهمت في التحشيد للدعم السريع سوف نكتشف أن لها دورا كبيرا في فتّ عضده لاسيما وأنها ارتبطت بالانتماء القبلي وبالتالي يكون المُعتدى عليهم أشتركوا في الحرب ولو بغير إرادتهم. نعم كل السودان من (خرطومه الي كرشه الي أرجله) عانى من هذه الحرب ودفع ثمنا باهظا في الأنفس والممتلكات ولكن مع ذلك كانت هذه المعاناة بدرجات متفاوتة فالولايات التي تشهد معارك حربية وعدوانا غير تلك التي لم تشهد غير المسيرات .. والمناطق التي توقفت فيها الحياة غير تلك التي استمرت فيها والقرى المنكوبة غير تلك التي لم تسمع لعلعة الرصاص والناس الذين فروا وتشردوا وفقدوا كل شئ غير أولئك الذين تضرروا بصورة غير مباشرة .. غنى عن القول إن هذا التفاوت لم يكن اختيارا إنما كان بأمر المعتدي..
منطقة شمال الجزيرة وهي إداريا محلية الكاملين. عاشت الحرب بكل أهوالها وفواجعها ومآسيها من يوم الحرب الأول لا بل قبله بيوم أي يوم ١٤ أبريل حيث كان هناك انقلابا في اللواء الأول مشاة بالباقير… وقد زاد سعار الحرب في هذه المنطقة بمتوالية هندسية بعد سقوط ود مدني في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٣. لقد تجرع إنسان هذه المنطقة هذه الحرب قتلا وسحلا ونهبا وتشردا ونزوحا لا بل حتى زرعها وضرعها تعرض للهلاك
(٣(
مواطن شمال الجزيرة لم يقابل سكين الحرب بالإتكاء لها كما يترأى للناس إنما دافع ونافح وصانع وسايس ولاعب وضاحك (فهناك كوميديا سوداء) والأهم كانت الممانعة وكل هذا يندرج فيما أصطلح على تسميته بالمقاومة الأولية (Primary Resistance) وهذه محدودة الأثر فالسيف لا يتحدى المدفع إلا في الشعر كما غنى َوردي (كيف بالسيف تحدى المدفع) و(كانت أسياف العشر) رحم الله وردي فهو من سعداء السودان لأنه غنى غناء باذخا أطرب كل السودان ورحل قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣..
(٤(
حتى في شمال الجزيرة كان هناك تفاوتا كبيرا في مجريات الحرب وآثارها ف(قرى البحر) أو قرى الظلط (المقصود شارع الخرطوم مدني) وهي تلك التي تقع على ضفة النيل الأزرق الغربية والتي تمتد من بترى الي ود الماجدي مرورا بالكاملين كانت تجربتها متشابهة وليست متطابقة باستثناء التكينة فقد قدمت تجربة متفردة وهذه قصة ثانية لابد من أن تروى في يوم من الأيام .. قرى( الضهرة) وهي التي تتوسط مشروع الجزيرة في تلك المنطقة فتجربتها هي الأخرى متفاوتة فالسريحة ثم أزرق سمع بهما كل السودان.. ويكتمل مربع هاتين القريتين باللعوتة ثم ود لميد ولكل منهما تجربة متفردة فود لميد أخليت تماما من السكان لزوم( الشفشفة) ثم فتحت عليها المياه فأضحت معظم المباني بين ساقطة أو آيلة للسقوط وأصبحت الكائنات الحية الموجودة فيها أسماك القرموط فقط .. كاب الجداد وقرى أخرى كانت فريسة للنسخة الثالثة من الدعم السريع. سكان شمال الجزيرة يقارب عددهم مليوني نسمة. وهم موزعون في مئات القرى التي كانت آمنة ونامية ومستقرة استقرارا يقارب عمره الـ ١٤٠ عاما وفجأة وبدون مقدمات وبصورة دراماتيكية ذهب ذلك الأمن والاستقرار والتطور والوداعة مع الريح .. أما الكنابي الكثيرة المتناثرة في المنطقة (لدي تحفظ كبير على كلمة كمبو) لكن نتركه الان فخطأ شائع خير من صحيح مهجور كما يقولون.. فهذه القرى المسماة كنابي عانى معظمها من هذه الحرب أكثر من القرى القديمة ففي الشهور الأولى من الحرب قوبلت الكنابي بعدوان عنصري عنيف من جهة قوات الدعم السريع وفيما بعد انضم بعض أبناء تلك الكنابي أكرر بعض للدعم السريع كما فعل بعض أبناء القرى القديمة وساعات الضراوة لم يقتسم سكان تلك الكنابي المسالمة اللقمة مع سكان القرى الكبيرة بل تنازلوا لهم عنها. إن الكنابي أضحت من قرى الجزيرة وجزءا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي وهذه قصة أخرى سوف نتوقف عندها في يوم قادم، ان شاء الله .
