فضيلي جمّاع

جيش الكيزان في لحظة الهذيان !

إكتظت مواقع التواصل الإجتماعي هذين اليومين بفيديو يصوّر بوضوح ثلة من عسكر الجيش وقد اجتثوا رؤوس ضحاياهم ، ووقفوا يلوحون بها ويهللون ويكبرون في لحظة من الهيستريا وغياب الحس الإنساني في أضعف حالاته! دعونا نتحدث عما تبقى من مؤسسة الجيش السوداني المختطف الذي تمخض ليلد هذه التراجيديا.

إنّ القارئ لتاريخ الجيش السوداني (المؤسسة العسكرية) منذ أن أقام المستعمر البريطاني نواتها الأولى كوحدة تحت مسمى )قوة دفاع السودان( Sudan Defence Force (SDF) في العام1925م حتى وقتنا الحاضر – القارئ لتاريخ هذه المؤسسة العسكرية – يعرف لماذا وصل هذا الجيش ، الذي أكمل مائة عام بالتمام والكمال ، إلى هذا الدرك الأسفل من الأنحطاط .

إذا نظرنا إلى بداية تكوين المؤسسة العسكرية الحديثة نجد أنها أقيمت على نحو جهوي وعشائري منذ العام 1925م. بدأت بثلاث فرق : (الفرقة الاستوائية، فرقة العرب الشرقية، فرقة العرب الغربية، الهجانة). ورغم أنّ هيكلة قد حدثت في هذه المؤسسة إبان حكومات ما بعد الإستقلال إلا إنّ ما لا يختلف فيه إثنان هو أن الجيش السوداني ظلّ يعتمد في (المشاة) – الكثرة الغالبة من العسكر – على نفس التركيبة الجهوية التي أقام عليها المستعمر قوة دفاع السودان: الجنوب – قبل انفصاله – وغرب السودان (دار فور وكردفان) ، وشرق السودان. بينما بقيت النخبة Elite في الجيش ، وهم الضباط الذين يقودون الجيش خارج التركيبة التي قام عليها تأسيس مشاة الجيش لعقود. لذا لم يكن مستغرباً أن يكون أول قائد للجيش هو الجنرال احمد محمد ليخلفه في قيادة الجيش الجنرال إبراهيم عبود ، وكلاهما يمثلان القيادة التي هي في الغالب خارج مراكز الكثرة التي تتألف منها المؤسسة العسكرية. ذكر هذه المعلومة ليست تجنياً على ما عرف فيما بعد بالقوات المسلحة. إنها مجرد إشارة لما يترتب عليه لاحقاً مصير جيش تفكر نخبته (قادته) بنفس عقلية نخبة المركز التي لم تنجح في إقامة دولة مستقرة على مدى 68 عاماً ناهيك أنها لم تفلح مؤسساتها في وضع دستور دائم للبلاد. إنّ جيش السودان لم يخرج في تربيته الوطنية – إن وجدت – عن سعار نخبة المركز في منظورها السياسي لإدارة البلاد – الإجهاز على السلطة واحتكارها أينما وجدت.

تقول الإحصائيات أنّ الجيش السوداني يأتي في المركز الثاني عالمياً من حيث عدد الإنقلابات العسكرية التي قام بها للإستيلاء على السلطة. فقد بلغ عدد الإنقلابات العسكرية التي قام بها الجيش السوداني 35 (خمسة وثلاثون إنقلاباً) نجح منفذوها من الضباط في ثلاثة: انقلاب الجنرال عبود في 17 نوفمبر 1958 والذي دام ست سنوات ، ثم إنقلاب 25 مايو بقيادة المقدم جعفر النميري وقد استمر على سدة الحكم 16 (ستة عشر عاماً) ليخلفه في سلسلة الإنقلابات العسكرية إنقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة المقدم عمر حسن احمد البشير والذي عرف نظامه بالإنقاذ. وهو الواجهة العسكرية لجماعة الأخوان المسلمين (الجبهة القومية الإسلامية) والتي جلس عسكرها وحزبها على سدة الحكم – منفردين أو بالمشاركة شكلياً – حتى كتابة هذه السطور – أي حوالي 36 (ستة وثلاثون عاماً). يجدر بالذكر أن نشير إلى أنّ ما عرف بالإنقاذ ليس أول انقلابات الأخوان المسلمين في السودان، فقد سبقه إنقلاب علي حامد وعبد الرحمن كبيدة والرشيد الطاهر بكر (المرشد العام للأخوان المسلمين حينذاك). كان ذلك في نوفمبر 1959م.

