فضيلي جمّاع

جيش الكيزان في لحظة الهذيان !

إكتظت مواقع التواصل الإجتماعي هذين اليومين بفيديو يصوّر بوضوح ثلة من عسكر الجيش وقد اجتثوا رؤوس ضحاياهم ، ووقفوا يلوحون بها ويهللون ويكبرون في لحظة من الهيستريا وغياب الحس الإنساني في أضعف حالاته! دعونا نتحدث عما تبقى من مؤسسة الجيش السوداني المختطف الذي تمخض ليلد هذه التراجيديا.

إنّ القارئ لتاريخ الجيش السوداني (المؤسسة العسكرية) منذ أن أقام المستعمر البريطاني نواتها الأولى كوحدة تحت مسمى )قوة دفاع السودان( Sudan Defence Force (SDF) في العام1925م حتى وقتنا الحاضر – القارئ لتاريخ هذه المؤسسة العسكرية – يعرف لماذا وصل هذا الجيش ، الذي أكمل مائة عام بالتمام والكمال ، إلى هذا الدرك الأسفل من الأنحطاط .

إذا نظرنا إلى بداية تكوين المؤسسة العسكرية الحديثة نجد أنها أقيمت على نحو جهوي وعشائري منذ العام 1925م. بدأت بثلاث فرق : (الفرقة الاستوائية، فرقة العرب الشرقية، فرقة العرب الغربية، الهجانة). ورغم أنّ هيكلة قد حدثت في هذه المؤسسة إبان حكومات ما بعد الإستقلال إلا إنّ ما لا يختلف فيه إثنان هو أن الجيش السوداني ظلّ يعتمد في (المشاة) – الكثرة الغالبة من العسكر – على نفس التركيبة الجهوية التي أقام عليها المستعمر قوة دفاع السودان: الجنوب – قبل انفصاله – وغرب السودان (دار فور وكردفان) ، وشرق السودان. بينما بقيت النخبة Elite في الجيش ، وهم الضباط الذين يقودون الجيش خارج التركيبة التي قام عليها تأسيس مشاة الجيش لعقود. لذا لم يكن مستغرباً أن يكون أول قائد للجيش هو الجنرال احمد محمد ليخلفه في قيادة الجيش الجنرال إبراهيم عبود ، وكلاهما يمثلان القيادة التي هي في الغالب خارج مراكز الكثرة التي تتألف منها المؤسسة العسكرية. ذكر هذه المعلومة ليست تجنياً على ما عرف فيما بعد بالقوات المسلحة. إنها مجرد إشارة لما يترتب عليه لاحقاً مصير جيش تفكر نخبته (قادته) بنفس عقلية نخبة المركز التي لم تنجح في إقامة دولة مستقرة على مدى 68 عاماً ناهيك أنها لم تفلح مؤسساتها في وضع دستور دائم للبلاد. إنّ جيش السودان لم يخرج في تربيته الوطنية – إن وجدت – عن سعار نخبة المركز في منظورها السياسي لإدارة البلاد – الإجهاز على السلطة واحتكارها أينما وجدت.

تقول الإحصائيات أنّ الجيش السوداني يأتي في المركز الثاني عالمياً من حيث عدد الإنقلابات العسكرية التي قام بها للإستيلاء على السلطة. فقد بلغ عدد الإنقلابات العسكرية التي قام بها الجيش السوداني 35 (خمسة وثلاثون إنقلاباً) نجح منفذوها من الضباط في ثلاثة: انقلاب الجنرال عبود في 17 نوفمبر 1958 والذي دام ست سنوات ، ثم إنقلاب 25 مايو بقيادة المقدم جعفر النميري وقد استمر على سدة الحكم 16 (ستة عشر عاماً) ليخلفه في سلسلة الإنقلابات العسكرية إنقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة المقدم عمر حسن احمد البشير والذي عرف نظامه بالإنقاذ. وهو الواجهة العسكرية لجماعة الأخوان المسلمين (الجبهة القومية الإسلامية) والتي جلس عسكرها وحزبها على سدة الحكم – منفردين أو بالمشاركة شكلياً – حتى كتابة هذه السطور – أي حوالي 36 (ستة وثلاثون عاماً). يجدر بالذكر أن نشير إلى أنّ ما عرف بالإنقاذ ليس أول انقلابات الأخوان المسلمين في السودان، فقد سبقه إنقلاب علي حامد وعبد الرحمن كبيدة والرشيد الطاهر بكر (المرشد العام للأخوان المسلمين حينذاك). كان ذلك في نوفمبر 1959م.

