أين روسيا والصين من الحرب؟
تاريخ النشر: 18th, February 2024 GMT
أين روسيا والصين من الحرب؟
دول قليلة تمتلك خطابا تحرّريا و"إنسانياً" يخاطب البشرية جمعاء، وتضع مصلحة الشعوب في التحرّر والتقدّم في الاعتبار الأول.
استمرار حرب روسيا على أوكرانيا يُفقدها الأوراق السياسية الكافية، إذ لا يمكن التوفيق بين الانهماك في حرب والدعوة الى وقف حرب في بلد آخر.
كان المأمول أن ينتهي العصر الأميركي، كما بشّر البعض، لكنه لم ينته، بل تجد قيم الهيمنة السياسية الأميركية ومد النفوذ لها استنساخاً لدى دول تناوئ أميركا.
لم تعتبر الصين حرب غزة تهديدا للسلم والأمن الدوليين وما يستلزمه من إجراءات، وانشغلت بالأزمة مع تايوان وبخلافات حدودية مع الهند، وتوثيق علاقاتها بروسيا.
إن كانت التعدّدية قائمة عالميا على التنافس والنفوذ، لم يكن غريباً أن تجد محنة أبناء غزّة أصداء قوية لها، في جنوب أفريقيا وبوليفيا والنرويج وأيرلندا، وليس لدى دول كبرى.
لعل خبرات الدول والشعوب تثبت أن تحالفات إقليمية متجانسة وعلاقات متوازنة مع بقية الدول تفيد في المحصلة أكثر من التعويل على دول كبرى، وفي مقدمها دول غربية.
في محنة غزّة بوسع بلدين عربيين كبيرين، مصر والسعودية، إضافة لجهود كبيرة وحثيثة بذلتاها، إلقاء ثقلهما السياسي للجم آلة الحرب الإسرائيلية، أكثر من أي طرف دولي.
* * *
بعد مضي أربعة أشهر على حرب وحشية على غزّة، تتّجه الأنظار فقط إلى الحليف الأميركي، كي يمارس نفوذه على حكومة نتنياهو، غير أنه لا يفعل سوى محاولة تقليل الكلفة البشرية لهذه الحرب (وليس وضع حد لها) وتسهيل دخول المساعدات إلى القطاع، مع الامتناع عن الدعوة إلى وقف الحرب.
لا تتوجّه الأنظار نحو طرف دولي آخر، ما يثير التساؤل عما إذا كان العالم قد انتقل حقّا إلى تعدّدية قطبية، حسب ما بشّر كثيرون وجزموا خلال ذلك بنهاية العصر الأميركي في العقد الأخير على الأقل.
والواضح أن ثمّة تعددية في المراكز الدولية ونموا في الأوزان الاقتصادية والعسكرية للصين وروسيا، غير أن هذه التعدّدية، ومعها نمو الأوزان، تندرج أساسا في سياسة تعزيز المصالح القومية للبلدين، ومن غير امتلاك خطاب عالمي يتوجّه إلى الدول والشعوب في قارّات الأرض، فروسيا تعزّز نفوذها في محيطها، في جورجيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، وتقود حروبا لذلك.
وعلى نطاق أوسع، تمدّ نفوذها إلى أفريقيا للتنافس مع النفوذين الفرنسي والأميركي، وإلى الشرق الأوسط: سورية وليبيا بدرجة أقل، لمزاحمة النفوذ الغربي أيضا، ويقتصر خطابها خلال ذلك على مهاجمة النفوذ الغربي، وليس تمكين الشعوب من إدارة شؤونها بنفسها.
سعت موسكو لاستصدار قرارات في مجلس الأمن لوقف الحرب على غزّة وهو جهد مقدّر، غير أن استمرار حربها على جارتها أوكرانيا يُفقدها الأوراق السياسية الكافية، إذ لا يمكن التوفيق بين الانهماك في حرب والدعوة الى وقف حرب في بلد آخر.