)٥(
في تفصيل لما ذكرنا في الفقرة السابقة وباختصار شديد نأخذ تجربة قرية اللعوتة فهذه القرية يبلغ عدد سكانها حوالى ٢٥ الفا تقريبا وزاد بعد النزوح الذي أحدثته الحرب الي ثلاثين ألف تقريبا.. وهي من القرى الكبيرة و المنتجة هذه القرية قابلت العدوان بكل ضروب المقاومة الأولية من رفض وممانعة ومصانعة ومسايسة وقدمت خمسة شهداء أربعة خارج القرية وواحد داخلها. وغادر نفر قليل منها إلى خارج السودان بعد سقوط مدني كما شهدت استقرارا نسيبا في معظم عام ٢٠٢٤ لكنه كان استقرارا مشوبا بالحذر جرت تحته تفاعلات أدت إلى غزوها في ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ بمتحرك قتالي كامل قوامه عشرات العربات المقاتلة ومئات المواتر يقدر بثلاثة آلاف محارب فشرد كل أهلها وارتقى فيها ٢٥ شهيدا رميا بالرصاص وأكثر من هذا العدد أثناء عمليات النزوح ونهبت كل ممتلكات الأهالي من العربات إلى الملايات مرورا بالأدوات الكهربائية والمحاصيل والأنعام – جار الآن حصر الخسائر بواسطة مختص من أبناء القرية – والتي تصل إلى ترليونات أي عشرات الملايين من الدولارات واستمر الاجتياح لمدة ١٨ يوما (تفرزع)) السكان فيها في الخلاء أي الحواشات المحيطة بالقرية ثم استجاروا بالقرى المجاورة والواقعة تحت سيطرة ذات الدعامة (الدعامة هو الاسم السائر في المنطقة لأفراد الدعم السريع) بما فيها الكنابي وقد استقبلوا استقبالا يفوق حد الوصف وبعد أن تمت عملية النهب التام للقرية (الشفشفة) عاد الأهالي للتمسك بجدران بيوتهم الخالية حتى من (الكدايس) وكانت كل البنى التحتية من مواسير مياه ومحولات كهرباء وأبراج اتصالات قد حطمت ونهبت كل أدوات الطاقة الشمسية وشبكات الاستارلينك التي أشتريت من ذات أفراد الدعم. والحال كذلك نزح حوالى ثلثي سكان القرية إلى ولايات السودان الاخرى. كانت عمليات النزوح هذه عالية المخاطر غالية التكلفة لأنها بواسطة الدعامة الذين احتكروا قطاعي النقل والتجارة وللمفارقة ان العربات والبضائع قد تمت شفشفتها من ذات المواطنين (فالدعامة اتقنوا آليات الاحتلال دون تخطيط منهم!!! ) نزحوا من أجل الأمن وبعضهم من أجل التعليم والعلاج وبعض الشباب للعمل إذ طالت بهم العطالة.. بقى الثلث الآخر من السكان يقاوم ويحاول إعادة الأعمار وانتهت المقاومة الأولية بإعادة سيطرة القوات المسلحة على المنطقة ساعة كتابة هذا المقال تم تحرير معظم الجزيرة واصبحت القوات المسلحة على تخوم حدود الخرطوم الجنوبية.. النازحون من القرية لم يقيموا في دور إيواء أو معسكرات نازحين إنما استأجروا منازلا وصرفوا على أنفسهم من حر مال أبنائهم المغتربين. المغتربون وأبناء القرية المقتدرين هم الذين (شالوا الشيلة) في كل مراحل نكبة القرية.
