في جوهره، يجري الصراع العربي – الإسرائيلي على المكان، الذي يتمّ التعبير عنه – في الخطابات الرسمية، ومنها الاتفاقات أو المبادرات – بكلمة "الأرض". إنها الكلمة التي تكررت كثيرًا في المقاربات التي شملها مختلف المفاوضات تحت مبدأ "الأرض مقابل السلام"، أو الحديث عن "الأرض التي تم احتلالها في حرب 67″، أو الخلاف في مفاوضات مصرية ـ إسرائيلية شاقة حول "لام التعريف" الملحقة بكلمة تُجسّد المكان، لينطلق السؤال: هل هي "أراضٍ" أم "الأرض".

في الصراع على المكان يتم توظيف العناصر الأخرى: التاريخ، والأساطير، والنصوص الدينية، وتأويلاتها والسياسة. ويعلو أي من هذه العناصر عند البعض ويأخذ وزنًا أكبر من المكان، لكن كل هذه الأوزان التي تعلو وزن المكان، ليست في حقيقة الأمر، سوى تضليل أو انحراف عن الجوهر، أو تعمية عليه؛ لأغراض خاصة معوجّة أو سيئة أو باطلة، أو إجرامية، بل كل هذا معًا.

فِرية جغرافية

ربما يدرك من يقومون بهذا التضليل أو الانحراف أو التعمية، الحقيقةَ، لكنهم يوظفون هذه العناصر في التعبئة والحشد، أو تكون لديهم بمثابة الزيت الذي يُصَب على نار الصراع، أو الذريعة التي لا يمكن للبعض أن يقتنعوا إلا بها، ولا ينخرطوا في الصراع إلا وفقها، ولا يمتثلوا إلا لشروطها.

وحتى أثناء استدعاء النصوص الدينية وتأويلاتها، أو التاريخ وأحداثه ووقائعه، يطل المكان برأسه قويًا، ويفرض وجوده، غير منكور ولا مستبعد، بل هو الذي يحدّد جريان التاريخ والسياسة نفسها في كثير من الحالات والمواضع والمواقف، دون مواربة ولا شكّ.

ومع هذا هناك من يريد أن يحشر الصّراع في زاوية دينية، فيراه صراعًا دينيًا بحتًا بين المسلمين واليهود، مستدلًا على ذلك بأحداث قديمة، وردت في النص القرآني، وفي التوراة عبر حديثها عن "الأغيار"، وإمكانية استباحة أرضهم ومالهم وعرضهم ودمهم. وفي هذا تُستدعى أيضًا الأساطير، وما حملته الحوليات التاريخية بانتقاء وتحيز فاضحَين.

إن الأماكن الموجودة في النصوص الدينية تعيّنت في زمنها القديم، ودلّت على البشر الذين سكنوها في القرون الغابرة، ومع هذا يتم تأويلها؛ لخدمة تصور أو أيديولوجيا جديدة، حديثة أو معاصرة، يراد منها الاستيلاء على الأرض، باعتبارها حقًا دينيًا أو تاريخيًا.

ومن حصيلة التأويلات الدينية، واستدعاء التاريخ، تخدم "الجغرافيا المتخيلة" أطماع إسرائيل. فهي قامت في الأساس على فِرية جغرافية هي "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، والتي لا تعدو أن تكون مسألة افتراضية أو من قبيل الخيال المريض، فأرض فلسطين كانت وقت إطلاق هذا الشعار تعجّ بسكانها، واليهود أنفسهم كانت لهم جغرافيتهم في البلدان التي طال عيشهم فيها، وهي موزعة على قارات العالم القديم، أو التي هاجروا إليها في العالم الجديد.

مزاعم وتأويلات

إن شعار "إسرائيل من النيل إلى الفرات" الذي يُقدّم كثيرون دلائل على أنه إستراتيجية تحمل خططًا وسياسات، وليس مجرد شعار برّاق استهوى البعض أو مجرد كلام دعائي عابر، إنما هو نوع من "الجغرافيا المتخيلة" التي تلبس لبوسًا عقديًا، عبر مزاعم تحملها تأويلات دينية يتوهم أصحابها أن ما نسبه البشر للرب – أو حتى ما يمكن أن يكون مصدره السماء – قابلٌ للاستعادة إلى الوجود، والتطويع الدائم الذي يجعله من الوِسع والمُكنة كي يندمج في إستراتيجيات ما، منفصلًا عن سبب نزوله أو سياقاته، أو حتى إمكانات تحققه وَفق الشروط الراهنة.