إلى جانب تمركز فكرة حيازة السلطة تحت كل الذرائع في عقلية ضباط الجيش السوداني ، والسعي إليه بهذا الرقم الفلكي من الإنقلابات في تاريخ الدولة الحديثة، فإن جيش السودان لم يخض في تاريخ دولتنا المستقلة حرباً واحدة ضد دولة أجنبية. بل إنّ كل حروبه التي خاضها طيلة سنوات استقلال بلادنا – ونحن ندخل عامنا الثامن والستين من الإستقلال- إنّ كل حروب الجيش السوداني قام بها ضد مواطنيه ، بدءاً بما عرف بحرب الجنوب التي قام بها ضد كتيبة توريت في العام 1955م لإخماد تمردها ، فإذا بها تتحول إلى حرب أهلية عرفت بحرب الجنوب والتي دامت نصف قرن – مع توقف الحرب لعشر سنوات بفضل اتفاقية أديس أبابا في العام 1972 م والتي انقلب عليها الجنرال نميري في العام 1982 م ليطيل أمد الحرب التي زاد أوارها بسبب إنقلاب الجبهة الإسلامية والذي قادت حروبها إلى فصل الجنوب ليصبح دولة مستقلة. ولتواصل المؤسسة العسكرية حربها الضروس ضد شعوب السودان بإعلان الحرب على شعوب جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وليغرق البلاد كلها في حرب دارفور التي أفرخت المليشيات وتم فيها حرق القرى والمزارع وهجرات مئات آلاف المواطنين.. بل وارتكاب الجيش جريمة الإبادة الجماعية في دار فور حيث قدرت بعثة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان عدد القتلى بما يتخطى 300,000 (ثلاثمائة ألف).

يستغرب كاتب هذه السطور ممن يتحدثون عما يسمونه هذه الأيام بالجيش الوطني ، وقوات الشعب المسلحة، ومحاولة تبرئتها إبان الحرب الدائرة حاليا بينها وبين قوات الدعم السريع (صنيعتها) ، ورمي الفظائع وكل الموبقات على شماعة الدعم السريع ، بما في ذلك جرائم الإغتصاب التي ابتدعها الجيش السوداني منذ حروبهم التي دامت قرابة نصف القرن في الجنوب. أما الإغتصاب فقد إبتدعه عسكر السودان باعتباره أحد الأسلحة لإهانة العدو وكسر شوكته. يحكي لي من لا أشك في مصداقيته ، أن جيش السودان وقد قام بإحدى الحملات التفتيشية في مدينة جوبا أخذ جنوده يشهرون السلاح في وجوه سكان أحد الأحياء ويصرخون: (أطلع برّه).. وقال إن بعض الجنود قاموا باغتصاب النساء والفتيات في ذلك الحي الذي سمي فيما بعد بحي (أطلع برة). تبعته أسماء ساخرة أخرى أطلقها الإخوة الجنوبيون على تلك الأحياء لتظل سبة في تاريخ الجيش السوداني ، مثل حي (رجال مافي) وحي (لباس مافي). ولماذا نذهب بعيداً وقد سجلت منظمات الأمم المتحدة وبعض منظمات حقوق الإنسان ذات الصدقية العالية (هيومان رايتس ووتش) في حرب الجيش في دار فور ما فاق ال 221 حالة إغتصاب لنساء بلدة تابت في الفترة بين 30 أكتوبر والأول من نوفمبر 2014 م. هذا الرقم من الإغتصاب في هذه الفترة الوجيزة لم تقم به قوات الدعم السريع أو أي مليشيا أخرى ، بل رقم للجيش السوداني الذي يدعي أنصاره هذه الأيام دون حياء أنه يقوم بحماية الوطن والمواطن!!