(٦(
قصدنا من الفقرة أعلاه القول بأنه يجب عدم السقوط في مستنقع التعميم فلكل منطقة تجربة في الحرب ولها تفاصيل مختلفة لذلك لابد من تجميعها كلها وربطها بما يدور علي المستوى القومي والاقليمي والدولي ومن الخيوط التي يمكن تتبعها لهذا الربط المال السياسي وما أدراك ما المال السياسي فهو يربط بين من يرتدي أشيك بدلة في العالم وآخر يمشي (ملط) لم تعرف الملابس إليه سبيلا لن يلتقيا ولكنهما مسخران لهدف واحد يبتغيه دافع المال ومثال آخر للربط ففي ذات اللعوتة كانت المعاملة بين الجاني والمجني عليه تتأثر بما يجري بعيدا عن القرية فمثلا موقف الحكومة الرافض لمفاوضات جنيف انعكس على القرية بالمزيد من العنف والتنكيل علما إن قرار المفاوضات كان قرارا أمريكيا بدعم إقليمي والرفض كان قرارا حكوميا سودانيا هكذا دفع مواطن القرية الغلبان ثمن َموقف سياسي تبلور في عواصم بينه وبينها بيداء دونها بيد على قول المتنبي. الرصاصة التي سقت أرض اللعوتة من دم الشهيد مهند عمر يوسف في 25 ديسمبر ٢٠٢٣ وهو أول الشهداء داخل القرية إلى الرصاصة التي أودت بحياة الشهيد بابكر محمد علي ابراهيم في الأسبوع الأخير من يناير ٢٠٢٥ وهو آخر شهيد في القرية وما بين هذين الشابين النضرين من كوكبة شهداء أيام الاجتياح هذه الرصاصة كانت تحملها يد ليس لها معرفة بصناعتها وكان يطلقها عقل مغيب ولسان ينطق بكلمات لا يعرف معناها فالجاني رغم أنه مسؤول جنائيا هو الآخر ضحية لأنه نفذ ما كان يدور في فنادق (مدن بعيدة تنوم وتصحى على مخدات الطرب) كما غنى حمد الريح في الساقية (رحم الله حمد فهو من سعداء السودان لأنه رحل قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣) .. فالعالم أصبح قرية ليس في الإعلام و(الهيشك بيشك) إنما أيضا في الموت والدمار>
(٧(
على المؤسسات الأكاديمية والصحفية وكل الجهات المهتمة بالمعرفة واجب القيام بالدراسات المعمقة لهذه الحرب ومنذ يومها الأول وذلك بتجميع كل التفاصيل وفي كآفة بقاع السودان وربطها بمسبباتها على كافة الصعد الدولية والإقليمية.. ففي هذه المرحلة يجب القيام بعملية الرصد والمتابعة لكل يوميات الحرب ثم يأتي بعد ذلك التحليل والاستنتاج وبالتالي استخراج الدروس والعبر.. والان مع إتساع المعرفة وتطور التقانة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يقوم أهل السودان المعاصرين بكتابة تاريخ هذه الفترة بأنفسهم ولا يتركوه لذوي الأجندات لكي يكيفوه على هواهم. إن ما يجري الآن في بلادنا ناتج جزئيا من الغش والتزوير الذي حدث في تاريخنا.. إن الذين أرخوا للسودان الحديث من أمثال ماكمايكل وترمنغهام وهولت ونعوم شقير وكل المؤرخين السودانيين كتر خيرهم ما قصروا وان كان فيهم من صور لنا فترات مظلمة من تاريخ السودان بأنها كانت مشرقة.. ولكن نكبة السودان الحالية يجب أن يؤرخ لها أي سوداني عايش هذه الأحداث فهو جبرتي قائم بذاته (المؤرخ المصري الجبرتي هو الذي قام برصد يوميات حملة نابليون في مصر) يجب الإسراع بالتوثيق لأن كل الشهود حاضرين الآن ومن رأى ليس كمن سمع فليس هناك مجالا للتزوير والتدليس فلا تضيعوا هذه الفرصة ويجب أن نتخذ منهجا علميا في الرصد والمتابعة وذلك بإنشاء قواعد بيانات فرعية لتصب في قاعدة بيانات عامة وعدم تجاهل ما كابده المواطن العادي في هذه الحرب. إن جمع المفرق من مشروعيات البحث العلمي فالتاريخ الحقيقي ليس تاريخ القادة ومتخذي القرار وحدهم إنما هو أيضا تاريخ من وقع عليه فعل الفاعل فالشاعر الألماني ذائع الصيت بيرخت يقول (مدينة طيبة ذات الأبواب السبع .. من الذي انشأها؟ هل حمل الملوك كتل صخرها.؟. ..) إن ما حدث لنا من كارثة لم تهبط من السماء إنما خرجت من غفلتنا وجهلنا هذا له ثلاثة مكونات محلي وإقليمي ودولي