في المقابل تتحدث المقاومة، ومعها كثير من الشعب الفلسطيني، عن استعادة "فلسطين التاريخية"، تحت شعار "التحرير من النهر إلى البحر"، وهي مكان موجود بالفعل في الواقع، متعين ومعروف، رغم تغيير أغلب الأسماء العربية للقرى والبلدات والمدن – بعد قيام إسرائيل في عام 1948 – إلى أسماء عبرية، لكنه حين يحضر في السجال الفلسطيني العام الآن يحضر كمسألة متخيلة، إذ يقوم بشأنه تخيل المستقبل بكل إمكاناته وشروطه التي تحقق ما يصبو إليه هؤلاء.

وحتى الحديث عن "حل الدولتين" لا يخلو من جغرافيا متخيلة، قد تنزلق أحيانًا من هذا "المتخيل" إلى "الموهوم"، فأين هي الجغرافيا التي بوسعها استيعاب حديث عن "دولة فلسطينية" إلى جانب إسرائيل؟، هل ستكون إقليمين منفصلين؛ أي الضفة الغربية وقطاع غزة، أم يتصلان عبر نفق طويل؟ أم عبر شريط حدودي يتوجه من الضفة غربًا في صحراء النقب إلى الحدود المصرية، ثم ينعطف شمالًا بمحاذاتها حتى يصل القطاع، قاطعًا ما يربو على مائتين وخمسين كيلومترًا؟

وهنا يثار السؤال: هل كل الذين يتصدون للحديث عن "حل الدولتين" يدركون البعد الجغرافي المتخيل لهذا الخيار أو السيناريو؟ أم أنهم منشغلون فقط بملء الفراغ، الناجم عن العجز عن طرح الحلول الناجزة، بكلام عابر لا يدرون تعيينه على الأرض؟

ذرائع وحجج

وإثر الحرب على قطاع غزة قفزت سطوة المكان إلى أعلى، وهي مسألة لا يمكن تجاهلها ولا نكرانها، بل ستظل واحدة من الآثار الأساسية والمستمرة لهذه الحرب. فكثير من الأماكن في غزة، أحياء وشوارع تغيرت معالمها، حيث هُدمت بيوت وصارت أطلالًا، وجُرفت أرض وصارت بوارًا، وضاعت معالم حارات وشوارع وميادين، وصارت من الماضي.

وإعادة إعمار غزة لن يعيد كل شيء إلى سابق عهده بالضبط، شأن ذلك شأن ما يدخل على أي بيوت مهدمة في المدن أو الريف، حتى دون حرب، من تغيير. من هنا ستسكن الأماكن القديمة مخيلات الناس، تحطّ في الذاكرة، وتأتي حين تتم استعادتها غارقة في الحنين، وربما الأسى، لتستمر السطوة المعنوية أو العاطفية للمكان، حتى لو جعلته "إعادة الإعمار" أكثر جمالًا أو متانة أو تنسيقًا مما كان عليه.

وبالطبع، فإن هذه هي أقل خسارة تلقيها الجغرافيا على أهل غزة، أما أفدحها فهو ما قد يدخل على المكان، الذي يشمل هنا المكان كله، من تغيير جذري إذا وقع تهجير الغزيّين قسرًا، أو تمكّنت إسرائيل من جزء منهم فقط، أو استطاعت اقتطاع أرض وإضافتها إلى "غِلاف غزة".

لكن الأمور لا تجري في اتجاه واحد، إذ يمكن أن يحدث النقيض تمامًا، حين تتمكن المقاومة في غزة من صنع جغرافيا مختلفة حول القطاع، بما يجعل غلاف غزة- حيث المستوطنات الإسرائيلية- يقع في مرمى دائم لنيران المقاومين.

ويؤدي هذا إلى إجبار إسرائيل على إدخال تعديلات على المكان هناك، ما يعني أنه أثناء جريان عجلة القتال كان الخيال الجغرافي للإسرائيليين أيضًا يفكر في اتجاهات متعددة.

إن الجغرافيا الحاضرة في الذرائع الإسرائيلية والحجج الفلسطينية طوال الأيام الطويلة التي جرت، والحاضرة في الحرب الدائرة عبر الطوبوغرافيا والإحداثيات التي تنطلق على أساسها الصواريخ والقذائف المدفعية، ستكون حاضرة فيما بعد حال أي تسوية تعقب توقّف القتال، وهي طوال الوقت موجودة، إما واقعية متعينة أو متخيلة لا تبرح الرؤوس والنفوس.

 

 

 

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: على المکان

إقرأ أيضاً:

إسرائيل تتحدث عن التسوية التي أدت إلى الإفراج المبكر عن ثلاثة أسرى

تحدثت هيئة البث الإسرائيلية "مكان"، صباح اليوم الثلاثاء 28 يناير 2025، عن التسوية التي أدت إلى الإفراج المبكر عن ثلاثة أسرى إسرائيليين من قطاع غزة .