إلى جانب تمركز فكرة حيازة السلطة تحت كل الذرائع في عقلية ضباط الجيش السوداني ، والسعي إليه بهذا الرقم الفلكي من الإنقلابات في تاريخ الدولة الحديثة، فإن جيش السودان لم يخض في تاريخ دولتنا المستقلة حرباً واحدة ضد دولة أجنبية. بل إنّ كل حروبه التي خاضها طيلة سنوات استقلال بلادنا – ونحن ندخل عامنا الثامن والستين من الإستقلال- إنّ كل حروب الجيش السوداني قام بها ضد مواطنيه ، بدءاً بما عرف بحرب الجنوب التي قام بها ضد كتيبة توريت في العام 1955م لإخماد تمردها ، فإذا بها تتحول إلى حرب أهلية عرفت بحرب الجنوب والتي دامت نصف قرن – مع توقف الحرب لعشر سنوات بفضل اتفاقية أديس أبابا في العام 1972 م والتي انقلب عليها الجنرال نميري في العام 1982 م ليطيل أمد الحرب التي زاد أوارها بسبب إنقلاب الجبهة الإسلامية والذي قادت حروبها إلى فصل الجنوب ليصبح دولة مستقلة. ولتواصل المؤسسة العسكرية حربها الضروس ضد شعوب السودان بإعلان الحرب على شعوب جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وليغرق البلاد كلها في حرب دارفور التي أفرخت المليشيات وتم فيها حرق القرى والمزارع وهجرات مئات آلاف المواطنين.. بل وارتكاب الجيش جريمة الإبادة الجماعية في دار فور حيث قدرت بعثة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان عدد القتلى بما يتخطى 300,000 (ثلاثمائة ألف).

يستغرب كاتب هذه السطور ممن يتحدثون عما يسمونه هذه الأيام بالجيش الوطني ، وقوات الشعب المسلحة، ومحاولة تبرئتها إبان الحرب الدائرة حاليا بينها وبين قوات الدعم السريع (صنيعتها) ، ورمي الفظائع وكل الموبقات على شماعة الدعم السريع ، بما في ذلك جرائم الإغتصاب التي ابتدعها الجيش السوداني منذ حروبهم التي دامت قرابة نصف القرن في الجنوب. أما الإغتصاب فقد إبتدعه عسكر السودان باعتباره أحد الأسلحة لإهانة العدو وكسر شوكته. يحكي لي من لا أشك في مصداقيته ، أن جيش السودان وقد قام بإحدى الحملات التفتيشية في مدينة جوبا أخذ جنوده يشهرون السلاح في وجوه سكان أحد الأحياء ويصرخون: (أطلع برّه).. وقال إن بعض الجنود قاموا باغتصاب النساء والفتيات في ذلك الحي الذي سمي فيما بعد بحي (أطلع برة). تبعته أسماء ساخرة أخرى أطلقها الإخوة الجنوبيون على تلك الأحياء لتظل سبة في تاريخ الجيش السوداني ، مثل حي (رجال مافي) وحي (لباس مافي). ولماذا نذهب بعيداً وقد سجلت منظمات الأمم المتحدة وبعض منظمات حقوق الإنسان ذات الصدقية العالية (هيومان رايتس ووتش) في حرب الجيش في دار فور ما فاق ال 221 حالة إغتصاب لنساء بلدة تابت في الفترة بين 30 أكتوبر والأول من نوفمبر 2014 م. هذا الرقم من الإغتصاب في هذه الفترة الوجيزة لم تقم به قوات الدعم السريع أو أي مليشيا أخرى ، بل رقم للجيش السوداني الذي يدعي أنصاره هذه الأيام دون حياء أنه يقوم بحماية الوطن والمواطن!!