(٨(
عذرا عزيزي القاري أرجو أن تسمح لي ببعض الأسطر أنكفي فيها على الذات دون الخروج عن الموضوعية في هذا المقال بل تدعيما لها فأصلاً انا كنت متوقف عن الكتابة الصحفية منذ مارس ٢٠٢١ وبرسالة للأستاذ الصديق/ عطاف محمد مختار رئيس تحرير صحيفة السوداني المحترمة ف(البطن كانت طامة) مما يجري في الساحة السياسية وبعد اندلاع الحرب أصبح التوقف إجباريا والنفس (انسدت) أكثر من الكتابة وأنا اكتب هذا المقال ب(جاز المصافي) وهذه بلغة السواقين تعني أن وقود الخزان( التنك) قد نفد. فليست لدى أي رغبة او قدرة على الكتابة لا إجرائيا ولا موضوعيا فمن ناحية إجرائية فليست لدي أدوات الكتابة من لابتوب ومنضدة وكرسي فالجماعة ( شفشفوا) كل البيت وتركوه قاعا صفصفا فأنا الآن أكتب على الموبايل رغم صغر الكيبورد وضعف النظر.. أما من ناحية موضوعية فإني أشعر بأنني ليس ذلك الشخص الذي كان قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣ فالروح مجروحة والخاطر مكسور والحيل مهدود والوجدان مضطرب والنفس حزينة والزهد في أي شئ أصبح سيد الموقف فما زلت غير مصدق لكل الذي جرى. إن ما كابدناه لم نره في أعتى أفلام الرعب الخيالية. إنه لا يمكن أبدا أن يصبح مجرد ذكريات (فالدخلت فينا ما بتمرق تاني) ويبدو أن قول الحلنقي البليغ قد انطبق علينا (حسرة سنيني الراحت ما بترحم الجايات) ولكن في نفس الوقت يلح العقل على بضرورة الابتعاد عن الياس والإحباط والعمل مع الآخرين لتعمير القرية المنكوبة وعلى المستوى القومي بذل جهد المقل في بناء الوطن المغدور من جديد وليس إعادة بناء الذي ذهب مع الحرب فذلك قد قام على أسس واهية وهذه قصة أخرى هامة لابد لها من وقفة قادمة.
(٩(
السبب المباشر في الكتابة اليوم هو أنني وجدت فرصة ثمينة في شبكة الاستارلينك كما وجدت فرصة أثمن لشحن الموبايل بالطاقة فتصفحت الكثير من المواقع والدردشات فوجدت سودانا إسفيريا مختلفا غير الذي نعيشه نحن هنا.. تأكدت أن الهوة متسعة جدا بين السودانينِ الإسفيري والواقعي فقلت أرسل هذه الكلمات عسى أن تكون طوبة في مدماك الوصل بين السودانين.. إن الهوة الواسعة بين السودان الاسفيري والواقع سوف يدخل منها شر مستطير لذلك لابد من تدارَكها. فإن شاء الله هذا ما سوف أواصل الدندنة فيه ولكن بعد فترة بسبب بعض المراجعات الطبية فالحرب قد حولت (الموية البيضا) في العين إلى سوداء (جلاكوما) كما أن الظهر والقلب و(حاجات تانية حامياني) تحتاج إلى مراجعة فقد كنا في حالة (ملاوة) مع الموت كما قالت إحدى الفضليات. فإن كان الموت مشكورا قد أجل ضربته القاضية الحتمية واعطانا زمنا إضافيا وضربات جزاء لكنه ترك مقدماته فينا فدعواتكم لنا بتجاوز آثار هذه الملاوة . إنني اناشد كل الذين يرون أن السودان الاسفيري سوف يؤدي بالسودان الواقعي أن يتركوا الكسل ويقتحموا الأسافير ويحكوا عن الواقع ليجعلوا أجندته هي السائدة بدلا من (خمج) الأسافير