وقالت مكان نقلاً عن تقارير إعلامية، إن "إسرائيل كانت تسعى لإطلاق سراح المختطفة أربيل يهود من غزة قبل يوم الخميس، لكنها وافقت على تأجيل ذلك بعد أن أبدت حماس استعدادها لإطلاق سراح ثلاثة مختطفين إضافيين في دفعة جديدة يوم السبت المقبل".

إقرأ أيضاً: ترامب: أرجح قبول الرئيس المصري وملك الأردن استقبال الفلسطينيين من غزة

وأضافت أن "ذلك جاء نتيجة ضغوط مارستها الولايات المتحدة وقطر لدفع الطرفين إلى تسوية متبادلة".

وتابعت "تعني التسوية أن ثلاثة مختطفين سيتم إطلاق سراحهم في وقت أبكر مما كان متوقعًا. ووفقًا للاتفاق، من المقرر أن يتم إطلاق سراح أربيل يهود، أغام بيرغر، ومختطف آخر يوم الخميس، بينما سيتم إطلاق سراح ثلاثة مختطفين آخرين يوم السبت".

وسمحت إسرائيل صباح امس، ب فتح ممر "نيتساريم" لتمكين سكان غزة من التوجه شمالًا، وهو ما اعتبرته حماس انتصارًا سياسيًا وعملية تعزز سيطرتها المدنية والعسكرية في القطاع. بحسب مكان

وأشارت إلى أن قرار تسريع إطلاق سراح المختطفين جاء استجابةً من حماس لضغوط من الشارع الغزي لفتح الممر، إضافةً إلى رغبة الحركة في تسريع تنفيذ الصفقة خشية انهيارها.

وأوضحت أن "حماس تسعى لتعزيز نفوذها في شمال القطاع من خلال إدخال عناصر أمنية وعسكرية، إضافة إلى استعادة السيطرة على مراكز حدودية مثل نقطة جنوب ممر "نيتساريم"، التي تعيد تأكيد سيادتها داخل القطاع.

وبدأت إسرائيل وحماس مناقشات حول إطار المرحلة الثانية من صفقة التبادل، ومن المتوقع عقد قمة في قطر الأسبوع المقبل.

وفي سياق متصل، أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو محادثات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمناقشة التطورات المحتملة.

وبحسب "مكان"، "تتطلع حماس إلى فتح معبر رفح الأسبوع المقبل، مما سيمكنها من إرسال جرحى جناحها العسكري لتلقي العلاج، وإعادة اللاجئين الغزيين الذين غادروا القطاع خلال الحرب".

المصدر : وكالة سوا - هيئة البث الإسرائيلية "مكان" اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية وزير إسرائيلي يلغي سفره لبروكسل خشية اعتقاله سموتريتش يُصر على عودة الحرب وتشجيع هجرة الغزّيين مسؤول أميركي: إعادة إعمار غزة أسهل بكثير مع رحيل سكانها مؤقتا الأكثر قراءة الحرب تنتهي بنتنياهو مطلوباً للعدالة "رجب" يتحدث عن أبرز إنجازات قوى الأمن في جنين الأسبوع الماضي إصابة مواطنيْن أحدهما خطيرة برصاص الاحتلال في غزة استمرت 470 يوما - أهم إحصائيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • بعد الإعلان عن استشهاد الضيف... بيان من التوحيد العربي
  • “السلاح الإسرائيلي” الذي أظهرته القسام أثناء تسليمها رهينة بجباليا..!
  • ما السلاح الإسرائيلي الذي أظهرته القسام أثناء تسليمها أسيرة بجباليا؟
  • ضابط كبير يكشف التحدي الحقيقي الذي يواجه الجيش الإسرائيلي
  • د. محمد خفاجى: 6 مبادئ كفيلة بحل الصراع الأبدى بين إسرائيل وفلسطين
  • الإماء في الإسلام: مرآة الصراع بين الحرية والتقاليد وموروث الجاهلية الذي يثقل كاهل الإسلام
  • ???? مستنفري الجزيرة… هذه الأرض لنا..!!!
  • أحمد موسى: صاحب الأرض يتمسك بها ولا يتركها للمحتل الإسرائيلي
  • إسرائيل تتحدث عن التسوية التي أدت إلى الإفراج المبكر عن ثلاثة أسرى
  • وسام العباسي زعيم خلية سلوان الذي حاكمته إسرائيل بـ26 مؤبدا