وعملت بكين على هذا من خلال مجلس الأمن، ومن خلال منبر مجموعة بريكس، غير أنها، شأن موسكو، لم تضع المسألة في مصاف تهديد السلم والأمن الدوليين مع ما يستلزم ذلك من إجراءات، وانشغلت خلال ذلك بالأزمة مع تايوان وبخلافات حدودية مع الهند، وبتوثيق علاقاتها مع موسكو.
وظلت مبادرتها الدبلوماسية الناجحة في التقريب بين السعودية وإيران إنجازا شبه وحيد في الشرق الأوسط، على مستوى التعامل مع النزاعات والتوترات الإقليمية.
مع التذكير بأن الاتصالات الصينية الإسرائيلية انخفضت وتيرتها إلى أدنى حد منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، في وقت شهدت علاقات الصين نموا واسعا مع مصر ودول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية أخرى. وهكذا احتفظت القوتان الكبيرتان بوضعية التأثير الضئيل على مجريات الحرب على غزّة.
ولم تحظ، على سبيل المثال، مبادرة جنوب أفريقيا لمحاسبة تل أبيب على حرب الإبادة أمام محكمة العدل الدولية باهتمام ملحوظ من موسكو وبكين، فيما تجنّدت دول أقل وزناً للوقوف إلى جانب هذه المبادرة.
وفي الحملة الإسرائيلية لتصفية وكالة الغوث (أونروا)، الشاهدة على جريمة التشريد الفلسطيني القسري عام 1948، لم تبدِ روسيا والصين اهتماما بهذه المسألة، علماً أن الوكالة تقوم حاليا بدور بطولي لإغاثة أبناء غزّة، ولعل السبب أن البلدين لا يُسهمان في ميزانية هذه الوكالة الأممية، وهو ما حمل البعض على دعوتهما إلى المساهمة في هذه الميزانية أسوة بدول أخرى، علما أن المساهمة المالية في هذه الوكالة تحمل مغزىً سياسيا ومعنويا غير خافٍ.
هناك مظاهر لتعددية المراكز الدولية التي تسحب من رصيد النفوذ الأميركي والغربي، كنشوء مجموعة بريكس، وهي منظمة تعاون اقتصادي في الأساس، ولا تربط أعضاءها رؤى سياسية موحّدة، غير أن مهامها قابلة للتطور، وخصوصا إذا ما توسعت في المبادلات التجارية بين أعضائها بالعملات المحلية.
لكن "بريكس" لا تمثل، حتى تاريخه، كيانا سياسيا كما كان الحال لدى مجموعة عدم الانحياز في القرن الماضي. علما أن ثمة نزعة استقلالية، تروم النأي عن تأثير المحاور الدولية، تتنامى لدى دول عديدة ناهضة، مثل تركيا وماليزيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
فيما تسعى روسيا إلى مواجهة النفوذ الغربي بتشكيل محور يضم الصين وإيران وكوريا الشمالية وكوبا، غير أن الصين لا تجد نفسها عضوا في محور سياسي، بل قطباً اقتصادياً وسياسياً قائماً بذاته.
والى جانب ذلك، الإخفاق في هيكلة مجلس الأمن باتجاه توسيع عضويته، وإعادة تحديد صلاحياته، عقبة كبيرة أمام بروز "نظام عالمي جديد"، ولم تنجح روسيا والصين في حشد عدد كاف من الدول الأعضاء المؤثّرة لبلوغ هذه الغاية، أو التوافق بشأنها، إذ تمثل تشكيلة هذا المجلس تكثيفا لتوزيع مراكز النفوذ والتأثير في العالم، ولتقاسم المسؤوليات لرعاية الأمن الدولي، وليس واضحاً ما إذا كانت روسيا والصين تنشغلان جدّياً بهذه المسألة او تمنحانها اهتماماً خاصاً.
ما زال للولايات المتحدة نفوذ سياسي كبير على عشرات الدول، منها دول أوروبية عديدة، وعلى أستراليا وكندا واليابان وغيرها، وكان المأمول أن ينتهي العصر الأميركي، كما بشّر متحمّسون، لكنه لم ينته، بل تجد القيم السياسية الأميركية في الهيمنة ومد النفوذ لها صدى واستنساخاً حتى لدى دول تناوئ أميركا.