(10)
لابد من (كسرة) لكسر حدة هذا المقال الذي طال بسبب احتشاده بروؤس المواضيع ففي تصفحي المشار إليه أعلاه وجدت مقالة اقتطف فيها كاتبها أسطرا من مقال للراحل صديق مضوي عن الحدود قال فيه (إن حدود السودان الحالية نعمة عليه ولكن قد تكون نقمة إذا لم نحسن إدارتها) وقال الكاتب إن ما حذر منه صديق قد حدث الآن والإشارة للحرب الحالية وبالمناسبة دكتوراة صديق كانت عن حدود السودان وقد كانت رسالة علمية مجودة يمكن أن تخرج منها عدة أوراق عمل (Working Papers) ولكن من يقرأ ومن ينشر؟ منعتني الدموع المنهمرة من إكمال المقال فسرحت مع طيف الصديق فتذكرت قصة عمرها أكثر من نصف قرن تدل على نبوغ الصديق المبكر فعندما كنا تلاميذا في رابعة أولية. اعمارنا بين الحادية عشر والثانية عشر. وفي غمرة الاستعداد لإمتحان الدخول للمرحلة الوسطى أعطانا الأستاذ اختبارا تجريبيا في مادة الدين فأحرز معظمنا الدرجة الكاملة فقد كان الاختبار سهلا (موية بس) بلغة تلك الأيام لكن الصديق نقص درجة فتأكدت أن في الأمر شئ غير عادي فذهبت إليه بعد خروج الأستاذ وسالته عن غلطته فقال لي ما عندي غلطة.. أها الحصل شنو؟ فقال لي أن السؤال الذي يقول متى تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة طبعا كلكم أجبتم بأنه عندما كان عمره ٢٥ عاما لكن أنا أخذت تاريخ ميلاده في عام ٥٧١ ميلادية وأضفت إليها ال٢٥ سنة فكانت اجابتي عام ٥٩٦ م لان السؤال لم يكن كم كان عمره بل كان متى فأندهشت وأعجبت أيما إعجاب بما قاله فقلت له طيب ياخي أمشي راجع الأستاذ فقال لي ما في داعي طالما أنا عارف الصاح فالححتُ عليه ودفعته دفعا للدخول على الأستاذ في المكتب وعندما شرح له الصديق إجابته ما كان من الأستاذ إلا وأن أخذ الورقة وكرفسها وقذفها بالشباك قائلا لصديق (بلاش فلسفة معاك) أها (شفتو كيف الوجع قديم؟) رحم الله ذلك الأستاذ وغفر له ولصديق ولنا جميعا.
وأخيرا عزيزي القاري هذا المقال ليس موجها لمنصة إعلامية معينة فمن رأى فيه ما يستحق النشر أو التدوير فليفعل وإن كانت هناك ثمة أمنية فإنني أتمنى على كل السودانيين دون استثناء إذا ما التقى أي واحد منهم بأحد من معارفه بعد غياب بسبب هذه النكسة أن يقالده ويبكيييييي لعل في ذلك تكون بداية للتعافي الوطني.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وزارة التربية والتعليم تعلن عن موعد اختبارات الفصل الدراسي الثاني لعام 2024 – 2025
  • عبد اللطيف البوني: شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟) من اللعوتة الي نيويورك
  • الإمارات تعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الثاني.. يبدأ 10 مارس
  • لجنة التعليم بمجلس الدولة تناقش رفع جودة التحصيل الدراسي
  • من النيل يبدأ من هنا … إلى الخوف والوجع ..!!
  • امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الإعدادية في الغربية بنظام «البوكليت» |تفاصيل
  • وكيل تعليم الغربية: امتحانات الفصل الدراسي الثاني الشهادة الإعدادية بنظام «البوكليت»
  • وزير التعليم: الوزارة نجحت في تحقيق انضباط كامل للعام الدراسي
  • موعد انتهاء الفصل الدراسي الثاني 2025
  • وزير الصحة: 56% من المناهج التي يدرسها الطلاب حاليًا ستختلف متطلبات سوق العمل بشأنها