إن جز الرؤوس – مما رأيناه بوضوح في الفيديو الحائم هذه الأيام – واغتصاب النساء وحرق القرى وحصب سكانها بالبراميل المتفجرة – كل ذلك هو من فنون قتال جيش السودان ضد مواطنيه. وقد زاد البطش والإغتصاب والتنكيل بالنساء والأطفال بصورة لا يصدقها العقل في حروب جيش السودان في الجنوب (سابقاً) وفي دار فور وكردفان (جبال النوبة) وفي جنوب النيل الأزرق. ولأن العالم صار قرية كونية بفضل تطور وسائل الإتصال والأقمار الصناعية، والشبكة العنكبوتية (الإنترنت) فإنّ الحصول على المعلومة لم يعد بحاجة إلى شد الرحال وطي المسافات. كما إنّ محاولة تكذيب أو طمس فيديو لضحايا اجتثت رؤوسهم وظل عسكر الكيزان يلوحون بها ويهللون ويكبرون فرحاً – نقول إنّ محاولة طمس أو تكذيب حادثة بهذا الجرم وهذه البشاعة – بعد انتشار الفيديو محل الخبر في أقصى الأرض وأدناها- إنما هو ضرب من المحال في زمن الإنترنت والفيمتو سكند. ستنجلي الحقيقة طال الزمن أو قصر. وسيبحث الجناة يومها عن جحر ضب أجرب ليأويهم .. ولن يجدوه !

أعود وأختم بما بدأت به هذا المقال. لم أدهش للتصرف الداعشي لجيش اختطفه الكيزان منذ انقلابهم المشئوم في العام 1989م وحولوه إلى جناح عسكري لإذلال خصومهم- لم أدهش لتصرفهم الهمجي وهم يجتزون رؤوس شباب سودانيين (أنكر الدعم السريع أنهم من جنوده) بل قال بأنهم مجرد شباب من غرب السودان! لم تدهشني داعشية جيش الكيزان وهم يرقصون ويلوحون برؤوس ضحاياهم، فالقصد واضح وهو استدراج إثنيات بعينها من أقاليم بعينها لتبدأ بها لعبة الحرب الأهلية في السودان – الحرب الأهلية التي بقيت الكرت الأخير الذي يلوّح به الكيزان وهم في مرحلة الهذيان قبل أن ينطبق عليهم قريبا وقريبا جدا قول شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه: (وسوف يجتثون من أرض السودان اجتثاثاً)!!

ملحوظة ليست بذات أهمية:
واصل بعض (المثقفاتية) وقادة سياسيون صمتهم تجاه الجريمة التي هزّت أوصال من لا يشعر ، وأثارت غضب من لا يحس. ترى هل نحن في زمن موت المثقف؟!

فضيلي جمّاع
16 فبراير 2024

الوسومفضيلي جماع

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة الجیش السودانی الدعم السریع جیش السودان فی العام التی قام قام بها دار فور

إقرأ أيضاً:

وفاة الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات ورحيل هرم شعري ناطق

غيّب الموت أمس الأحد الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم بأحد مستشفيات مدينة الشيخ زايد غرب العاصمة المصرية القاهرة، عن عمر يناهز 85 عاما، بعد صراع مع المرض، وكتب عدد من الأدباء والمثقفين السودانيين ينعونه بنصوص تدخل ضمن أدب الرثاء الذي يُعد من أقدم وأهم الأغراض الأدبية في تاريخ النصوص العربية، فهو فن أدبي يعبّر فيه الكاتب عن حزنه وألمه لفقدان شخص عزيز، مستذكرا مناقب المرثي وخصاله الحميدة.

ويبقى أدب الرثاء العربي شاهدا على عمق المشاعر الإنسانية وقدرة الكلمة على تخليد الذكرى، فهو ليس مجرد تعبير عن الحزن، بل هو احتفاء بالحياة وتأمل في معانيها العميقة.

ومن أبرز من كتب في رثاء الشاعر الراحل محمد المكي إبراهيم الأكاديمي السوداني والكاتب وجدي كامل، والبروفيسور أحمد إبراهيم أبو شوك، فإلى المقالين الرثائيين:

رحيل هرم شعري ناطق ومفعم بالتجاوز
وجدي كامل

 

لم يكونا شاعرين كبيرين فقط، بل صديقين عزيزين جمعت بينهما صداقة ستينية قديمة عميقة، أقام فيها ود المكي قسطا من الزمن، وسكن أحيانا بدار آل عوض الجزولي.

ما بين (الأديب والقانوني السوداني المتوفى نهاية 2023) كمال الجزولي ومحمد المكي إبراهيم أكثر من توأمة، ورباط من صداقة متينة، وذكريات مشتركة، ومحبة مشتركة جمعتهما، وآمال عراض لمستقبل يستحقه هذا الشعب الأبي.

كانت، وحين يغيب محمد المكي في مهاجره المتعددة حسب الوظيفة الدبلوماسية والهجرة الأخيرة لبلاد العم سام تشتعل المراسلات، والاتصالات الهاتفية، وينتظر صديقه كمال قدومه على أحر من الجمر، وما أن يحط الرحال، حتى يقوم كمال بتعطيره على المجالس والجلسات، وينتقلان بعسل المؤانسة من مكان إلى مكان، وتتألق الخرطوم وبيوت المثقفين والفنانين.