وباتت دول قليلة تمتلك خطابا تحرّريا و"إنسانياً" يخاطب البشرية جمعاء، وتضع مصلحة الشعوب في التحرّر والتقدّم في الاعتبار الأول.
فإن كانت التعدّدية في عالمنا قائمة فهي تقوم أساسا على التنافس على النفوذ. وعليه، لم يكن غريباً أن تجد محنة أبناء غزّة أصداء قوية لها، مثلا، في جنوب أفريقيا وبوليفيا والنرويج وأيرلندا، وليس لدى دول كبرى.
ولعل خبرات الدول والشعوب في العقود الماضية تثبت أن تحالفات إقليمية متجانسة وعلاقات متوازنة مع بقية الدول تفيد في المحصلة أكثر من التعويل على دول كبرى، وفي مقدمها دول غربية.
وفي محنة غزّة، وهي مناسبة هذا الحديث، في وسع بلدين عربيين كبيرين، مصر والسعودية، إضافة إلى جهود كبيرة وحثيثة بذلتاها، أن تلقيا بثقلهما السياسي للجم آلة الحرب الإسرائيلية، بأكثر وأكبر مما هو منتظر من أي طرف دولي.
*محمود الريماوي قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: روسيا الصين بريكس الحرب الهيمنة التعددية نتنياهو الإبادة الجماعية محكمة العدل الدولية نظام عالمي جديد روسیا والصین دول کبرى من الدول لدى دول غیر أن
إقرأ أيضاً:
بيروت من “باريس الشرق” إلى ساحة الخراب وحزب الله .. فيديو
خاص
في الستينيات والسبعينيات، عُرفت العاصمة اللبنانية بيروت بـ”باريس الشرق الأوسط”، بسبب طبعها العالمي، إذ كانت المدينة مركزًا للإبداع الفني والتنوع الثقافي .
وتميزت بيروت بحياة اجتماعية نابضة ومشاهد ثقافية غنية، شوارع مثل “الحمرا” التي كانت تعج بالمقاهي، المسارح، ودور السينما والأوبرا، كما توافد إليها الأدباء والمثقفين ونجوم هوليوود مثل ريتشارد بيرتون وإليزابيث تايلور.
وكانت “باريس الشرق” تعد أحد المراكز المالية المهمة في المنطقة وذلك خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ بفضل موقعها الاستراتيجي، مما جعلها مقصدًا للاستثمارات والمشاريع التجارية الدولية .
وعلى الرغم من هذه الصورة المثالية لبيروت، إلا أنها حملت العديد من التناقضات والتوترات السياسية انتهت باندلاع الحرب الأهلية عام 1975، التي دمرت الكثير من معالم المدينة وجعلتها مقسمة بين خطوط طائفية وعسكرية، مما أدى إلى انهيار بنيتها الاجتماعية والثقافية تدريجيًا.
بعد الحرب الأهلية، برز حزب الله كقوة سياسية وعسكرية في لبنان، إذ تأسس الحزب في الثمانينيات لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، لكنه توسع ليصبح لاعبًا رئيسيًا في السياسة اللبنانية.
والانفجار الذي شهده مرفأ بيروت عام 2020 أدى إلى تصعيد الانتقادات الموجهة للحزب بسبب دوره في السياسة اللبنانية، وسط اتهامات بأنه يعوق الإصلاحات ويستغل نفوذه لمصالح إقليمية، بسبب هيمنته على مؤسسات الدولة واستغلاله للنفوذ السياسي والعسكري، بالإضافة إلى تزايد النفوذ الإيراني والانقسامات الطائفية، بالإضافة إلى الفساد الحكومي مما جعل بيروت تتأرجح بين محاولات الإصلاح والصراعات المستمرة على النفوذ الداخلي والخارجي.
https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2024/11/WhatsApp-Video-2024-11-21-at-5.14.40-PM.mp4