انقضت 3 أشهر ولم تنقض المواجهات الدائرة في السودان، وفي عاصمته بشكل أكثر ضراوة، حيث أظهرت الحرب وجوها للقبح متعددة، وأثرت على كل مناحي الحياة وشرائح المجتمع، وشملت بطبيعة الحال الثقافة وأهلها.

مثقفون في قوائم المفقودين

في ضحى السبت 15 أبريل/نيسان انطلق الرصاص في العاصمة السودانية ولم يصمت بعد، ومع الرصاصات الأولى كان الكثيرون في قلب الخرطوم؛ نجح بعضهم في الخروج وعلق آخرون.

ومن بين العالقين كان الشاعر والباحث ميرغني ديشاب، والذي قدم من أقصى شمال السودان (مدينة وادي حلفا 937 كيلومترا شمال الخرطوم) لإقامة حفل تدشين كتابين جديدين صدرا له، لكن الحرب غيرت كل ذلك واندلعت وهو في فندق وسط الخرطوم تفصله مئات الأمتار فقط عن القصر الجمهوري أحد أشد المناطق قتالا، وقتها ضجت مواقع التواصل بمناشدات إخراجه من الفندق.

ديشاب قصَّ على الجزيرة نت حكايته وكيف أنه قضى 5 أيام بلا طعام إلى أن تم إخراجه بواسطة أحد الشباب ليتلقى عناية طبية بعد ذلك، قبل أن يسافر إلى وسط السودان (مدينة ود مدني 186 كيلومترا جنوب الخرطوم) ثم إلى وادي حلفا.

وغير بعيد عن الفندق الذي كان فيه ديشاب علِق الروائي والقاص أحمد أبو حازم في مركزه ومكث 8 أيام انقطع فيها شحن هاتفه بعد ساعات ولم يستطع طمأنة أهله وأحبائه، أبو حازم أفاد الجزيرة نت أنه ظل طيلة هذه الفترة تحت نيران المتقاتلين زاده الصبر والأمل وبقايا إفطار رمضاني نظمه قبل أيام من الحرب، إلى أن اقتحمت قوة مسلحة المركز لائذة من القصف وأخرجته من الموقع، وتم التحري معه غير مرة ولساعات طويلة قبل أن ينتقل إلى منزل أحد الأصدقاء.

خلال فترات الفقد هذه ظلت الهواجس تغزو قلوب ذوي العالقين وجمهورهم خاصة بعد انقطاع التواصل مع نفاد بطاريات هواتفهم والمحاولات غير الموفقة لإخراجهم، مع تداول أنباء وفاة بعض العالقين ولكن الله سلم.

مقذوفات وشظايا

المقذوفات العسكرية وشظاياها لا تطرق الأبواب في الخرطوم ولا تشترط الاشتراك في القتال، وقد تتحول منطقة آمنة إلى منطقة اشتباك عسكري بين لحظة وأخرى.

شظية طائشة أصابت الشاعر والصحفي أحمد النشادر في أسابيع الحرب الأولى، وكان النشادر آمنا في منزله عندما أصابته شظية في رجله مسببة جرحا نجح المطببون في علاجه وشفي بعد ذلك.

بعد إصابة النشادر بأسابيع وفي بيان منشور عبر مواقع التواصل بتاريخ 26 يونيو/حزيران الماضي، سرد البروفيسور محمد جلال هاشم تفاصيل تعرضه مع بعض المواطنين لقذيفة هاون قائلا "إن المواطنين يعيشون تحت وابل من قذائف الهاون التي درجت مليشيا الجنجويد مؤخرا على إطلاقها بتعمد واضح نحو المباني السكنية حتى يذهب الظن بأن القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى هي من تفعل ذلك".

ويوضح محمد جلال أنه كان ينصح الشباب بعدم التجمهر كي لا يكونوا عرضة للقذائف، لكن وفي لحظة النصح هذه سقطت قذيفتان وأصيب ومن حوله، ويضيف "بمجرد انتباهي من صدمة وهول الانفجار، رأيت إصابتي وكيف أن عظمة الركبة المترحلة غير موجودة واللحم والروابط العضلية بارزة بلونها الأصفر الأشبه بالشحم. ثم استحضرت أن الانفجار طوح بي لاصطدم بالحائط من جهة كتفي اليمين".

خاض جلال رحلة التنقل بين المشافي من الخرطوم إلى مدينة "ودمدني"، ووصلت الرحلة إلى سنار (300 كيلومتر جنوب الخرطوم) قبل أن يضطر الأطباء إلى البتر بعد تلف ركبته.