الأديب والمحامي السوداني كمال الجزولي تُوفي بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (منتدى دال الثقافي، مواقع التواصل)

سعدت بأن كنت شاهدا على ذلك، وواحدا من أولئك الذين تشرفت بيوتهم بزيارتهما معا، بعد مشاهدة فيلمية مشتركة لفيلمي (جراح الحرية).
كانت تلك واحدة من مرات عديدة، استطعت التعرف فيها على الرجل السهل الممتنع، اللطيف، المبتسم، الهادئ، الدمث الخلق، والمعجون بالتواضع الجم، وحب الآخرين.

حزن محمد المكي أيما حزن على وفاة صديق عمره كمال الجزولي، وكانت زيارته للتعزية بالقاهرة بمجرد وصوله لها. ولكن وحسبما كان قد أسر لي الدكتور ابى كمال الجزولي قبل أيام، وكان العلم قد نما إلي أن شاعرنا قد تُوفي سريريا منذ دخوله مستشفى الفؤاد، بأن ود المكي كان وفي حزنه العميق على غياب صديقه بدا مشغولا في تلك الزيارة بالتعرف من ابى على تفاصيل تحضير جثمان الميت، ودفنه، والإجراءات المتبعة بالقاهرة لتلك الطقوس، وكأنه قد اختار الموت، وكأنه قد عاد ليموت في مكان أقرب لموطنه الذي أحب وعشق.

عاد ليموت ويشيّعه من عرف أفضاله الثقافية والإنسانية علينا بعد أن امتنع الوطن الممزق، المحترق هذه المرة عن الاستقبال، وحيث لم تكن هناك (أمته) التي تشتت في بقاع الأرض ونزحت، ولكن يحمد أن احتفظت بكثافة الوجود بقاهرة المعز.
كم كنت أتمنى أن أكون أحد المودعين لولا العوائق.

ها ذا أنا أشاهد الوجوه وقد تبللت بالدموع، وأسمع العويل، وبكاء من عرفوك.
ها ذا أنا أرى وداعا جليلا، ضخما يليق بمقامك وقامتك يا محمد المكي، يا من أسعدتنا بحياتك، ومساهماتك الشعرية المتميزة، المتفردة.

أقول باسمك وباسم صديقك وكل من رحل عنا في هذه الظروف القاهرة العصيبة سوف تتوقف الحرب، سينتصر الشعب، وسينكسر حائط السجن الرمزي الكبير الذي شيدته مؤسسات القهر والقمع التاريخية والمستحدثة، وستشتعل الحقول قمحا ووعدا وتمنيا ومدنية.

ستبقى ذكراك خالدة فينا، وفي الأجيال القادمة، ولن تنقطع سقياك لقلوبنا ولذاكرتنا أبدا.

الوداع الوداع، ولا أجد في هذه اللحظات الحزينة أبلغ من مرثيتك لشيخك، وشيخ شعرائنا المحدثين محمد المهدي المجذوب في وداعك المهيب له شعرا عند الرحيل:
من جمالك في الموت
يتخذ الورد زينته
والمواسم حناءها
والعصافير تترك توقيعها في رمالك
برحيلك
ﺃﻇﻠﻤﺖ ﺑﻮﺍﺑﺔ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻭﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻔﺮﺍﺩﻳﺲ ﺃﺿﺄﻥ
ﺑﺮﺣﻴﻠﻚ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺍﻟﺠﻤﺮ ﻋﻦ ﺻﻨﺪﻝ ﺍﻟﺸﻌﺮ
ﻳﻘﺘﺮﺏ ﺍﻟﻤﻮﺕ
ﻳﺴﻤﻊ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﻜﻬﻮﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻊ
ﺗﻔﺘﻘﺪ ﺍﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ﺃﻇﻔﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﺮﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺩﻳﻌﺘﻬﺎ (ﻟﺆﻟﺆ ﺍﻟﺸﻌﺮ) ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ
ﻛﺎﻓﺮ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﺷﻌﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﻌﻴﺪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻃﻔﻮﻟﺘﻬﺎ
ﻭﺗﻌﻮﺩ إﻟﻴﻚ ﻃﻔﻮﻟﺘﻚ ﺍﻟﺬﺍﻫﺒﺔ

محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات
البروفيسور: أحمد إبراهيم أبوشوك

في تقديمه لكتاب الدكتور حسن أبشر الطيب، إطلالة في عشق الوطن (أم درمان مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2001)، كتب محمد المكي إبراهيم (1939- 2024) عن جيل العطاء الذي ينتسب إلي من خلال شخص زميل دراسته بجامعة الخرطوم وصديق عمره حسن أبشر الطيب قائلا: "ينتمي المؤلف إلى جيل الستينيات في السودان، هو جيل يجمع إلى الريادة الإبداعية المواكبة المستمرة والتجويد المتفوق والاطلاع الغزير… وهذا السفر الذي بين يدي القارئ الآن شاهد على صحة تلك المقولة، فها هي بين أيدينا ما يقرب من 40 مقالة في مختلف شؤون الحياة والثقافة في السودان. تتناول فيما تتناول أعلامه الكبار: الطيب صالح، والمجذوب، وجمال محمد أحمد، والتجاني الماحي، ومحمد إبراهيم أبو سليم. كما تتناول أهل الفن والإبداع فيه: أحمد المصطفى، وعبد العزيز محمد داود، وليلى المغربي. إلى جانب أشهر آثاره الأدبية المعاصرة: "موسم الهجرة إلى الشمال"، وغضبة الهبباي"، و"أمتي".

لكن يصف محمد المكي إبراهيم الوطن في بداية الألف الثالثة بأنه "يمر بأسوأ أيامه، وأشدها بؤسا وسوء حظ، وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت قد اكتملت مسلسل الخروج من السودان هربا من العسف السياسي، والبؤس الاقتصادي، وغياب الحرية، وإظلام الحياة الفكرية وإجدابها. وكانت السلطة في بداية أمرها تريد إفراغ البلد من ذوي الفكر والرأي، فأفرطت في القسوة عليهم، حتى هجروا البلاد بالألوف، ثم توسعت حلقة الرعب وطالت من لا ينتمي لتلك الفئة من المواطنين، فأجفلت العصافير وخرج السودانيون بالملايين ما بين ناشد حرية، وطالب دنيا يصيبها، أو أمن يشتهيه… وفي المنافي الاختيارية التي تقاطر عليها السودانيون تحول السودان في نفوس بنيه المهاجرين إلى ذكرى سيئة ومدعاة للحسرة واليأس والألم، فالأخبار التي تأتي من تلقائه لا تحمل إلى الجماعة المهاجرة سوى أنباء الفقد والفجيعة والتدني المستمر في نوعية الحياة، والتكرار المميت لكل أخطاء الماضي ورزاياه. وأمام أعينهم كانت سمعة السودان المشرقة تتحول إلى صيت سيئ، وكان اسمه الشريف يتمرغ في الوحول".

الآن رحل محمد المكي إبراهيم إلى الدار الآخرة في يوم الأحد الموافق 29 سبتمبر/أيلول 2024 بقاهرة المعز، وفي زمن شتات لم يشهد السودان له مثيلا من قبل، وحال الوطن أسوأ مما كان عليه في بداية الألفية الثالثة، إذ حولت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 واقع أهله إلى جحيم لا يُطاق، بعد أن احتلت قوات الدعم السريع معظم مساكن المواطنين في العاصمة المثلثة وود مدني وغيرها من المدن، ونهبت مقتنياتهم الثمينة، وجعلت حواضن ذكرياتهم وتراثهم أثرا بعد عين، وأجبرتهم على الأمرين، إما النزوح إلى الولايات الآمنة في السودان، أو اللجوء إلى دول الجوار ومهاجر ذوي القربى.

وعن تداعيات الحرب وتعقيدات استمراريتها، تصدق الحقيقة الذهبية التي طرحها الدكتور حسن أبشر الطيب "إن المدفع لا يبنى بيتا، ولا يشفي مريضا، ولا يزرع حقلا، ولا يحصد إلا دمارا. إن الأوطان تُبنى بالمحبة، والتعاطف، وبالاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر، وبالسعي الموصول لتعظيم عناصر الاتفاق، ونبذ مسببات الفرقة، وبالسمو فوق المنافع الذاتية الآنية إلى مصلحة الوطن، بالاحتفاء بكل المبدعين من أبناء الوطن في مختلف الميادين، تقديرا للعبقرية وتجسيدا للقدوة المتميزة، وبالانفتاح الذكي المتبصر على المعطيات والتجارب الإنسانية المعاصرة".