إن جز الرؤوس – مما رأيناه بوضوح في الفيديو الحائم هذه الأيام – واغتصاب النساء وحرق القرى وحصب سكانها بالبراميل المتفجرة – كل ذلك هو من فنون قتال جيش السودان ضد مواطنيه. وقد زاد البطش والإغتصاب والتنكيل بالنساء والأطفال بصورة لا يصدقها العقل في حروب جيش السودان في الجنوب (سابقاً) وفي دار فور وكردفان (جبال النوبة) وفي جنوب النيل الأزرق. ولأن العالم صار قرية كونية بفضل تطور وسائل الإتصال والأقمار الصناعية، والشبكة العنكبوتية (الإنترنت) فإنّ الحصول على المعلومة لم يعد بحاجة إلى شد الرحال وطي المسافات. كما إنّ محاولة تكذيب أو طمس فيديو لضحايا اجتثت رؤوسهم وظل عسكر الكيزان يلوحون بها ويهللون ويكبرون فرحاً – نقول إنّ محاولة طمس أو تكذيب حادثة بهذا الجرم وهذه البشاعة – بعد انتشار الفيديو محل الخبر في أقصى الأرض وأدناها- إنما هو ضرب من المحال في زمن الإنترنت والفيمتو سكند. ستنجلي الحقيقة طال الزمن أو قصر. وسيبحث الجناة يومها عن جحر ضب أجرب ليأويهم .. ولن يجدوه !

أعود وأختم بما بدأت به هذا المقال. لم أدهش للتصرف الداعشي لجيش اختطفه الكيزان منذ انقلابهم المشئوم في العام 1989م وحولوه إلى جناح عسكري لإذلال خصومهم- لم أدهش لتصرفهم الهمجي وهم يجتزون رؤوس شباب سودانيين (أنكر الدعم السريع أنهم من جنوده) بل قال بأنهم مجرد شباب من غرب السودان! لم تدهشني داعشية جيش الكيزان وهم يرقصون ويلوحون برؤوس ضحاياهم، فالقصد واضح وهو استدراج إثنيات بعينها من أقاليم بعينها لتبدأ بها لعبة الحرب الأهلية في السودان – الحرب الأهلية التي بقيت الكرت الأخير الذي يلوّح به الكيزان وهم في مرحلة الهذيان قبل أن ينطبق عليهم قريبا وقريبا جدا قول شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه: (وسوف يجتثون من أرض السودان اجتثاثاً)!!

ملحوظة ليست بذات أهمية:
واصل بعض (المثقفاتية) وقادة سياسيون صمتهم تجاه الجريمة التي هزّت أوصال من لا يشعر ، وأثارت غضب من لا يحس. ترى هل نحن في زمن موت المثقف؟!

فضيلي جمّاع
16 فبراير 2024

الوسومفضيلي جماع

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة الجیش السودانی الدعم السریع جیش السودان فی العام التی قام قام بها دار فور

إقرأ أيضاً:

أكذوبة الزوارق النهرية…عندما يتحول الوهم إلى سلاح الجيش السوداني!