من لم يمت بالقذف مات بغيره

تسيطر الحرب وأخبارها على المشهد السوداني ما يجعل رحيل مثقف أو أديب حدثا لا يجد نصيبه من الذيوع والانتشار وربما يعلم الناس به بعد يوم أو يزيد، فرحل في غضون هذه الحرب عدد من مثقفي السودان بشكل هادئ، إذ رحل الشاعر عبد العزيز جمال الدين، والشاعر بشير عبد الماجد، كما رحل بعد سنين من الغربة الشاعر الدكتور عبد الله عبد الواحد صاحب ديوان "قصائد حب للناس والوطن"، والذي اشتهر بقصيدته "نشيد الاستقلال" التي تغنى بها الراحل محمد وردي.

وممن رحل في هدوء الشاعر النوراني الحاج الفاضلابي والذي كان يقاوم علة طويلة، ووفق إفادة أحد أقاربه فإن تردي الخدمات الصحية نتيجة الحرب الدائرة فاقم اعتلال صحة النوارني.

ذات التردي الصحي أدى لرحيل مفجع للموسيقي خالد سنهوري الذي كان يقطن بحي الملازمين القريب من مبنى الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، في منطقة يصعب التجول فيها بفعل القتال الدائر، ووفق ما تداولته مواقع محلية فإن انخفاضا في السكر وضغط الدم تسبب في موت الموسيقي، وعللت المواقع ذلك بانعدام وجود محالات بقالة مفتوحة أو صيدليات وبعدم توفر سيارة تقله لأي مستشفى لإسعافه.

توفي سنهوري ودفن أمام منزله، ولم يجد من يشيعه سوى 4 أشخاص بينهم شقيقه.

قبر الموسيقي خالد سنهوري (الجزيرة) صمت المنابر وتضرر المراكز الثقافية

ومثلما كان حال المثقفين موجعا كان حال مؤسساتهم ومراكزهم، والتي امتد صمتها لأكثر من 3 أشهر، بل تجاوز الأمر إلى الضرر، فعلى سبيل المثال احترق مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية، وأفردت الجزيرة نت تقريرا عن ذلك، وتم الاعتداء على عدد من المكتبات الخاصة في منازل عدد من الأدباء والمثقفين من أمثال الشاعر الراحل محمد عبد الحي، والبروفيسور علي شمو والتي تشكل ذاكرة ثقافية كبيرة بفضل تنوع مقتنياتها.

تحولت كتب ومخطوطات تاريخية نادرة إلى رماد بفعل حريق مكتبة مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية (مواقع التواصل)

ويتوقع الصحفي عامر محمد أحمد حسين في إفادة للجزيرة نت أن يكون الخراب قد امتد لمكتبات كثيرة خاصة مكتبات الأفراد التي تضم نوادر الوثائق والمستندات، ويضيف عامر "الأمر لا يخلو من شيء منهجي مقصود".

ويأسف عامر لما حل بمكتبات عدد من المثقفين قائلا "المؤسف أن التوثيق الشخصي المرتبط بالأفراد لا يخص الشخص فقط بل يتجاوزه لمحيطه السياسي والثقافي والاجتماعي ومصادر ثقافته طوال حياته وبغياب هذه الوثائق يغيب التاريخ الحقيقي للبلاد".

كما تضررت بعض دور النشر ومقرات عرْضها؛ إذ تم الاعتداء على دار مدارك للأستاذ إلياس فتح الرحمن. وطالت أضرار متنوعة جهات ثقافية خلاف المكتبات؛ إذ تضرر متحف السودان الطبيعي، وجزء من المتحف القومي الذي يضم مقتنيات لحقب تاريخية مختلفة، ولا يُعرف بوجه الدقة حجم الأضرار بهذه المتاحف والمقرات الثقافية الأخرى لصعوبة الوصول إليها في الوقت الحالي.

عامر محمد أحمد حسين (يمين) وعبد الله عبد الواحد (الجزيرة) جدل الحرب ومحاولات الوصول

لم يسمح أهل الفكر والثقافة للبنادق بتغييب أصواتهم فاستعاضوا بالفضاء الإلكتروني لإيصال آرائهم عندما تعذرت الطرق المألوفة، وصار التركيز على مواقع التواصل وإبداء وجهات النظر في الحرب ومناقشة أسبابها وآثارها الثقافية عاليا.

ويرى الصحفي حاتم الكناني أن "إبداء الرأي وطرح وجهة نظر المثقف ضرورة مرحلية وأمر لا بد منه"، والملحوظ أن الاختلاف كبير بين المثقفين بل وحاد أيضا، لكن هذا الخلاف خادم للشأن العام فيما يراه بعض المراقبين، فهو مفتّح للأذهان ويعين على النظر من زوايا أخرى.