كما يصدق استفهام الشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، عندما أنشد قائلا "أخــيــر كــرّاكــة بـتـفــتـح حـفـيـر وتـراقـد الركام *** أم الدبابة البتكشح شخـيـر الـمـوت الزؤام؟ ** درب مـن دم مـاب يـودي حرِب سُبّه حرب حرام *** تـشـيـل وتـشـيـل مـابِ تـدِّي عُـقـب آخــرتا انهزام".

وعندما شعر حسن أبشر الطيب بتعاطف الحركة الديمقراطية السودانية المعارضة لنظام الإنقاذ آنذاك مع بعض أعمال الدمار والتخريب التي كانت تطال خط أنابيب تصدير النفط كتب مقالا بعنوان "هذا كلام أعوج"، ويتمثل اعوجاج ذلك في بُعد نجعته عن القيم العليا التي تطالب الساسة بالعمل من أجل إسعاد الناس أجمعين، ما دامت سعادة الناس تتجسَّد في الحفاظ على مصادر معاشهم اليومي وخروجهم من عنق زجاجة المعاناة، لأن تدميرها يعتبر طغيانا من السياسة على مقدرات الدولة الاقتصادية. فأي سياسي أو عسكري غير عاقل يدمِّر موارد أرزاق الناس ويشردهم من مساكنهم الآمنة، ثم يعدهم بالحكم المدني والديمقراطية، فإنه يضحك على عقولهم في صلف وكبرياء وعدم استحياء، لأن أولويات الحياة الأساسية تقوم على المسكن والمأكل والمشرب والحريات العامة، وما سواها أولويات كمالية مؤجلة لا يستقيم ميسمها إلا باستقامة مَيَاسِم الأولويات الأساسية.

إذا يا سادتي دعونا نجمع القول "أرضا سلاح"؛ لأن إيقاف الحرب لا يعني إعفاء الذين ارتكبوا الجرائم والفظائع في حق الشعب المسكين من العقوبة، ولا يعني إشراك الذين كانوا سببا في الحرب أن يكون جزءا من الحل. لكن إيقاف الحرب يُسهم في إبقاء ما لم يُدمَّر من بنية البلاد التحتية، وفي الحافظ على الوطن من التقسيم وجعله نهبا لمصالح الدول الإقليمية والعالمية، وفي صون أرواح أبنائه وبناته الذين يحلمون بغدٍ أفضل. إيقاف الحرب، يا سادتي، يعني الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإعادة احتكار العنف القانوني لجيش مهني واحد وقوات شرطة مؤهلة، ويعني التخلص من المليشيات المسلحة، والتواضع على نظام حكم يكون تداول السلطة فيه بطرق ديمقراطية سليمة. ولا يتحقق ذلك إلا بتوافق الصف الوطني. والشاهد في ذلك قول الرئيس الرواندي بول كاغامي (Paul Kagame)، الذي انتشل بلاده من ركام الحرب الأهلية الضروس والعداوات العرقية إلى البناء والإعمار، عندما صرّح قائلا "إنّ تقدم بلادنا سببه أنتم أيها الروانديون، خاصة الشباب والنساء منكم، الذين أخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلادهم من خلال روح العمل والابتكار والوطنية كمفتاح للرقي والتنمية […]، فليس ذلك بسبب وجود الفاتيكان، أو الكعبة، أو البيت الأبيض، أو الإليزيه، أو تاج محل" في بلادنا.

مقالات مشابهة

  • 9 معلومات حول الشاعر السوداني الراحل محمد المكي إبراهيم
  • تعرف على تاريخ العمليات العسكرية للاحتلال في الأراضي اللبنانية منذ 1978
  • تعرف إلى تاريخ العمليات العسكرية للاحتلال في الأراضي اللبنانية منذ 1978
  • قطر وبربادوس والوقوف مع الحق السوداني والإنساني
  • الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم|معلومات عن رائد القصيدة العربية
  • وفاة الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات ورحيل هرم شعري ناطق
  • الجيش السوداني ينفي اتهامات الإمارات بقصف مقر سفيرها في الخرطوم
  • الجيش السوداني ينفي اتهام الإمارات: لا نرتكب الأعمال الجبانة
  • الخارجية الإماراتية تستنكر استهداف مقر سفيرها في الخرطوم وتتهم الجيش السوداني بالتصعيد
  • الإمارات تدين مهاجمة مقر بعثتها في الخرطوم.. قصفه الجيش السوداني