لنا مهدي

ادعاء قوات الجيش السوداني بأنها شنت هجوماً على مواقع قوات الدعم السريع بالقرب من كوبري شمبات باستخدام الزوارق النهرية يمكن تفنيد كذبه ببساطة شديدة استخدام الزوارق النهرية في العمليات العسكرية يتطلب ظروفاً محددة مثل السيطرة الكاملة على الممرات المائية والتأكد من عدم تعرض الزوارق لنيران معادية من الضفاف وإذا كانت قوات الدعم السريع تتمركز بالقرب من كوبري شمبات فمن المؤكد أنها تتمتع بقدرة على الرصد واستهداف أي تحركات عبر النهر ما يجعل هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر. الزوارق النهرية غير ملائمة للاشتباك في بيئة حضرية كمدينة بحري خاصة أن هذه الوسيلة بطيئة وتحتاج إلى غطاء جوي أو دعم مدفعي قوي، وهو ما لم يذكر حدوثه. الهجوم عبر النهر للوصول إلى مدينة بحري قد يكون صعب التنفيذ خاصة في ظل تداخل المناطق المدنية مع المواقع العسكرية فأي محاولة لدخول مدينة بحري من هذا الاتجاه كانت ستتطلب تأميناً مسبقاً للمناطق المحيطة وهو ما لم تشر إليه التقارير. الادعاء بشن الهجوم لم يدعم بأدلة ملموسة مثل صور الأقمار الصناعية شهادات مستقلة أو لقطات فيديو توثق العمليات فغياب مثل هذه الأدلة يضعف مصداقية هذه الرواية. بجانب ما سبق فأن قوات الدعم السريع غالباً ما تعتمد على تكتيكات مرنة وسريعة الحركة وتستفيد من التضاريس المدنية لتحصين مواقعها وطالما هذه القوات تتمركز في موقع استراتيجي قرب كوبري شمبات فمن غير المحتمل أن تسمح بتسلل قوات الجيش عبر النهر دون رد فعل قوي وذلك يثبت استحالة التنفيذ في ظل السيطرة الميدانية لأن كوبري شمبات والمناطق المحيطة به تُعدّ مواقع استراتيجية تخضع لرقابة صارمة من قوات الدعم السريع التي تمتلك القدرة على رصد واستهداف أي تحركات على النيل فاستخدام الزوارق النهرية كوسيلة للهجوم في منطقة مكشوفة كهذه يعد انتحاراً عسكرياً وغير منطقي. من نافلة القول أن يكون هذا الادعاء هو جزء من الحرب الإعلامية من جيش البرهان و تضخيم إنجازات عسكرية غير مؤكدة بهدف رفع الروح المعنوية أو تشتيت الانتباه عن إخفاقات أخرى على الأرض. نلاحظ كذلك عدم وجود دلائل ميدانية واضحة فلم تصدر تقارير مستقلة أو شهادات من شهود عيان تؤكد وقوع الهجوم كما لم تظهر وسائل الإعلام المحلية أو الدولية أدلة تثبت تنفيذ العملية مثل صور أو فيديوهات تظهر الزوارق النهرية أثناء الاشتباك. غياب أي تأثير ملموس على الأرض يدحض الأكذوبة فلم تسجل أي تغييرات ميدانية أو تقدم لقوات الجيش باتجاه بحري أو أم درمان نتيجة هذا الهجوم المزعوم واستمرار الوضع كما هو يشير إلى أن الادعاء غير دقيق أو مبالغ فيه. الادعاء بشن الجيش هجومًا على قوات الدعم السريع بالقرب من كوبري شمبات باستخدام الزوارق النهرية يفتقر إلى الأدلة المادية والمنطق العملياتي وبالتالي يُصنف على أنه غير دقيق بل غير حقيقي. ويندرج الادعاء ضمن محاولات دعائية أكثر من كونه عملية عسكرية حقيقية مدعومة بالمعطيات الواقعية.

lanamahdi1st@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • السوداني يؤكد جهوزية القوات العسكرية والأمنية لردع اي اعتداء على العراق
  • أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي إلى 796 ألفا و490 جنديا منذ بدء العملية العسكرية
  • وزير الخارجية السوداني يتحدث عن الحسم العسكري
  • دعم اجتماعي للعملية العسكرية التي تقودها المنطقة العسكرية الساحل الغربي
  • أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى الجيش الروسي إلى 794 ألفا و760 جنديا منذ بدء العملية العسكرية
  • عام جديد بلا جنجويد
  • الدعوة لتحقيب تاريخ السودان دلالاتها ومغازيها
  • أكذوبة الزوارق النهرية…عندما يتحول الوهم إلى سلاح الجيش السوداني!
  • الجيش السوداني بجري تعديلات وتنقلات واسعة في قادة المناطق العسكرية
  • بالصور: الجيش الإسرائيلي يكشف أسرار عمليته العسكرية في منطقة مصياف