ولم يكتف الفاعلون الثقافيون بالفضاء الإلكتروني فقط؛ فقد قضت ظروف الحرب برجوع بعضهم إلى مدنهم في الولايات التي لم تطلها الحرب، ونزوح آخرين إليها، ويعلق الكناني في إفادته للجزيرة نت "شهدت مدن سودانية عددا من الأنشطة الثقافية؛ فقد شهدت كوستي قيام مهرجان مسرحي، ونشطت سنار في إعادة رابطتها الأدبية التي انطلقت في النصف الأول من القرن الماضي، وكذلك احتوت بورتسودان نشاطا تشكيليا".

ومع الإيمان الكبير من الفاعلين الثقافيين بأن الثقافة ليست ترفا بل نشاط ضروري للحياة؛ يبقى اليقين أن صوتهم لن يصمت في السودان رغم ما يكتنف أصحاب الثقافة من أوجاع.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: مواقع التواصل عدد من

إقرأ أيضاً:

النحاس يهبط إلى أدنى مستوى له في أربعة أشهر بفضل الحرب التجارية

انخفضت العقود الآجلة للنحاس إلى ما دون 4.20 دولار للرطل، اليوم الثلاثاء، مسجلةً بذلك أدنى مستوى لها في أربعة أشهر، مع تزايد المخاوف من أن الحرب التجارية المتصاعدة للرئيس ترامب قد تؤدي إلى ركود عالمي.

وهدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مؤخرًا بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 50% على الواردات الصينية إذا لم ترفع بكين رسومها الجمركية على السلع الأمريكية، مما أثار مخاوف من تباطؤ النمو وارتفاع التضخم.

مع ذلك، لا تزال الآمال في تخفيف التوترات قائمة بعد أن أشار ترامب إلى انفتاحه على المحادثات مع الشركاء الرئيسيين، بما في ذلك اليابان.

وأشار وزير الخزانة الامريكي، سكوت بيسنت، إلى أن ما يقرب من 70 دولة تواصلت للتفاوض بشأن الرسوم الجمركية، وهو ما جعل الأسواق تهدأ قليلاً بعد موجة خسائر متتالية.

تستثني الرسوم الأمريكية الجديدة النحاس والذهب والطاقة وبعض المعادن الأساسية غير المستخرجة محليًا، وارتفعت أسعار النحاس إلى مستويات قياسية في أواخر شهر مارس الماضي وسط تكهنات بإمكانية استهداف المعدن، لكن هذه المخاوف خفت، مما أدى إلى تراجع الأسعار.

الدولار الكندي

إلى ذلك ارتفع الدولار الكندي نحو 1.41 لكل دولار أمريكي، مقتربًا من أعلى مستوى له في أربعة أشهر والمسجل في 3 أبريل، مع تقييم المستثمرين لعزلة كندا النسبية عن الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة القاسية.

وساهمت الإشارات إلى أن كندا ستظل معفاة إلى حد كبير من الرسوم الجمركية الموسعة بموجب اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) في تهدئة المخاوف التجارية، بينما لا تزال مفاوضات الرسوم الجمركية الدولية الجارية تُقدم الدعم.

اقرأ أيضاًحرب ترامب التجارية تشعل الأسواق العالمية.. ومصر الأقل نصيبا في الرسوم الجمركية

هل تتعارض «اتفاقية الكويز» بين مصر وأمريكا بعد فرض رسوم جمركية بـ 10%؟.. خبير يوضح

وزير الخزانة الأمريكي: كل الخيارات مطروحة بشأن الرسوم المفروضة على أوروبا

مقالات مشابهة

  • وفاة الفاتح عروة أشهر ضابط مخابرات سوداني
  • الموت يغيب الفريق طيار الفاتح عروة
  • بدر عبد العاطي يستقبل وزير خارجية السودان على هامش المؤتمر الوزاري لعملية الخرطوم
  • قبل توثيق فترته في معتقلات الدعم السريع .. وفاة أشهر أخصائي الطب النفسي في الخرطوم
  • النحاس يهبط إلى أدنى مستوى له في أربعة أشهر بفضل الحرب التجارية
  • الشاعر نبيل المسعد: "عنوان الألم" باكورة أعمالي مع الفنان اليمني طه رامي
  • مبعوث خاص للبرهان يزور الاحتلال سرا لبحث تطبيع العلاقات
  • الصحة تتهم الدعم السريع بالتخريب المتعمد للمستشفيات في السودان
  • تراجع التفكير النقدي واختفاء المثقفين النقديين
  • الشاعر الكبير عبدالوهاب هلاوي.. شكرا مصر .. شكرا يسريه الوفية!!..